أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

قيامة سورية وخلاصها من مقبرة الأسد/ عمر كوش

20 ابريل 2025

دشّن سقوط نظام الأسد قيامة سورية جديدة بكل معنى الكلمة، وباتت تشبه ذلك الإنسان الخارج من القبر حديثاً، المنهك والمتهتك، الذي لا يكفّ عن التلفّت يمنة ويسرة، محاولاً اكتشاف طريقه وما هو حوله، وبحاجة إلى المساعدة، ومدّ يد العون من أبنائه ومحبيه وسواهم، وينطبق على ناسها تعبير “survivors” الذي يطلق على مَن عادوا إلى الحياة، أو بالأحرى نجحوا في البقاء على قيد الحياة. وفي ثقافتنا السورية نقول للذين يتفادون حادثاً مميتاً “انكتب لهم عمر جديد”، ونجد التعبير نفسه في ثقافات أخرى.

ليس مبالغة ألبتّة القول إنّ سورية خرجت من مقبرة وضعها فيها نظام الأسد، وبات ناسها ناجين، يحتاجون في حياتهم إلى الكثير، ليتمكّنوا من التغلب على تحدّيات أمنية واقتصادية وسياسة جمّة. وبالتالي، هناك مسؤولية كبيرة على النخب الفكرية والسياسية السورية من أجل العمل على إنجاح تجربة إسقاط الأسد، ليس انتصاراً للسلطة الحاكمة، بل من أجل الوقوف إلى جانب عموم السوريين وإنقاذ بلادهم من سيناريوهات كارثية.

لا يعني الوقوف إلى جانب البلد وناسه التسليم بكل ما تقوم به الإدارة الجديدة، بل العمل بلا كللٍ من أجل الدفاع عن الحريات العامة والخاصة، وبناء مسار يفضي إلى الديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون، وانتقاد كل خطوة أو مظهر سلبي، من دون الاصطفاف في خانة العداوة لكل ما تقوم به السلطات الجديدة، وذلك لاستكمال خلاص الناجين السوريين، ووقوف البلد على قدميها، ما يعني أيضاً عدم الارتهان إلى التأييد الأعمى لكل ما تقوم به هذه السلطات، ولا إلى الحقد الأعمى الذي يُبديه بعض بقايا اليسار واليمين، حيال التحوّل السوري عبر رفض كل خطوة تقوم بها، من دون النظر في أبعادها، والترحيب بأي موقف أوروبي أو أميركي مناهض لها، والذي يصل إلى حدّ تأييد الاشتراطات الغربية التي يُراد بها الابتزاز.

كانت مُستغربةً مطالبة بعض من يترأسون أحزاباً، لا يتجاوز عدد أعضاء كل منها عدد أصابع اليدين، بأن تسلم السلطات الجديدة الحكم لهم أو لسواهم، بزعم إنهم دعاة العلمانية والليبرالية. ومُستغربٌ أكثر توقع أن تكون السلطات الجديدة حاملة مثل هذه القيم، ونسيان أنها تمثّل مجموعة إسلامية في طَوْر التحوّل. والأهم عدم الوعي بأن الوصول إلى تحقيق الديمقراطية وسواها من القيم الحديث، يتطلب السير في مسار شاقٍّ وطويل، وتقديم تضحياتٍ لم يقدّموها هم، وبذل كثير من العمل من أجل بناء مسار دولة المواطنة والتعددية، وبدلاً من ذلك راح بعضهم يستمرأ تضخيم الأخطاء والهفوات، ويتمادى في استغلال الجرائم المدانة بشدة، التي ارتكبت في الساحل السوري، وقاده نهج التضخيم والمبالغة إلى اعتبار المجازر بحقّ مدنيين من الطائفة العلوية فيه حرب “إبادة جماعية” للعلويين، في حين أن المنظمات الحقوقية الدولية التي وثقت الانتهاكات، لم تضعها في هذه الخانة، بل اعتبرتها منظمّة العفو الدولية ضمن “جرائم الحرب”.

