عن السلطة في دمشق والعلاقة معها: تفكير في الرؤى السائدة بين السوريين بشأن السلطة الجديدة/ أشرف الحارثي

21-04-2025
سقط الأسد، وسقط معه صمت الفضاء العام، فاستعاد السوريون والسوريات دورهم السياسي كمواطنين ومواطنات نشطين ومتفاعلين مع ما يجري حولهم من أحداث وتطورات. ثم انقسموا إلى تيارات متعددة، متداخلة أحياناً، يصعب تحديد هوية كل منها بدقة. ومع ذلك، يمكن التمييز بين تيارين رئيسيين: الأول يعارض السلطة الحالية، أو يغلب عليه التوجّس منها، بل والخوف أحياناً؛ والثاني موالٍ لها، بل مستميت في الدفاع عنها وتبرير أفعالها، بغض النظر عن طبيعة هذه الأفعال. يتباين أنصار كلا التيارين في دوافع مواقفهم السياسية، وفي درجات التأييد أو المعارضة للسلطة الجديدة. وفي ظل هذا الانقسام، يحاول هذا المقال استعراض رؤية بعض السوريين والسوريات المناوئين للسلطة، وتسليط الضوء على إشكالية مواقف بعض مؤيديها، كما يقترح تصوراً أولياً حول سبل التعامل معها.
أسئلة للسلطة
في جعبة المعارضين والمتوجّسين والمتوجسات كثيرٌ من الأسئلة المحقة، منها مثلاً ما يتعلق بدور السلطة الحالية في المجازر والجرائم التي ارتُكبت بحق المدنيين في الساحل وحمص وريفها وريف حماة، وغياب دورها كدولة في منع حدوثها. كما أن الإعلان الدستوري، رغم احتوائه على بعض النقاط الإيجابية المتعلقة بتطبيق العدالة الانتقالية وتجريم تمجيد جرائم الأسد، يكتنفه الغموض فيما يخص محاسبة الفصائل المسلحة، بما فيها هيئة تحرير الشام، على الجرائم التي ارتكبتها خلال سنوات الثورة. إضافة إلى ذلك، يحرم الإعلان السوريين والسوريات من غير المسلمين من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ويُبقي على صفة «العربية» في توصيف دولة تتعدد الهويات العرقية لسكانها. من المفترض أن الإعلان الدستوري مؤقت كما هي الحكومة الحالية، لكن مع الصلاحيات شبه المطلقة للرئيس، يصعب استبعاد احتمال سيطرة الفئة الحاكمة على مفاصل الدولة، ما قد يمهد للاستئثار بالسلطة على المدى البعيد.
أما بالنسبة للحكومة المشكلة حديثاً، فعلى الرغم من أنها فاقت توقعات الكثيرين من حيث تعيين بعض من وزراء التكنوقراط، فإن هيئة تحرير الشام استأثرت بالحقائب السيادية، كوزارات الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة. يُضاف إلى ذلك ضعف التمثيل النسائي، الذي اقتصر على هند قبوات، عرّابة مؤتمر الحوار الوطني، والتي توقع (أو ربما تمنى) كثيرون أن تخرج إلينا كاشفة هزلية ما جرى خلاله، لكن ذلك كان ليحرمها من الامتياز الذي نالته كأول وزيرة في هذه الحكومة. أما الأمر الأكثر إثارة للقلق، في تقديري، فهو تشكيل مجلس الأمن القومي قبل تشكيل الحكومة نفسها، ما أدى إلى تركيز فعلي للسلطة في يد ثلاث شخصيات: الشرع ووزيرا الخارجية والداخلية. لا نعلم الكثير عن أسعد الشيباني، الذي كان يشغل منصب مدير إدارة الشؤون السياسية في إدلب قبل سقوط النظام، لكنه لعب دوراً محورياً في تعويم هيئة تحرير الشام دولياً، حتى وصفه الكاتب حسام جزماتي بـ«وزير خارجية هيئة تحرير الشام» في مقال أواخر العام 2023. أما وزير الداخلية، أنس خطاب، فهو معروف بسجله القمعي، إذ كان المسؤول عن اعتقال وتعذيب المئات من معارضي الهيئة، من جهاديين وغيرهم، في سجن العقاب سيئ الصيت في إدلب.
