إمبراطورية ممتدّة من الأرض إلى الفضاء… إيلون ماسك الرجل الأخطر في العالم؟/ مريم سيف الدين

16.04.2025
يبقى الخوف من السلطات الكبيرة التي يتمتّع بها أثرى رجل مشروعاً بل وواجب. فهي سلطات عظيمة تتوحّد في شخصية يمينية متطرّفة، تدفع الناس باتّجاه التطرّف، وعدم الخجل بفاشيّتها لتقوى على حساب مصالحهم، وإذا كانت سلطة الحكومات المُفرطة تشكّل خطراً على الناس، فكيف بسلطة ملياردير يميني يحاول بناء إمبراطورية تتحكّم بمصير البشرية، بينما تتردّد الحكومات أمامه؟
بات من المقرّر أن يُغادر أثرى رجل في العالم موقعه داخل الحكومة الأميركية، وفق ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب. السبب المُعلن هو تفرّغ ماسك لإدارة شركاته التي تشهد أسهمها تراجعاً كبيراً، بفعل سياسات إدارة ترامب، بينما برزت مؤخّراً خلافات بين ماسك ومسؤولين في إدارة الرئيس، لكن الأمر وإن حصل، لن يعني ابتعاد أثرى رجل في العالم عن موقع النفوذ الأوّل، ولا تراجع خطره على البشرية أجمع.
يكفي مراقبة أداء ماسك وخطابه وتصرفاته، ومحاولة استشراف ما ستؤول إليه الأمور في حال زادت سلطته، للقول إنه بات الملياردير الأخطر. إذ صار الرجل الذي يتفاخر بفكره اليميني، يجمع في آن قوّة اقتصادية هائلة بأخرى حكومية، تُضاف إليهما قوّة إعلامية وأخرى تكنولوجية تطمح للتحكّم بالعقل، وزيادة على هذه السلطات كلّها، سلطة في مجال الفضاء، وهكذا أصبح بإمكان رجل واحد التأثير بمصائر البشر كلّهم.
ويمزج رجل الأعمال ومستشار أقوى رئيس في العالم بشكل فجّ بين الخاصّ والعامّ، على العكس من أصحاب الثروات الذين يحفظون شيئاً من اللياقة، ويمارسون نفوذهم بعيداً عن الإعلام.
اليوم يضع ماسك يديه على موازنة الحكومة الفيدرالية، التي تمنح شركاته عقوداً بمليارات الدولارات، والأخطر أنه وضع يضعه عبر منصبه، على كمّ هائل من البيانات التي يمكنه استخدامها لمآربه الخاصّة.
ويسعى الأثرى في العالم، للاستحصال على المزيد وتوسعة إمبراطوريته، وإن كان ذلك يدخل في إطار الطموح، غير أنه يُنذر بتعاظم خطر الناطق باسم اليمين المتطرّف حول العالم، في حال نجح في احتكار الشركات الأكثر تأثيراً، مثل “تيك توك” و”أوبن إي آي” المالكة لـ “تشات جي بي تي”، وهو ما يطمح إليه.
“إكس” نموذج لخطورة ماسك
قبل سنوات أظهرت استطلاعات رأي، أن الشباب باتوا يعتمدون على “تويتر” للاطّلاع على الأخبار، كما تحدّثت تقارير عن القدرة على التأثير عبر المنصّة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، واتّهمت جهات خارجية باستخدامها للتأُثير على الناخبين. دفع ذلك بالملياردير للاستحصال على “تويتر”، لم يكتفِ ماسك بشراء المنصّة وتغيير اسمها إلى “إكس”، بل غيّر سياساتها بشكل كبير نحو الأسوأ، فازداد خطاب الكراهية، وانتشار الأخبار الكاذبة، وصارت المنصّة أكثر تسامحاً مع العنف اللفظي والادّعاءات الكاذبة.
وعبر “إكس” راح ماسك ينشر بنفسه خطابه اليميني المتطرّف المعادي للكثير من الفئات، مستغلاً صورته كنموذج للنجاح، وراح يحاول التدخّل في سياسات الدول، والتأثير على استفتاءاتها، ونشر الأخبار الكاذبة. كما صار يهاجم باستمرار الإعلام التقليدي، بغية ضرب ما تبقّى من معايير إعلامية، لصالح منصّته التي يحاول تسويقها كأهمّ وسيلة إعلام.
وعبر المنصّة أيضاً، لعب ماسك دوراً في عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قبل أن يُكافأ بتسليمه “وزارة الكفاءة”.