لافتٌ أن الارتكاس الطائفي واعتماد لغة التحريض لم يقودا إلى تحميل السلطات الجديدة مسؤولية مجازر الساحل فحسب، بل إلى التمادي في اللعب على الكلمات في محاولةٍ من بعضهم تبرئة نظام الأسد من جرائمه، فاعتبر أحدهم المجزرة الرهيبة التي ارتكبها نظام الأسد في غوطتَي دمشق عام 2013 مجرّد “هجمات كيمياوية” أمام مجازر العلويين، وراح يتساءل عن أي دولةٍ ينتسب إليها العلويون، وكأنه عاد إلى موقعه الطائفي، بدلاً من وضع الأمور في نصابها، وإدانة كل المجازر والانتهاكات التي ارتكبت بحق غالبية السوريين أكثر من خمسة عقود من حكم آل الأسد الأقلوي والطائفي.

تحتاج قيامة سورية إلى اعتماد خطاب عقلاني وهادئ، واتخاذ مواقف متوازنة من جميع أبنائها، بعيداً عن التحريض والتخندق في مستنقع الانتماءات ما قبل المدنية، والارتقاء بكل أصنافها إلى مصافّ الانتماء الوطني الجامع، بغية ترميم الهوية السورية، والسعي إلى إبراز ممكنات بناء الثقة بين مكوّنات الشعب السوري، وتحقيق العدالة الانتقالية بغية الوصول إلى مصالحة وطنية شاملة. وهي مسؤوليةٌ لا تقع على عاتق السلطات الحاكمة الجديدة فحسب، بل على عاتق جميع السوريين، كل من موقعه، وحسب إمكاناته وقدراته، والأهم فهم طبيعة المرحلة والتحديات الجمّة والعمل على إنجاح التجربة، من أجل أن يحيا الناجون من مقبرة نظام الأسد حياة جديدة وكريمة.

المؤسف أن المعارضة التي يبديها بعضهم حيال سورية الجديدة لم تعد تنحصر في نقد أطروحات السلطة الجديدة ومواقفها، ولا طرح في تقديم برامج سياسية وفكرية واجتماعية من أجل إعادة بناء سورية والمشاركة في تقرير مستقبلها، بل أضحت أسلوب حياة، ونمطاً من التفكير الرغبوي، وطريقة للنقّ من دون النقد، وموقعاً لتصنيع هويات اجتماعية وسياسية، توزّع كيف ما اتفق، الأمر الذي يجعل من المعارضة صنعةً إلى حدّ كبير، ويحوّلها، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، إلى نوع من نوستالجيا للعهد البائد، فيما المطلوب منها أن تحدث قطيعة نهائية معه. والمؤسف أنه نشأت في المقلب الآخر موجات محاباة للسلطة الجديدة، تريد تأبيد حكم الإسلاميين، لتشكّل مجموعات من الشبّيحة الجدد. وهنا تكمن المفارقة في الارتكاس والتقهقر إلى دائرة الاستقطاب الطائفي المقيتة.

خروج سورية من مقبرة الأسد وخلاصها من قبضة نظامه ليس سوى بداية مسار شاقّ وطويل، تعتريه عقباتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ كثيرة، وتحدّياتٌ داخليةٌ جمّة. وعلى الرغم من أن سورية الجديدة أنهت عقوداً مديدة من الاستبداد، إلّا أن حالات الغموض ما تزال تعتريها، وتتقاذفها أحلام بناء وطن يتسع لجميع أبنائه، ونوبات من الكراهية والانقسام. وبالتالي؛ مهمة إزالة العقبات التي تعتري طريقها تقع على كاهل جميع أبنائها، فهم مطالبون بالعمل على إزالة الشروخ الاجتماعية والانقسامات التي يغذّيها خطاب طائفي مقيت، يصدر عن نخبٍ كان بعضها يرفع راية الحداثة، ولا تقتصر مهمّة التصدي له على المثقفين فحسب، بل على السلطات الجديدة، وعموم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمنخرطين في الفضاء العمومي، الذين سيحاسبهم التاريخ إن لم يقفوا ضد كل مظاهر التحريض والكراهية، وانحازوا إلى موقع المصفقين أو المحرضين.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى