غلوك في محاضرة نوبل: توريط القصيدة/ صبحي حديدي
المحاضرة التقليدية، التي قدّمتها مؤخراً إلى الأكاديمية السويدية الشاعرةُ الأمريكية لويز غلوك، الفائزة بجائزة نوبل للأدب هذه السنة، ليست ـ في حدود ما أعرف شخصياً ـ بين الأقصر والأشدّ تكثيفاً (1264 كلمة في الأصل الإنكليزي) بين عشرات المحاضرات المماثلة، فحسب؛ بل لعلها في عداد الأكثر أهمية، لجهة الدلالة حول مفهوم الشعر وأغراضه، وكذلك التنظير له في هذا المقام وهذه المناسبة على وجه التحديد. وإذا لم يكن من جديد في إحالة غلوك شعرياتها إلى تجارب أخرى، وهذا ما فعله شعراء كثر في محاضرات نوبل سابقة، فإنّ المستجدّ (واللافت في يقيني) أنّ الشاعر الإنكليزي وليام بليك (1757 ـ 1827) في قصيدته «الفتى الصغير الأسود»، والشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون (1830 ـ 1886) في قصيدتها «أنا لا أحد»؛ كانا النموذج، كلٌّ لأسباب ليست متطابقة أو حتى متكاملة من جهة أولى؛ فضلاً عن أنّ القصيدتين ليستا الأكثر تعبيراً عن التأثيرات الكبرى في تجربة غلوك.
ثمة، أغلب الظنّ، صيغة من الإقرار بالفضل العميق، غير المباشر بالضرورة، على أصعدة تبدأ من الشكل واللغة وأساليب القول والصياغة، ولا تنتهي عند المعنى والرسالة الشعرية والسياسية التي تشمل الحسّ الإنساني بالآخر مثل الهوية النسوية وخصوصيات الذات الشاعرة. القصائد التي انجذبتْ إليها بقوّة وعلى الدوام هي «قصائد الاختيار أو التواطؤ، القصائد التي يكون للمستمع أو للقارئ إسهامه الجوهري فيها، كمتلقٍّ لمكاشفة أو لصرخة، أو كمشارك في المؤامرة أحياناً». وهكذا، تقول دكنسون: «أنا لا أحد/ هل أنت لا أحد، أيضاً؟/ ثمة اثنان منّا، إذن/ فلا تَبُحْ…». أو ت. س. إليوت، من «أغنية حبّ ج. ألفرد برفروك»: «فلنمضِ، إذن، أنت وأنا/ حين ينبسط المساء على السماء/ مثل مريض مخدّر على المنضدة»، حيث لا ينادي الشاعر فوج الكشافة بقدر ما يناشد القارئ أمراً ما. وهذا على نقيض شكسبير، مثلاً، حين يهتف: «هل لي أن أقارنك بيومٍ صيفي؟»، حيث لا يقارن الشاعر فعلياً بقدر ما يتيح للأنثى أن تصغي إلى ولع بارع، لا تشترط فيه القصيدة حضور صاحبة المقارنة. وحول هذا الانجذاب تتابع غلوك: «في نوع الفنّ الذي انجذبت إليه، يبدو صوت الجَمْعي أو حُكْمه خطيراً. ذلك لأنّ هشاشة الكلام الحميم يضيف إلى قوّته وإلى قوّة القارئ، فمن خلال توسّط الأخير يتشجع الصوت في مناشدته الملحّة على الثقة».
ولقد أرفقت غلوك القصيدتين بنصّ المحاضرة، وبدأت من قصيدة بليك المؤلفة من 28 سطراً موزعة على سبع رباعيات، معتبرة أنّ الشاعر خاطبها من خلال الفتى الأسود، فكان «الأصل الخفيّ للصوت»؛ ولم يكن في الوسع إبصار الشاعر، تماماً على غرار الفتى الأسود، غير المرئي من جانب فتى أبيض غير متنبه وغير مكترث وازدرائي. ولكن، تتابع غلوك: «كنت أعرف أنّ ما قاله هو الحقيقة، وأنّ جسده الفاني المؤقت ضمّ روحاً ذات طهر وضّاء. أعرف هذا لأنّ ما يقوله الفتى الأسود، وما يرويه عن أحاسيسه وتجربته، لا يحتوي على ملامة، ولا على رغبة في الثأر لنفسه، بل على اليقين بأنّ ما وُعد به بعد الموت من عالم الكمال سوف ينطوي على الاعتراف به وبما هو عليه». وأن يكون هذا أملاً غير واقعي، ويهمل الواقع، أمر يجعل القصيدة تكسر القلب، كما يجعلها سياسية بعمق، في نظر غلوك.