لا نعلم على وجه الدقة ما هي مهام هذا المجلس، لكنه يذكرنا حتماً بأجسام أمنية سابقة كمكتب الأمن القومي وخلية الأزمة، والتي كان لها الدور الأبرز في حكم البلاد وقمع السوريين من خلال القتل والسجن في عهد النظام السابق. دور مجلس الأمن القومي وصلاحياته وآلية عمله لا تزال مفتوحة، إذ يُفترض أن تُحدَّد «بتوجيهات من رئيس الجمهورية، بما يتماشى مع المصلحة الوطنية العليا، ويضمن التنسيق الفعال بين مختلف الأجهزة والمؤسسات». يُحاجِج بعض أنصار السلطة بأن الوضع الأمني والسياسي الهش للبلاد يستدعي مَركزة السلطة، بهدف فرض الاستقرار ودفع عجلة التغيير السياسي والاقتصادي بوتيرة تضمن عبور المرحلة الانتقالية بأقل قدر ممكن من العنف. وحتى لو افترضنا جدلاً وجاهة هذا الطرح، الذي يُشرعِنُ سيطرة السلطة على مفاصل الدولة الرئيسية، واتخاذها قرارات تتجاوز الصلاحيات التنفيذية والتشريعية في آنٍ معاً، فإن ذلك يضعها في الوقت نفسه أمام مسؤولية مباشرة للإجابة عن الأسئلة الكبرى، من قبيل: من ارتكب مجازر الساحل؟ وكيف سيتم محاسبة المسؤولين عنها؟ لماذا ما يزال فادي صقر طليقاً رغم تورطه في مجزرة التضامن، على مرأى من أعين الضحايا؟ لماذا تمت ترقية قادة «العمشات» و«الحمزات»، المسؤولين عن انتهاكات جسيمة بحق أهالي عفرين من الأكراد، والذين فرضت عليهم الولايات المتحدة عقوبات بسبب جرائمهم؟ لماذا يُفترَض بنا كسوريين أن نقبل بماهر آخر مديراً للأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، بعد أن فرَّ ماهر الأسد مع أخيه من السلطة؟ السلطة لا ترغب بالإجابة عن هذه الأسئلة التي تُدينها، والتي تفتح الباب أمام المطالبة بتحجيم دورها المتعاظم يوماً بعد يوم.
أنصار السلطة
تكمن إشكالية الموقف الذي يتبناه جزء كبير من التيار الموالي للسلطة في ضبابية التمييز بين سقوط نظام الأسد من جهة، وبين من قاد عملية التحرير من جهة أخرى. فقد بدا في لحظة من اللحظات أن مشاعر الفرح غير المسبوقة إثر ذلك الحدث الزلزالي اختلطت وتحولت إلى نوع من الحب غير المشروط لهيئة تحرير الشام والدفاع الشرس عنها وعن قيادتها، حتى أصبح انتقاد السلطة الحالية يُفسَّر على أنه حنينٌ غير مباشر لسلطة الأسد أو رغبة في النقد من أجل النقد. ولحسم الأمر أمام معشر المنتقدين، ظهر الشعار التفويضي القائل «من يحرر يقرر». بالمبدأ، يُعتبَر التفويض السياسي أساسَ العملية السياسية الديمقراطية، لكنه يُنجَز بطرق وأدوات مختلفة. إضافة إلى ذلك، فإن رأس مال «المُحرِّر» الرمزي، الذي تحوَّلَ من إسقاط الأسد عسكرياً إلى «شرعية ثورية»، لا يعني بأنه يمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مفيدة لجميع السوريين. فالمسألة لا تتعلق فقط برفض حكومة اللون الواحد الحالية، وإنما أيضاً بأسبابٍ عمليةٍ تتمثل في نقص الكفاءات وعدم القدرة على إدارة البلد.
الأمر الآخر في مشاعر الحب تجاه السلطة هو ما يستتبعه من تأليه لشخوصها، أو غض النظر عن أخطائهم في أحسن الأحوال. كتب ياسين الحاج صالح عن هذه الحالة التي ظهرت في العديد من الدول في الحقبة ما بعد الكولونيالية، مؤكداً أنه: «في حب السياسي ورجل الدولة، خلط عظيم الضرر بين دائرتين؛ لا وجه معقول للخلط بينهما: دائرة الحياة العامة التي يُنتظر من العاملين فيها أن يكونوا موثوقين وأكفاء، وليس محبوبين، ودائرة الحياة الخاصة من الصداقة والعشق والعائلة، حيث الفضيلة هي الحب. الرئيس لا يُحَب، يُوثَق به، أو لا يُوثَق». قد يصعب علينا التجرد من مشاعرنا تجاه السلطة، سواء أحببنا شخوصها أو كرهناهم، وقد نجد أنفسنا عاجزين عن الدفاع عن ضرورة التمييز بين حب السلطة والوثوق بها، وتحديداً في بلاد لم تَعِش تجربة ديمقراطية راسخة بعيدة عن الشعبوية السياسية التي تقدم أبسط الأجوبة لأكثر المشاكل تعقيداً. لكن الوضع السوري شديد التعقيد، ويحتاج إلى نقاشات تدور في فلك رمادي، يسمح لنا بنقد أو مديح سياسات معينة دون غيرها، بناء على ما يصب في مصلحة البلاد وبعيداً عن هوية من يُشرِّعها ويٍنفّذها. يسمح لنا هذا الموقف بإدانة مجازر الساحل وتحميل السلطة المسؤولية عنها، لكن في الوقت نفسه يتيح لنا الترحيب باعتراف السلطة الخجول بالانتهاكات وبلجنة تقصي الحقائق التي شكلتها آملين بدفع هذه السلطة نحو تحقيق العدالة للضحايا.
