الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 17 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

—————————-

الثأر والقبيلة والطائفة: الروح الانتقامية بوصفها عدواً للسياسة والمجتمع/ موفق نيربية

16-04-2025

        – 1 –

        «أين كنتم؟! عندما…»

        «الأقليات في سوريا هي أقليات عرقية وأقليات طائفية وأقليات فكرية، حتى العلمانيون والنسويون وأشباههم، هم في سوريا أقليات. ومثلما تصدرت أقلية طائفية حكم سوريا لخمسين عاماً، هناك أيضاً أقليات فكرية تحكم الإعلام، الفن، الأدب، التعليم، والإنتاج المعرفي».

        «يا أستاذ في التربية أو المدرسة الصوفية قول: التخلية قبل التحلية (أو الهدم قبل البناء)، وأنا كواحد تعرضت عائلتي لإبادة لن أقبل ولن ترتاح نفسي إلا بإبادتهم والخلاص منهم، ومن يريد أن يزايد عليّ بالتسامح والعفو، ويضرب الأمثال بالرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، نقول لو كانوا مثل أهل مكة لغفرنا لهم وسامحناهم، فلم يفعل أهل مكة بالمسلمين ما فعلوه بنا».

        هذه نماذج من أجوبة مريرة لطالما تردّدَت كلّما تحدّثَ أَحدُنا عن خطورة أعمال الانتقام وما تؤدّي إليه في سوريا. تهدف هذه الردود إلى التذكير بما حدث سابقاً من مجازر، فاقت بحجمها والدماء التي أرُيقت فيها، والخراب الشامل الذي رافقها، ما يجري الآن: «كم عدد الذين سقطوا الآن؟ مئات؟ لقد سقط في السابق وفي وضع معكوس مئات الآلاف!». فلا يحقّ لأحد أن يستنكر مجزرة «بسيطة» تعرّضَ مرتكبوها لأكبر منها بكثير.

        هذه مسألة للبحث في سوريا إذن: شرعية ثأر الدم ما دام ما يزال أقلّ وأصغر من الجريمة الأولى!

        الفارقُ بين أرقام الضحايا وتفوّقُ النظام الكاسح لا يمكن نفيهما ولا مُقارعتهما. فحتى منتصف العام 2015، أي قبل بداية التدخّل الروسي الكبير، أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي قامت بتوثيق عشرات المجازر في سوريا، إلى أنه في سوريا «لا تكتفي القوات المعتدية والمختلفة طائفياً عن السكان الضحايا بقتلهم رمياً بالرصاص، بل تُظهر أفعالاً وسلوكيات وممارسات كالذبح بالسكاكين لعائلات كاملة، بمن فيها من نساء وأطفال ورجال، حرق الجثث، تشويه الجثث، وعمليات اغتصاب واعتداء جنسي، نهب المنازل وحرقها، كلها جرائم تحمل صبغة طائفية أو عرقية». في ذلك الوقت كانت تحليلات الداتا في الشبكة تُبيّن أن 87 بالمئة من تلك الانتهاكات قد ارتُكبت من قبل النظام والميليشيات الحليفة أو الدائمة. وقد تسبّبَ سعي الأطراف الأسدية إلى توظيف العنف الطائفي باستفزاز عصبية الطرف الآخر ودفعه إلى ردود فعل شبيهة، بل إنها حصلت أحياناً أمام أعين المراقبين العرب والدوليين، وشاهدها الملايين على الشاشات الصغيرة والكبيرة. دفع هذا السلوك الطرفَ «السنّيّ» المقابل بقوة نحو التشدد والتطرّف، وإلى قبول التعامل الصريح مع قوى كان يتجنّبها سابقاً.

        خلال سبعة وعشرين شهراً فحسب، بعد اندلاع الثورة السورية، ارتكبت قوات الأسد وميليشياته 35 مجزرة تنطبق عليها صفة الطائفية مباشرة. وحين ندخل في التفاصيل تزيد حمولة تلك المجازر، بسبب استخدام السلاح الكيماوي مثلاً، أو بسبب شراسة ووحشية الطرق المتّبعة، ودرجة استهداف العائلات الكاملة والأطفال والنساء.

        ثمّ هنالك بالفعل ما يشبه الإبادة، والاقتلاع من المسكن والأرض، وأرقام لا تُصدّق من الضحايا والخراب.

        أخيراً: في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي دخلت قوات «ردع العدوان» بقيادة هيئة تحرير الشام دمشق، وانهار نظام بشار الأسد بطريقة غريبة عجيبة، بل ذاب وتلاشى. شكّلَ ذلك اليوم منعطفاً هائلاً في تاريخ سوريا الحديث، بإسقاط نظام الأسد الأب والابن، نظام البعث، بعد أكثر من ستة عقود من الزمن الصعب والفريد.

        بعد ذلك بثلاثة أشهر، قامت فلول النظام السابق، وتشكيلاتها الناشئة في جبال الساحل السوري، بنصب عدد من الكمائن لقوات السلطة الجديدة وللأمن العام خصوصاً، وقيل إنها قد قتلت منها حوالي 300. بدأت تلك العمليات ظهيرة السادس من آذار (مارس)، واستمرت حتى ظهر اليوم التالي ريثما وصلت الإمدادات الرسمية. جاءت تلك الإمدادات بعد إعلان «النفير العام»، وحشد فصائل جاءت من الشمال، بينها تلك التي تحمل أسماء سلاطين عثمانيين. رافقهم فيما يبدو كثير من «المتحمّسين» الذين «دبّت بهم النخوة» وهبّوا لتلقين المعتدين درساً لا ينسوه. وحدثت مجازر عديدة، لم يُعرَف بعدُ عدد ضحاياها كلّهم: بينهم الكثير من الشباب الذين تمّ انتخابهم عمداً وخصوصاً، وعديد من الأطفال والشيوخ والنساء أيضاً، فضلاً عن النهب والتدمير والإذلال… والإرهاب بكلّ معناه. حدث ذلك في العديد من قرى الجبل العلوية، وفي بلدات ومدن الساحل، وأحيائه… العلوية.