قبيل الانتخابات استضاف صاحب المنصّة المرشّح الرئاسي، وأجرى حواراً جارى فيه ضيفه من دون أن تستوقفه أي من الادّعاءات الكاذبة، وهو ما كان محطّ انتقادات في الإعلام.
يشكّل ترامب- ماسك ثنائيّاً يعمل على تطبيع العنف، والخطاب اليميني المتطرّف حول العالم، ويسعى الرجلان لتدمير أفضل ما في القيم الأوروبية، والدفع باتّجاه صعود اليمين المتطرّف هناك، كما في العالم كلّه.
فترامب يريد دولاً أوروبية مفكّكة ضعيفة خاضعة للولايات المتحدة، وماسك يريد أن تتراجع سلطة الحكومات، بما يوفّر لشركاته مجالاً للعمل من دون ضوابط، حيث تفرض القوانين الأوروبية ضوابط تحمي المستهلكين، بينما يسعى ماسك لهدمها كي يبني إمبراطوريته على أنقاضها، وعلى حساب مكتسبات الشعوب، لتحكم ديكتاتورية أصحاب الشركات. هؤلاء يفضّل الكثير منهم عدم التصادم مع السلطات؛ كما يفعل ماسك، ويمارسون نفوذهم بشكل أقلّ فظاظة.
في هذا الإطار، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” قبل أيّام، عن استعداد الاتّحاد الأوروبي لفرض غرامة قد تفوق المليار دولار على منصّة “إكس”، لمخالفتها قانون مكافحة المحتوى غير المشروع والمعلومات المُضلّلة. وفي مشهد يؤكّد تأُثير نفوذ الرجل في القرارات، تحدّثت معلومات عن تعمّد الاتّحاد الأوروبي إبطاء تحقيقاته خلال الأشهر الماضية، خشية تداعيات معاقبة ماسك بعد عودة ترامب إلى السلطة.
وكان ماسك قد تحدّى مسؤولين في الاتّحاد، الذي يشكّل أحد أهمّ النماذج الحكومية في العمل، على تأمين حدّ من الحماية للمستهلكين.
نفوذ حكومي ومصالح متضاربة
مع ترامب دخل ماسك إلى البيت الأبيض، في احتفال التنصيب، ضرب تحيّة نازية تمّ التعاطي معها بتسامح غير معهود. في وزارة الكفاءة التي تمتلك صلاحية لمراقبة باقي الوزارات والوكالات، عمل ماسك على تقليص الإنفاق، ما انعكس سلباً على فئات هي الأضعف في العالم. فمثلاً حذّرت مؤخّراً منظّمات تعمل على مكافحة سوء التغذية لدى ملايين الأطفال، من “كارثة” ستؤدّي إلى “قتل أطفال”، بعد أن أوقفت الإدارة الأميركية برنامج التنمية، وهو برنامج يتفاخر ماسك بمواجهته. كذلك هدّد ماسك الموظّفين في الحكومة الفيدرالية بالطرد، إن لم يردّوا على بريد أرسله، في تصرّف أُثار جدلاً، وأظهر قدرته على التعسّف مع موظّفين في مؤسّساته الخاصّة.
إذاً، وُضعت في يد ماسك صلاحية الحدّ من الإنفاق، على الرغم من تضارب المصالح، هو الذي تتلّقى شركاته مبالغ طائلة لقاء عقود من الحكومة الفدرالية. مثلاً، مُنح الرجل الذي يملك شركة خاصّة تعمل في الفضاء، وتملك عقوداً مع السلطة الفدرالية القدرة على التأثير على موازنة الناسا، التي من مصلحته إضعافها لصالح تقوية شركته.
في هذا الإطار، سُئل ترامب سابقاً عن احتمال وجود تضارب مصالح، يتعلّق بمهامّ الملياردير مالك شركة “سبايس إكس” لاستكشاف الفضاء، اكتفى الرئيس بالقول إنه لن يسمح لماسك بالمشاركة في أي من القرارات المتعلّقة بالفضاء، التي تُصدرها الحكومة الأميركية.
ويعتبر ماسك الفاعل الخاصّ الوحيد المنافس للفاعلين الكبار في مجال الفضاء، ويمكن لأعماله الخاصّة وقراراته المزاجية، أن تشكّل توترات دولية تؤثّر على ملايين البشر. ففي العام 2021 اتّهمت الصين شركة ماسك بتشكيل خطر على حياة روّادها الفضائيين، وقالت إن الأقمار الصناعية التابعة لـ”سبايس إكس” اقتربت نحو محطّة الفضاء الصينية، وأكّدت الصين أن محطّتها اتّخذت إجراءات طارئة لتجنّب حادث اصطدام، وقدّمت شكوى ضدّ الولايات المتّحدة بتهمة تشكيل خطر على روّادها.
