سوريا ميدان النفوذ.. انكفاء واشنطن وتمدد أنقرة وقلق تل أبيب/ عبد الله مكسور

2025.04.21
“الفراغ في السياسة كما في الطبيعة، لا يلبث أن يُملأ، وغالبًا ما تملأه القوى الأكثر استعدادًا لا الأكثر شرعية.”، أتذكر هذا القول لنيكولا ميكافيللي وأمامي ترتسم الجغرافيا السورية بحدود سايكس بيكو الاستعمارية التي نعرفها، وفيها وعليها ترنُّ صدى الخُطى المتسارعة للقوى الإقليمية والدولية، لتتشكّل خارطة جديدة، تُرسم لا بالحدود بل بالقواعد العسكرية، ولا بالحكومات بل بمراكز السيطرة. سوريا التي مرَّت بسنوات عجاف تحت حكم نظام الأسد، تحوّلت بعد 8 ديسمبر 2024 إلى قلب معركة النفوذ- بشكل أو بآخر- بين تركيا وإسرائيل، في ظل انكفاء أميركي متدرّج، وغياب سوري موجع عن طاولة القرار.
سوريا اليوم في ظرفها الحالي ليست “دولة” بالمعنى التقليدي، بل ميدان، لا تُدار فيه النزاعات فحسب، بل تُختبر فيه الرؤى الكبرى لإعادة توزيع السلطة في الشرق الأوسط. واللافت أن الانسحاب الأميركي المرتقب ليس مجرد خطوة عسكرية، بل إعلان ضمني بانتهاء مرحلة وبدء أخرى، قوامها التفاهم التركي–الإسرائيلي الخفي، والمراهنة الروسية الباردة، ومحاولات سورية محلية لبناء دولة من ركام النظام القديم وعلى أنقاضه.
منذ سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر 2024، بدأت توازنات ما بعد الحرب تنقلب على رأسها وتظهر بشكل أكثر وضوحا. القوى التي ظلت لعقد كامل—تراقب، تُفاوض، تُناور—وجدت نفسها فجأة أمام فرصة تاريخية لتوسيع نفوذها وفرض رؤيتها للمنطقة. تركيا، التي لطالما نظرت إلى الشمال السوري باعتباره عمقًا استراتيجيًا للأمن القومي، اندفعت بثقة نحو ما بعد خطوط الفصل، مستندةً إلى تفويض سياسي غير معلن جرى في كواليس باكو بين أنقرة وتل أبيب، وتحت رعاية موسكو غير المعلنة وغير الحاضرة رسمياً في أذربيجان.
في المقابل، لم تُخفِ إسرائيل قلقها، لكنها لم تواجهه بالصوت، بل بالتفاهم. فمع وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مجددًا، عاد منطق “الصفقات الكبرى” ليحكم السياسة الخارجية الأميركية، لا منطق “الالتزام طويل الأمد”. ترمب، الذي لا يرى في سوريا إلا ساحة عبء، اختار أن يُفرغها من الجنود لا من النفوذ، وأن يُسلّم أوراقها لحلفاء موثوقين، قادرين على إدارة مصالح واشنطن بأدوات إقليمية. وهكذا، وُلدت تفاهمات أذربيجان، بحسب ما تسرّب منها، مساحة عازلة لأنقرة، ومجال مراقبة آمن لتل أبيب، في مقابل انسحاب تكتيكي أميركي يُبقي اليد على الزناد حتى من دون أن يظهر.
لكن هذه الترتيبات لا تلغي الحقيقة المرّة: أن سوريا باتت اليوم مسرحًا لفائض القوة التركية، وهاجسًا أمنيًا دائمًا لتل أبيب، وحقل اختبار لمدى قدرة الروس على ملء الفراغ الأميركي من دون التورط في مستنقع جديد. فأنقرة تتحرك بثقة القوة الناعمة والصلبة معًا، من التعليم إلى الإدارة المحلية، ومن النفوذ العسكري إلى الشبكات الاقتصادية، في حين إسرائيل تراقب وتتدخل حين يلزم وفقا لمنطق اللزوم لديها، وتعيد تموضعها البري والجوي والاستخباراتي بما يتناسب مع ديناميكيات مرحلة ما بعد الأسد.