ثمة شريحة لا يُستهان بها من الموالين للسلطة تبدو منتشية بزوال «الحُكم العلوي»، لا فرحاً بالعدالة أو التغيير فقط، بل تحت وهم «استعادة دمشق لأمويتها»، وكأن بني أمية رحلوا للتو قبل سقوط النظام بأعوام. كتب عدي الزعبي نصاً مهماً للجمهورية اشتبك من خلاله مع إشكالية اختزال دمشق إلى هوية واحدة تربط حاضرها مباشرة بالحكم الأموي، متجاهلة القرون الطويلة من التحولات الفكرية والسياسية والثقافية التي مرت بها المدينة قبل الأمويين وبعدهم. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل تعيين وزير الثقافة الجديد، محمد صالح، الذي يخلط، بقصد أو بغير قصد، في ما يسمّيه شعراً، بين سوريا والدولة الأموية، واللغة العربية واللغة السريانية، مقدماً سرديةً لا تاريخية تُقصي بشكل موارب كل من لا ينتمي إلى ما يمكن وصفه بـ«الطائفة الأموية»، التي تبدو في خطابه إحالة واضحة إلى الطائفة السنية. بعيداً عن ركاكة خطابه خلال حفل تشكيل الحكومة، والذي يفتقر إلى أي أثر تأويلي أو رمزي أو شعري يُعتَدّ به، فإن الوزير ذاته، في مقاطع موثقة، يصرّ بفجاجة على «أمويته»، وكأنها صك انتماء ثقافي وسياسي في دولة يُفترَض أنها تتجه نحو التعدد لا الاصطفاف الطائفي.
كسائر الهويات الأخرى، الهوية الأموية السنّية هي بناء اجتماعي مُتخيَّل، لكنها تحمل تأثيراً وممارسة واقعية. ومع ذلك، على من يفترض أن السلطة الحالية لن تتغوّل على السوريين السنّة فقط لأنهم «أمويون» أو «سنة»، أن يعود بالزمن والمكان إلى إدلب قبل «التحرير»، حين كانت تُدار بيد من حديد من قبل هيئة تحرير الشام، ولنا في المظاهرات التي استمرت لعامين قبل ذلك مثال واضح. هذا لا ينفي البعد الطائفي عن السلطة الحالية؛ فقد بدأت فعلياً عملية «تسنين» الدولة، وخصوصاً في الأجهزة الأمنية والعسكرية الجديدة. قد يرى البعض أن حلّ أجهزة الأمن والجيش التابعة للنظام البائد أمرٌ طبيعي، نظراً لدورها في قمع وقتل السوريين، وأن إعادة الثقة بعناصر النظام السابق شبه مستحيلة. ولكن احتكار الدولة الحالية للعنف الشرعي من خلال عناصر تنتمي للطائفة السنية فقط، والمقرّبين منها، سيؤسس لمظلوميات جديدة يصعب تجاوزها مستقبلاً. وينطبق ذلك بطبيعة الحال على بقية مفاصل الدولة. في جميع الأحوال، على السلطة الحالية أن تنخرط في شراكة حقيقية مع المكوّنات السورية الأخرى، وإلا فإنها لن تستطيع إقناع العالم باعتدالها، ولا برغبتها في أن تكون سلطة تمثل جميع السوريين والسوريات، كما صرّح قادتها مراراً.
على الرغم من الطابع الديني الذي يميز حكام دمشق الجدد، فإنهم رجال سياسة برغماتيون. قُدرة قيادة الهيئة على النجاة والاستمرار خلال سنوات الحرب الدامية كانت نتيجة تفاعلات هيئة تحرير الشام المحلية والإقليمية وحتى الدولية. بعد أن بدأت الهيئة تدريجياً بخلع ثوبها السلفي الجهادي منذ 2017، ورسخت سلطتها العسكرية من خلال إضعاف أو تفكيك الفصائل الأخرى، بدأ سعيها المحموم لرفع اسمها عن قوائم الإرهاب، الأمر الذي تطلَّبَ منها كثيراً من التكيفات السياسية بالضرورة على كل الأصعدة. مثلاً، فصلت هيئة تحرير الشام رجالات التيار المصري، بسبب معارضة بعضهم للعلاقة مع تركيا. وفي حين أبقت الهيئة على «سر» تعاونها مع التحالف الدولي لمكافحة داعش والقاعدة طيَّ الكتمان، إلا أنها انتهجت سياسات أكثر انفتاحاً تجاه الأقليات من الدروز والمسيحيين في إدلب. وها هي اليوم تفاوض الروس على إبقاء قواعدهم في سوريا بعد أن قتلوا وشردوا الآلاف من السوريين خلال سنوات الثورة.
الحديث هنا عن خصائص السلطة الحالية وتاريخها ليس دعوة لمُعاداتها. بل محاولة لتفكيك طريقة تفكير من هُم داخلها، وفهم آلية تفاعلهم مع من هُم خارجها. كما أنه تذكير لمناصريها بأن حالة الاستقطاب القائمة على ثنائية «مع أو ضد السلطة» ليست استثناء، بل ظاهرة شائعة في عالم السياسة. ومع ذلك، فإن غياب المسافة النقدية لدى أنصار السلطة، وتماهييهم الكامل مع سياساتها دون تحفظ، قد يؤدي إلى تعزيز احتكارها للحكم، ويجعلها غير مهتمة لإحداث أي تغيير ما دامت تستند إلى قاعدة شعبية تمنحها الشرعية. الاختلاف بالرأي حق للجميع لا ينبغي الاختلاف عليه، لكن المطلوب منا كسوريين وسوريات نعلم ما نعلمه عن السلطة الحالية وهشاشة الحالة السورية، أن نعمل معاً لدفعها للسماح بخلق مساحات حرة، وليس لتكريس غياب هذه المساحات بحجة أن الوقت غير مناسب، وأننا منشغلون بقضايا «أكبر» من علاقتنا مع السلطة ودورها في مستقبل البلاد.
ما الممكن؟
بالعودة إلى معشر المتوجسين والمتوجسات من السلطة، ودورهم في دفع دفة التغيير نحو حكم ديمقراطي، أو على الأقل أكثر تعددية، فلنا في إدلب أسوة حسنة. فقد ثارت إدلب احتجاجاً على ظلم هيئة تحرير الشام لما يقارب العامين قبل بدء عملية التحرير، حيث نظّمَ سكانها أنفسهم وأجبروا السلطة على الاستماع إليهم. وعلى الرغم من محدودية نتائج حراكهم، فإنهم واصلوا نضالهم، ولولا عملية التحرير، التي دفعتهم محقّين إلى تعليقه، لكان من الممكن تحقيق مكاسب، ولو جزئية، على المدى الطويل. ولأخذ العِبَر، من المهم أيضاً أن نتذكر كيف تعاملت الهيئة مع الحراك هناك، إذ لم تتخذ موقفاً تصعيدياً إلا عندما شعرت بخطورته واتساع قاعدته المجتمعية، حتى أن بعض عناصرها سُجنوا أو أُقيلوا من مناصبهم بسببه. لهذا أقول، لا تزال هناك مساحة للحراك، وعلينا كسوريين جميعاً أن نحافظ عليها.
قد تعرقل جذرية الطروحات وبُعدها عن الواقع مساعي التغيير تلك، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الحديث لسوريا، الذي أقلُّ ما يقال عنه أن يفتقر لمقومات العمل السياسي المؤسساتي لأي مشروع ديمقراطي داخل البلاد، في ظل غياب الدور الفاعل للنقابات وقصور فاعلية المجتمع المدني والأحزاب السياسية. لذلك أتفق مع ما يطرحه الكاتب غسان زكريا في دعوته إلى الرؤية الواقعية في تفكيك المشهد الحالي والتعامل معه. بحسب زكريا، يكمن الطريق إلى الأمام في التنظيم المدني والسياسي الشعبي، بعيداً عن النخبوية والتمسك بمبادئ قد تظل خطاباً إنشائياً بلا أثر، إن لم تتبنَها فئات واسعة من المجتمع. التغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل يُبنى عبر مسار من التراكمات الصغيرة، التي تبدأ حين ندرك واقعنا الجديد، ونعيدُ تعريفَ علاقتنا بالسلطة الحالية التي ما زالت تفعل كلَّ ما بوسعها لحكم البلاد وحدها.
موقع الجمهورية،