ويشكّل دخول المليارديرات إلى سباق الفضاء، تحدّياً إضافياً يجعل من الصعب الاتفاق على الالتزام بقواعد تضبط النشاط الفضائي مستقبلاً، مع ما قد يسبّبه ذلك من صراعات إضافية تدفع الشعوب أثمانها.
هيمنة على العقل وعبر الفضاء
عبر الفضاء أيضاً يوسّع ماسك استثماراته، ويستكمل مشروع “ستارلينك”، أحد المشاريع القليلة التي تقدّم خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية بسرعات مقبولة، وهو ما يزيد من نفوذ ماسك، ومن قدرته على التأُثير في الأحداث ومصائر الشعوب. فالرجل يُسيطر على البنية التحتية للإنترنت “البديل”، ومع الاستمرار في توسعة مشروعه قد يتحوّل “ستارلينك” إلى احتكار، خصوصاً في المناطق التي ينقطع عنها الإنترنت، ما يمنح ماسك قدرة أكبر على الضغط والتأثير في السياسات، خصوصاً في المناطق التي تعتمد على خدمته.
شركة أخرى يملكها الملياردير المتفلّت من الضوابط الأخلاقية، وهي “نورولينك”. يُظهر وصف المشروع أنه يفتح أفقاً طبّياً قد ينقل البشرية إلى مكان أفضل، ويزيل معاناة المصابين بالشلل، وغيره من الأمراض المرتبطة بعمل الدماغ. إذ يعمل المشروع على أنظمة تُتيح ربط الدماغ البشري بالأجهزة الإلكترونية مثل الحواسيب أو الأطراف الصناعية، عبر شريحة إلكترونية تُزرع داخل الجمجمة، لكن من المرجّح ألا يقتصر المشروع، الذي ما يزال في مراحله التجريبية، على الأهداف الطبية، وأن ينحو باتجاه محاولة التحكّم بالدماغ والسيطرة على البشر.
كما يحاول ماسك توسيع إمبراطوريته والهيمنة على الشركات الناجحة، لكن طموحه يصطدم بمصالح أصحابها، وإدراكهم لما قد يفوتهم في حال تخلّوا عنها، حيث عرض ماسك شراء “أوبن إي أي” التي كان أحد مؤسّسيها، مقابل 97,4 مليار دولار، أي مقابل مبلغ يفوق ربع ثروته الحالية، لكن العرض رُفض.
واليوم يحاول ترامب حثّ السلطات الصينية على الدفع باتجاه بيع تطبيق “تيك توك”، الأكثر انتشاراً، إلى شركة أميركية، ويصرّ على ذلك. وكان قد صرّح في كانون الثاني/ يناير الماضي أنه منفتح على شراء ماسك للتطبيق، الذي أشار لاحقاً أنه غير مهتمّ بذلك. بينما يستمرّ ترامب بالضغط على الصين، وتقديم عروضه كي ينتقل التطبيق إلى أميركا وتُديره يد أميركية. يُشار إلى أن تقارير إعلامية ذكرت أن ماسك ساهم في تليين موقف ترامب من استخدام “تيك توك” في الولايات المتحدة، وتأجيل تطبيق قرار حظره.
وعلى الرغم من تراجع أسهم شركة صناعة السيارات “تسلا” التي يملكها، غير أن ماسك يظلّ في موقع القوّة، حتى وإن انهارت الأسواق كما يحذّر البعض، ويظلّ الأقدر على الاستفادة من الانهيار. فهو الملياردير الذي يُسيطر على إحدى أكبر المنصّات التي توزّع الأخبار حول العالم، وعلى شركة تتوسّع في الفضاء، وأخرى تعمل على التحكّم بالدماغ البشري، وثالثة تكاد تحتكر توزيع الإنترنت عبر الفضاء، وأخرى للذكاء الصناعي وغيرها، وهو الأقدر على الشراء والبيع.
يبقى الخوف من السلطات الكبيرة التي يتمتّع بها أثرى رجل مشروعاً بل وواجب. فهي سلطات عظيمة تتوحّد في شخصية يمينية متطرّفة، تدفع الناس باتّجاه التطرّف، وعدم الخجل بفاشيّتها لتقوى على حساب مصالحهم، وإذا كانت سلطة الحكومات المُفرطة تشكّل خطراً على الناس، فكيف بسلطة ملياردير يميني يحاول بناء إمبراطورية تتحكّم بمصير البشرية، بينما تتردّد الحكومات أمامه؟
درج