أما واشنطن، فرغم انسحابها المعلن، لا تزال تمسك بالخيوط الطويلة: تدفقات السلاح، نظم الرقابة الجوية، المنصات النفطية، وقنوات القرار الكردي. فهي تُغادر ولكن لا ترحل، وتسمح للآخرين بلعب الدور، لكنها تبقى المرجع الأعلى لمعادلات الأمن. هكذا، يتشكّل ميدان جديد في سوريا، ميدان بلا سيادة، بلا مركز، حيث تتزاحم الوصايات وتتماهى التحالفات. مشهدٌ يشبه رقعة شطرنج، لكنّ اللاعبين ليسوا متقابلين، بل متداخلين، وكلٌ منهم يمسك قطعةً من اللعبة، يحرّكها وفق منطقٍ لا يُقال أو يُعلَن، بل يُفهم من خريطة النفوذ. وكأننا ضمن مشهد في رواية “لاعب الشطرنج” لستيفان زفايغ على متن سفينة تمخر البحر في أميركا اللاتينية.
واشنطن تُغادر… لكنها لا ترحل
في الأدبيات العسكرية الأميركية تتردد الجملة التالية بشكل غير معلن: “الانسحاب لا يعني الرحيل، بل إعادة التموضع خلف الستار.”، فالحديث عن انسحاب أميركي من سوريا في أي مرحلة زمنية لم يكن يومًا حديث نهاية، بل إعلان عن تحول في نمط السيطرة. فواشنطن، التي دخلت الأراضي السورية في خريف 2014 تحت لافتة “التحالف الدولي لمحاربة داعش”، لم تكن تسعى إلى احتلال أرض، بل إلى احتلال قرار. والفرق بين الإثنين جوهري: فالأرض يمكن مغادرتها، أما القرار فالبقاء فيه يتخذ أشكالًا أكثر نعومةً وتأثيرًا. وعند التدقيق في طبيعة التمركز الأميركي في سوريا خلال العقد الأخير – رغم شح المعلومات عن عدد وحقيقة القواعد الأميركية في الأراضي السورية-، يتضح أنه كان أقرب إلى “الاحتلال الذكي” منه إلى الاحتلال التقليدي. ففي الشمال الشرقي، من رميلان إلى الحسكة، ومن الشدادي إلى التنف، أقامت الولايات المتحدة منظومة من القواعد العسكرية التي لا تتمدد أفقيًا بل عموديًا: تحت الأرض وفي السماء، ضمن قواعد قواعد اشتباك دقيقة، مفصّلة، ومتغيرة بحسب اللحظة السياسية والإقليمية. وبخلاف الرواية الرسمية التي أُطلقت عام 2014، بتركيز على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، فإن القواعد الأميركية في سوريا أُقيمت لأسباب استراتيجية تتجاوز ذلك التهديد العابر. فقد أدركت واشنطن منذ سنوات الفوضى الأولى أن سوريا ليست مجرد ساحة حرب، بل معبر ومفترق وملتقى. هي نقطة التقاء بين خطوط إمداد إيران إلى حزب الله، وبين الحدود الحساسة لإسرائيل، وبين الجغرافيا العميقة التي تمتد إلى الأنبار العراقية ومايليها حيث يتعاظم النفوذ الإيراني منذ عام 2003.
لهذا، كانت قاعدة “التنف” نموذجًا صارخًا لجوهر العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة: قواعد صغيرة، مرنة، بلا مظاهر كبيرة، لكن ذات فعالية استخباراتية عالية، ومتموضعة على نقاط الخطر. التنف، الواقعة على مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، لم تكن قاعدة لمحاربة تنظيم الدولة فقط، بل لمراقبة التحركات الإيرانية بدقة، ولمنع الربط البري بين طهران وبيروت. كانت عين واشنطن على طريق الحرير الإيراني الجديد، وليس فقط على مقاتلي التنظيم المهزوم. وقد ساقتني الأقدار إلى لقاء مع ضابط خدم في التنف وقد أسرَّ لي عن استخدام القاعدة في مرحلة ما كسجن مؤقت لعناصر من تنظيم داعش قبل نقلهم إلى وجهات غير معلومة.
قواعد الاشتباك: جيوش تحت الوصاية
منذ اللحظة الأولى، لم تكتفِ واشنطن بتثبيت مواقع عسكرية، بل أسّست لشكل غير معلن من قواعد الاشتباك بين جميع القوى الفاعلة في الميدان السوري. فعبر دعمها لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، تمكنت من خلق جيش محلي بالوكالة، تديره بأدوات التمويل والتدريب، وتتحكم عبره بمساحات شاسعة من شمال شرقي سوريا، وهذا ليس خافياً على أحد. لكن الدعم الأميركي لم يكن مطلقًا. بل جاء مشروطًا بخضوع هذا “الجيش الوكيل” لشبكة من التعليمات، تبدأ بحدود التحرك، ولا تنتهي بقوائم الأهداف. كانت قسد تعرف أن إطلاق رصاصة واحدة خارج التنسيق مع الأميركيين قد يُفقدها الدعم، وأن التحرك تجاه الحدود التركية أو الاقتراب من مناطق جيش نظام الأسد قد يُدخلها في عاصفة مع واشنطن.
ولعل أخطر ما كرّسته هذه العلاقة هو تعويم مفهوم “السيادة المنقوصة” في مناطق قسد، حيث بات القرار المحلي مشروطًا بإرادة القاعدة العسكرية القريبة، وتحديدًا تلك المنتشرة في رميلان والمالكية وشرقي دير الزور. وضمن منطق ضبط إيقاع الحرب والسلام لم تكن القواعد الأميركية معزولة، بل نسجت شبكة من العلاقات النشطة، إن لم نقل المُهيمنة، مع الفاعلين الإقليميين. مع تركيا، حافظت واشنطن على توازن هش، من خلال إرسال تطمينات استخباراتية، ومحاولة ضبط اندفاعات أنقرة نحو العمق السوري.
في حين أخذت هذه القواعد مع إسرائيل، شكلاً آخر فقد كانت ركيزة لتبادل المعلومات في إطار ما يمكن أن يتم تعريفه بـ”الاحتواء الذكي لإيران”. إذ لطالما مثّلت القواعد الأميركية في شرقي سوريا نقاط إنذار مبكر لأي تحرك إيراني قد يستهدف الجولان أو غيره، وهو ما اعتمدت عليه تل أبيب في كثير من عملياتها الجوية التي نفّذتها داخل سوريا خلال العقد الأخير.
أما مع روسيا، فكانت العلاقة أكثر تعقيدًا. فرغم العداء الظاهر، جرت تفاهمات تحت الطاولة يمكن تلمُّسها من اتفاق “عدم التصادم الجوي”، الذي قنن حركة الطائرات في سماء سوريا، وفصل مناطق السيطرة الأميركية عن تلك الروسية. هذه التفاهمات أوجدت نوعًا من “الهدنة الدائمة” بين القوتين، لكنها في الوقت نفسه ثبّتت حالة الانقسام الجغرافي لسوريا.
السؤال الجوهري الآن لماذا تُعلن واشنطن اليوم نيتها الرحيل؟ وهل هو فعلاً انسحاب، أم إعادة توزيع للقوة؟ المتابع يدرك أن الانسحاب لا يأتي من فراغ، بل من قراءة أميركية لتغير قواعد اللعبة. فسقوط النظام السوري في ديسمبر 2024 أنهى توازنًا هشًا استمر لأكثر من عقد، وفتح الباب أمام فاعلين جدد – لا سيما تركيا – لملء الفراغ. كما أن تراجع التهديد الإيراني المباشر في الشرق قلّص مبررات البقاء العسكري الأميركي. إلى ذلك، هناك بُعد داخلي أميركي لا يُستهان به، وهذا يتمثل بالشارع الأميركي الذي لم يعد يتحمل وجود قواته في مناطق بلا أفق سياسي واضح، والنخبة السياسية التي ترى في الانسحاب “استثمارًا مقلوبًا” يقوم على الإنفاق المتزايد مقابل المكاسب السياسية المحدودة.
لكن هل ترحل واشنطن فعلاً؟ هنا يكمن جوهر المعادلة. الولايات المتحدة قد تسحب جنودها، لكنها لن تسحب نفوذها. فالمعسكرات التي تركتها وراءها درّبت أجيالًا من القادة المحليين، وغرست ثقافة القرار المؤسسي وفق الرؤية الأميركية. كما أن البنى الاستخباراتية التي بُنيت خلال السنوات العشر الماضية قادرة على البقاء من دون علم ظاهر. لقد أتقنت واشنطن وفق ما تعلمناه عنها لعبة “الوجود الغائب”: لا قواعد كبرى، لا أعلام، لا بيانات نارية، بل أدوات تحكم عن بُعد. كما لو أنها تُعيد إنتاج استعمار القرن الحادي والعشرين بنسخته الناعمة: تقنيات، شبكات، وكلاء… من دون الحاجة لدبابات أو جندي تقليدي يقف في الشارع. وفي ظل هذا النمط الجديد، قد يكون انسحاب واشنطن من سوريا أكبر دليل على استمرارها فيها. ذلك أن القوة الحقيقية، كما قال ميشال فوكو، لا تُقاس بوجود السلاح، بل بقدرة من يملك السلاح على فرض صمته في اللحظة المناسبة.
تركيا: من بوابة الحدود إلى قلب البادية
دخلت تركيا إلى شمالي سوريا تحت شعار مكافحة الإرهاب. لكن اليوم، بعد ديسمبر 2024، دخلت إلى قلب البلاد، من تدمر إلى البادية إلى مطار حماة، تحت شعار “إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية”. هذه ليست عملية أمنية بالمعنى التقليدي، بل مشروع نفوذ، يمكن مقاربته مع ما فعله العثمانيون في نهاية القرن التاسع عشر حين أنشأوا “قائمقاميات أمنية” في أطراف المشرق لضمان السيطرة على المركزـ مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات والمعاني والدلالات. فما يتم الحديث عنه اليوم بأن تركيا لا تبني مجرد قواعد عسكرية، بل بنية تحتية لنفوذ يبدو أنه طويل الأمد: نقاط مراقبة تحوّلت إلى معسكرات، ومعسكرات باتت تضم مراكز تدريب، ومراكز التدريب أصبحت مختبرًا يسهم بشكل أو بآخر بآليات إنتاج جيش سوري جديد، هذه القواعد لا تقوم على حدود الاشتباك بل على فلسفة التموضع، فكل قاعدة يتم الإشارة للتحضير لها في تدمر أو في محيط السخنة أو شرقي حماة ليست موضع تمركز عسكري فحسب، بل نقطة تَمثّل سياسي وتَوسّع مؤسسي، من خلالها تُصدّر أنقرة نسختها من الدولة “المنضبطة” التي تريد في سوريا، بما تحمله من مركزية وشبكات خدمات. وهكذا يجب فهمها والتعامل معها.
يمكن التوقف هنا عند تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، خلال منتدى أنطاليا في فبراير 2025، والتي كانت أشبه ببيان تأسيسي لمرحلة جديدة. حيث قال: “تركيا ليست قوة احتلال، بل قوة استقرار. نحن لا ندخل الفراغ، بل نملؤه بأدوات البناء”، وهو بذلك لا يعبّر عن تحوّل في خطاب أنقرة فقط، بل عن نقلة في العقيدة التركية نفسها تجاه سوريا، عقيدة جديدة تنتقل من الحماية إلى الشراكة، ومن الأمن إلى الإدارة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزّز هذا التوجّه في خطابٍ وُصف بأنه “تاريخي”، حين قال: “نقف إلى جانب سوريا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وسنُسهم في إعادة بناء مؤسساتها بما يخدم وحدة ترابها وكرامة شعبها.” لكن ما لم يُقال، وما يُفهم بين السطور، هو أن “سوريا” هنا لم تعد الدولة بل المساحة، ولم تعد العلاقة التي تحكمها أخوّة الجغرافيا ومنطق المهاجرين والأنصار بل ضرورات التمركز الاستراتيجي الذي دفع أردوغان للقول بأن من يسعى إلى تقسيم سوريا عليه أن يواجه تركيا ذاتها.
في العمق من كل هذا، تسعى تركيا إلى صياغة واقع جديد على الأرض، يتجاوز فكرة “المنطقة الآمنة” التقليدية إلى “المجال الآمن الموسّع” الذي يمتد من اعزاز والباب بريف حلب، إلى الرقة ودير الزور، وصولًا إلى تدمر وخطوط البادية. ففي المحصلة لا تخفي تركيا أنها تتطلع لأن تكون القوة المرجعية في “سوريا الجديدة”، مستندةً إلى مقاربة هجينة تجمع بين القوّة الخشنة والناعمة، وبين السيادة المفككة والشرعية المتفاوض عليها. هي تُنشئ قواعد، لكنها تتحدّث عن المدارس، وتُسيّر أرتالًا عسكرية نشاهد صورها لكنها تدشّن شبكات مياه وكهرباء، وتبني ما تصفه بـ”العمق الاستراتيجي الاجتماعي”، كما ورد في أحد تقارير مراكز الدراسات الأمنية التركية. وهكذا، تمضي تركيا في مشروعها: لا كمجرّد لاعب عسكري، بل كفاعل سياسي يعمل على إعادة صياغة المركز من الأطراف، وفرض إيقاع تركي في قلب بلاد الشام، بحجّة إعادة البناء، وبهدف إعادة التموضع. والمفارقة أن هذا “التموضع” لا يصطدم فقط بإسرائيل أو بواشنطن، بل حتى بما تبقّى من “الدولة السورية” ذاتها في المستقبل القريب.
إسرائيل.. الخوف من حليف الأمس
إسرائيل التي كانت تُجاهر علنًا بعدائها لإيران، بدأت تهمس بقلقها من تركيا. القواعد التركية المزمع إقامتها في حماة وتدمر تمثّل، وفق المعنى الذي تسرَّب عن وصف جنرال إسرائيلي في محادثات باكو، “خطرًا غير مباشر لكنه أكثر ذكاءً”. فتركيا تبني جيشًا سوريًا لا يمكن التنبؤ بمآلاته، وتزرع أعينًا إلكترونية – من الرادارات والطائرات المسيّرة – على بُعد لا يتجاوز 500 كم من الجولان المحتل. فالقلق الإسرائيلي من أنقرة لا يتأتى هنا فقط من هذه الزاوية، بل من كفاءة هذا الوجود. فتل أبيب ترى في أنقرة منافسًا أمنيًا من نوع جديد “منافس لا يُشهر سلاحه، لكنه ينسج خرائط الولاء بهدوء”. وما التفاهمات التي جرت في أذربيجان سوى محاولة لتقنين هذا القلق، عبر إقامة “آلية تفادي الصِدام”، شبيهة بتلك التي أُبرمت مع الروس عام 2015.
في تقديري أن إسرائيل تشعر بوجود تركيا أنها أمام قوة ذات طابع إمبراطوري ناعم تستند إلى العاطفة، هذه القوة لا تسعى إلى الاجتياح بل لإعادة تدوير الهويات. وهذا يُشكّل خطرًا بنيويًا على فلسفة الردع الإسرائيلي التي بُنيت منذ حرب أكتوبر 1973 على فكرة: “السيطرة من الجو، والتفتيت على الأرض. ووفق قراءات استراتيجية فإن” تركيا تُقوّض هذه المعادلة من خلال السعي إلى توحيد الأرض السورية جزئيًا، تحت مظلة مرجعية تركية سواء كانت حاضرة أم غير حاضرة، تحاكي تجربة الباكستان مع أفغانستان في الثمانينيات، أو إيران مع “محور المقاومة” خلال العقدين الماضيين.
ثمّة قلق أعمق يراود المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل، وهو أن الحليف الأميركي الذي كان يتولى “تنظيم المسرح السوري” لصالح تل أبيب، قد تراجع إلى خلف الستار، مفسحًا المجال أمام لاعبين أكثر مرونة، وأكثر شراسة على المدى الطويل. هنا، يظهر “التهديد التركي” ليس في القوة النارية، بل في القدرة على البناء المتراكم، في الزمن. إسرائيل تجيد الاشتباك مع عدو واضح، وتَربكها خصومة بطيئة تتقدّم بالطبقات والمساحة الاجتماعية لا بالصواريخ. والأخطر من كل ذلك، هو أن تركيا لا تُرسل رسائل مباشرة، بل تعمل بصمت، وتراهن على أن رد الفعل الإسرائيلي سيكون محكومًا بالعجز الاستراتيجي وضبط الولايات المتحدة، فإسرائيل لا تستطيع ضرب أو استهداف قواعد تركية معلنة في تدمر أو غيرها من دون المجازفة بتفجير العلاقة مع الناتو، ولا تقدر على منع إنشاء شبكات النفوذ التركية داخل سوريا، لأن هذه الشبكات لا تُبنى بالدبابات، بل بالمنظمات غير الحكومية، والمناهج، والتدريب، والمياه، وربما بالرعاية الأوروبية والأميركية نفسها. لهذا يفكِّر العقل الإسرائيلي دائماً بوصف التمدد التركي بأنه الخصم الذي لا يحمل لافتة. وهو توصيف دقيق يعكس مأزقًا فكريًا يحمل التناقض في الطرح داخل العقل الإسرائيلي، فهل أنقرة حليف في الإقليم ضد طهران؟ أم منافس سري على النفوذ في سوريا؟ وهل يمكن الوثوق بمن يمدّ لك اليد في البحر المتوسط ويرمي عينه على البادية السورية؟
أمام هذه الأرضية يأتي الانكفاء الأميركي بعد ديسمبر 2024، وعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهذا ما زاد من اضطراب البوصلة الإسرائيلية. فالإدارة الجديدة في واشنطن أكثر انشغالًا بالصين والرسوم الجمركية وحدود المكسيك واللاجئين وبإعادة ترتيب البيت الداخلي، وأقلّ حماسًا لاستمرار دعم الخرائط الأمنية في المشرق. ترمب، براغماتيًا، لا يرى في الوجود التركي خطرًا، ظهر هذا جلياً فيما تسرَّب عن المحادثة الهاتفية بين ترمب أردوغان، ترمب يقول لأردوغان لقد أخذت سوريا، لقد فعلتها، وبهذا المنطق الترمبي يجد الأميركي غطاءً وفرصة لتقليص كلفة التورط الأميركي. لكن تل أبيب لا تشارك البيت الأبيض هذا الاطمئنان، هي لا تقرأ التحالفات بمصطلحات الميزانيات المالية وفق حسابات ترمب، بل بمفردات الوجود والنفوذ والذاكرة التاريخية والسردية الصهيونية.
ولهذا، بدأت إسرائيل تتحرّك على مستويات جديدة: تعزيز التنسيق الأمني مع اليونان وقبرص، فتح خطوط تواصل غير معلنة مع بعض المناطق في جنوبي سوريا، وتكثيف مراقبة البادية بالأقمار الاصطناعية، وحتى وصل بها الحال إلى تقديم مقترحات لنشر “قوات رمزية” أممية في بعض مناطق التماس مع إعلانها انهيار اتفاقية فض الاشتباك الموقعة مع سوريا عام 1974. كل ذلك في محاولة لتثبيت وزنها في معادلة تزداد تسيّبًا، وتبتعد أكثر فأكثر عن الترسيم القديم لما يُسمّى بـ”سوريا المفيدة لإسرائيل”.، فتل أبيب تخاف من أن تستيقظ ذات يوم، وتجد أن سوريا لم تَعُد ساحة فوضى بل ساحة نفوذ مركّز، تُديرها أنقرة بهدوء، وتُراقبها موسكو ببرود، وتنسحب منها واشنطن بصمت.
باكو: منصة التفاهمات الجديدة
في مكان يمكن وصفه بالساحة غير الرسمية للتفاهمات المعقدة، جلس مسؤولون أتراك وإسرائيليون في أذربيجان، وهذا اللقاء ليس مجرد حدث عابر في منطق الأحداث في سوريا، فما تسرَّب عن محادثات أو مفاوضات أو اجتماع باكو يعني رسم خرائط جديدة للنفوذ، حيث تتقاطع مصالح الدول التي قد تظهر علنًا على خلاف، ولكنها تتفق في الخفاء على خطوط الاشتباك، والحديث هنا عن الطيران ومسارات الدوريات، ونقاط التحرك التي تبقى غير معلنة. هذه ليست مجرد محادثات دبلوماسية تقليدية، بل محاولات لتشكيل معادلات جديدة للأمن والنفوذ في المنطقة. الآلية التي سُمّيت بـ “تفادي التصادم” لم تكن في جوهرها سوى مقدمة لتفاهمات أعمق بكثير، تتجاوز الإطار الظاهر لتدخل في مفاوضات غير مرئية حول “من يسيطر على ماذا”، وما هي التنازلات التي يتم قبولها في إطار لعبة السلطة الإقليمية. وكما غابت سوريا عن الاجتماعات المتعلقة بمستقبلها في أنطاليا غابت عن اجتماع باكو، حتى لم يصدر من الدولة السورية الجديدة أي موقف مهما كان مستواه تجاه اللقاء والتفاهمات. لقد غابت دمشق عن الطاولة، رغم أن مصيرها هو المعني الأول بهذه التوافقات. تحضرني الآن تلك اللحظة التي نوقشت فيها جغرافيا الشرق الأوسط وتحولت إلى خرائط في بداية القرن العشرين، كنا غائبين والغياب فرض أن يرسم الحاضر ما يتصل بنا وبمستقبلنا الذي نعيش اليوم.
روسيا أيضاً غابت عن باكو، لكن حضورها في سوريا يبدو اليوم مثل “ظل” إمبراطورية كانت ذات يوم صاحبة اليد الطولى. موسكو تراقب بقلق بالغ كل قاعدة تركية جديدة تُبنى على الأرض السورية، لكنها تجد نفسها في موقف يمكن وضعه في خانة “العجز” أمام ضغوط أكبر تتعرض لها على جبهات أخرى، خاصة في أوكرانيا والعلاقة المعقدة مع حلف شمال الأطلسي. روسيا تدرك تمامًا أن أنقرة تتوسع في مناطق كانت حتى وقت قريب في دائرة النفوذ الروسي، ولكنها في الوقت نفسه لا تملك القدرة على ردعها بشكل حاسم في هذه المرحلة. ومع ذلك، تحافظ موسكو على “حق الاعتراض”.