عن قصيدة دكنسون، التي لا تتجاوز ثمانية سطور، تقول غلوك إنّ الشاعرة اختارتها، بل تعرّفت عليها، هي القارئة التي تجلس على أريكة: «كنّا بمثابة نخبة، صاحبتَيْن في حال غير مرئية، وهذه حقيقة لا يعرفها سوانا، أسهمت الواحدة منّا في إثباتها للأخرى. وأمّا في إسار العالم، فلقد كنّا لا أحد». وهذه العلاقة اللافتة، القرائية والشعورية ولكن المادية أيضاً في نهاية المطاف، لا تنطلق عند غلوك من التأثير الفتاك لشاعرة مثل دكنسون على صبية مراهقة، بل تدور حول «مزاج فقد الثقة في الحياة العامة، أو بات يراها ميداناً يتيح للتعميم أن يطمس الدقّة، وللحقيقة الجزئية أن تحلّ محلّ الانكشاف الصريح أو المخوّل». وكي تعود إلى صيغة إشراك القارئ أو حتى توريطه في «مؤامرة» القصيدة، تتابع غلوك: «لنفترض أنّ صوت المتآمر، صوت دكنسون، استُبدل بصوت المحكمة. ‘نحن لا أحد، فمَن أنتم؟’ تلك الرسالة تصبح فجأة أشدّ شؤماً».
والحال أنّ محاضرة نوبل هذه ردّتني إلى أواسط تسعينيات القرن المنصرم، حين نقلت إلى العربية بعض قصائد غلوك ونُشرت في الصفحات الثقافية لـ»القدس العربي»؛ وكيف أنّ هذه الخطوط التعبيرية المتشابكة كانت في رأس انشدادي إلى شعرها.. وإذْ لم يفاجئني فوز غلوك بجائزة نوبل للأدب، فقد ظلت المفاجآت المتعددة تقترن بتنظيراتها لقضايا معقدة لصيقة بتجربتها؛ مثل القصيدة والسيرة الذاتية، وشعريات الرغبة على صعيد التوق والشوق والجوع الحسّي، و»رضّة الكلمة» أو جرح الشهادة على الواقع والعصر، ثمّ «رضّة التحدي» إزاء انكشاف أسرار الوجود ما كان منها مادياً طبيعياً أو غامضاً ميتافيزيقياً…
وخير على خير، غنيّ عن القول، في هذا كلّه؛ وسواه كثير.
القدس العربي
————————-
الفتى الأسود الصغير/ وليام بليك
أنجبتني أمي في الجنوب الوحشي
وأنا اسود اللون، ولكن آه! روحي بيضاء
أبيض كالملاك، هو الطفل الإنجليزي،
ولكني اسود وكأني قد حرمت النور.
أمي علمتني تحت شجرة
ونحن جالسان أمام حرقة النهار
قربتني إلى حجرها وقبلتني
مشيرة إلى المشرق بدأت بالقول
“انظر إلى تلك الشمس المنبلجة، هناك عرش الإله،
حيث يمنح ضياءه، ودفئه..
والأزهار و الأشجار والحيوانات والبشر يتلقون الراحة
في الصباح، والسرور بعد المغيب.
” ونحن ما خلقنا على هذه الأرض إلا لفسحة قصيرة،
فربما تعلمنا أن ندر إشعاعات الحب،
فهذه الأجساد السوداء وهذا الوجه الذي أحرقته الشمس
ليس إلا سحابة، وكمرج وارف.
“وحتى تتعلم أرواحنا كيف تتحمل الرمضاء،
هذه السحابة ستختفي، وسنسمع صوته مناديا:
“اصعدوا من هذا المرج، لكم محبتي وعنايتي،
واجتمعوا حول خيمتي الذهبية، كالخراف المبتهجة”
هكذا حدثتني أمي، كما قبلتني..
وهكذا أقول للفتى الإنجليزي الصغير،
حينما أتحرر من السحابة السوداء وهو من البيضاء
ونجتمع حول عرش الإله كالشياه في انتشاء،
سأظلله من القيظ، حتى يطيق الانحناء جذلا على ركبتي أبانا،
حينها سأقف مربتا على شعره الفضي،
وسأكون مثله، وحينها سيبادلني هو الحب.
ترجمة :إيمان القحطاني
*شاعر ومفكر ونحات إنجليزي 1757-1827
** من مجموعته الشعرية “Songs of Innocence”
William Blake
————————
أنا لا أحد .. مَن أنت ؟/ إميلي ديكنسون
أنا لا أحد!
وأنتَ
من تكون؟
هل أنت أيضًا، لا أحد ؟
وإذًا
فثمة اثنان منّا-
إيّاكَ أن تخبر أحدا!
وإلا
ألقوا بنا في المنفى
كما تعلم.
كم هو موحشٌ وكئيب
أن تكون شخصا ما.
كم هو شعبيٌّ وعموميٌّ ومُشاع،
مثل ضفدع.
أن أناديك باسمك اليومَ بطولِه
في ذلك المستنقع البديع.
المصدر: فاطمة ناعوت – أبناء الشمس الخامسة
(قصائد مترجمة عن الإنجليزية)
الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – 2010
Emily Dickinson