        وكان صدى ذلك كبيراً، ما يزال يتردّد وتعلو نبرته أحياناً. وابتدأت بعض الأصوات تنادي بطلب الحماية الدولية والحكم الذاتي… لكن ليس هذا موضوع هذه المقالة بالذات، بل هو حول الانتقام والثأر والدم عموماً.

        وقد كنّا نناقش هذا الموضوع بحذر ومواربة منذ مجزرة حماة 1982، وفي ربيع دمشق، ومع اغتيال الحريري وتَحرُّر لبنان التالي له، وبشكلٍ مُركَّز منذ الثورة: هل يمكن منع أعمال الثأر والانتقام؟ وما هو حجمها المُتوقَّع؟ وكيف نواجهها: بالتفهّم والموافقة المكتومة أو الصارخة، أم بالوقوف في وجهها ومحاولة تخفيفها وتعديلها؟ وأساساً، كيف نوقف العقلية الثأرية عن التأثير في كلّ مسار الثورة والتغيير باتّجاه دولة مدنية ديمقراطية حديثة تُؤسِّس للعدالة والمواطنة المتساوية؟

        – 2 –

        مات أنور خليل خوجة على فراشه عام 1985، وكان الزعيم الشيوعي الأوحد لألبانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولد لأسرة من الطائفة البكتاشية العلوية (هل يثير هذا ابتساماتكم؟!). درسَ أنور خوجة في فرنسا ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث تعرف على الأفكار الماركسية، ثم درسَ في بروكسل وعملَ أيضاً في السلك الدبلوماسي. وحين عاد إلى بلده عمل مدرساً للغة الفرنسية في مدرسته السابقة، ولكنه فُصِلَ من العمل بسبب تهمة الشيوعية واضطر لفتح محل لبيع التبغ. تميزت فترة حكمه تلك البلاد لأربعين عاماً بالقضاء على المعارضين، وبناء جدار سميك كاتم للصوت وعاتم للبصر مع العالم، وكذلك بالتقدم الصناعي السريع. وفضلاً عن الإنجازات من ناحية التعليم والصحة، فقد ركّزَ على إعادة إعمار ألبانيا بعد الدمار الذي حلَّ بالبلد أثناء الحرب العالمية الثانية. وتحت سلطته، شهدت ألبانيا عُزلة تامة عن بقية أوروبا واندماجاً متكاملاً في الإيديولوجية الستالينية. وُصِفَ نظامه الديكتاتوري بأنه الأشد قمعاً ودموية في تاريخ أوروبا الحديث. أعلن عام 1976 أن ألبانيا هي «أول دولة ملحدة في العالم».

        كان الشعب الألباني طوال تاريخه صاحبَ تقاليد احتفالية بالثأر، بوصفه أقدم طريقة لحلّ النزاعات على وصف سبينوزا. وأوقف أنور خوجة تلك الطقوس وعاقب كلّ من تابعها بشدّة. وعند انهيار «المعسكر الاشتراكي» وانفتاح الحدود عالية الجدران، وتحت استغراب العالم كله، عادت تلك الطقوس إلى الحياة على الفور مع سقوط النظام وسيادة الفوضى:

        وفقاً للقانون العرفي المحلي «كانون»، كان نظام تلك العمليات يُدعى «جياكماريه»، وهو لا يَعتبر الثأر والانتقام انتهاكاً على الإطلاق، مهما طالت سلسلة أعمال الثأر والثأر المضاد!. هو شكلٌ «وطني» من نظام العين بالعين والسن بالسن، الذي قوننه حمورابي. وكما لدى شعوبٍ أخرى: كان الرجل القاتل يعترف بفخر أنّه قد قتل ليحافظ على شرف سلالته وعشيرته أو عائلته.

        بعد القتل يطلب أهل القتيل الهدنة المؤقتة (البيسا)، ويتيح ذلك لأهل القتيل فرصة الجنازة وتكريم الميت، ويشارك فيها أهل القاتل ووجهاء عشيرته. في نهاية الجنازة يطلبون تمديدها لمرحلة ثانية، حتى يصلوا إلى المرحلة الأخيرة؛ طلب الصفح ودفع الديّة وتنفيذ طقوس تاريخية لتوحيد دم الطرفين وربطهما، وهو أمرٌ قليل الحدوث، إذ أن ما يحدث عموماً هو استمرار عمليات الثأر إلى زمن غير مُحدَّد.

        يعرِِفُ الريف المصري أيضاً عمليات الثأر جيداً، وقد مرّت حوادث ثأر لافتة أحياناً كتلك التي صارت في محافظة سوهاج وسقط فيها أكثر من 12 قتيلاً، أو تلك التي قُتل فيها محافظ الجيزة لأنه من عائلة أو عشيرة معيّنة. كما في أكثر من مكان، يوجد نظام لدفع ديّة المغدور في مصر، لكنّه غير مُستحبّ لما يضمره من هوان أو إذلال، إلّا في حالة الشروع في مفاوضات الديّة بالبدء بإجراء «حمل الكفن»: حين يأتي القاتل أو أحد كبار أهله حاملاً كفنه بيده، اعترافاً بالذنب وإذلالاً لذاته أمام مصيبة أهل القتيل. عندها يكون القبول بالديّة أسهلَ على نفوس أصحاب الثأر والدم، ولا يحدث هذا إلّا بعد استمرار سلسلة الثأر لزمن يطول وينهك الطرفين.

        في سوريا يُقال إن «البدويّ قد أخذ بثأره بعد أربعين عاماً، وقال ما زال الوقت مبكّراً (بكّير)!». وينتشر التقليد في القبائل والعشائر ومنازلها خصوصاً، كما تأخذ سلسلة الثأر نظاماً محدّداً لا يختلف إلّا قليلاً، منذ كانت الحياة كلّها قبيلةً ورعياً وغزواً وغنيمة. أذكر جيّداً دخول حملة شهادات جامعية في تلك السلاسل، كما أذكر كيف كنّا نرى في المدن شباباً منفردين ومنعزلين وربّما حملوا أسماء غير أسمائهم، يعيشون بعيداً عن أهلهم الذين أرسلوهم بعيداً خوفاً عليهم من عمليات الثأر. وربّما نشأت عائلات جديدة لا تعرف أصولها هكذا.

        لم يكن دفع الديّة والصلح غالباً إلّا مصحوباً بشعور الهوان العميق. يذكّر ذلك بعادة رمي «سهم التَعْقِية» القديم، التي كان وليُّ الدم فيها يطلق سهماً نحو السماء، ثمّ ينظر فيه: إن عاد وعليه دمٌ طلبَ دمَ غريمه، وإن عاد نظيفاً -ولن يعود إلّا هكذا- فإنه يقبل الديّة، وإن كان القوم كلّهم يعلمون أن ذلك غطاء لعجز وضعف صاحب الثأر أمام خصومه. كذلك أيضاً كان يُقال إن فلاناً «أكل الدم»، بقبوله الديّة، لفظاعة الإحساس الذي يُخلِّفه القعود عن طلب الثأر والانتقام المادّي المباشر.

        رغم مرور مئات وربما آلاف الأعوام على تلك العادات والتقاليد، فقد انزرعت عميقة في النفوس، حيث ما زال نظام القرابة- العشيرة والقبيلة- سائداً أو قوياً أو حيّاً. وما زالت عبارة «أولياء الدم» تُقال في إشارة ذات بلاغة عتيقة، لترمز للحفاظ على الشرف، وعلى الحق باستمرار الحياة عبر الثأر والانتقام. «السوريّ لن يرمي بسهم التَعقية» كما قال كاتب سوري ذات مرّة.

        كان انبعاث عمليات وتقاليد الثأر في نهاية ديكتاتورية خوجة تأكيداً لاستمرار وجوده- نائماً- في الثقافة المحلية. وربّما يشير ذلك أيضاً إلى أن تقليد الثأر المُقنون عُرفياً، بقوته وتجذّره بين العادات السائدة، قد يكون نوعاً من الحماية -ولو محدودة- للمجتمع من التفتّت الكليّ في أزمنة الفوضى والافتقاد إلى دور الدولة. كما تشهد خبرات «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» في السنوات الأخيرة، والمُصمَّمة لتقييم إمكانية منح اللجوء لطالبيه في إيطاليا، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، بسبب «ثأر الدم»، على أن تقاليد الانتقام لا تزال أصيلة بين سكان بعض المناطق.

        – 3 –

        الطائفة من الناس هي جماعة منفصلة عنهم بشكلٍ من الأشكال. وهي بلفظها الأجنبيّ جزء مقتطع من جماعة الدين الأصليين، بل هم غالباً جماعة هراطقة بشكل من الأشكال، تباعدوا قليلاً أو كثيراً عن عقائدهم الأولى. هنالك ما يدفع إلى رؤية أعضاء الطائفة بطبيعتهم أكثر قابلية للتعصّب والتمركز والتطرّف عن أصول الدين، حتّى ولو حسبوا أنفسهم -كل طائفة منهم- أنهم الأعمق في الإيمان والأكثر معرفة أو عرفاناً ربّما.

        بذلك تقترب «الطائفة» من العشيرة والقبيلة، ويكون لديها من العصبية ما يعادل قربى الدم الأبويّة، نظام القرابة الدموية. وحين ابتعدت الطوائف في إيمانها أكثر، كان لديها أحياناً استعدادٌ أكبر لهدر دم خصومها. يتمظهر ذلك كلّما كانت الرابطة أقوى، بالتنظيم والتربية، وحتى بالتدريب الرياضي أو العسكري.

        وعلى الرغم من أن الدين والطائفة أحدثُ وأكثرُ تَقدُّماً و«ثقافة» من القبيلة والعشيرة وقرابة الدم، فإنّ ذلك لا يَظهر إلّا في مراحل النهوض و«الثورة»، حين يكون الأمر صافياً نقياً مفعماً بالقِيَم، يتشبّع بنظام الأخلاق الفطريّ أو الناشئ… أمّا حين يمرّ الزمن على تلك البدايات، فلا يبقى من الأمر إلّا عصبيّته، التي تعود به إلى حيث كانت رابطة دمه الأساسية.

        تلك مقدّمة للحديث عن الثأر أو الانتقام الطائفيّ، المعروف قديماً وحديثاً، وعن إمكانيّة تخريبه لحظوظ أيّ مجتمع أو أمّة بالتقدّم والتطوّر. ولبنان مثال عن تحوّل الظاهرة القبلية (القيسية واليمنية) في زمن ما إلى الظاهرة الطائفية.

        هنالك ظاهرة اسمها «شهداء دمشق»، الذين كانوا رهباناً في دير الفرنسيسكان، وقُتلوا جميعاً في العام 1869، وقد تمّ رسمُ هؤلاء كقديسين في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي من قبل البابا فرانسيس. وكانوا عملياً من بين آلاف الضحايا في تلك الحرب الأهلية التي امتدّت من جبل لبنان إلى باقي المناطق فيه، وإلى دمشق.