في تصريحات له من أنطاليا، قال هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي: “نتشارك مع الروس الرؤية الأمنية في سوريا”. وهذه العبارة تبيّن أن التعاون بين أنقرة وموسكو ليس تحالفًا استراتيجيًا بالمعنى التقليدي، بل هو تحالف مصلحي يهدف إلى الحفاظ على حد أدنى من التوازن في المنطقة. روسيا قد لا تتدخل بشكل مباشر في المواجهات التركية-الإسرائيلية – فيما لو حدثت- على الأرض السورية، ولكنها تظل حاضرة بشكل غير مرئي، تراقب عن كثب كل تحرك قد يهدد مصالحها في المدى الطويل، وربما اختيار باكو لمسرح الظل في اللقاء الإسرائيلي التركي لم يكن بعيداً عن المظلة الروسية الحاضرة الغائبة لما تربط موسكو مع باكو من روابط.
سوريا: الغائب الحاضر
في قلب المعادلة السورية المعقدة اليوم، يغيب السؤال المركزي الذي كان يجب أن يكون في صدارة اهتمامات الجميع: ماذا عن سوريا نفسها؟ من يُمثّلها؟ من هو القادر على التفاوض باسمها؟ من يملك سلطة رسم حدودها، سياسياً وعسكرياً، سواء على الأرض أو في أروقة القوى الكبرى التي تتنازع النفوذ فيها؟
مع انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024، واجهت سوريا – وما تزال- تحديات هائلة في تحديد هويتها السياسية الجديدة. الإدارة السورية الجديدة، التي تكونت بعد سقوط النظام، كانت في البداية مجرد حالة انتقالية تطرح رؤى مختلفة ومتناقضة تجاه القدرة على بناء مؤسسات قوية قادرة على إعادة استقرار الدولة. ورغم ذلك، فإن هذه الإدارة تعمل على تجاوز العثرات، إذ تجري – وفق ما يتسرب- تفاهمات خفية مع أنقرة، وتراهن على الدعم الروسي، وتخطو ببطء نحو إعادة بناء الجيش الوطني السوري بعيداً عن عقيدة جيش الأسد الذي تحول إلى مجرد جماعات متمردة وشظايا من بقايا السلطة أو ما اصطلح عليه سوريا ” الفلول”. حتى سياسياً تحاول الإدارة الجديدة أن تمثّل حالة القطيعة مع مسار نظام الأسد، وهذا يظهر جلياً في إصرارها السياسي وإلحاحها على أنها دولة سلام تريد صفر مشكلات مع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل التي تحتل الجولان وتنفّذ توغّلات عسكرية وتوسِّع منطقتها العازلة، وتقصف في وضح النهار وظلام الليل ما تبقى من ترسانة عسكرية تتبع للدولة السورية، والصادم – وفق قراءات مختلفة- أن بيانات وزارة الخارجية السورية خرجت عن كل الثوابت السورية حين لم تصف إسرائيل بالاحتلال أو العدو أو الكيان وفق الأدبيات السورية منذ النكبة الفلسطينية.
وبالرغم من كل ما سبق إذا كانت الإدارة السورية الجديدة قادرة على جمع خيوط القرار الأمني في يد واحدة، فإننا قد نكون أمام مرحلة جديدة في تشكيل سوريا، مرحلة يتم فيها بناء جيش وطني جديد يحاكي النموذج التركي، مع إعادة تشكيل الولاء والعقيدة العسكرية بما يتماشى مع المتغيرات الجيوسياسية الحالية. هذه المرحلة لن تكون سهلة، لأن نجاحها يتطلب توافقًا سياسيًا داخليًا عالياً يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية العميقة التي أسهم نظام الأسد في تفجيرها. ولكن، إذا نجحت سوريا الجديدة في إعادة بناء جيشها بشكل يتناسب مع التحديات الإقليمية، فإنها قد تنجح في تعزيز مكانتها في محيطها الجغرافي، إذا ما تم تضمين مبادئ من الاستقلالية العسكرية والتحكم الذاتي في قرارها الأمني.
من ناحية أخرى، فإن التفاهمات مع أنقرة، التي بدت أنها تؤتي ثمارها في الأشهر الأخيرة، تشير إلى تحول في العلاقات بين الطرفين، لا سيما في ظل التقارب الأمني التركي-السوري. تركيا تجد وتعتبر نفسها اليوم شريكًا ضروريًا للإدارة السورية الجديدة. لكن هذا التعاون لا يخلو من تحديات ومخاطر، خاصة في ظل حديث أنقرة عن إمكانية واحتمال تواجد دائم أو مؤقت على الأراضي السورية. ولا يخفى على أحد أن تركيا ترى في سوريا مجالاً لتثبيت نفوذها، وقد تتعامل مع هذه التفاهمات على أنها فرصة لتحقيق استراتيجيات أمنية تتجاوز محاربة “التنظيمات الإرهابية” لتصل إلى تعزيز قوتها في منطقة الشرق الأوسط.
أما روسيا، التي تعتبر اللاعب الرئيسي – سابقاً- في الملف السوري، فقد حافظت على وجودها العسكري والسياسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، أرسلت رسائل مختلفة للإدارة السورية الجديدة وتراقب اليوم عن كثب كل تحرك للقوات التركية داخل الأراضي السورية، خصوصًا في المناطق التي تشكل نقطة تلاقٍ بين المصالح التركية والإيرانية. ومع تراجع الاهتمام الأميركي، تزداد أهمية الدور الروسي، الذي يبقى عائقًا أمام أي محاولات تركية للتوسع في المناطق الحساسة مثل الساحل السوري.
في هذا السياق، إن المرحلة التي تمر بها سوريا تتطلب إعادة هيكلة عميقة وشاملة ليس فقط للدولة بل للوعي أيضاً. وإذا استطاعت الإدارة السورية الجديدة جمع هذه الخيوط المتناثرة، فإنها قد تكون على أعتاب تشكيل جيش وطني قادر على التفاعل مع جميع القوى الكبرى في المنطقة، سواء كانت تلك القوى عربية أو غير عربية. وهذا البناء العسكري الجديد لن يكون مجرد رد فعل على الضغوط الخارجية، بل سيكون جزءًا من رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء سوريا جديدة تكون أكثر تماسكًا وأقل عرضة للانقسامات الداخلية.
سوريا اليوم تُشبه لوحة جغرافية متباينة الأطراف، تبحث فيها قوى إقليمية ودولية عن مصالح متباينة قد تكون متناقضة أحيانًا، لكنها تتقاطع في تفاصيل النزاع. من الشمال التركي إلى الجنوب السوري، مرورًا بظل أميركي يتقلص يوماً بعد يوم، ورقابة روسية سلبية، تظل سوريا تمثل ساحة اختبار حية للمصالح الإقليمية والدولية. بين الأطماع الإيرانية، والتحركات العسكرية التركية، والتفوق الإسرائيلي الأمني، تظل سوريا أرضًا منقسمة أكثر من كونها دولة واحدة قابلة للحكم والسيطرة. ورغم هذه التحديات، فإن سوريا ليست مجرد ساحة اختبار، بل قد تصبح ميدانًا يمكن أن يُعيد تشكيل قوة الدولة إذا توفرت شروط معينة يعرفها جيداً أصحاب القرار.
التاريخ علمنا أن الميادين التي تتنازعها القوى الكبرى قد تُنتج كيانات جديدة قادرة على النهوض. ففي غياب الدور الأميركي الفاعل، وقدرة روسيا على تقديم نموذج متوازن يعزز استقرارًا داخليًا، لا يوجد من يملأ الفراغ في سوريا سوى من يملك القدرة على فرض إرادته على الأرض. ويبدو أن هذا هو ما سيحدث في الفترة القادمة، حيث قد يؤدي الانسحاب الأميركي التدريجي إلى انكشاف حقيقة أن القوى الفاعلة على الأرض هي التي تكتب مستقبل سوريا. وعلى الرغم من ذلك، تبقى سوريا اليوم في موقع متأرجح بين التطلعات الوطنية والضغط الإقليمي، بين محاولات بناء جيش سوري جديد وبين تقاطع مصالح القوى الأجنبية التي تسيطر على أجزاء من أراضيها. مع كل قاعدة تُبنى، ومع كل طائرة تحلق في سمائها، ومع كل صفقة تُعقد خارج حدودها، تُكتب صفحة جديدة في كتاب تاريخ سوريا الذي سنكون شهوداً عليه. وما نريد أن نشهد عليه حقاً هو أن تنجح الإدارة السورية الجديدة في فرض نفسها كمحور أساسي على طاولة التفاوض الإقليمية، وإعادة بناء الدولة السورية ككيان متماسك وفاعل من دون قواعد عسكرية أجنبية أو انتهاك للسيادة.
تلفزيون سوريا