“الضمير الحيّ” بصفته ضرورة وطنية/ مالك داغستاني

2025.04.17
في لحظات الاستقطاب الحاد، حيث الهوى وبالتالي الانحياز، وليس العقل، يكونان في أشد حالتيهما كثافة، تضيع الثقافة العقلانية والضمير الحيّ للأسف، بل ويتم الدَوس عليهما أحياناً، حين ينتمي المثقفون والنخب إلى “غَزِيَّة” ما، في أشد لحظاتها غِيّا.
في مادة سابقة لي قبل قرابة شهر، كتبتُ “لن يكون العالم اليوم بواردِ أي تغيير دراماتيكي آخر في سوريا، وهذه يجب اعتبارها مُسلَّمة قبل البدء بأي نقاش حول مستقبل البلد.. التغيير الأخير وإسقاط نظام الأسد، حدث بضوء أخضر دولي وإقليمي. ولن يتم التراجع عنه خلال أشهر ولا خلال سنوات قليلة”.
كان تأكيدي على تلك المسلَّمة، رداً على رؤية (رغبات) بعض النخب السورية، أن بإمكان بعض التحركات “الوَلّاديّة” المُكلِفة، جعل العالم ينقلب على الإدارة السورية الجديدة.
ينقِّب كثر من محللي النخب اليوم عن إشارات مهما كانت بسيطة قادمة من الغرب، خصوصاً من أميركا، كي يصدّقوا، أحياناً يروّجوا، أن هناك احتمالا للإطاحة بحكومة الشرع، وهذا ما يناسب ميلهم السياسي، المشروع من حيث المبدأ. مع ما يشبه التعامي عن الكثير من الرسائل الواضحة، بل الفاقعة، بأن هناك رضا دوليا، وما يشبه الاتفاق على برنامجٍ زمني أُعطي للإدارة السورية، لتقود خلاله التحوّلات التي تطلبها تلك الأطراف الدولية، ليتم بموجبها حجز السلطات الجديدة مقعدها لزمن غير مشروط، حتى الآن.
المؤسف، أنه بدل أن يرى هؤلاء أن سقوط الأسد هي هِبة قدّمتها تصاريف التاريخ مع أهمية التضحيات الباهظة طبعاً، ما فتحَ صيرورة سوريا جديدة، كان حكم الأسدين الأب والابن قد أقفلاها بإحكام وحالا دونها، فإنهم يحللون ويطرحون، بخفّة، ما يناسب الأهواء والميول (النفسية) التي يحملونها.
على غرارهم، في المقابل هناك أصوات ساذجة ترى أن حكم التاريخ قد قُضي، على نحوٍ نافذٍ ونهائي، فأفضى إلى أبدٍ جديد إسلاميّ الهوى، دون أن يتعلم هؤلاء شيئاً من مكائد هذا التاريخ. الكارثة أن معظم هؤلاء، من الطرفين، إن لم يكونوا محكومين بالميول الطائفية صراحةً، فإن هذا الانتماء أو ذاك (بحسب إحصاء شخصي، أرجو أن تسامحوني عليه)، يفصح عن نفسه بوضوح فاضح.
بعد عقود من الدم والسجون والمجازر والتهديم. وبعد سقوط نظام حَكَم البلاد بقبضة أمنية حديدية، تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق. ما بين الحلم بوطن حر موحد، ومخاوف التفكك، وما بين خطاب المصالحة، وصوت الكراهية. لنرى أن ثمة فراغا يزداد اتساعا كل يوم. فراغ
يغيب عنه صوت العقل البارد الذي يستطيع أن يرى الأشياء كما هي، لا كما يريدها أصحاب الأجندات الخاصّة.
منذ شهور، دخلتْ سوريا مرحلة جديدة مملوءة بالأسئلة التي لا إجابات لها بعد. وإن وجدت بعض الإجابات، فهي غالبا قاصرة أو تتبع الرغبة والميل وليس حقائق الأرض والواقع. صحيح أن حقبة الاستبداد الطويلة طُويت، إلا أن البلاد لم تدخل بعد عهد الاستقرار، وهي تقف على مفترق طرق محفوف بالاستقطاب الطائفي، والانقسام المجتمعي، والضبابية السياسية. هذه الانقسامات لا تقتصر على عامة الناس، بل تمتد، للأسف، لتصيب النخب والمثقفين، الذين كان يُنتظر منهم أن يلعبوا دور الجسر، لا أن يتحولوا إلى أدوات جديدة في المعركة المستحدثة.
اليوم خرج هذا الاستقطاب إلى السطح، وتحوّل إلى مادة يومية في النقاش السياسي والإعلامي، وحتى الثقافي. في هذا المناخ، يجد الكثير من المثقفين أنفسهم أمام خيارين. إما الاصطفاف مع أحد الطرفين، اصطفاف يبدو لدى البعض قهريا، أو الانزواء في الهامش خوفا من أن يُحسبوا على أحدهما. قلّة انتبهوا إلى خيار ثالث، أكثر شجاعة وإن كان أصعب، أن يكون المثقف صوت العقل والضمير في زمن الانقسام. يحاول مخاطبة الجميع من موقع لا يخلو من النقد، مع حرصه على البناء. ولو أدّى ذلك إلى لومه، أحيانا تخوينه، من كل أطراف الاستقطاب، بحسب الحال.
لكن، هل يملك هذا الصوت العقلاني القدرة على اختراق جدران الاستقطاب، والتأثير في مسار مستقبل البلد؟ طبعاً نعلم جيداً أن هذا الاستقطاب هو في جوهره نتاج طبيعي لعقود من الحكم الاستبدادي الذي زرع بذور الفتنة، وعمّق الشكوك، وحرص على إبقاء المجتمع السوري في حالة من الانقسام المبطّن. ومع ذلك يجب أن تبقى الإجابة نعم، الأمل ما زال قائماً بالمثابرة دون خوف ولا انحياز.
الرهان على الصوت المثقف العقلاني لا يعني، أن يكون محايدا بالمعنى السلبي، أو ألا يحمل موقفا. بل على العكس، المطلوب منه أن يمتلك موقفا أخلاقيا ووطنيا، لا يهادن الخطاب الطائفي أو الإثني من أي طرف جاء، والأهم ألا ينجرّ لخطاب التخوين، ولا يُجامل في المبادئ الأساسية مثل العدالة، والحرية، وكرامة الإنسان. وألا يرفض ثنائية “نحن/هم” التي تقوم عليها معظم أشكال الاستقطاب وحسب، بل عليه تفكيك تلك الثنائية.
قد يكون المطلوب هو خطاب يُعيد التذكير بالهوية السورية الجامعة، دون إنكار التنوع والهويات الفرعية، بل بالاعتراف بها ودمجها في مشروع وطني موحِّد. وقد يكون من الشجاعة أن يبدأ هذا الخطاب أولا بمراجعة مواقف من يشبهونه في الانتماء الفرعي، من طائفته أو إثنيته، قبل أن ينتقد الآخرين. هذا النوع من النقد هو أول خطوة في تفكيك روايات الكراهية
والانتصار والغلبة. عليه أن يقف على مسافة واحدة من الجميع، ويعمل على نقد الجميع من منطلق وطني وأخلاقي. بهدف إيجاد مشروع مجتمعي لإعادة بناء الثقة. نيلسون مانديلا وما فعله في جنوب أفريقيا، مثال يحسُن تذكره في هذا المقام.
ما أراه، أن على المثقف العقلاني لعب دور المؤسس، لا دور المصفق ولا المحرّض. فليس المطلوب أن يُرضي الجميع، بل عليه أن يُربِك الجميع برؤيته وطرحه للواقع على حقيقته دون مواربة. الشروخ الموروثة في المجتمع السوري إن استمرّت أو تفاقمت، لا تعرقل بناء الدولة المدنية والديمقراطية وحسب بل تهدد السلم الأهلي، ما يستجلب كوارث جديدة. لا أكتب كل ما أكتب لأنني مثالي أو رومانسي، بل لأنني أؤمن بأن العقل والضمير الحيّ في زمن الجنون، ليس ترفا نافلا، وإنما ضرورة وطنية، لتنبني سوريا على أرضية صلبة، لا تقوم على الخوف ولا على الغلَبة، بل على شراكة تحمي الجميع.
تلفزيون سوريا