        في أوائل صيف العام 1860 اندلعت تلك الحرب الدرزية- المارونية في لبنان، وابتدأت بانتفاضات للموارنة الفلاحين هنا وهناك ضد الإقطاعيين الدروز، ثمْ تحوّلت بسرعة إلى مقتلة فظيعة. وقبل تلك الانتفاضات كان المسلمون قد عانوا من نكسة وركود اقتصاديين كبيرين خلال العقدين السابقين على الحرب، بسبب كساد الصناعات بعد تدفّق البضائع الأوروبية بتسهيل من الحكومة العثمانية.

        تُحدِّدُ معظم المصادر عدد القتلى في لبنان بين 7000 إلى 11000، بينما تصل أخرى إلى 20 ألفاً أو أكثر. وقد تمّ تدمير آلاف المساكن، وتحويل قطاعات شعبية كاملة إلى حالة الفقر المدقع، ودفع الكثيرين منهم إلى الهجرة. وبالطبع سقط عدد مهم أيضاً من الدروز والمسلمين.

        حين وصلت أنباء أحداث لبنان إلى دمشق، احتفل بها المسلمون وأطلقوا اسم «فتح زحلة» على مقتلتها، في ضجيج إثارة النعرات وتعزيز عدوانيتها. سقط في دمشق حوالي خمسة آلاف يشكّلون ربع أعداد المسيحيين في المدينة، وهُدّمت مساكن كثيرة، بحيث قال شاهد غربي جال في المدينة بعد أسبوعين من ذروة الحدث: «لم أجد ممّا كنتُ قد رأيته إلّا بقايا منازل، وفي معظم الأحيان جدران بارتفاع بضعة أقدام فقط. والجثث تملأ المكان وتفوح منها الروائح الكريهة… وباختصار، لقد تمّ حرق الحيّ المسيحيّ كلّه ولم يسلم منزلٌ واحد».

        يذكر الرواة- فخراً- من جهة أخرى كيف قامت عدة عائلات دمشقية مسلمة بإيواء المسيحيين، وكان الأمير عبد القادر الجزائري على رأسهم.

        وفي الواقع، تحتوي «سورية» السابقة على تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى كلاً مما أصبح يُسمّى فيما بعد فلسطين ولبنان والأردن … وسوريا الحديثة. وقد قال عنها المؤرخان العثمانيان والباحثان البارزان في العصر الحديث محمد رفيق التميمي ومحمد بهجت في كتابهما ولاية بيروت ما يلي: 

        «ما زالت فلسطين، أو بالأصحّ سورية تعتبر مهد الأديان، ولم تزل دفاتر أعمال سكانها وأفكارهم محشوّة بمسائل الأديان والمذاهب. حلّت النصرانية بادئ أمرها في أنطاكية، ثمّ أخذت تتخطى مركزها إلى أن شملت أقطار المعمورة، وهكذا الإسلامية ما كادت تظهر إلّا وتسرّبت بسرعة البرق إلى جميع الأنحاء، ورغماً عن هذا لم يتسنّ لسورية أن ترى وحدة الدين حتى ولا في يوم من أيام التاريخ. وأكبر برهان على صدق هذه الدعوى هو وجود أكثر من ثلاثين مذهباً بين السكان السوريين الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين من النسمات»؛ من فصل «الأديان والمذاهب».

        يأتي التذكير بذلك إذ نمرُّ إلى المظلومية العلوية، التي يرفعها البعض إلى أقصى درجات التوتّر ويخفضها غيرهم حتى الانعدام. يعود خيط ذلك الإحساس إلى أيّام دخول جنود السلطان سليم في عام 1516 إلى حلب، في أجواء من الصراع الكبير الثنائي: مع الصفويين الذين تشيّعوا وجعلوا من ذلك إيديولوجيا التحشيد الخاصة بهم، من جهة؛ ومع المماليك السنّة الذين يحمون سليل الخلافة العباسية التي يريدها السلطان لنفسه ولسلالته من جهة أخرى.

        كانت تعيش في وسط حلب يومها جماعة ليست قليلة العدد من العلويين «النصيريين»، الذين حافظوا على ذلك الوجود منذ أيام مؤسس المذهب الخصيبي حول سيف الدولة الحمداني، والذي كان مرقده هناك. يقال إن مجزرة فظيعة قد ألمّت بهم وذهب ضحيّتها فيما نقله البعض تسعون ألفاً، وفي رواية أخرى أربعون ألفاً، وفي رواية ثالثة تسعة آلاف وأربعمائة ضحية، وفي رواية أخيرة لم تكن هنالك مجزرة على الإطلاق… تشرّدَ من بقي من تلك الجماعة من جديد، ورحلوا إلى من سبقهم قديماً إلى الجبال المعروفة.

        من خلال العُزلة والفقر والجهل، دامت المظلومية والتمييز إلى العصر الحديث مع السلطة العثمانية ومع الإقطاع السنّي خصوصاً، بل أيضاً مع أهل «المدينة» حين يلقون ابن الريف والجبل ذاك، وهو المذهول أمام العالم الذي لا يعرفه جيداً.

        تلك المظلومية (المكتومة بين أناس اعتادوا الكتمان) كانت حاملاً لما يعادل الثأر والانتقام من الأكثرية السنّية على يد سلطة الطاغيتين حافظ وبشار الأسد، ما قاد إلى ما لحقَ بالأكثرية من «مظلوميّة» مضادّة نمت خلال أكثر من خمسة عقود سوداء.

        انتهت تلك الحقبة في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الماضي بوصول تحالف جهادي إسلامي إلى دمشق دون مقاومة تقريباً، ونهاية ديكتاتورية عائلة الأسد. بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر، تجمّعت زمرة علوية بسلاحها لتحاول الاقتصاص لمجدها الذاهب أو لبضعة الضحايا الذين راحوا- كغيرهم-، أو لأولئك الذين يخشون أن يروحوا فيما بعد، أو دفاعاً عن أنفسهم من أيّ عدالة لا بدّ أن تأتي، أو لمجرّد الخوف من أشباح المظلومية القديمة… هاجموا حواجز السلطة الجديدة وقتلوا- يُقال- ثلاثمائة من الأمن العام.

        استنفر القوم بعد ذلك وعلا صوت المآذن في إدلب وغيرها، وانثالت الآلاف من عناصر الفصائل وحتى الأفراد بسلاحهم لينفّذوا على عدة أيام مجازر ذهب ضحيّتها مئات- على الأقل- من الضحايا، كان من بينهم أيضاً معارضون معروفون لحكم الأسد، وسجناء سابقون، وأطفال ونساء. وما زالت ترد أخبار متفرّقة، عن ضحايا متفرّقين.

        – 4 –

        لا يمكن إذن بسهولة فهم الروح الانتقامية لدى أولئك الذين كانوا في مقدّمة الفاعلين لدى النظام والمستفيدين منه، ومن كانوا يرون حياتهم واقفة عليه وعلى استمراره ووجوده، من رأسه والأقربين إليه إلى العصابات التي كانت تعتبر نفسها صاحبة البلاد ووارثتها إلى الأبد.

        أحد أولاد عم بشار، كان يدرس في الجامعة، وأراد إجبار الأساتذة في الامتحان- بوقاحتهم المعروفة- على السماح له باستبدال ورقته بأخرى كتبها تابعوه خارج القاعة، فمنعه الأستاذ بشجاعة خارقة. حين دخل «الطالب» قاعة أخرى، خلع حذاءه ورمى به عن بُعد صورة ابن عمّه بشار على الجدار المقابل، وشتمه صارخاً ببذاءة، يلومه على ما صارت إليه العائلة في عهده… من هوان!

        لا يمكن تفسير درجة الوحشية في القتل والحرق وتمزيق الضحايا التي كانت تتملّك بعض قادة المدافعين عن النظام، من القوى الأمنية والميليشيات والعصابات، إلّا بإحساسهم ذاك بالتملّك و«الحق»، بأن لهم حقاً في تلك البلاد يحاول «الآخرون» الثائرون على النظام اغتصابه منهم… لذلك ينبغي الانتقام منهم و«تربية» العالم من خلال ما يحدث لهم.

        التضحية بكائن بشري كقربان هي بالتعريف قتلُ الإنسان بدافع ديني، وضمن طقوس قَبَلية/دينية. كيف تُسهم التضحية البشرية في ترسيخ التفاوت بين السائد والمَسود والحفاظ عليه؟ كيف تُمارَس التضحية البشرية، وكيف يُمارَس التفاوت؟

        في الثقافات الأسترونيزية التقليدية جنوب شرق آسيا، كان هناك تَداخُل كبير بين السلطة الدينية والدنيوية. وكثيراً ما أصبح أولئك الذين لا يحظون بقبول النُخَب المتسلّطة ضحايا وقرابين بشرية. ولعلَّ تلك الطقوس الدموية كانت وسيلة فعّالة بشكل خاص لترسيخ الهيمنة، لأنها وفرت مبرراً خارقاً للعقاب، ولأن طبيعتها المؤلمة والصارخة كانت بمثابة رادع للآخرين، كما أنها تُظهر القوة المطلقة للفئة السائدة. هل يوجد مثل ذلك البناء النفسي في أغوار البشر حين تبلغ «العصبية» ذروتها؟!

        ذلك ليس غريباً، أو لعلّه ربّما مفهومٌ رغم لاعقلانيّته الواضحة. لكن وجود روح الثأر والانتقام في الوسط المعارض السوري نفسه قد أدّت إلى نتائج وخيمة على مسار الثورة السورية، منذ أمسك به أولئك الذين تُحرِّكهم تلك الروح. كانت القبلية والطائفية- الكامِنتان خصوصاً- تغذّيان وتنفخان وتَرعَيان الخلفيّة الثأرية العميقة، والأكثر عمقاً كلّما كان المعنيّ شخصيّة فاعلة في العمل المعارض، السياسيّ أكثر من العسكري، لأنّ طبيعة العمل العسكريّ تسمح ولو قليلاً بذلك التحريض الذي أصبح «تثويراً».

        كنتُ ألمسُ ذلك مباشرةً وعن قرب لدى بعض قيادات المعارضة الأبرز، الذين كانوا يظهرون أكثر راديكالية وثورية من غيرهم، على عكس ما كان مطلوباً منهم ومن ضمن مهامهم في تحقيق التغيير بأقلّ الضحايا، وبروح الحلّ السياسي، لا الحلّ العنيف الذي لا تُشبعه الدماء، بل تزيد من تعطّشه إليها. كانوا يتبارون في رفض أي حل أو عرض لتسوية أو قرار دولي، بمجرّد معرفتهم أن هنالك مشروعاً قادماً. تمّ رفض بيان جنيف 1 مثلاً، وغيره وغيره دائماً.

        فيما حدث مؤخّراً كلّه، وفي الساحل خصوصاً، وفيما يمكن أن يحدث في أكثر من مكان، تُخيِّمٌ روح الثأر والانتقام… وننتظر روح السلام والتسوية والتوافق عبثاً، كما انتظرنا الحرية طوال عمرنا البائس!

موقع الجمهورية

—————————–

لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟/ راتب شعبو

17 ابريل 2025

تفتقد سورية اليوم، وهي في واحدة من أشدّ اللحظات حساسية في تاريخها، صوتاً واضحاً وحازماً من الفئة الأكثر أهمية في المجتمع السياسي السوري، نقصد الفئة الوطنية، صاحبة الوعي الذي يمكن أن يسند وحدة سورية وتماسكها. لنلاحظ هذا التحوّل؛ شاع في بداية ثورة 2011 في سورية أن هتافاً تردّد في المظاهرات ينادي بقتل العلويين وتهجير المسيحيين. رفضت حينها غالبية المعارضين لنظام الأسد (ونحن منهم) هذه الإشاعة بحزم، وكذّبتها، واعتبرتها إحدى محاولات المدافعين عن نظام الأسد لتشويه الثورة وصدّ الناس عنها. وقيل إنه، حتى لو ردّد بعضهم مثل هذا الهُتاف فإنهم لا يمثّلون الثورة، ولا وزن لهم فيها. ثم قبل أيّام فقط من الذكرى الرابعة عشرة للثورة، تحوّلت الإشاعة مجازر فعلية بحقّ العلويين، فقط لأنهم علويون، بحسب المنطوق المباشر والصريح للجناة، ولم يُبدِ كثيرون ممّن استنكروا بحزم وثبات الإشاعة القديمة، موقفاً حازماً وثابتاً في رفض المجازر المروّعة، التي ربما كان سيميل كثيرون منهم، كما توحي سجالاتهم ومحاكماتهم العقلية المُعلَنة، وضعف تعاطفهم مع المنكوبين، إلى التكذيب، لولا أن الجناة وثّقوا أفعالهم متفاخرين، ومن دون خشية من أيّ عواقب.

نحن لا نتكلّم هنا عن أفراد ذوي مصلحة ينضوون في هياكل السلطات الجديدة، ولا نتكلّم عن أفراد من بطانة هذه السلطات أو مستفيدين بصورة شخصية مباشرة منها، كما لا نتكلّم عن شريحة معادية لفكرة الشعب نفسها ترى الحياة السياسية من موقع تمييزي، وتصنّف الناس وحقوقهم في درجاتٍ بحسب البيئة المذهبية التي ولدوا فيها، نحن نتكلّم عن أشخاص وطنيين يدافعون عن الديمقراطية والمواطنة ودولة القانون، وبينهم من سبق له أن دفع ثمناً باهظاً لوقوفه ضدّ سياسات القوة، وضدّ سياسات التمييز التي ثابر نظام الأسد على ممارستها في الحياة العامّة. هؤلاء هم رصيد وطني ثمين لسورية، والحقّ أن هؤلاء هم في المقام الأول من يفترض وقوفهم ضدّ المجازر، وهم من يفترض أن يتطلّع المنكوبون إليهم منتظرين الإنصاف والتضامن الفعلي، أو المناصرة اللفظية الصريحة على الأقلّ، ذلك أن أنصار دولة القانون معادون بالطبع للقتل الاعتباطي للناس، معادون حتى لقتل مجرمين خارج القانون، فهم مناصرون أساساً لحكم القانون بوصفه السبيل الأكثر أهميةً لنزع العنف من المجتمع.

صحيحٌ أن بين مارس/ آذار 2011 (الثورة) ومارس 2025 (المجزرة)، كثيرا من الدمار والدم، ومن المعاناة والمآسي التي تكبّدها السوريون بيد نظام الأسد، وبصورة خاصّة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، ولكن الواضح أن هذه السنوات خرّبت أيضاً في وعي السوريين عموماً وفي نفوسهم، ومن ضمنهم الوطنيون الذين سبق أن استنكروا مجرّد هتاف يقول بقتل العلويين، ثمّ باتوا متساهلين مع جريمة إبادة، متّخذين من فظائع نظام الأسد مستنداً لتساهلهم، أي يجدون في الدوس على القيم والقانون مبرّراً لتكرار الفعل نفسه. يبقى ما هو أكثر أهميةً، أنه بدلاً من أن يتصلّب الوعي السوري ويشتدّ ضدّ الأسباب الحقيقية للدمار الذي شمل البلاد، الأسباب التي يدركها جيّداً هؤلاء الوطنيون المتفهّمون للمجازر، ترى هذا الوعي يتراجع أمام إعادة تشكّل الأسباب نفسها، ويتساهل مع ما كان يرفضه بقطعية من قبل، ثمّ يجتهد في تبرير تساهله، ويرى في هذا “الاجتهاد” تطوّراً في الوعي، وتحرّراً من النظريات الجامدة، وخروجاً على المساطر. هكذا بات يُزيَّن لهؤلاء أن “تفهّم” مجازر إبادة طائفية صريحة، هو تطوّر وانحياز للمستقبل، والحال أننا بذلك إنما نخسر المستقبل، بقدر ما نريد سورية موحّدة ومتماسكة.

لا يغيب عن بالنا ما أقدم عليه عناصر من النظام السابق ممّن لا يريدون الاستسلام لحقيقة أن السلطة خرجت من أيديهم، ويبحثون عن مخرج للمأزق الذي هم فيه، ونعتبر أن مهاجمة بقايا النظام دوريات الأمن العام بالكمائن، ومهاجمة المشافي، ونشر قنّاصين في الأسطح، ومحاولة السيطرة على مناطق، والاستقواء اليائس بقوىً خارجية… إنما هو استمرار لإجرامهم الممتدّ والمعهود ضدّ السوريين. ونعلم أن شباباً علويين انضموا إلى هؤلاء تحت مؤثّرات عديدة منها، ولعلّ أكثرها أهمية الانتهاكات التي راحت تمارسها بعض الفصائل بحقّ العلويين بعد سقوط نظام الأسد، والتي تهاون معها كثيرون من الوطنيين بوصفها “حالات فردية”.

السؤال: لماذا رفض الوطنيون الهتاف الداعي لقتل العلويين في بداية الثورة، ثمّ تهاونوا اليوم مع القتل الإبادي الذي استهدفهم؟… الجواب الشائع هو بسبب جرائم النظام 14 سنة. لكن هذا يعني أن الوطنيين السوريين يعتبرون العلويين، بوصفهم جماعةً مذهبيةً، مسؤولين عن هذه الجرائم، وليس النظام الذي تمكّن من جعل الدولة ملكيةً خاصّةً للسلطة، وجعل السلطة ملكيةً خاصّةً للعائلة. والواقع أن نظام الأسد ما كان ليتمكّن من فعل ذلك لولا تساهل المجتمع السوري وتراجعه أمامه، الأمر الذي تبدو ملامح تكراره (اليوم أيضاً) أمام السلطات الجديدة. ثمّ، حتى لو اعتبرنا العلويين (جماعةً) مسؤولين عن جرائم الأسد، وهو اعتبار خاطئ، فإن الانتقام الذي جرى لا يمكن أن يسكت عنه من يريد فعلاً بناء دولة وبلاد مستقرّة لا تقوم على الغلبة ومراكمة الضحايا على الضحايا والأحقاد على الأحقاد.

هناك جواب آخر، أن السبب يعود إلى جرائم بقايا النظام بعد سقوطه، والتصوّر أن العلويين تعاونوا (أو سكتوا) عن مؤامرة فلول النظام. من يكرّر هذا القول يضيف عادةً: وإلا لماذا لم تجر هذه المذابح قبل كمائن الفلول؟… والحقّ أن المرء لم يكن في حاجة إلى متابعة لصيقة كي يعرف أنه خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر لم يخلُ يوم من انتهاكات تدرّجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك، وصولاً إلى القتل الطائفي، وقد بلغ عدد القتلى العلويين في هذه الفترة حوالي 600 ضحية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو ما شكّل في الواقع تمهيداً مناسباً لبقايا النظام.

في كلّ حال، لا نعتقد أن أحداً من المتساهلين مع المجازر يعتبر أن قتل العائلات العزلاء في بيوتها تصدّ لبقايا النظام. الجلّادون أنفسهم، وهم ينفّذون جرائمهم لم يكن في تصوّرهم إنهم يواجهون بقايا النظام، كان في أذهانهم ما كانوا يصرّحون به مراراً، وهو إنهم يقتلون العلويين “الخنازير”. في الخلفية الذهنية لهؤلاء مزيج من احتقار ديني للعلويين، مبنيٌّ على تعبئة بالرفض الديني الثابت للمختلفين، وعلى فتاوى مغلقةٍ عابرةٍ للأزمنة، ولها استقلال لا بأس به عن السياسة، مضافاً إلى رفض سياسي غذّاه نظام الأسد، واتخذ بعداً طائفياً لاعتباراتٍ عديدة، أكثرها أهميةً أن النظام استند في ذراعه العسكري الأمني إلى العلويين بصورة أساسية، وقد ساهم وصف النظام السوري بأنه “نظام علوي”، وهذا الوصف من منشأ إسلامي أصلاً، في تعزيز الدافع الانتقامي ضدّ العلويين، حين تراكبت الفتوى الدينية على الفتوى السياسية. ومن المفهوم أنه في البلدان التي لا تتوافر فيها انقسامات طائفية كالتي في سورية، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى، قد تكون عشائرية أو إثنية أو أيّ خطوط انقسام أخرى غير سياسية، وتعمل على خنق الانقسامات السياسية وإحالة الصراع السياسي عنفاً أعمىً مدمّراً لا يُنتج سوى مزيد من العنف.

ضعف الحساسية الذي أبداه كثيرون من الوطنيين السوريين تجاه مجازر الساحل، وقبلها تجاه الإذلال والانتهاكات اليومية التي تعرّض لها العلويون في مناطق مختلفة بعد سقوط نظام الأسد، تكشف واحدةً من أسباب مراكمة الفشل، حين تنكفئ الفئة الأكثر أهمية في المجتمع عن الاعتصام بحبل القيم الوطنية العامّة، الذي هو ما يعطيها قيمتها.

العربي الجديد

—————————

في إدانة المجازر والانتهاكات بحق العلويين-ات السوريين-ات

بيان إلى الرأي العام

مجموعة من السوريين_ات

17-04-2025

        شهدت مناطق الساحل السوري بين 6 و10 آذار من هذا العام مجازر واسعة بحق مدنيين علويين، سبقتها انتهاكاتٌ ذات بعدٍ طائفيّ أُهين فيها وضُرب وقُتل مواطنون مسالمون آخرون. وعلى الرغم من انخفاض وتيرة القتل والحرق والنهب، فلا شكّ في أنّ العلويّين السوريّين لا يشعرون اليوم بالأمان في أحيائهم وقراهم، ويخشون استمرار الاعتداء على حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم.

        لقد قُتل في تلك الأيّام السوداء أعداد كبيرة من العلويّين الأبرياء الذين لم يُشاركوا من قريبٍ أو بعيد في أيّ عملٍ انقلابي أو إرهابيّ نظّمته فلول العهد الأسديّ البائد. قُتلوا، رجالاً ونساءً وأطفالاً، لأنّهم علويّون، لا لأيّ سببٍ آخر، على يد جماعاتٍ مسلّحةٍ هائجة تؤمن بمنطق العقاب الجماعي، وهو المنطق نفسه الذي اعتمده النظام البائد في مجازره، وهو الذي تعتمده إسرائيل منذ سنواتٍ طويلة في قمع الشعب الفلسطيني. 

        إنّنا، نحن الموقّعين والموقّعات على هذا البيان، نستنكر بشدّة هذا الانتهاك الصريح لحقّ المواطنين العلويّين في الحياة والحريّة والكرامة الإنسانية المتساوية، ونربأ بأنفسنا أن نكون شهوداً صامتين على ما تعرّضوا ويتعرّضون له من جرائم طائفيّة، فلا نجاة لبلادنا في كتمان الحقّ.

        ونحنُ، إذ ندين أيّ تمييزٍ طائفيّ بين المواطنين، ونطالب بالبدء بمسار جادٍّ للعدالة الانتقالية، نهيب بكل السوريين الخروج من النفق المظلم الذي حشرنا فيه النظام الأسديّ، وذلك بالتضامن دائماً مع الضحايا الأبرياء وذويهم، وبالتنديد من غير لبس بالجناة أيّاً كان انتماؤهم.

        إنّنا نرفض رفضاً باتّاً معاملة العلويين معاملة المهزومين وإذلالهم، فمن هُزم هو النظام الأسديّ المجرم، ومن انتصر أو ينبغي أن ينتصر هو الشعب السوري، شعب المواطنين والمواطنات المتساوين في الحقوق والواجبات. ولا كرامة لأيّ سوريّ حين تُنتهك كرامة العلويّين السوريّين، ولا أمان لأي سوري حين لا يشعر العلويّ السوريّ بالأمان. هذا هو موقفنا الثابت حيال انتهاك حقوق أي جماعة سورية أخرى.

        ولنتّفقْ جميعاً على أنّ حياة الإنسان وحرّيّته وكرامته فوق أيّ اعتبارٍ سياسيّ، وأنّ المعيار الأوّل في الحكم على أيّ سياسةٍ هو مدى التزامها بصيانة حياة الإنسان وحرّيّته وكرامته.

        موقّعون-ات (رابط للتوقيع أسفل القائمة)

        أحمد حسو- صحفي

        أسامة محمد- سينمائي

        أسامة نصار- ناشط وصحفي

        أسعد العشي- اقتصادي

        إيناس حقي- مخرجة

        برهان غليون- مفكر وأكاديمي

        بكر صدقي- كاتب ومترجم

        جلال نوفل- طبيب نفسي

        حازم نهار- رئيس تحرير مجلة رواق ميسلون

        حسام جزماتي- كاتب وباحث

        حسام الدين محمد- كاتب وإعلامي

        حسام ميرو- رئيس الحزب الدستوري السوري (حدس)

        حسن النيفي- كاتب وشاعر

        حسين قاسم- مهندس وسياسي كردي

        حلا عمران- ممثلة

        خالد أبو صلاح- باحث وصحفي

        خضر عبد الكريم- فنان تشكيلي

        راتب شعبو- كاتب ومترجم

        رشا عمران- كاتبة

        رشاد كيوان- مواطن

        رندة بعث- مترجمة

        روبن ياسين- قصاب- كاتب

        روزا حسن- روائية

        ريم علاف- كاتبة

        ريم الغزي- مخرجة أفلام وثائقية

        سارة هنيدي- كاتبة

        سمر يزبك- روائية

        سمير سعيفان- مدير مركز حرمون للدراسات

        سميرة مسالمة- كاتبة صحفية

        عامر مطر- صحفي

        عبد الحي سيد- محام وكاتب

        عدنان مكية- ناشط

        عدي الزعبي- قاص

        عروة الأحمد- مخرج

        عروة خليفة- كاتب صحفي ومحرر في منصة الجمهورية

        عمر قدور- كاتب سياسي وروائي

        غسان زكريا- كاتب

        فارس البحرة- طبيب نفسي وكاتب

        فارس الحلو- ممثل

        فاروق مردم بيك- كاتب وناشر

        فرج بيرقدار- شاعر

        فؤاد محمد فؤاد- طبيب وشاعر

        كرم نشار- مدير ومحرر تنفيذي لمنصة الجمهورية

        كريم العفنان- صحفي

        لبنى القنواتي – مدافعة عن حقوق الإنسان

        لؤي الزرير- ناشط سياسي

        ليلى الشامي- كاتبة

        لينا الأحمد- مترجمة

        لينا الطيبي- شاعرة

        ماجد كيالي- كاتب سياسي سوري فلسطيني

        مالك داغستاني- كاتب

        مثنى الساير- طبيب

        محمد العطار- كاتب ومسرحي

        محمد علي الأتاسي- كاتب وصانع أفلام وثائقية

        مرسيل شحوارو- كاتبة

        معتصم السيوفي- مدير مؤسسة اليوم التالي

        موفق زريق- كاتب وباحث نقدي

        ميزر مطر- مصور

        نبيل سليمان- روائي

        نعمى عمران- مغنية أوبرا ومؤلفة موسيقية

        نهاد سيريس- روائي

        هنادي زحلوط- كاتبة وصحفية

        وعد الخطيب- مخرجة أفلام وثائقية

        وليد البني- سياسي وطبيب وكاتب

        ياسر منيف- أستاذ جامعي ومؤلف

        ياسين الحاج صالح- كاتب

        ياسين السويحة- صحفي ومحرر تنفيذي في منصة الجمهورية

        يامن حسين – كاتب وناشط سياسي

                    حسين الشيخ — شاعر وصحافي

        *****

        (بالإمكان التوقيع على البيان باستخدام الرابط التالي)

——————————

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى