العقوبات الأميركية على سوريا الجديدة وسبل إلغائهاسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الموقف الأميركي اتجاه سوريا، مسالة رفع العقوبات، الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الاميركية على الحكومة السورية تحديث 19 نيسان 2025

لمتابعة هذا الملف التبع الرابط التالي

العقوبات الأميركية على سوريا الجديدة وسبل إلغائها

———————————

متى تُرفع العقوبات الغربية عن سوريا؟/ عمر كوش

21/4/2025

ما تزال العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية تقف حائلًا أمام تعافي سوريا الجديدة، وتمنع البدء بعمليات إعادة إعمار ما دمّره نظام الأسد البائد، حيث تضع كل من الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة فرنسا وألمانيا واليونان وقبرص، شروطًا عديدة من أجل رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وتربط رفعها بالخطوات التي ستقوم بها الإدارة الجديدة، وذلك على الرغم من ترحيبها ببعض الخطوات التي قامت بها السلطات الجديدة، وخاصة الحكومة الانتقالية، التي وصفتها واشنطن بحكومة تكنوقراط، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرحه السوريون، هو: متى ترفع العقوبات الغربية المفروضة على بلادهم؟

الواقع هو أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن، قامت ببعض الإجراءات، تضمنت إصدار إعفاءات مؤقتة لمدة ستة أشهر من العقوبات، وطالت قطاعات الطاقة والمياه والحوالات الشخصية، فيما تضمنت الإعفاءات التي قررها الاتحاد الأوروبي إزالة خمس مؤسسات مالية واقتصادية من قائمة الكيانات الخاضعة لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية، وهي: البنك الصناعي، بنك التسليف الشعبي، بنك الادخار، البنك التعاوني الزراعي، والخطوط الجوية العربية السورية، إلى جانب السماح بإتاحة الأموال والموارد الاقتصادية للمصرف المركزي السوري.

إضافة إلى إدخال بعض الاستثناءات على الحظر المفروض على إقامة علاقات مصرفية بين البنوك السورية والمؤسسات المالية في دول الاتحاد الأوروبي.

لكن كل هذه الإجراءات ليست كافية للخروج من الوضع الاقتصادي الكارثي في سوريا، خاصة أن الإعفاءات الأوروبية غير فعالة في ظل استمرار العقوبات الأميركية.

الشروط الأميركية

تتمحور الشروط الأميركية المعلنة حول ضرورة تمثيل الأقليات، ومحاربة الإرهاب، وتدمير ما تبقى من مخزون الأسلحة الكيماوية، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب العسكرية العليا، والمساعدة في مساعي العثور على الصحفي الأميركي المفقود في سوريا أوستن تايس.

وتتقاطع مع الشروط الأوروبية، وتضيف إليها “وقف الانتهاكات”، التي جرت في الساحل السوري، ومحاسبة المتورطين فيها وغيرها.

وقد سبق أن سملّت نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسوريا، ناتاشا فرانشيسكي، قائمة الشروط الأميركية إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، خلال اجتماع مباشر عُقد على هامش مؤتمر للمانحين بشأن سوريا في بروكسل يوم 18 مارس/ آذار الماضي.

مؤخرًا، قدمت الحكومة السورية للإدارة الأميركية ردّها الرسمي على قائمة الشروط التي وضعتها واشنطن كمتطلبات أساسية لتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا.

ويعكس عدم تلكؤ الحكومة السورية الجديدة في الرد عليها نوعًا من الالتزام ببعض الشروط، مع إبداء المرونة والاستعداد للعمل على بعضها الآخر، لكن الأمر ليس سهلًا، لأن انفتاح العلاقات بين واشنطن ودمشق، يعني طي صفحات سوداء وشائكة، بدأت منذ عام 1979، عندما فرضت الولايات المتحدة أولى عقوباتها على سوريا، وأدرجتها على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ثم أضافت عقوبات كثيرة بعد قيام الثورة السورية عام 2011، أبرزها عقوبات بموجب “قانون قيصر”.

إضافة إلى أن الوضع في سوريا معقد ومتشابك مع الأوضاع الإقليمية والدولية، يتقاطع معها أحيانًا، ويتعارض معها في أحيان أخرى، وخاصة بخصوص التدخلات والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ إسقاط نظام الأسد البائد، ومحاولة إسرائيل تحويل سوريا إلى ساحة منافسة مع الأتراك، فضلًا عن العلاقة القوية ما بين إدارة ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، حيث تريد إدارة ترامب أن توقع الحكومة الجديدة اتفاق سلام مع إسرائيل، يحفظ أمن إسرائيل وتفوقها عسكريًا، دون أن تسترجع سوريا أراضيها المحتلة وخاصة الجولان المحتل.

تجدر الإشارة إلى أن بعض الشروط الأميركية تعدّ متطلبات داخلية، خاصة فيما يتعلق بالحكم الشامل، وتمثيل مختلف مكونات الشعب السوري، والتخلص مما تبقى من الأسلحة الكيماوية، حيث أبدت الحكومة السورية تعاونًا كاملًا مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.

وقد أكد وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في أكثر من مناسبة التزام سوريا بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتدمير بقايا برنامج الأسلحة الكيماوية لنظام الأسد، وتحقيق العدالة للضحايا، والامتثال للقانون الدولي.

كما أن السلطات الجديدة ملتزمة بمكافحة الإرهاب، وثمة عداء قديم وقتال تاريخي بين فصائل غرفة “ردع العدوان”، وفي مقدمتها “هيئة تحرير الشام” وتنظيم الدولة الإسلامية.

وسبق أن شاركت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية مع الإدارة السورية الجديدة، أفضت مؤخرًا إلى إحباط محاولة تنظيم الدولة تفجير مقام السيدة زينب الواقع في جنوبي دمشق.

إضافة إلى أن سوريا وقعت في التاسع من مارس/ آذار الماضي اتفاقًا خلال اجتماع عمان مع دول الجوار: (الأردن، والعراق، ولبنان، وتركيا)، يدين الإرهاب بكافة أشكاله، ويقضي بمحاربته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا، وبتشكيل مركز عمليات مشترك للتنسيق والتعاون في مكافحة تنظيم الدولة، بغية القضاء عليه، والتعامل مع سجون عناصره.

تفترق الولايات المتحدة عن الاتحاد الأوروبي في أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تضع الوجود العسكري الروسي في سوريا ضمن الشروط الأميركية المعلنة، فيما طالب أكثر من مسؤول أوروبي بذلك، ولعل الأمر يعود إلى العلاقة المميزة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب.

لكن هذه العلاقة لا تمنع وجود جدل بين وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين حول القواعد العسكرية الروسية في سوريا. ولعل زوال التغلغل الإيراني في سوريا كان أكبر مكسب قدمته سوريا الجديدة للولايات المتحدة، دون أن تقدم أي تكلفة تذكر.

بصرف النظر عن كل ذلك، فإن سياسات إدارة الرئيس ترامب حيال السلطة الجديدة في سوريا تحظى باهتمام سوري كبير، حيث تأمل في أن يشكل الرد السوري على الشروط الأميركية بداية لحوار بين واشنطن ودمشق يمهد لرفع العقوبات أو على الأقل تخفيفها.

كما أنها تترقب ما ستثمر عنه زيارة وفد سوري إلى واشنطن، يترأسه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ويضم وزيرَي المالية والاقتصاد ومحافظ البنك المركزي، من أجل حضور الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بين 15 و20 أبريل /نيسان المقبل.

إذ على الرغم من أن الزيارة تحمل صبغة اقتصادية، فإن الوفد سيحاول عقد لقاءات جانبية مع مسؤولين في الإدارة الأميركية، ومع عدد من النواب في الكونغرس، حيث من المتوقع أن تشهد تلك اللقاءات بحث قضايا تتعلق بالعقوبات، وعمليات إعادة الإعمار، والنظر في العلاقات بين دمشق وواشنطن.

وبالتالي فإنه على الرغم من عدم اعتراف إدارة ترامب الرسمي بالحكومة السورية الجديدة، فإن زيارة الوفد السوري، والمشاركة في اجتماعات صندوق النقد الدولي، وعقد لقاءات مع مسؤولين في واشنطن، تشي بإمكانية حدوث تحوّل تدريجي في تقييم الولايات المتحدة للسلطة السورية الجديدة.

لذلك يعوّل السوريون على أن تشكّل الزيارة فرصة من أجل عرض رؤية الحكومة السورية بشأن إعادة الإعمار وبناء الدولة، ومحاولة كسب دعم دولي أوسع.

والأهم هو أن تلجأ إدارة ترامب إلى القيام بتخفيف جزئي وانتقائي للعقوبات في حال تقييمها الإيجابي لرد لحكومة السورية، ومدى التزامها بالخطوات المطلوبة، الأمر الذي يرافقه إصدار إعفاءات إضافية، أو دعم دولي للمشاريع الإنسانية والبنية التحتية.

غير أن رفع جميع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا ما يزال يواجه عقبات داخل الإدارة الأميركية والكونغرس، وذلك بسبب انقسام مواقف مسؤولي الإدارة الأميركية حيال سوريا، ما بين شخصيات في وزارة الخارجية الأميركية، تدعو إلى ضرورة منع تحول سوريا إلى الفوضى والتناثر، وتطالب بأن تتعامل إدارة ترامب بواقعية مع الحكومة السورية الجديدة، ومنحها فرصة لإثبات تغيرها، وشخصيات أمنية متشددة في مجلس الأمن القومي والاستخبارات، تحذر من التعامل مع السلطة الجديدة، وتخشى من التنظيمات المتطرفة، وتشكك في إمكانية تحوّل سوريا إلى حليف موثوق.

وفي هذا السياق، يلعب اللوبي الإسرائيلي، وحكومة بنيامين نتنياهو دورًا ممانعًا لأي تقارب أميركي مع السلطة السورية الجديدة، لذلك يعتبر كل من الرد السوري على الشروط الأميركية والزيارة المرتقبة للوفد السوري إلى واشنطن بمثابة اختبار حاسم بالنسبة إلى الحكومة السورية الجديدة.

أخيرًا، يبقى أن من المهم رفع العقوبات الغربية، وخاصة الأميركية، المفروضة على سوريا، لكن الأهم هو أن الحكومة السورية الجديدة ينبغي ألا تتعامل معها وكأن كل شيء متوقف على إزالتها أو تخفيفها، وأن تَبذل مزيدًا من العمل في الداخل السوري، وبشكل يدعم توسيع الحريات، ويؤسس لدولة القانون والعدالة، وتقوية كل القوى الفاعلة فيه على كافة المستويات؛ الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والاستفادة من كل إمكانات السوريين، وتفعيل المؤسسات وتمكينها من العودة للعمل بكامل طاقتها، والاعتماد على أصحاب الخبرات والطاقات السورية، الذين هربوا من مقبرة نظام الأسد البائد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

 كاتب وباحث سوري

الجزيرة

———————————–

المطالب الأميركية الثمانية من سوريا… ماهي، وكيف ردت دمشق عليها؟/ براهيم حميدي

نحو سياسة أميركية متكاملة عن سوريا

آخر تحديث 19 أبريل 2025

تُظهر ثلاث وثائق، أميركية وسورية وأممية اطلعت “المجلة” على مضمونها، الاتجاهات المحتملة للعلاقات بين دمشق وكل من واشنطن والأمم المتحدة.

وإذ تتضمن الوثيقة الأميركية ثمانية مطالب للبدء في تخفيف العقوبات وإعطاء رخصة لمدة سنتين، بينها مطالب وجدت دمشق صعوبة في قبولها، يتعلق أحدها بـ”إصدار إعلان رسمي عام يحظر جميع الفصائل الفلسطينية والأنشطة السياسية”، والثاني بالموافقة على قيام أميركا باستهداف أي شخص تعتبره واشنطن تهديدا لأمنها، مع تصنيف كل من “الحرس الثوري” الإيراني و “حزب الله” اللبناني تنظيما إرهابيا، فإن رد دمشق الخطي على رسالة تسلمها وزير الخارجية أسعد الشيباني من نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي، ناتاشا فرانشيسكي، في بروكسل منتصف مارس/آذار الماضي، أشار إلى تحقيق تقدم في ملفات عدة بينها التخلص من السلاح الكيماوي التابع للنظام السوري السابق، ومحاربة “داعش” والإرهاب، وتشكيل الجيش.

أما الوثيقة الأممية التي بادر بها الأمين العام المساعد للأمم المتحدة نائب رئيس وزراء سوريا السابق عبدالله الدردري، فإنها تتناول اقتراحا بموافقة دمشق على قيام “البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة” بالإشراف على إنفاق أموال “الدولة السورية” المجمدة في أوروبا، وتقدر بنصف مليار دولار أميركي، على مشاريع في سوريا بعيدا عن العقوبات الأميركية.

الإفراج عن 500 مليون دولار مجمدة في أوروبا

يجري العمل بكثافة على وضع اللمسات الأخيرة على زيارة وفد يضم وزير المال محمد يسير برنية، وحاكم مصرف سوريا المركزي عبدالقادر حصرية، إلى واشنطن، للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمشاركة في طاولة مستديرة عن سوريا نهاية الأسبوع. قبل قيام وزير الخارجية أسعد الشيباني بزيارة نيويورك نهاية الأسبوع لحضور اجتماعات وزارية في مجلس الأمن ورفع علم سوريا.

وأفادت “رويترز” بأن اجتماعا بشأن سوريا تستضيفه الحكومة السعودية والبنك الدولي سيعقد على هامش الاجتماعات السنوية للهيئات المالية الدولية في واشنطن.وأضافت أن السعودية تعتزم سداد حوالي 15 مليون دولار من متأخرات سوريا للبنك الدولي، مما يمهد الطريق لتقديم منح محتملة بملايين الدولارات لإعادة الإعمار ودعم اقتصادي آخر لسوريا.

وبعد سداد المبلغ، يمكن للبنك الدولي دعم سوريا من خلال المؤسسة الدولية للتنمية التابعة له، وسط توقعات بتقديم 300 مليون دولار لقطاع الكهرباء والبنية التحتية.

وقد اطلعت “المجلة” على وثيقة أعدها “البرنامج الإنمائي”، تفيد بأن ملف الأصول والأموال السورية المجمدة في المصارف الأوروبية يُعد من أعقد التحديات المالية في المشهد الانتقالي.

ومنذ فرض عقوبات أوروبية على النظام السابق بعد 2011، قالت وثيقة “البرنامج الإنمائي” إن هناك أصولا تابعة للدولة السورية وشخصياتها في الخارج، تقدر بحوالي نصف مليار دولار (500 مليون دولار أميركي)، ظلت مجمدة بموجب العقوبات الدولية. وتقترح الوثيقة أن “يلعب البرنامج” دور الوسيط والميسر بين الجهات السورية والدولية لحل هذه المعضلة، بالتنسيق مع  مصرف سوريا المركزي.

وبين المقترحات “إنشاء آلية مؤسسية عبر المنظومة الأممية، أي “البرنامج الإنمائي”، بهدف استثمار هذه الأصول المجمدة في تمويل مشاريع تنموية وإعادة إعمار في سوريا بدلا من الإفراج المباشر عنها لحساب الدولة السورية”، ذلك لأن الدول المانحة تبدي “حذرا من تسليم الأموال المجمدة للسلطات السورية مباشرة بسبب تعقيدات قانونية وسياسية تتعلق بشرعية هذه الأصول وإمكانية تعرضها لسوء الاستخدام”.

وقال دبلوماسي غربي، إن “الأموال ملك الدولة السورية ويمكن التصرف فيها دون وسيط، مما سيزيد من الأعباء المالية في صرفها وتمويل المشاريع في البلاد”.

وفي عضون ذلك، وضعت الأمم المتحدة السيناريوهات القانونية والمؤسسية اللازمة لأي تحرك في هذا الملف. ويشمل ذلك تقديم المشورة لمصرف سوريا المركزي، الذي تسلمه قبل أيام الخبير عبدالقادر حصرية، حول السبل القانونية للمطالبة بهذه الأصول أو الاستفادة منها وفق القوانين الدولية، وضمان الشفافية والتوافق مع قرارات العقوبات.

العلم السوري يرفع في نيويورك

يتوجه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى نيويورك آخر الأسبوع، ويتضمن برنامجه رفع العلم السوري في مقرات الأمم المتحدة وحضور جلسات لمجلس الأمن سواء لدى إلقاء المبعوث الأممي غير بيدرسون إفادته في 25 أبريل/نيسان أو لدى جلسة عن حال الشرق الأوسط في 29 أبريل. ومن المقرر أن يشارك وزراء خارجية بينهم الفرنسي جان نويل باروفي هذه الاجتماعات.

تأتي هذه الزيارة بعد أن خفضت الخارجية الأميركية مستوى تأشيرات الوفد السوري في نيويورك، ليصبح ممثلا لحكومة “لا تعترف بها الحكومة الأميركية”، وهو إجراء لم تقم به واشنطن خلال مرحلة نظام الأسد في العقد الأخير.

اتجاهان في أميركا

بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول، فتحت دول عربية وأوروبية علاقات مع الحكم الجديد والرئيس أحمد الشرع، فيما اتبعت واشنطن أسلوبا حذرا، إذ التقت مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، أحمد الشرع في دمشق، كما ألغت واشنطن الجائزة المالية التي كانت مخصصة لمعلومات عنه وقيمتها عشرة ملايين دولار.

في موازاة ذلك، حصل تعاون أمني وتبادل معلومات في مجال مكافحة الإرهاب، إذ زودت واشنطن دمشق بمعلومات أدت إلى إحباط ثمانية عمليات إرهابية على الأقل. كما بعث الرئيس الشرع برقية تهنئة إلى ترمب لدى فوزه بالرئاسة. وقال الشرع في رسالة باللغة الإنكليزية: “نحن على ثقة بأنه القائد الذي سيجلب السلام إلى الشرق الأوسط ويعيد الاستقرار إلى المنطقة”. وتابع: “نتطلع إلى تحسين العلاقات بين البلدين بناء على الحوار والتفاهم”، وأنه في عهد الإدارة الأميركية الجديدة “ستستفيد الولايات المتحدة وسوريا من الفرصة لإقامة شراكة تعكس تطلعات البلدين”.

لكن الإدارة الأميركية تغيرت، واتبعت نهجا أكثر حذرا، وسط نصائح من دول عربية عدة لواشنطن باتباع نهج أكثر انفتاحا مع سوريا. ويجري العمل داخليا لصوغ سياسة أميركية متكاملة عن سوريا بمشاركة جميع المؤسسات الأميركية. ومن المتوقع أن يتسلم جول روبرن، الموقع الأبرز في الخارجية بالإشراف على الملف السوري. واستقبل الشرع عضو الكونغرس الأميركي كوري لي ميلز في قصر الشعب بالعاصمة دمشق، في أول زيارة من نوعها منذ تسلم الحكم الجديد. كما التقى وزير الخارجية أسعد الشيباني ميلز، “حيث جرى بحث الوضعين الأمني والاقتصادي في سوريا، وآفاق بناء شراكة استراتيجية بين دمشق وواشنطن على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة”. كما تناول اللقاء “التهديدات المشتركة التي تواجه البلدين والمنطقة، بما فيها الميليشيات العابرة للحدود وانتشار المخدرات والجريمة المنظمة” و “أثر العقوبات الأميركية أحادية الجانب المفروضة على سوريا، حيث أكد الجانب السوري على ضرورة رفع هذه الإجراءات غير القانونية كخطوة أساسية نحو بناء الثقة والانخراط في مسارات تعاون بناء”، بحسب بيان رسمي.

وحسب قول مسؤولين لـ”المجلة”، هناك اتجاهان في الادارة الأميركية: الأول، يمثله مسؤولون في مجلس الأمن القومي ومديرة المخابرات تولسي غابارد، ومدير قسم مكافحة الإرهاب سباستيان كورغا، وهما يرفضان أي انخراط مع الحكم السوري الجديد وينظران إلى شخصيات فيه من باب قرار مجلس الأمن بتصنيف “هيئة تحرير الشام” ومسؤولين فيها وتصنيف واشنطن لهم في قائمة التنظيمات الإرهابية. الثاني، يمثله وزير الخارجية ماركو روبيو ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، الذي يقوم على الانخراط المشروط، مقدرين الدور الكبير للنظام السوري الجديد بإضعاف إيران استراتيجيا في الشرق الأوسط.

ثمانية مطالب أميركية

بناء على ذلك، صاغ ممثلو الإدارة السابقة والمقبلة وثيقة مطالب قدمتها الدبلوماسية فرانشيسكا إلى الشيباني في بروكسل شهر مارس/آذار الماضي، وتضمنت ثمانية مطالب لـ”بناء الثقة” وخطوات مقابلة يمكن أن تقوم بها واشنطن. وحسب الوثيقة التي اطلعت “المجلة” على مضمونها، فإنها تتضمن: تشكيل جيش مهني وعدم وضع المقاتلين الأجانب في مناصب قيادية حساسة، والوصول إلى جميع منشآت السلاح الكيماوي والبرنامج الخاص به، وتشكيل لجنة للمفقودين الأميركيين بينهم الصحافي آستون تايس، وتسلم عائلات “الدواعش” من معسكر الهول الواقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” شمال شرقي سوريا، والتزام علني بالتعاون مع التحالف الدولي في محاربة “داعش”، والسماح لأميركا بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب على الأراضي السورية ضد أي شخص تعتبره واشنطن تهديدا للأمن القومي، و”إصدار إعلان رسمي عام يحظر جميع الميليشيات الفلسطينية والأنشطة السياسية” في سوريا، وترحيل أعضائها “لتهدئة المخاوف الإسرائيلية”، ومنع تموضع إيران وتصنيف كل من  “الحرس الثوري” و “حزب الله” تنظيما إرهابيا.

ولم تتضمن القائمة مطلبا يتعلق بتشكيل “حكومة جامعة” أو أمورا ملموسة تتعلق بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان والإصلاح الدستوري والعملية السياسية، لكنها ذكرت في إطار الإضافات وليس البنود التنفيذية. ووعدت الوثيقة في المقابل بتخفيف العقوبات وتمديدها الإعفاءات لدى انتهاء مدة الستة أشهر في يوليو/تموز المقبل بعد إعلان قرار الإعفاءات في 6 يناير/كانون الثاني الماضي. وهناك من وعد بأنه في حال تحقق التقدم في المطالب، يمكن أن يصدر الرئيس دونالد ترمب قرارا تنفيذيا بتجميد “قانون قيصر” لفترة معينة، وهو القانون الذي يشكل العقبة الأساسية أمام تحرك الاقتصاد السوري وتقديم مساعدات خارجية.

رد دمشق… تعاون وتحفظ

قراءة دمشق الأولية للورقة/الرسالة، كانت مخيبة للآمال، خصوصا أنها تضمنت بنودا تخص السيادة السورية، ووجدت صعوبة في “هضم” هذه المطالب رغم نصائح جاءت لدمشق من أطراف عدة، خصوصا ما يتعلق بحظر “النشاط السياسي” للفصائل و”ملاحقة شخصيات” وحرية تحرك قوات التحالف داخل الأراضي السورية.

وبعثت الخارجية السورية نهاية الأسبوع الماضي، ردا خطيا تتضمن خطواتها وتحفظاتها على بعض المطالب إلى واشنطن التي عكفت على دراستها. ويعتقد مسؤولون غربيون أن دمشق حققت سلفا الكثير من الخطوات الخاصة بالسلاح الكيماوي.

وكان الشرع قد استقبل وفدا من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية برئاسة فرناندو أرياس المدير العام للمنظمة في فبراير/شباط الماضي، وذلك في أول زيارة رسمية يقوم بها لدمشق منذ الإطاحة بالأسدالمتهم باستخدام أسلحة كيماوية خلال النزاع.

وقال أرياس إن اجتماعات وفد المنظمة في دمشق تمهد لغلق ملف الأسلحة الكيماوية السوري نهائيا، معتبرا أن زيارته لدمشق تشكل فرصة “لانطلاقة جديدة” وطي صفحة هذا الملف بعد تأزم استمر سنوات في عهد الأسد. وكشفت “حظر الأسلحة الكيماوية” عن تقديرات تشير إلى وجود ما يزيد على 100 موقع يُحتمل، أن تكون مرتبطة ببرنامج الأسلحة في سوريا، اكتُشفت عقب انهيار حكم الأسد.

كما اتخذت دمشق خطوات بينها منع نشاطات الفصائل الفلسطينية المسلحة ومحاربة “داعش” وتحسين علاقتها مع “قوات سوريا الديمقراطية” حليفة واشنطن.

وكان الشرع قد وقع اتفاقا مع قائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي الذي جاء مرتين إلى دمشق على متن مروحية أميركية. واتخذت خطوات عدة لتنفيذ ورقة مبادئ وقعت في دمشق يوم 10 مارس الماضي. وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها تعتزم خفض عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في سوريا إلى أقل من ألف جندي تقريبا في الأشهر المقبلة.وأفادت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الجيش الأميركي بدأ في سحب مئات الجنود من شمال سوريا، ويستعد لإغلاق 3 من أصل 8 قواعد عسكرية في المنطقة.

وفي موازاة تنفيذ اتفاق الشرع مع عبدي، هناك وقف إطلاق نار بين “قوات سوريا الديمقراطية” وتركيا في شمال شرقي سوريا، بالتزامن مع حديث واشنطن عن خفض قواتها.

المجلة

——————————————

سوريا ميدان النفوذ.. انكفاء واشنطن وتمدد أنقرة وقلق تل أبيب/ عبد الله مكسور

2025.04.21

“الفراغ في السياسة كما في الطبيعة، لا يلبث أن يُملأ، وغالبًا ما تملأه القوى الأكثر استعدادًا لا الأكثر شرعية.”، أتذكر هذا القول لنيكولا ميكافيللي وأمامي ترتسم الجغرافيا السورية بحدود سايكس بيكو الاستعمارية التي نعرفها، وفيها وعليها ترنُّ صدى الخُطى المتسارعة للقوى الإقليمية والدولية، لتتشكّل خارطة جديدة، تُرسم لا بالحدود بل بالقواعد العسكرية، ولا بالحكومات بل بمراكز السيطرة. سوريا التي مرَّت بسنوات عجاف تحت حكم نظام الأسد، تحوّلت بعد 8 ديسمبر 2024 إلى قلب معركة النفوذ- بشكل أو بآخر- بين تركيا وإسرائيل، في ظل انكفاء أميركي متدرّج، وغياب سوري موجع عن طاولة القرار.

سوريا اليوم في ظرفها الحالي ليست “دولة” بالمعنى التقليدي، بل ميدان، لا تُدار فيه النزاعات فحسب، بل تُختبر فيه الرؤى الكبرى لإعادة توزيع السلطة في الشرق الأوسط. واللافت أن الانسحاب الأميركي المرتقب ليس مجرد خطوة عسكرية، بل إعلان ضمني بانتهاء مرحلة وبدء أخرى، قوامها التفاهم التركي–الإسرائيلي الخفي، والمراهنة الروسية الباردة، ومحاولات سورية محلية لبناء دولة من ركام النظام القديم وعلى أنقاضه.

منذ سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر 2024، بدأت توازنات ما بعد الحرب تنقلب على رأسها وتظهر بشكل أكثر وضوحا. القوى التي ظلت لعقد كامل—تراقب، تُفاوض، تُناور—وجدت نفسها فجأة أمام فرصة تاريخية لتوسيع نفوذها وفرض رؤيتها للمنطقة. تركيا، التي لطالما نظرت إلى الشمال السوري باعتباره عمقًا استراتيجيًا للأمن القومي، اندفعت بثقة نحو ما بعد خطوط الفصل، مستندةً إلى تفويض سياسي غير معلن جرى في كواليس باكو بين أنقرة وتل أبيب، وتحت رعاية موسكو غير المعلنة وغير الحاضرة رسمياً في أذربيجان.

في المقابل، لم تُخفِ إسرائيل قلقها، لكنها لم تواجهه بالصوت، بل بالتفاهم. فمع وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مجددًا، عاد منطق “الصفقات الكبرى” ليحكم السياسة الخارجية الأميركية، لا منطق “الالتزام طويل الأمد”. ترمب، الذي لا يرى في سوريا إلا ساحة عبء، اختار أن يُفرغها من الجنود لا من النفوذ، وأن يُسلّم أوراقها لحلفاء موثوقين، قادرين على إدارة مصالح واشنطن بأدوات إقليمية. وهكذا، وُلدت تفاهمات أذربيجان، بحسب ما تسرّب منها، مساحة عازلة لأنقرة، ومجال مراقبة آمن لتل أبيب، في مقابل انسحاب تكتيكي أميركي يُبقي اليد على الزناد حتى من دون أن يظهر.

لكن هذه الترتيبات لا تلغي الحقيقة المرّة: أن سوريا باتت اليوم مسرحًا لفائض القوة التركية، وهاجسًا أمنيًا دائمًا لتل أبيب، وحقل اختبار لمدى قدرة الروس على ملء الفراغ الأميركي من دون التورط في مستنقع جديد. فأنقرة تتحرك بثقة القوة الناعمة والصلبة معًا، من التعليم إلى الإدارة المحلية، ومن النفوذ العسكري إلى الشبكات الاقتصادية، في حين إسرائيل تراقب وتتدخل حين يلزم وفقا لمنطق اللزوم لديها، وتعيد تموضعها البري والجوي والاستخباراتي بما يتناسب مع ديناميكيات مرحلة ما بعد الأسد.

أما واشنطن، فرغم انسحابها المعلن، لا تزال تمسك بالخيوط الطويلة: تدفقات السلاح، نظم الرقابة الجوية، المنصات النفطية، وقنوات القرار الكردي. فهي تُغادر ولكن لا ترحل، وتسمح للآخرين بلعب الدور، لكنها تبقى المرجع الأعلى لمعادلات الأمن. هكذا، يتشكّل ميدان جديد في سوريا، ميدان بلا سيادة، بلا مركز، حيث تتزاحم الوصايات وتتماهى التحالفات. مشهدٌ يشبه رقعة شطرنج، لكنّ اللاعبين ليسوا متقابلين، بل متداخلين، وكلٌ منهم يمسك قطعةً من اللعبة، يحرّكها وفق منطقٍ لا يُقال أو يُعلَن، بل يُفهم من خريطة النفوذ. وكأننا ضمن مشهد في رواية “لاعب الشطرنج” لستيفان زفايغ على متن سفينة تمخر البحر في أميركا اللاتينية.

واشنطن تُغادر… لكنها لا ترحل

في الأدبيات العسكرية الأميركية تتردد الجملة التالية بشكل غير معلن: “الانسحاب لا يعني الرحيل، بل إعادة التموضع خلف الستار.”، فالحديث عن انسحاب أميركي من سوريا في أي مرحلة زمنية لم يكن يومًا حديث نهاية، بل إعلان عن تحول في نمط السيطرة. فواشنطن، التي دخلت الأراضي السورية في خريف 2014 تحت لافتة “التحالف الدولي لمحاربة داعش”، لم تكن تسعى إلى احتلال أرض، بل إلى احتلال قرار. والفرق بين الإثنين جوهري: فالأرض يمكن مغادرتها، أما القرار فالبقاء فيه يتخذ أشكالًا أكثر نعومةً وتأثيرًا. وعند التدقيق في طبيعة التمركز الأميركي في سوريا خلال العقد الأخير – رغم شح المعلومات عن عدد وحقيقة القواعد الأميركية في الأراضي السورية-، يتضح أنه كان أقرب إلى “الاحتلال الذكي” منه إلى الاحتلال التقليدي. ففي الشمال الشرقي، من رميلان إلى الحسكة، ومن الشدادي إلى التنف، أقامت الولايات المتحدة منظومة من القواعد العسكرية التي لا تتمدد أفقيًا بل عموديًا: تحت الأرض وفي السماء، ضمن قواعد قواعد اشتباك دقيقة، مفصّلة، ومتغيرة بحسب اللحظة السياسية والإقليمية. وبخلاف الرواية الرسمية التي أُطلقت عام 2014، بتركيز على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، فإن القواعد الأميركية في سوريا أُقيمت لأسباب استراتيجية تتجاوز ذلك التهديد العابر. فقد أدركت واشنطن منذ سنوات الفوضى الأولى أن سوريا ليست مجرد ساحة حرب، بل معبر ومفترق وملتقى. هي نقطة التقاء بين خطوط إمداد إيران إلى حزب الله، وبين الحدود الحساسة لإسرائيل، وبين الجغرافيا العميقة التي تمتد إلى الأنبار العراقية ومايليها حيث يتعاظم النفوذ الإيراني منذ عام 2003.

لهذا، كانت قاعدة “التنف” نموذجًا صارخًا لجوهر العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة: قواعد صغيرة، مرنة، بلا مظاهر كبيرة، لكن ذات فعالية استخباراتية عالية، ومتموضعة على نقاط الخطر. التنف، الواقعة على مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، لم تكن قاعدة لمحاربة تنظيم الدولة فقط، بل لمراقبة التحركات الإيرانية بدقة، ولمنع الربط البري بين طهران وبيروت. كانت عين واشنطن على طريق الحرير الإيراني الجديد، وليس فقط على مقاتلي التنظيم المهزوم. وقد ساقتني الأقدار إلى لقاء مع ضابط خدم في التنف وقد أسرَّ لي عن استخدام القاعدة في مرحلة ما كسجن مؤقت لعناصر من تنظيم داعش قبل نقلهم إلى وجهات غير معلومة.

قواعد الاشتباك: جيوش تحت الوصاية

منذ اللحظة الأولى، لم تكتفِ واشنطن بتثبيت مواقع عسكرية، بل أسّست لشكل غير معلن من قواعد الاشتباك بين جميع القوى الفاعلة في الميدان السوري. فعبر دعمها لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، تمكنت من خلق جيش محلي بالوكالة، تديره بأدوات التمويل والتدريب، وتتحكم عبره بمساحات شاسعة من شمال شرقي سوريا، وهذا ليس خافياً على أحد. لكن الدعم الأميركي لم يكن مطلقًا. بل جاء مشروطًا بخضوع هذا “الجيش الوكيل” لشبكة من التعليمات، تبدأ بحدود التحرك، ولا تنتهي بقوائم الأهداف. كانت قسد تعرف أن إطلاق رصاصة واحدة خارج التنسيق مع الأميركيين قد يُفقدها الدعم، وأن التحرك تجاه الحدود التركية أو الاقتراب من مناطق جيش نظام الأسد قد يُدخلها في عاصفة مع واشنطن.

ولعل أخطر ما كرّسته هذه العلاقة هو تعويم مفهوم “السيادة المنقوصة” في مناطق قسد، حيث بات القرار المحلي مشروطًا بإرادة القاعدة العسكرية القريبة، وتحديدًا تلك المنتشرة في رميلان والمالكية وشرقي دير الزور. وضمن منطق ضبط إيقاع الحرب والسلام لم تكن القواعد الأميركية معزولة، بل نسجت شبكة من العلاقات النشطة، إن لم نقل المُهيمنة، مع الفاعلين الإقليميين. مع تركيا، حافظت واشنطن على توازن هش، من خلال إرسال تطمينات استخباراتية، ومحاولة ضبط اندفاعات أنقرة نحو العمق السوري.

في حين أخذت هذه القواعد مع إسرائيل، شكلاً آخر فقد كانت ركيزة لتبادل المعلومات في إطار ما يمكن أن يتم تعريفه بـ”الاحتواء الذكي لإيران”. إذ لطالما مثّلت القواعد الأميركية في شرقي سوريا نقاط إنذار مبكر لأي تحرك إيراني قد يستهدف الجولان أو غيره، وهو ما اعتمدت عليه تل أبيب في كثير من عملياتها الجوية التي نفّذتها داخل سوريا خلال العقد الأخير.

أما مع روسيا، فكانت العلاقة أكثر تعقيدًا. فرغم العداء الظاهر، جرت تفاهمات تحت الطاولة يمكن تلمُّسها من اتفاق “عدم التصادم الجوي”، الذي قنن حركة الطائرات في سماء سوريا، وفصل مناطق السيطرة الأميركية عن تلك الروسية. هذه التفاهمات أوجدت نوعًا من “الهدنة الدائمة” بين القوتين، لكنها في الوقت نفسه ثبّتت حالة الانقسام الجغرافي لسوريا.

السؤال الجوهري الآن لماذا تُعلن واشنطن اليوم نيتها الرحيل؟ وهل هو فعلاً انسحاب، أم إعادة توزيع للقوة؟ المتابع يدرك أن الانسحاب لا يأتي من فراغ، بل من قراءة أميركية لتغير قواعد اللعبة. فسقوط النظام السوري في ديسمبر 2024 أنهى توازنًا هشًا استمر لأكثر من عقد، وفتح الباب أمام فاعلين جدد – لا سيما تركيا – لملء الفراغ. كما أن تراجع التهديد الإيراني المباشر في الشرق قلّص مبررات البقاء العسكري الأميركي. إلى ذلك، هناك بُعد داخلي أميركي لا يُستهان به، وهذا يتمثل بالشارع الأميركي الذي لم يعد يتحمل وجود قواته في مناطق بلا أفق سياسي واضح، والنخبة السياسية التي ترى في الانسحاب “استثمارًا مقلوبًا” يقوم على الإنفاق المتزايد مقابل المكاسب السياسية المحدودة.

لكن هل ترحل واشنطن فعلاً؟ هنا يكمن جوهر المعادلة. الولايات المتحدة قد تسحب جنودها، لكنها لن تسحب نفوذها. فالمعسكرات التي تركتها وراءها درّبت أجيالًا من القادة المحليين، وغرست ثقافة القرار المؤسسي وفق الرؤية الأميركية. كما أن البنى الاستخباراتية التي بُنيت خلال السنوات العشر الماضية قادرة على البقاء من دون علم ظاهر. لقد أتقنت واشنطن وفق ما تعلمناه عنها  لعبة “الوجود الغائب”: لا قواعد كبرى، لا أعلام، لا بيانات نارية، بل أدوات تحكم عن بُعد. كما لو أنها تُعيد إنتاج استعمار القرن الحادي والعشرين بنسخته الناعمة: تقنيات، شبكات، وكلاء… من دون الحاجة لدبابات أو جندي تقليدي يقف في الشارع. وفي ظل هذا النمط الجديد، قد يكون انسحاب واشنطن من سوريا أكبر دليل على استمرارها فيها. ذلك أن القوة الحقيقية، كما قال ميشال فوكو، لا تُقاس بوجود السلاح، بل بقدرة من يملك السلاح على فرض صمته في اللحظة المناسبة.

تركيا: من بوابة الحدود إلى قلب البادية

دخلت تركيا إلى شمالي سوريا تحت شعار مكافحة الإرهاب. لكن اليوم، بعد ديسمبر 2024، دخلت إلى قلب البلاد، من تدمر إلى البادية إلى مطار حماة، تحت شعار “إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية”. هذه ليست عملية أمنية بالمعنى التقليدي، بل مشروع نفوذ، يمكن مقاربته مع ما فعله العثمانيون في نهاية القرن التاسع عشر حين أنشأوا “قائمقاميات أمنية” في أطراف المشرق لضمان السيطرة على المركزـ مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات والمعاني والدلالات. فما يتم الحديث عنه اليوم بأن تركيا  لا تبني مجرد قواعد عسكرية، بل بنية تحتية لنفوذ يبدو أنه طويل الأمد: نقاط مراقبة تحوّلت إلى معسكرات، ومعسكرات باتت تضم مراكز تدريب، ومراكز التدريب أصبحت مختبرًا يسهم بشكل أو بآخر بآليات إنتاج جيش سوري جديد، هذه القواعد لا تقوم على حدود الاشتباك بل على فلسفة التموضع، فكل قاعدة يتم الإشارة للتحضير لها في تدمر أو في محيط السخنة أو شرقي حماة ليست موضع تمركز عسكري فحسب، بل نقطة تَمثّل سياسي وتَوسّع مؤسسي، من خلالها تُصدّر أنقرة نسختها من الدولة “المنضبطة” التي تريد في سوريا، بما تحمله من مركزية وشبكات خدمات. وهكذا يجب فهمها والتعامل معها.

يمكن التوقف هنا عند تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، خلال منتدى أنطاليا في فبراير 2025، والتي كانت أشبه ببيان تأسيسي لمرحلة جديدة. حيث قال: “تركيا ليست قوة احتلال، بل قوة استقرار. نحن لا ندخل الفراغ، بل نملؤه بأدوات البناء”، وهو بذلك لا يعبّر عن تحوّل في خطاب أنقرة فقط، بل عن نقلة في العقيدة التركية نفسها تجاه سوريا، عقيدة جديدة تنتقل من الحماية إلى الشراكة، ومن الأمن إلى الإدارة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزّز هذا التوجّه في خطابٍ وُصف بأنه “تاريخي”، حين قال: “نقف إلى جانب سوريا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وسنُسهم في إعادة بناء مؤسساتها بما يخدم وحدة ترابها وكرامة شعبها.” لكن ما لم يُقال، وما يُفهم بين السطور، هو أن “سوريا” هنا لم تعد الدولة بل المساحة، ولم تعد العلاقة التي تحكمها أخوّة الجغرافيا ومنطق المهاجرين والأنصار بل ضرورات التمركز الاستراتيجي الذي دفع أردوغان للقول بأن من يسعى إلى تقسيم سوريا عليه أن يواجه تركيا ذاتها.

في العمق من كل هذا، تسعى تركيا إلى صياغة واقع جديد على الأرض، يتجاوز فكرة “المنطقة الآمنة” التقليدية إلى “المجال الآمن الموسّع” الذي يمتد من اعزاز والباب بريف حلب، إلى الرقة ودير الزور، وصولًا إلى تدمر وخطوط البادية. ففي المحصلة لا تخفي تركيا أنها تتطلع لأن تكون القوة المرجعية في “سوريا الجديدة”، مستندةً إلى مقاربة هجينة تجمع بين القوّة الخشنة والناعمة، وبين السيادة المفككة والشرعية المتفاوض عليها. هي تُنشئ قواعد، لكنها تتحدّث عن المدارس، وتُسيّر أرتالًا عسكرية نشاهد صورها لكنها تدشّن شبكات مياه وكهرباء، وتبني ما تصفه بـ”العمق الاستراتيجي الاجتماعي”، كما ورد في أحد تقارير مراكز الدراسات الأمنية التركية. وهكذا، تمضي تركيا في مشروعها: لا كمجرّد لاعب عسكري، بل كفاعل سياسي يعمل على إعادة صياغة المركز من الأطراف، وفرض إيقاع تركي في قلب بلاد الشام، بحجّة إعادة البناء، وبهدف إعادة التموضع. والمفارقة أن هذا “التموضع” لا يصطدم فقط بإسرائيل أو بواشنطن، بل حتى بما تبقّى من “الدولة السورية” ذاتها في المستقبل القريب.

 إسرائيل.. الخوف من حليف الأمس

إسرائيل التي كانت تُجاهر علنًا بعدائها لإيران، بدأت تهمس بقلقها من تركيا. القواعد التركية المزمع إقامتها في حماة وتدمر تمثّل، وفق المعنى الذي تسرَّب عن وصف جنرال إسرائيلي في محادثات باكو، “خطرًا غير مباشر لكنه أكثر ذكاءً”. فتركيا تبني جيشًا سوريًا لا يمكن التنبؤ بمآلاته، وتزرع أعينًا إلكترونية – من الرادارات والطائرات المسيّرة – على بُعد لا يتجاوز 500 كم  من الجولان المحتل. فالقلق الإسرائيلي من أنقرة لا يتأتى هنا فقط من هذه الزاوية، بل من كفاءة هذا الوجود. فتل أبيب ترى في أنقرة منافسًا أمنيًا من نوع جديد “منافس لا يُشهر سلاحه، لكنه ينسج خرائط الولاء بهدوء”.  وما التفاهمات التي جرت في أذربيجان سوى محاولة لتقنين هذا القلق، عبر إقامة “آلية تفادي الصِدام”، شبيهة بتلك التي أُبرمت مع الروس عام 2015.

في تقديري أن إسرائيل تشعر بوجود تركيا أنها أمام قوة ذات طابع إمبراطوري ناعم تستند إلى العاطفة، هذه القوة لا تسعى إلى الاجتياح بل لإعادة تدوير الهويات. وهذا يُشكّل خطرًا بنيويًا على فلسفة الردع الإسرائيلي التي بُنيت منذ حرب أكتوبر 1973 على فكرة: “السيطرة من الجو، والتفتيت على الأرض. ووفق قراءات استراتيجية فإن” تركيا تُقوّض هذه المعادلة من خلال السعي إلى توحيد الأرض السورية جزئيًا، تحت مظلة مرجعية تركية سواء كانت حاضرة أم غير حاضرة، تحاكي تجربة الباكستان مع أفغانستان في الثمانينيات، أو إيران مع “محور المقاومة” خلال العقدين الماضيين.

ثمّة قلق أعمق يراود المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل، وهو أن الحليف الأميركي الذي كان يتولى “تنظيم المسرح السوري” لصالح تل أبيب، قد تراجع إلى خلف الستار، مفسحًا المجال أمام لاعبين أكثر مرونة، وأكثر شراسة على المدى الطويل. هنا، يظهر “التهديد التركي” ليس في القوة النارية، بل في القدرة على البناء المتراكم، في الزمن. إسرائيل تجيد الاشتباك مع عدو واضح، وتَربكها خصومة بطيئة تتقدّم بالطبقات والمساحة الاجتماعية لا بالصواريخ. والأخطر من كل ذلك، هو أن تركيا لا تُرسل رسائل مباشرة، بل تعمل بصمت، وتراهن على أن رد الفعل الإسرائيلي سيكون محكومًا بالعجز الاستراتيجي وضبط الولايات المتحدة، فإسرائيل لا تستطيع ضرب أو استهداف قواعد تركية معلنة في تدمر أو غيرها من دون المجازفة بتفجير العلاقة مع الناتو، ولا تقدر على منع إنشاء شبكات النفوذ التركية داخل سوريا، لأن هذه الشبكات لا تُبنى بالدبابات، بل بالمنظمات غير الحكومية، والمناهج، والتدريب، والمياه، وربما بالرعاية الأوروبية والأميركية نفسها. لهذا يفكِّر العقل الإسرائيلي دائماً بوصف التمدد التركي بأنه الخصم الذي لا يحمل لافتة. وهو توصيف دقيق يعكس مأزقًا فكريًا يحمل التناقض في الطرح داخل العقل الإسرائيلي، فهل أنقرة حليف في الإقليم ضد طهران؟ أم منافس سري على النفوذ في سوريا؟ وهل يمكن الوثوق بمن يمدّ لك اليد في البحر المتوسط ويرمي عينه على البادية السورية؟

أمام هذه الأرضية يأتي الانكفاء الأميركي بعد ديسمبر 2024، وعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهذا ما زاد من اضطراب البوصلة الإسرائيلية. فالإدارة الجديدة في واشنطن أكثر انشغالًا بالصين والرسوم الجمركية وحدود المكسيك واللاجئين وبإعادة ترتيب البيت الداخلي، وأقلّ حماسًا لاستمرار دعم الخرائط الأمنية في المشرق. ترمب، براغماتيًا، لا يرى في الوجود التركي خطرًا، ظهر هذا جلياً فيما تسرَّب عن المحادثة الهاتفية بين ترمب أردوغان، ترمب يقول لأردوغان لقد أخذت سوريا، لقد فعلتها، وبهذا المنطق الترمبي يجد الأميركي غطاءً وفرصة لتقليص كلفة التورط الأميركي. لكن تل أبيب لا تشارك البيت الأبيض هذا الاطمئنان، هي لا تقرأ التحالفات بمصطلحات الميزانيات المالية وفق حسابات ترمب، بل بمفردات الوجود والنفوذ والذاكرة التاريخية والسردية الصهيونية.

ولهذا، بدأت إسرائيل تتحرّك على مستويات جديدة: تعزيز التنسيق الأمني مع اليونان وقبرص، فتح خطوط تواصل غير معلنة مع بعض المناطق في جنوبي سوريا، وتكثيف مراقبة البادية بالأقمار الاصطناعية، وحتى وصل بها الحال إلى تقديم مقترحات لنشر “قوات رمزية” أممية في بعض مناطق التماس مع إعلانها انهيار اتفاقية فض الاشتباك الموقعة مع سوريا عام 1974. كل ذلك في محاولة لتثبيت وزنها في معادلة تزداد تسيّبًا، وتبتعد أكثر فأكثر عن الترسيم القديم لما يُسمّى بـ”سوريا المفيدة لإسرائيل”.، فتل أبيب  تخاف من أن تستيقظ ذات يوم، وتجد أن سوريا لم تَعُد ساحة فوضى بل ساحة نفوذ مركّز، تُديرها أنقرة بهدوء، وتُراقبها موسكو ببرود، وتنسحب منها واشنطن بصمت.

باكو: منصة التفاهمات الجديدة

في مكان يمكن وصفه بالساحة غير الرسمية للتفاهمات المعقدة، جلس مسؤولون أتراك وإسرائيليون في أذربيجان، وهذا اللقاء ليس مجرد حدث عابر في منطق الأحداث في سوريا، فما تسرَّب عن محادثات أو مفاوضات أو اجتماع باكو يعني رسم خرائط جديدة للنفوذ، حيث تتقاطع مصالح الدول التي قد تظهر علنًا على خلاف، ولكنها تتفق في الخفاء على خطوط الاشتباك، والحديث هنا عن الطيران ومسارات الدوريات، ونقاط التحرك التي تبقى غير معلنة. هذه ليست مجرد محادثات دبلوماسية تقليدية، بل محاولات لتشكيل معادلات جديدة للأمن والنفوذ في المنطقة. الآلية التي سُمّيت بـ “تفادي التصادم” لم تكن في جوهرها سوى مقدمة لتفاهمات أعمق بكثير، تتجاوز الإطار الظاهر لتدخل في مفاوضات غير مرئية حول “من يسيطر على ماذا”، وما هي التنازلات التي يتم قبولها في إطار لعبة السلطة الإقليمية. وكما غابت سوريا عن الاجتماعات المتعلقة بمستقبلها في أنطاليا غابت عن اجتماع باكو، حتى لم يصدر من الدولة السورية الجديدة أي موقف مهما كان مستواه تجاه اللقاء والتفاهمات. لقد غابت دمشق عن الطاولة، رغم أن مصيرها هو المعني الأول بهذه التوافقات. تحضرني الآن تلك اللحظة التي نوقشت فيها جغرافيا الشرق الأوسط وتحولت إلى خرائط في بداية القرن العشرين، كنا غائبين والغياب فرض أن يرسم الحاضر ما يتصل بنا وبمستقبلنا الذي نعيش اليوم.

روسيا أيضاً غابت عن باكو، لكن حضورها في سوريا يبدو اليوم مثل “ظل” إمبراطورية كانت ذات يوم صاحبة اليد الطولى. موسكو تراقب بقلق بالغ كل قاعدة تركية جديدة تُبنى على الأرض السورية، لكنها تجد نفسها في موقف  يمكن وضعه في خانة “العجز” أمام ضغوط أكبر تتعرض لها على جبهات أخرى، خاصة في أوكرانيا والعلاقة المعقدة مع حلف شمال الأطلسي. روسيا تدرك تمامًا أن أنقرة تتوسع في مناطق كانت حتى وقت قريب في دائرة النفوذ الروسي، ولكنها في الوقت نفسه لا تملك القدرة على ردعها بشكل حاسم في هذه المرحلة. ومع ذلك، تحافظ موسكو على “حق الاعتراض”.

في تصريحات له من أنطاليا، قال هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي: “نتشارك مع الروس الرؤية الأمنية في سوريا”. وهذه العبارة تبيّن أن التعاون بين أنقرة وموسكو ليس تحالفًا استراتيجيًا بالمعنى التقليدي، بل هو تحالف مصلحي يهدف إلى الحفاظ على حد أدنى من التوازن في المنطقة. روسيا قد لا تتدخل بشكل مباشر في المواجهات التركية-الإسرائيلية – فيما لو حدثت- على الأرض السورية، ولكنها تظل حاضرة بشكل غير مرئي، تراقب عن كثب كل تحرك قد يهدد مصالحها في المدى الطويل، وربما اختيار باكو لمسرح الظل في اللقاء الإسرائيلي التركي لم يكن بعيداً عن المظلة الروسية الحاضرة الغائبة لما تربط موسكو مع باكو من روابط.

سوريا: الغائب الحاضر

في قلب المعادلة السورية المعقدة اليوم، يغيب السؤال المركزي الذي كان يجب أن يكون في صدارة اهتمامات الجميع: ماذا عن سوريا نفسها؟ من يُمثّلها؟ من هو القادر على التفاوض باسمها؟ من يملك سلطة رسم حدودها، سياسياً وعسكرياً، سواء على الأرض أو في أروقة القوى الكبرى التي تتنازع النفوذ فيها؟

مع انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024، واجهت سوريا – وما تزال-  تحديات هائلة في تحديد هويتها السياسية الجديدة. الإدارة السورية الجديدة، التي تكونت بعد سقوط النظام، كانت في البداية مجرد حالة انتقالية تطرح رؤى مختلفة ومتناقضة تجاه القدرة على بناء مؤسسات قوية قادرة على إعادة استقرار الدولة. ورغم ذلك، فإن هذه الإدارة تعمل على تجاوز العثرات، إذ تجري – وفق ما يتسرب-  تفاهمات خفية مع أنقرة، وتراهن على الدعم الروسي، وتخطو ببطء نحو إعادة بناء الجيش الوطني السوري بعيداً عن عقيدة جيش الأسد الذي تحول إلى مجرد جماعات متمردة وشظايا من بقايا السلطة أو ما اصطلح عليه سوريا ” الفلول”. حتى سياسياً تحاول الإدارة الجديدة أن تمثّل حالة القطيعة مع مسار نظام الأسد، وهذا يظهر جلياً في إصرارها السياسي وإلحاحها على أنها دولة سلام تريد صفر مشكلات مع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل التي تحتل الجولان وتنفّذ توغّلات عسكرية وتوسِّع منطقتها العازلة، وتقصف في وضح النهار وظلام الليل ما تبقى من ترسانة عسكرية تتبع للدولة السورية، والصادم – وفق قراءات مختلفة- أن بيانات وزارة الخارجية السورية خرجت عن كل الثوابت السورية حين لم تصف إسرائيل بالاحتلال أو العدو أو الكيان وفق الأدبيات السورية منذ النكبة الفلسطينية.

وبالرغم من كل ما سبق إذا كانت الإدارة السورية الجديدة  قادرة على جمع خيوط القرار الأمني في يد واحدة، فإننا قد نكون أمام مرحلة جديدة في تشكيل سوريا، مرحلة يتم فيها بناء جيش وطني جديد يحاكي النموذج التركي، مع إعادة تشكيل الولاء والعقيدة العسكرية بما يتماشى مع المتغيرات الجيوسياسية الحالية. هذه المرحلة لن تكون سهلة، لأن نجاحها يتطلب توافقًا سياسيًا داخليًا عالياً يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية العميقة التي أسهم نظام الأسد في تفجيرها. ولكن، إذا نجحت سوريا الجديدة في إعادة بناء جيشها بشكل يتناسب مع التحديات الإقليمية، فإنها قد تنجح في تعزيز مكانتها في محيطها الجغرافي، إذا ما تم تضمين مبادئ من الاستقلالية العسكرية والتحكم الذاتي في قرارها الأمني.

من ناحية أخرى، فإن التفاهمات مع أنقرة، التي بدت أنها تؤتي ثمارها في الأشهر الأخيرة، تشير إلى تحول في العلاقات بين الطرفين، لا سيما في ظل التقارب الأمني التركي-السوري. تركيا تجد وتعتبر نفسها اليوم شريكًا ضروريًا للإدارة السورية الجديدة. لكن هذا التعاون لا يخلو من تحديات ومخاطر، خاصة في ظل حديث أنقرة عن إمكانية واحتمال تواجد دائم أو مؤقت على الأراضي السورية. ولا يخفى على أحد أن تركيا ترى في سوريا مجالاً لتثبيت نفوذها، وقد تتعامل مع هذه التفاهمات على أنها فرصة لتحقيق استراتيجيات أمنية تتجاوز محاربة “التنظيمات الإرهابية” لتصل إلى تعزيز قوتها في منطقة الشرق الأوسط.

أما روسيا، التي تعتبر اللاعب الرئيسي – سابقاً- في الملف السوري، فقد حافظت على وجودها العسكري والسياسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، أرسلت رسائل مختلفة للإدارة السورية الجديدة وتراقب اليوم عن كثب كل تحرك للقوات التركية داخل الأراضي السورية، خصوصًا في المناطق التي تشكل نقطة تلاقٍ بين المصالح التركية والإيرانية. ومع تراجع الاهتمام الأميركي، تزداد أهمية الدور الروسي، الذي يبقى عائقًا أمام أي محاولات تركية للتوسع في المناطق الحساسة مثل الساحل السوري.

في هذا السياق، إن المرحلة التي تمر بها سوريا تتطلب إعادة هيكلة عميقة وشاملة ليس فقط للدولة بل للوعي أيضاً. وإذا استطاعت الإدارة السورية الجديدة جمع هذه الخيوط المتناثرة، فإنها قد تكون على أعتاب تشكيل جيش وطني قادر على التفاعل مع جميع القوى الكبرى في المنطقة، سواء كانت تلك القوى عربية أو غير عربية. وهذا البناء العسكري الجديد لن يكون مجرد رد فعل على الضغوط الخارجية، بل سيكون جزءًا من رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء سوريا جديدة تكون أكثر تماسكًا وأقل عرضة للانقسامات الداخلية.

سوريا اليوم تُشبه لوحة جغرافية متباينة الأطراف، تبحث فيها قوى إقليمية ودولية عن مصالح متباينة قد تكون متناقضة أحيانًا، لكنها تتقاطع في تفاصيل النزاع. من الشمال التركي إلى الجنوب السوري، مرورًا بظل أميركي يتقلص يوماً بعد يوم، ورقابة روسية سلبية، تظل سوريا تمثل ساحة اختبار حية للمصالح الإقليمية والدولية. بين الأطماع الإيرانية، والتحركات العسكرية التركية، والتفوق الإسرائيلي الأمني، تظل سوريا أرضًا منقسمة أكثر من كونها دولة واحدة قابلة للحكم والسيطرة. ورغم هذه التحديات، فإن سوريا ليست مجرد ساحة اختبار، بل قد تصبح ميدانًا يمكن أن يُعيد تشكيل قوة الدولة إذا توفرت شروط معينة يعرفها جيداً أصحاب القرار.

التاريخ علمنا أن الميادين التي تتنازعها القوى الكبرى قد تُنتج كيانات جديدة قادرة على النهوض. ففي غياب الدور الأميركي الفاعل، وقدرة روسيا على تقديم نموذج متوازن يعزز استقرارًا داخليًا، لا يوجد من يملأ الفراغ في سوريا سوى من يملك القدرة على فرض إرادته على الأرض. ويبدو أن هذا هو ما سيحدث في الفترة القادمة، حيث قد يؤدي الانسحاب الأميركي التدريجي إلى انكشاف حقيقة أن القوى الفاعلة على الأرض هي التي تكتب مستقبل سوريا. وعلى الرغم من ذلك، تبقى سوريا اليوم في موقع متأرجح بين التطلعات الوطنية والضغط الإقليمي، بين محاولات بناء جيش سوري جديد وبين تقاطع مصالح القوى الأجنبية التي تسيطر على أجزاء من أراضيها. مع كل قاعدة تُبنى، ومع كل طائرة تحلق في سمائها، ومع كل صفقة تُعقد خارج حدودها، تُكتب صفحة جديدة في كتاب تاريخ سوريا الذي سنكون شهوداً عليه. وما نريد أن نشهد عليه حقاً هو أن تنجح الإدارة السورية الجديدة في فرض نفسها كمحور أساسي على طاولة التفاوض الإقليمية، وإعادة بناء الدولة السورية ككيان متماسك وفاعل من دون قواعد عسكرية أجنبية أو انتهاك للسيادة.

تلفزيون سوريا

——————————————

كوري ميلز لتلفزيون سوريا: سأنقل ما سمعته من الشرع إلى ترمب والكونغرس

2025.04.20

قال عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز، في تصريحات خاصة لتلفزيون سوريا، إنه أتى إلى سوريا “بقلب مفتوح وعقل مفتوح” من أجل استكشاف واقع البلاد وبحث آفاق إقامة علاقات جديدة معها.

وأضاف: “أردت أن أرى ما تعنيه سوريا الجديدة، الحرة، التي تضم مكونات متعددة من المسلمين والمسيحيين والعلويين واليهود”.

وأوضح ميلز أن زيارته جاءت للاطلاع على الوضع الأمني عن قرب، وبحث إمكانات بناء تحالفات قوية، والأهم من ذلك، بحسب قوله: “أن نرى كيف يمكننا أن نساعد الشعب السوري”.

وأردف: “شاهدت الناس في الأسواق والمتاجر، والابتسامات على وجوههم، من الجميل أن ترى ذلك في بلد تمزق بسبب الدكتاتورية والحرب وقصف نظام بشار الأسد”.

وتابع قائلاً: “رؤية هذه الابتسامات تدلّ على أن الناس يشعرون بأن عصراً جديداً قد بدأ، ويتطلعون إلى سوريا قوية ومستقرة”.

خطوات ما بعد العودة إلى أميركا

وفي ما يخص الخطوات المقبلة بعد انتهاء الزيارة، أكد ميلز أنه سيشارك نتائج زيارته مع رئيس الكونغرس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وقال: “سأنقل الرؤية التي شاركها معي الرئيس السوري ووزير الخارجية حول التحديثات في أنظمتهم، ورغبتهم في إعادة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، والتعليم، وبناء علاقات صحية مع دول الجوار، إلى جانب تمكين النساء في صلب العملية الحكومية”.

وأضاف: “هذه الرسائل سأنقلها إلى حكومة الولايات المتحدة الأميركية، وسنرى لاحقاً كيف يمكننا أن نُبقي باب الحوار مفتوحاً مع هذه الحكومة”.

ملف العقوبات الأميركية على سوريا

وبشأن موقفه من العقوبات الأميركية، قال ميلز: “أنا عضو في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وكذلك في لجان الشؤون العسكرية والأمن الداخلي. صحيح أن السياسات الخارجية والعقوبات بيد الرئيس الأميركي، لكن من خلال لقاءاتي واتصالاتي هنا، أحاول أن أستكشف السبل الممكنة لدعم سوريا”.

وشدد على أنه سينقل رسالة إلى واشنطن مفادها: “كيف يمكننا أن ندعم سوريا لتكون قوية، وأن يكون لها دور ومكانة على طاولة استقرار المنطقة”، مضيفاً أن هذا قد يتجسد عبر “توسيع اتفاقيات أبراهام، أو من خلال سياسات أوسع لتحقيق الاستقرار”.

وختم بالقول: “الهدف الأساسي من زيارتي هو أن أعود بانطباعات شخصية من الداخل السوري، وأن أنقل هذه الانطباعات مباشرة إلى الرئيس ترمب ورئيس الكونغرس”.

عضوان في الكونغرس يزوران سوريا

زار وفد من الكونغرس الأميركي العاصمة السورية دمشق، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ سنوات، لتقييم الوضع في البلاد والاطلاع على واقع الحياة بعد سقوط النظام المخلوع.

ووصل نائبا الكونغرس الجمهوريان كوري ميلز من ولاية فلوريدا، ومارلين ستاتزمان من ولاية إنديانا، إلى دمشق يوم الجمعة، برفقة عدد من أفراد الجالية السورية المقيمين في الولايات المتحدة، في زيارة وُصفت بأنها “مهمة لتقصي الحقائق”.

ووصف عضو الكونغرس الأميركي مارلين ستاتزمان زيارته إلى سوريا بأنها كانت “تجربة رائعة”، وذلك في أول تصريح له عقب ختام اجتماعاته مع الحكومة السورية.

——————————-

من دير الزور إلى الحسكة.. القوات الأميركية تغير مواقعها في سوريا

2025.04.20

أكد مصدر من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لموقع تلفزيون سوريا عزم القوات الأميركية تخفيض أعداد جنودها وقواعدها في مناطق شمال شرقي سوريا خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز، يوم الخميس، نقلا عن مسؤولين أميركيين أن الجيش الأميركي شرع في إغلاق ثلاث قواعد عسكرية صغيرة في المنطقة، في خطوة تعكس التغير في البيئة الأمنية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الأول 2024.

وأعلن البنتاغون عن تخفيض عدد القوات في سوريا إلى أقل من ألف جندي خلال الأشهر المقبلة، وذلك في “عملية مدروسة قائمة على الظروف”.

وقال المتحدث باسم البنتاغون، شون بارنيل، في بيان إنه “اعترافاً بالنجاح الذي حققته الولايات المتحدة ضد داعش، بما في ذلك هزيمتها الإقليمية في عام 2019 في عهد الرئيس ترمب، وجّه وزير الدفاع اليوم بتعزيز القوات الأميركية في سوريا تحت قيادة قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب في مواقع مختارة في سوريا”.

وتضمّنت عملية الانسحاب مواقع مهمة مثل “القرية الخضراء” (حقل كونيكو)، و”الفرات” (حقل العمر)، بالإضافة إلى منشأة ثالثة أصغر لم تُذكر تفاصيلها.

وقال المصدر إن واشنطن نقلت قوات وآليات عسكرية ثقيلة الجمعة من قواعدها العسكرية في دير الزور إلى قاعدة “قصرك” بالقرب من الطريق الدولي (M4) شمال الحسكة .

وأشار المصدر إلى أن “القوات الأميركية استخدمت قاعدة قصرك في العام 2019 كنقطة تجمع لقواتها المنسحبة من عين العرب (كوباني) ومواقع بشمالي سوريا قبل أيام من بدء عملية “نبع السلام” التركية في منطقتي رأس العين وتل أبيض شمالي البلاد”.

ومن المتوقع أن تبدأ واشنطن بنقل جزء من قواتها وآلياتها وأسلحتها إلى قواعدها العسكرية في العراق خلال أيام.

ونقلت القوات الأميركية جزءا من جنودها ومنصات إطلاق صواريخ وآليات عسكرية من قواعدها في دير الزور إلى قاعدة الشدادي جنوبي الحسكة خلال الأيام الماضية وفق المصدر.

وأشار المصدر إلى أن “القوات الأميركية عازمة على تخفيض عدد جنودها وقواعدها العسكرية في مناطق شمال شرقي سوريا خلال الثلاثة أشهر المقبلة”.

القوات الأميركية ستنتقل إلى الحسكة

وبحسب المصدر فإن القوات الأميركية سوف تتحول إلى التمركز في قواعد رئيسية لا يتجاوز عددها 5 قواعد في مناطق شمال شرقي سوريا وتتركز ثلاثة منها على الأقل في محافظة الحسكة.

وأوضح المصدر أن “بقاء القوات الأميركية في دير الزور مرتبط بالتفاهمات بين “قسد” والحكومة السورية من جهة وبين واشنطن والحكومة السورية من جهة ثانية”.

وشدد المصدر على أن واشنطن أكدت لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” عدم وجود أي خطط بالانسحاب الكلي من سوريا في الوقت القريب مع التأكيد على استمرار عمليات التحالف الدولي في مكافحة تنظيم “داعش” ودعم “قسد”.

وتتمركز القوات الأميركية في سوريا في 17 قاعدة و15 نقطة عسكرية، ويقع 17 موقعا منها في محافظة الحسكة، و9 في محافظة دير الزور، و3 في محافظة الرقة وفق دراسة صادرة عن مركز جسور للدراسات نشرت في تموز 2024.

—————————–

المقاتلون الأجانب واحتكار السلاح في سورية/ عمار ديوب

20 ابريل 2025

يقتضي الانتقال من مرحلة الثورة إلى الدولة سياسات وطنية عامّة تقطع مع المرحلة السابقة. يتطلّب النهوض بالدولة إشراك فئات الشعب كافّة وإرضاءها، بغض النظر عن تنويعاتها السياسية والقومية والدينية. وجود مقاتلين أجانب، وفي حالة كارثية في سورية، إلى جانب التنوّع، يستدعي إبعادهم بشكل كامل من شؤون الدولة كلّها، وتحديداً من الجيش والاستخبارات والمناصب السيادية، كما أن حدّة الاستقطاب الطائفي والقومي والضغط الخارجي والحدود مع الدولة الصهيونية يستدعي هذا الإبعاد.

تخلّصت سورية مع زوال نظام الأسد من المقاتلين الأجانب الداعمين له، وهناك ضغط أميركي وتركي، وسوري داخلي، للخلاص من الأجانب الداعمين لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبالكاد تكتب التقارير الصحافية عن أجانب لدى بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وتواجه السلطة الحاكمة في سورية نقداً شديداً لوجود المقاتلين الأجانب، ولا سيّما أنّها وضعت بعضهم في مناصب عُليا بالجيش، وأثار الأمر حفيظة السوريين، خاصّة الضبّاط المنشقّين من جيش النظام السابق، فهم من ضحّى بكلّ شيء، والتحق بالثورة، ولا يزالون مُستبعدين من المشاركة في إعادة تأسيس الجيش. كان للمقاتلين الأجانب دور كبير في تصفية فصائل الجيش الحرّ منذ 2012، سواء بتحالفهم مع جبهة النصرة أو “فتح الشام” أو هيئة تحرير الشام أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو “قسد”، وبالطبع، مارس الأجانب ضمن المليشيات الإيرانية أكبر الأدوار في دعم السلطة، وإفشال الثورة. إذاً هناك عدد كبير من المقاتلين الأجانب وفدوا إلى سورية وقاتلوا في مواقع متعدّدة، ويكمن دورهم في تغييب أهداف الثورة وحرف الصراع ليصبح صراعاً طائفياً.

الآن، هناك طلبات داخلية وخارجية للخلاص من الأجانب في ميدان الجيش والدولة، وهي مطالب محقّة، وهي من شروط رفع العقوبات الأميركية والدولية عن سورية، وهناك مطالب كثيرة تتعلّق بإشراك القوى السياسية والاقتصادية والثقافية من خارج مجموعة هيئة تحرير الشام، ومن يدور في فلكها. ورفض إبعاد الأجانب بحجّة قتالهم النظام، وأن هيئة تحرير الشام بذلك تخون المتحالفين معها، وأن هناك مقاتلين أجانب كثيرين اعتُرف بهم في دول كثيرة (كما يقول إعلاميو السلطة)، فيه كثير من عدم فهم واقع سورية الكارثي، والممتدّ بحالة الدمار والإفقار منذ 2011، بل وما قبل 2011، وكذلك فيه تجاهل لدور الأجانب داعمي “الهيئة”، فلقد كانوا ضدّ النظام والفصائل الحرّة معاً، فيُنظَر إليهم أعداءً للثورة السورية، وخطراً كبيراً على إعادة تأسيس الجيش بشكل وطني، وهناك عقائدهم البعيدة من الوطنية السورية، وكان مجيئهم إلى سورية بقصد محاربة “النصيرية” وبناء “دولة الخلافة”، وهناك رفض كامل منهم لأيّ مفرداتٍ تتعلّق بالديمقراطية أو المواطنة أو التعدّدين الديني والقومي. تتعارض رؤى عقائدية كهذه بشكل حاسم مع بناء دولة للسوريين كافّة، والسوريون العلويون جزء منهم بالضرورة. إذاً هناك أسباب كثيرة، وليس طلبات الخارج فقط، تستدعي إبعاد المقاتلين الأجانب.

حاججت كلّ من “قسد” ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) بعض الوقت بأن وجود الأجانب في الجيش المُراد تشكيله يُضعف مطالبة السلطة بإبعاد الأجانب الداعمين لـ”قسد”، ولكن الأمر يخصّ أيضاً فصائل السويداء، وحتى الفصائل الداعمة للسلطة ذاتها، فالأغلبية السورية لا تريد مقاتلين أجانبَ في أراضيها. التشكيك بتوجّهات السلطة، وعدم استجابتها لإبعاد هؤلاء الأجانب، ولا سيّما بعد دورهم في مجازر الساحل الطائفية بامتياز، في أوائل الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ينتقص من حقّها في احتكار السلاح، إذ ليس من المعقول الموافقة على تسليم السلاح والانتظام في جيشٍ يتشكّل وفيه قيادات أجنبية، أو يتحالف مع جماعات جهادية من أوزبك وشيشان وتركمانستان ومغاربة وسواهم.

أصبحت مسألة إبعاد الأجانب حاسمةً، وتضغط أميركا وأوروبا لإبعادهم بشكل كبير، وهناك تجميد جديد لرفع العقوبات من الاتحاد الأوربي بسبب عدم استجابة سلطة دمشق للشروط الأوروبية، ومنها استبعاد الأجانب، وهناك تقييم سلبي أميركي كبير للسلطة، والاتجاه نحو عدم الاعتراف بها، وبالتالي، هناك أسباب كثيرة تدفع نحو تغيير السلطة توجّهاتها وفكّ العلاقة مع الأجانب العقائديين، وتحويلهم إلى العمل الاقتصادي، وفي حال رفضهم ذلك، فإبعادهم إلى الخارج. وفي الإطار ذاته، لا يجوز السماح لهم بالمشاركة في العمل الدعوي، فالدعويُّ في حالة الأجانب، السلفيين الجهاديين، سيكون متعارضاً مع الوطني، ومع تعزيز الاتجاهات الإسلامية الوطنية.

تتجه السلطة في دمشق إلى تشريع نفسها عبر العلاقة مع الخارج، وإذ بدأت بالشعور بثقل المطالب الأميركية والأوروبية راحت تتجه نحو تركيا والخليج للمساهمة في التخفيف من ذلك الثقل، وجولة الرئيس أحمد الشرع الإقليمية، أخيراً، تأتي في هذا الاتجاه، وبهدف تأمين الدعم وتشريع سلطته، وإن نال بعض الدعمين المادي والسياسي، فإن الشروط الدولية ستظلُّ الأساس في العلاقة مع دمشق. تتعزّز قوّة السلطة تجاه الشروط الدولية عبر الحقوق التي يتمتع بها الشعب، فهل ستعي السلطة أن الشعب هو مصدر الشرعية والقوّة؟

تعيد السلطة الحالية سياسات النظام القديم، الذي أدار ظهره للشعب وتحالف مع إيران ومليشياتها وروسيا، وكانت الحصيلة انهيار حكمه، الذي أُجِّل منذ 2012 إلى الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. وسورية لا تحتمل تكرار السياسات نفسها، وهي في حالة كارثية، وفي المستويات كافّة، وتتطلّب سياسات وطنية في الاقتصاد والتعليم والثقافة والجيش وإدارة مؤسّسات الدولة، وإشراك الفعّاليات السياسية والثقافية وسواها، المستقلة عن السلطة. هنا مصدر الشرعية، ومن هنا الرفض الواسع لتنصيب المقاتلين الأجانب بقيادة الجيش أو جعلهم فصيلاً فيه. ينتهك هذا وطنية السوريين، ويؤسّس جيشاً غير وطني.

تخطئ السلطة في محاولة تشريع نفسها عبر الخارج، فللخارج مصالحه، وهناك أشكال من التعارض بين مصالح الخارج ومصالح الداخل، ويتقلّص التعارض بمقدار الانطلاق من مصالح الداخل، إذ ستكون مصالح الداخل الأساس في أيّ مفاوضات بخصوص النهوض بسورية، وفي غياب الشرعية الداخلية ومصادر القوة الداخلية، ستتعرّض السلطة لضغوط كبيرة، وستنتقل لاحقاً لتصبح أداةً بيد الخارج، وربّما تنهار سريعاً.

قوة السلطة الحالية متأتية من إسقاط النظام التابع وتخليص سورية من النفوذين الإيراني والروسي، ومن شعور الشعب بأن ثورته انتصرت أخيراً. سيتغيّر هذا التفكير كلّه باستمرار إدارة الظهر للشعب. ومسألة المقاتلين الأجانب قضية حساسة في سورية، وستكون قابلة للانفجار في أيّ لحظة، سواء بسبب رؤية هؤلاء الأجانب السلفية المتعارضة مع التديّن السوري السائد، أو رغبتهم في تقييد توجّهات السلطة “الوطنية” الجديدة، أو من خلال الضغوط الخارجية والاستمرار في العقوبات، وهناك الدولة الصهيونية التي تنتقد سلطة دمشق، وتقدّمت باتجاه ثلاث محافظات، بسبب “مخاطر السلفية الجهادية”، كما تدّعي.

سيكون الإصرار على عدم إبعاد المقاتلين الأجانب سبباً في تراجع الدعم الإقليمي والدولي، والمصدر الأساس لشرعية السلطة هو الاستجابة لمصالح الشعب وحقوقه والمسارعة بإبعادهم، ومن دون ذلك ستظلُّ الشرعية منقوصة، وهناك إمكانية لأشكال التدخّل الخارجي، وعكس ذلك حينما تتبنّى السلطة مشروعاً وطنياً وديموقراطياً ويتمظهر في شؤون الدولة كلّها.

العربي الجديد

———————————-

إعادة تموضع أميركي في سورية/ فاطمة ياسين

20 ابريل 2025

لم يكن قد مضى أسبوعان على دخول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، حتى بادرت الإدارة الأميركية السابقة إلى إيفاد مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف لمقابلة مسؤولي سورية الجدد، والتقت بالشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني. كان الوفد رسمياً ويمثل الإدارة الأميركية، رغم أن مهمته اقتصرت على أعمال الاستطلاع الدبلوماسي الاعتيادية وتقديم بعض “النصائح”، وربما مرّرت طلبات أميركية قيل إنها سُلمت فيما بعد للشيباني على هامش مؤتمر دافوس الاقتصادي، من قبيل البحث عن صحافي أميركي مفقود أو المساعدة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وكان من غير الممكن حينها الخوض في وجود القوات الأميركية في الشمال السوري، أو في شكل علاقتها مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد). مضى على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر، وجرت في النهر مياهٌ كثيرة. وجاءت إلى البيت الأبيض إدارة جديدة، وتوصل كل من الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي إلى اتفاق إطاري وقّعاه في دمشق، ليأتي قبل يومين عضوان من الكونغرس في ثاني زيارة لمسؤولين أميركيين إلى سورية، وأول زيارة في عهد ترامب. ورغم أن الزائرَيْن لا يمثلان إدارة ترامب، إلا أنهما سيقدّمان تقريراً إلى مجلسهما، يتضمّن ما بحثاه وما شاهداه وسينطوي بالتأكيد على توصياتٍ محدّدة.

تأتي الزيارة خلال أصداء تتردّد عن بداية إعادة تموضع كبرى للقوات الأميركية في الشمال، تشمل سحب بعضها ودمج بعض القواعد فيما بينها، من دون أن يصدُر أي موقف رسمي حاسم من المسؤولين الأميركيين تجاه القيادة السورية الجديدة. وربما ينتظر العالم، وكذلك الإدارة السورية نفسها، هذا الموقف، نظراً إلى ما يمثله من أهمية لمصير العقوبات العديدة التي طاولت سورية في عهد النظام البائد، وما زال كثير منها قائماً، فالإدارة السورية الجديدة لا تخفي لهفتها لإزالة العقوبات، وهي عقبة حقيقية في بداية مشروع تنموي جاد، باعتبارها تؤثر على جميع الأطراف، بما فيها الاتحاد الأوروبي الذي جمّد بعضها بالفعل، ولكن هذا لم يكن كافياً لزحزحة الوضع الاقتصادي.

ولا تتوقف أهمية الموقف الأميركي على العقوبات، وإنما ينسحب أيضاً على مصير القوات الأميركية المرابطة في الشمال تحت عنوان محاربة الإرهاب، أو تقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية التي تقوم بالمهمّة، والأخيرة تسيطر على ما يزيد عن ربع الأراضي من الجغرافيا السورية، وهي عقبة إضافية أمام البدء بدورة اقتصادية وطنية جديدة. ولا تعني إعادة التموضع الأميركي التي رصدتها الكاميرات في الشمال السوري قبل يومين انسحاباً كاملاً، بل يمكن اعتبارها في إطار تحرّك اعتيادي، وإن غادرت بعض القوات بالفعل من هناك.

ترى إدارة ترامب أن سورية الجديدة قدّمت خدمة لها بطرد كل وجودٍ إيراني مباشر أو غير مباشر من المنطقة، وتعتبر وجود أحمد الشرع ضماناً كافياً لعدم تسرّب أسلحة أو مساعدات إيرانية عبر الحدود إلى حزب الله في لبنان، ولكنها، في الوقت نفسه، تعتبر أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يشكل خطراً، ونظام الحكم في سورية الذي لدى أطرافه نزوع إسلامي قد يرتبك في الوقوف بوجه عناصر التنظيم لو حاولوا الظهور من جديد. وتعتقد الولايات المتحدة أن وجود مقاتلين أجانب ضمن صفوف القوات الرسمية يضاعف من هذا التهديد، ولذلك كان أحد شروطها المعلنة التخلي عن أي قيادي أجنبي في صفوف الجيش السوري الجديد. وقد جعل وجود الشرع الولايات المتحدة تكسب نقطة، لكنها ليست متأكدة إن كانت قد خسرت أخرى في الوقت نفسه، وإسرائيل تنظر بعين المتشكّك، وقد بادرت إلى القيام بتحرّكات عسكرية ضخمة ضمن الإطار نفسه. وفي هذا الظرف، لن تغادر أميركا الشمال في القريب العاجل، ولكنها قادرة على تخفيض عدد قواتها من دون إحداث تغيير كبير في التوافقات السياسية والعسكرية داخل سورية.

العربي الجديد

—————————–

رسائل واشنطن لدمشق من تقليص وجودها العسكري بسوريا/ فراس فحام

21/4/2025

كشفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بشكل رسمي في 18 أبريل/نيسان الجاري أنها بدأت توحيد تمركز قواتها في سوريا ضمن قيادة القوة المشتركة لعملية العزم الصلب، لتؤدي إلى خفض الوجود العسكري في سوريا إلى أقل من 1000 جندي خلال أشهر.

وقد جاء بيان الوزارة بعد أيام من التحركات الميدانية، وإعادة انتشار للقوات الأميركية المتمركزة شمال شرق سوريا، وبعدما تحدثت وسائل إعلام أميركية عن توجه لإغلاق عدة قواعد عسكرية.

ومنذ تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة في واشنطن، توالت الأنباء عن عزمه سحب القوات من سوريا، في إطار رؤيته لخفض الإنفاق العسكري والتقليل من انخراط بلاده في الحروب.

وربطت واشنطن الانسحاب بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بسلوك الإدارة الجديدة، مما جعل سحب القوات الأميركية من سوريا يكتسب في جميع مراحله دلالات إضافية حول واقع ومستقبل العلاقات السورية الأميركية.

تخفيض تدريجي

أفادت تقارير لوسائل إعلام أميركية ومن بينها صحيفة نيويورك تايمز عما يشبه عملية إعادة انتشار تتضمن أيضا خفض عديد القوات الأميركية المتمركزة في سوريا.

ووفقا للتقارير، فإن التوجه هو خفض عدد القوات الأميركية من 2000 إلى 1400، مع إغلاق 3 قواعد من أصل 8، ثم العمل على إعادة تقييم لدراسة ما إذا كان هناك حاجة لإجراء المزيد من التخفيضات.

وبحسب ما أكدته مصادر ميدانية للجزيرة نت، فإن القوات الأميركية سحبت غالبية قواتها من قاعدة كونيكو في دير الزور، وتتجه على الأغلب لإنهاء وجودها في هذه القاعدة بالإضافة إلى قاعدة أخرى في حقل العمر النفطي، وسيتم إعادة تجميع القوات ضمن قواعد في محافظة الحسكة السورية، أو إقليم كردستان العراق.

ويبدو أن المؤسسة العسكرية الأميركية تعمل على تطبيق رؤية إدارة ترامب التي تتبنى خطة الانسحاب من سوريا، لكن التنفيذ يتم تدريجيا بما يتناسب مع الوضع الأمني والميداني والسياسي.

وبالفعل، فقد ذكرت وزارة الدفاع الأميركية في البيان الذي أصدرته وتحدثت من خلاله عن خفض عدد القوات إلى أنها ستبقى في وضع يسمح لها بتنفيذ ضربات دقيقة ضد فلول تنظيم الدولة.

ومن المتوقع أن تحافظ القوات الأميركية على وجودها في قاعدة أو اثنتين ضمن محافظة الحسكة لاستمرار الرقابة على السجون التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتحتجز فيها الآلاف من المتهمين بالانتساب إلى تنظيم الدولة الإسلامية، حيث لا تزال وزارة الدفاع الأميركية تؤكد أنها ستتعاون مع قسد في مكافحة التنظيم.

وتعتبر مسألة السجون من القضايا المؤرقة لسوريا ودول المنطقة، خاصة العراق والأردن، مع تكرار تلويح قسد بشكل رسمي بإمكانية فقدان السيطرة على هذه السجون في كل مرة كانت تتعرض فيها لتصعيد من قبل الجيش التركي أو القوات الحكومية السورية، وهذا ما دفع الحكومة العراقية في وقت سابق إلى تقديم مقترح للتحالف الدولي يتضمن نقل السجناء إلى سجون ضمن العراق وإجراء محاكمات للسجناء وفقا للقانون العراقي.

لكن بيان المتحدث باسم البنتاغون، الذي أعلن خطة توحيد القوات وتخفيضها، أكد أن أحد الجهود الأساسية الرامية إلى تقليص قدرة تنظيم الدولة هو التخفيف من عدد النازحين والمعتقلين من بين الأفراد المرتبطين بالتنظيم في المخيمات، ومرافق الاعتقال في شمال شرق سوريا، داعيا “دول المجتمع الدولي إلى استعادة رعاياها من بينهم”، في مؤشر على التوجه الجاد للانسحاب التدريجي من سوريا.

وأكدت مصادر في جيش سوريا الحرة، المتمركز في قاعدة التنف، والذي يحظى بدعم القوات الأميركية، إلى أن واشنطن ستحتفظ بانتشارها في هذه القاعدة المطلة على الحدود العراقية، والمواجهة لقاعدة عين الأسد الأميركية داخل الأراضي العراقية، وبالتالي لن تشمل عملية إعادة الانتشار هذه القاعدة التي تلعب دورا مهما في مراقبة الحدود العراقية السورية لمنع تسلل عناصر مسلحة عبر الحدود.

الانسحاب مرتبط بالسلوك

بالتوازي مع عملية إعادة الانتشار وتقليص حجم القوات الأميركية في سوريا، تحدث مسؤولون أميركيون لوسائل إعلام عن إمكانية أن تعلن واشنطن صراحة التزامها بسيادة سوريا على أراضيها، وإزالة تصنيف الإرهاب عن أعضاء الحكومة الجديدة، وتخفيف العقوبات التي تم فرضها في وقت سابق لتسهيل تدفق المساعدات حال تم تحقيق بعض الشروط.

ووفقا لما سربته وسائل الإعلام الأميركية، فإن من ضمن الشروط “قمع المتطرفين، وعدم السماح للمسلحين الفلسطينيين بالانتشار في سوريا، وتأمين مخزون الأسلحة الكيميائية في البلاد”.

وتشير التسريبات التي نقلتها وسائل الإعلام الأميركية عن مسؤولين في البيت الأبيض إلى أن الاهتمام الأميركي ينصب على عدم عودة إيران، ومنع ظهور تنظيم الدولة، وأن هاتين هما أهم مصالح الشعب الأميركي في سوريا.

ومن المرجح أن عملية تقليص حجم القوات الأميركية الأولية في سوريا جاءت نتيجة ارتياح لفرص تعاون الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب، فقد أشار تقرير لصحيفة نيويورك تايمز إلى أن واشنطن تلقت مؤشرات إيجابية من حكومة دمشق فيما يتعلق بمحاربة تنظيم الدولة، كما أن الحكومة السورية تجاوبت مع معلومات استخباراتية أميركية أدت لإحباط 8 مخططات لهجمات كان سينفذها تنظيم الدولة في دمشق.

وفي 18 أبريل/نيسان الجاري، استقبل الرئيس السوري أحمد الشرع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ضمن زيارة رسمية، في رسالة على ما يبدو بأن سوريا ستتعاطى مع الملف الفلسطيني من بوابة السلطة المعترف بها عربيا ودوليا وليس من خلال التنسيق مع الفصائل، في تأكيد إضافي على الاستعداد للتعاطي بإيجابية مع شروط الاعتراف بحكومة الشرع ووحدة الأراضي السورية.

آثار تقليص الوجود الأميركي

من المتوقع أن ينعكس تقليص الوجود العسكري الأميركي في سوريا على نفوذ قسد بدرجة أساسية، بالإضافة إلى توسيع سيطرة الحكومة السورية، مع تعزيز الهدوء وانخفاض مستوى التوتر بشكل كبير.

وقبل عدة أيام من إعلان الخطة الأميركية لتخفيض عدد القوات في سوريا، كشفت مصادر محسوبة على قسد فشل جهود عقد مؤتمر كردي سوري عام، كان يتم التجهيز له بهدف توحيد وتعزيز الموقف الكردي في مواجهة حكومة دمشق، مع اتهام المجلس الوطني الكردي السوري بإفشال جهود عقد المؤتمر استجابة للتدخلات الخارجية.

وبطبيعة الحال، فإن عدم نجاح الخطوة عكس عدم قدرة قسد على حشد الموقف الكردي خلفها، وربما لإدراك المكون الكردي تغير المواقف الدولية، خاصة أن مغادرة القوافل العسكرية الأميركية للأراضي السورية قد بدأت قبل قرابة شهر من الإعلان الرسمي من وزارة الدفاع عن التوجه لخفض عدد القوات.

وما إن أعلنت وزارة الدفاع الأميركية خطة تخفيض القوات في سوريا حتى أعلنت قسد وقف إطلاق النار بشكل شامل في منطقة سد تشرين بريف محافظة حلب، التي شهدت اشتباكات عنيفة طيلة الأشهر الماضية بين قسد وفصائل منضوية تحت وزارة الدفاع السورية، مع إعلان سد تشرين منطقة خدمية، والتأكيد على أن مرحلة الحرب انتهت، وسيتم حل الخلافات بين السوريين بالحوار.

ووفقا لمصادر مقربة من حكومة دمشق، فإن اللجان المشتركة بين قسد والحكومة السورية التي تم الإعلان عنها في وقت سابق تتجهز لإعادة فتح طريق إم فور، قرب محافظة الرقة بعد تسليم مناطق عين عيسى واللواء 93 للحكومة السورية، مع نشر قوات شرطة مدنية، والسماح للسكان المحليين بالعودة، كما ستسيطر القوات التابعة لوزارة الدفاع السورية على المناطق الحدودية وبالأخص الحدود بين سوريا وتركيا.

وأكدت مصادر أميركية أن واشنطن ستنقل السيطرة في دير الزور والرقة إلى القوات الحكومية السورية، مع الاحتفاظ بقاعدة تنسيق قرب سد تشرين للاستمرار في التنسيق بين دمشق وقسد وأنقرة.

وبحسب المعلومات التي حصل عليها موقع الجزيرة نت، فإن دمشق تمسكت طيلة الفترة الماضية خلال المفاوضات مع قسد بانسحاب الأخيرة من المناطق ذات الغالبية العربية، واحتجت بأن هذا المطلب يعكس رغبة السكان المحليين في دير الزور والرقة.

وأشار بيان الخارجية الأميركية الذي صدر عقب الإعلان عن وقف إطلاق النار في سد تشرين إلى دعم واشنطن لوحدة سوريا، حيث رحب البيان بالتهدئة ووقف الأعمال العدائية في جميع أنحاء البلاد، مع الدعوة للعمل بمسؤولية من أجل بناء سوريا موحدة ومستقرة وآمنة.

شكل العلاقة المتوقع

تشهد العلاقة بين الحكومة السورية والولايات المتحدة تطورا بطيئا، حيث يستعد وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني لزيارة أميركا إلى جانب كل من وزير المالية يسر برنية وحاكم المصرف المركزي عبد القادر حصرية، لكن وفقا لمصادر أميركية فقد تم منح الشيباني تأشيرة دخول من فئة “جي 3” المخصصة للحكومات الانتقالية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة.

يوجد عوامل عديدة من المحتمل أن تمنع التطور السريع في العلاقات بين دمشق وواشنطن، ومنها استمرار شخصيات غير سورية حتى اليوم في مناصب قيادية ضمن الجيش السوري، وأبرزهم القيادي مختار التركي قائد الفرقة 70 المسؤولة عن تأمين دمشق، وهذا لا يتناسب مع المطالب الأميركية.

من جهة أخرى، ظهرت مؤشرات على عدم وحدة الموقف الأميركي حيال سوريا، فقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية في 18 أبريل/نيسان الجاري تحذيرات مفاجئة من حصول هجمات على مواقع يرتادها سياح في سوريا رغم التحسن الملحوظ على الصعيد الأمني، وقد صدر هذا التحذير بالتزامن مع زيارة كان يجريها أعضاء من الكونغرس الأميركي تابعين للحزب الجمهوري إلى دمشق تتضمن لقاءات مع الرئيس الشرع، وأبرزهم كوري ميلز عضو لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس.

ومن المتوقع أن يركز الجانب الأميركي في الفترة القادمة على فتح قنوات التنسيق الأمنية مع السلطات السورية لضمان استمرار مهام مكافحة الإرهاب، مع تقليص جزئي للعقوبات تبعا لمدى استجابة الجانب السوري للمطالب الأميركية التي من الواضح أنها مطالب أمنية بدرجة كبيرة.

يبدو من المبكر الحديث عن اعتراف سياسي أميركي كامل بالحكومة السورية الحالية، وهذا ما يشير إليه احتفاظ واشنطن بقوات لها في سوريا رغم تخفيض حجمها، واستمرار العلاقة مع قسد بشكل مباشر وليس عن طريق الحكومة السورية.

المصدر : الجزيرة

———————————-

ثنائية الجيش والفصائل/ لمى قنوت

أفواج من الجهاديين من مختلف المشارب عبروا وقاتلوا في سوريا، كـ”حزب الله” الذي تدخل في عام 2012 إلى جانب مجموعات أخرى قاتلت دفاعًا عن النظام البائد، وخرجت أو أُخرجت من البلاد إثر الحرب على وكلاء إيران في لبنان وسوريا، إضافة إلى جهاديي “داعش” و”القاعدة” وغيرهما من الجماعات العقائدية التي ما زال جزء من عناصرها محتجزًا في سجون “الهول” و”روج”، أما الجماعات التي انضمت إلى عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى فرار الأسد، فقد تم تعيين بعضهم وتقليدهم مناصب قيادية في الجيش، واليوم تضع واشنطن شروطًا من ضمنها إبعادهم عن تلك المناصب لتخفف العقوبات التي تعوق إنعاش الاقتصاد المنهار.

على صعيد السلطة الجديدة، فقد أرادت لقرارات فصائل “ردع العدوان” أن يكون مؤتمرها “مؤتمر النصر” بمثابة مؤتمر تأسيسي لمرحلة ما بعد النظام الأسدي، وربما، من هنا يُفهم لماذا تتجاهل السلطة الدعوة لعقد مؤتمر وطني جامع، الأمر الذي جعل من التشاركية والحوار والمشاورات تقتصر على “تيارها السياسي” من شرعيين ومقاتلين ومدنيين، ويُفسر أيضًا الطريقة الأدائية التي اختُزل فيها مؤتمر الحوار الوطني لساعات معدودة، والتي قدرت بخمس ساعات، وإغفال مخرجاته أهمية بناء القطاع الأمني، وبضمنه الجيش، في البند العاشر المتعلق بالعدالة الانتقالية، والاكتفاء بالتنصيص على إصلاح المنظومة القضائية فقط، رغم أهميتها في المراحل الانتقالية، والاقتصار على جملة عامة وردت في البند الثالث المتعلق بحصر السلاح بيد الدولة والذي تضمن جملة “بناء جيش وطني احترافي”.

وفي الواقع، إن بناء جيش بمعطيات الإدارة الحالية، التي تستفرد بتأسيسه وفق أجندتها وخلفيتها الأيديولوجية، القائمة على تقاسم السلطة بناء على الولاء، هو تعيين جهاديين أجانب، بعضهم مطلوبون في دولهم، وقادة خاضعون لعقوبات دولية، وتعيين متورطين في صراعات خارج سوريا، كفهيم عيسى قائد فرقة “السلطان مراد” فيما يُسمى “الجيش الوطني” عبر تجنيد مقاتلين ومدنيين للقتال في النيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو بدعم تركي، إضافة إلى النفوذ الخارجي وتبعية القرار للعديد من الفصائل، والعقلية الغنائمية وتقاطعها مع الفساد، وبذلك نكون أمام جرعة متكاملة من الفشل، أمنيًا ومؤسساتيًا وحقوقيًا وحتى سياسيًا، وتُبقي الباب مشرعًا أمام استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وديمومة الإفلات من العقاب، وتقوّض السيادة، وترفع مصالح الجماعة فوق مصالح الدولة.

لقد بنى نظام الأسدين الدولة الثكنة، أي عسكرة المجتمع، وكذلك التطبيع مع مقولة “من يحرر يقرر” هو ديمومة لعلوية العسكرة وأحكامها الفوقية الإخضاعية في بناء المؤسسات والانتقال السياسي وبناء الدولة، ودون فهم شواغل غالبية السوريين والسوريات في تحقيق القطيعة مع الاستبداد بكل أشكاله، وبناء نموذج أمني يُطمئنهم لا يخيفهم، يقوم على حماية الإنسان وحقوقه، وتعزيز الأمن الإنساني، ويعتمد في بناء القطاع الأمني، وبضمنه مؤسسة الجيش، على قواعد أرستها الدول الحديثة، قائمة على حياده، ومهنيته، وفحص أهلية المنضوين فيه، والرقابة المدنية عليه، أي رقابة المؤسسات التشريعية ومنظمات المجتمع المدني.

لا شك أن بناء الجيش والانتقال من العقلية الفصائلية وطبيعتها الغنائمية وصراعاتها على الموارد والنفوذ، وتخلصها من الريعية والولاءات الجهوية والطائفية هي عملية صعبة وطويلة الأمد، ويجب أن تتسم بملكية وطنية وإجراء مشاورات وطنية مع مراكز أبحاث مهتمة بإصلاح القطاع الأمني وخبراء الأمن، نساء ورجالًا، والاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية المتعددة المتعلقة في بناء القطاع الأمني في دول أنهكها النزاع وترهلت مؤسساتها، وأن يكون البناء جزءًا من استراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية التحولية، والتي تقوم ركائزها على المحاسبة ومعرفة الحقيقة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات والتشريعات، من أجل إعادة الثقة في المؤسسات ومنع تكرار الجرائم والانتهاكات، وإحداث قطيعة مع ثقافة الإفلات من العقاب.

ختامًا، إن بناء الجيش المحايد، وخضوعه للمساءلة الديمقراطية، وضمان ولائه للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا، وعدم تدخله في الخلافات السياسية بين المجتمع والحكومة، وبنتائج الانتخابات، وعدم انحيازه إلى دكتاتور أو حزب سياسي، وضمان ألا يقود انقلابًا أو يدعم انقلابًا، لا يمكن أن يتم دون قيود دستورية ومؤسساتية على دور الجيش، وقضاء مستقل، وفصل للسلطات، وثقافة مؤسساتية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان، وإلا فيخسر الجيش شرعيته إذا وجه سلاحه ضد الشعب أو أي فئة منه، وإذا انحاز لمصالح فئوية وتم بناؤه على اللون الواحد.

عنب بلدي

—————————–

الإدارة الأميركية تدرس رد دمشق على مطالب واشنطن/ محمد أمين

21 ابريل 2025

وضعت الإدارة الأميركية مطالب وشروطاً أمام الحكومة السورية، اتخذت حتى اللحظة شكل تسريبات في صحف في الولايات المتحدة، جرى تبريرها من قبل مسؤولين أميركيين في إطار “بناء الثقة”. وجاءت مطالب واشنطن في وقت لم تحسم فيه الإدارة الاميركية حتى اللحظة موقفها من الإدارة السورية التي تسلمت مقاليد الأمور في البلاد منذ إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وبينما قالت متحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، الخميس الماضي، إن “الولايات المتحدة لا تعترف حالياً بأي كيان حكومةً سوريةً”، مشددة على أنه “ينبغي للسلطات السورية المؤقتة نبذ الإرهاب وقمعه تماماً”، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تأشيرات محدودة لمسؤولين سوريين لزيارة الولايات المتحدة. وسيزور وزير المالية محمد يُسر برنية وحاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية واشنطن للمشاركة في اجتماعات الربيع المشتركة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تُعقد بين 21 و26 إبريل/ نيسان الحالي (اليوم الاثنين وحتى السبت المقبل). كما منحت تأشيرة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لزيارة نيويورك، حيث من المقرر أن يشارك في اجتماع لمجلس الأمن حول سورية الجمعة المقبل.

مطالب واشنطن

في سياق مطالب واشنطن، ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، يوم الخميس الماضي، أنه في اجتماع دولي عُقد في بروكسل الشهر الماضي، سلّم مسؤول من إدارة الرئيس دونالد ترامب، من المستوى المتوسط، وزير الخارجية السوري قائمة تضمّ ثماني خطوات “لبناء الثقة” يجب على الحكومة السورية اتخاذها للنظر في تخفيف جزئي للعقوبات.

وشملت القائمة، التي اطّلعت عليها الصحيفة، السماح للحكومة الأميركية بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب على الأراضي السورية ضد أي جهة تعتبرها واشنطن تهديداً للأمن القومي. كما طالبت القائمة الحكومة السورية بـ”إصدار إعلان رسمي علني بحظر جميع المليشيات الفلسطينية والأنشطة السياسية” على الأراضي السورية، وترحيل أعضاء تلك الجماعات لـ”تهدئة المخاوف الإسرائيلية”. وتضمنت مطالب واشنطن أيضاً إصدار إعلان رسمي عن دعمها التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.

وكانت وكالة رويترز قد ذكرت، أواخر الشهر الماضي، أن ناتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسورية، سلّمت قائمة المطالب للشيباني في اجتماع خاص على هامش مؤتمر المانحين لسورية في العاصمة البلجيكية بروكسل في 18 مارس/آذار الماضي. وأضافت الوكالة أن من ضمن مطالب واشنطن تدمير سورية أي مخازن أسلحة كيميائية متبقية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، وعدم تولي مقاتلين أجانب مناصب قيادية في الإدارة الحاكمة في سورية. بالإضافة إلى تعيين منسق اتصال لدعم الجهود الأميركية للعثور على أوستن تايس، الصحافي الأميركي الذي فُقد في سورية منذ أكثر من عشر سنوات.

كانت باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، التقت الرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق بعد أيام قليلة من إسقاط نظام الأسد. ووصفت في حينه اللقاء بـ”الإيجابي”، بُحثت خلاله عدة ملفات، منها انتقال السلطة في سورية، والتطورات الإقليمية ومحاربة تنظيم داعش، ومصير تايس ومواطنين أميركيين اختفوا في عهد نظام الأسد. وبعد اللقاء، ألغت واشنطن مكافأة وضعتها للقبض على الشرع عندما كان قائداً لـ”هيئة تحرير الشام”، وكانت تقدر بعشرة ملايين دولار، بعد تأكيد المسؤولة الأميركية أنه بدا في صورة “رجل عملي”.

اتخذت واشنطن عقب ذلك عدة إجراءات تجاه العهد الجديد في سورية، لعل أبرزها الرفع الجزئي لعقوبات مفروضة على سورية لمدة ستة أشهر، “للمساعدة في ضمان عدم عرقلة العقوبات الخدمات الأساسية واستمرارية وظائف الحكم في جميع أنحاء سورية، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي”.

والتقى الشرع والشيباني، أول من أمس السبت، مع عضو الكونغرس الأميركي كوري لي ميلز في قصر الشعب بدمشق. جاء ذلك ضمن زيارة ميلز سورية برفقة عضو آخر في الكونغرس، هو مارلين ستوتزمان، وأعضاء في التحالف السوري الأميركي للسلام والازدهار (saap)، وهو منظمة غير ربحية، الذي نظّم هذه الزيارة لـ”الاطلاع على الأوضاع في البلاد في ظل التغييرات التي تشهدها”. وفي تصريحات صحافية، قال ميلز إن رفع العقوبات الأميركية عن سورية يتطلب الكثير من الخطوات، مؤكداً أن بلاده “تريد رؤية واقع يسود فيه الاستقرار، وحكومة سورية منتخبة بشكل ديمقراطي”.

بشأن مطالب واشنطن ورد السلطة السورية عليها، ذكر الباحث السياسي السوري رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هناك ثمانية مطالب أميركية رئيسية من الحكومة السورية”، موضحاً أن دمشق “ردت على هذه المطالب عبر أربع صفحات”. وأضاف أن “الإدارة الأميركية تدرس الرد حالياً، والتقييم الأولي للرد إيجابي”.

من جانبه، اعتبر الدبلوماسي السوري السابق والمقيم في واشنطن بسام بربندي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن مطالب واشنطن والشروط الأميركية “واقعية”، لافتاً إلى أن “عدداً من هذه المطالب مطبّق بالفعل على أرض الواقع، خصوصاً ما يتعلق منها بإيران وعصاباتها”. أما نشاط “داعش” في سورية، فهو، وفق بربندي، متوقف بشكل “شبه كلي” منذ سقوط نظام الأسد، مضيفاً أن “موضوع العدالة الانتقالية والحكم الذي يمثل كل السوريين هو مطلب سوري قبل أن يكون أميركياً بالأساس”.

موقف ضبابي

لكن مطالب واشنطن هذه أدرجت أيضاً في سياق غياب الموقف الأميركي الواضح من الإدارة السورية الحالية. وبرأي الباحث السياسي السوري مؤيد غزلان، فإن “التردد والضبابية يخيّمان على السياسة الأميركية حيال سورية”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد” أن الشروط الأميركية الجديدة تثبت أن ما وصفه بـ”سياسة إغلاق الأجفان الأميركية” لا تزال “تمنع الرؤية الموضوعية لحقيقة الواقع السياسي في سورية”. وبيّن غزلان أن من ضمن شروط واشنطن ما هو “محقق فعلاً على الأرض مثل ما يتعلق بالفصائل الفلسطينية، فهي غير موجودة أصلاً على الأراضي السورية في المرحلة الراهنة”. وبرأيه، “لن تكون هناك أي تجمعات من أي جنسية في سورية تهدد أي دولة من دول الجوار. هذه سياسة سورية التي جرى الإعلان عنها والسير بها قدماً منذ أيام التحرير الأولى”.

من جهة أخرى، أشار غزلان إلى أن “من ضمن الشروط الأميركية ما يمس سيادة سورية بشكل واضح وجلي”. واعتبر أن “اشتراط واشنطن قيامها مع قوات التحالف الدولي باستهداف أي شخصية تهدد الأمن القومي انتهاك واضح لسيادة الدولة الوليدة التي انبثقت بعد صمود ثوري لسنوات طويلة ومعركة تاريخية خلصت العالم أجمع من تهديد محور إيران في الشرق الأوسط”. وعدّ “مكافحة الإرهاب والتهديدات المتطرفة لأمن سورية شأناً داخلياً”، مضيفاً أن “سورية هي من تختار الحليف المناسب للمضي في هذا المسار المطلوب سوريّاً، قبل أن يكون مطلوب دولياً، لأنه يهدد أمن المنطقة بأسرها، وهي معايير تتفق فيها دمشق مع المجتمع الدولي بأسره”. بالمقابل، اعتبر بعض المطالب “طبيعية”، موضحاً أن “دمشق أبدت كل الاستعداد والتعاون في ملف ترسانة الأسلحة الكيميائية منذ عدة أشهر”. وباعتقاده، فإن “الحوار المباشر مع دمشق بدلاً من اتباع سياسة المطالب المشروطة هو خير سبيل للوصول إلى توافق نهائي بين الولايات المتحدة وسورية في المنطقة”.

وشدّد على أن “وضع الشعب السوري تحت ثنائية السيادة أو إبقاء العقوبات له جواب واضح من الشعب السوري بأن السيادة تأتي أولاً ولتنتظر العقوبات. ننتظر حتى تتاح فرصة الحوار السوري الأميركي المباشر، وأن تتعامل واشنطن بواقعية أكثر مع الملف السوري لا عبر المطالب عن بعد”. ورأى أن “الولايات المتحدة الأميركية مصرة كما يبدو على وضع الشعب السوري بين الرغبة الملحة برفع العقوبات وشبح اليأس من المطالب الأميركية التي لا تنتهي والتي ترهن السيادة وتقرير المصير”.

وتحتفظ الولايات المتحدة بحضور عسكري مؤثر في سورية منذ نحو عشر سنوات في إطار التحالف الدولي الذي أسسته لمحاربة تنظيم داعش في سورية والعراق. لكن وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) أعلنت، الجمعة الماضي، أن الجيش الأميركي سيعمل على دمج قواته في سورية خلال الأسابيع والأشهر المقبلة “عبر اختيار مواقع محددة”، من دون تحديدها. وأضافت أن “هذه العملية المدروسة والمشروطة من شأنها خفض عديد القوات الأميركية في سورية إلى أقل من ألف جندي أميركي خلال الأشهر المقبلة”، أي النصف. وللجيش الأميركي نحو ألفي جندي في سورية موزعين على عدد من القواعد، معظمها في الشمال الشرقي من البلاد الذي يقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ذراع التحالف الدولي البرية في مواجهة تنظيم داعش. ومن شأن الانسحاب الأميركي من الشمال الشرقي من سورية تغيير خرائط السيطرة لصالح دمشق على حساب “قسد” التي لا تزال تسيطر على الجانب الأغنى (بالثروات) من البلاد، مستندة الى دعم واشنطن التي تدفع باتجاه تفاوض جدي بين هذه القوات والحكومة السورية لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية تمهيداً لسحب كل الجنود الأميركيين.

——————————————-

الاتحاد الأوروبي وسوريا: شروط تعجيزية أم فتح صفحة جديدة؟/ أحمد زكريّا

19 أبريل 2025

في تحول لافت، وإن كان محسوبًا، كشفت تصريحات مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عن ديناميكية جديدة في التعامل مع الملف السوري.

وبينما تشير هذه التصريحات إلى انفتاح أوروبي نسبي على الحكومة السورية الجديدة، إلا أن “الشروط الفنية” و”الخطوط الحمراء” التي تمت الإشارة إليها ترسم إطارًا مشروطًا لهذا الانفتاح، ما يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة المتوقعة والضغوط الكامنة خلفها.

رسالة واضحة أم حذر استراتيجي؟

تعكس تصريحات كالاس، التي جاءت في أعقاب اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، موقفًا مزدوجًا: الرغبة في دعم استقرار البلاد وإعادة الإعمار، والحذر من منح شرعية كاملة للحكومة السورية الجديدة دون ضمانات ملموسة.

ويتجلى هذا الحذر بشكل واضح في الإصرار على “تقييم العملية حتى الآن”، وربط أي خطوات مستقبلية بـ”الالتزام بشروط فنية وخطوط حمراء”.

وقالت كالاس: “لم نرَ خطوات كثيرة من القيادة السورية الجديدة ولا يزال مستقبل سوريا هشًا للغاية، لكنه يبعث على الأمل”، مضيفةً: “اتفقنا على أننا سنقيّم العملية حتى الآن لأننا رفعنا بعض العقوبات”.

ولفتت إلى أن “الاتحاد الأوروبي يعمل على اقتراح الخطوات التالية، مع مراعاة الشروط والخطوط الحمراء التي سنضعها أو الشروط التي يجب تحقيقها”. وزادت موضحة: “سنعمل على المواصفات الفنية هناك، ثم نعود إذا كنا مستعدين للموافقة والمضي قدمًا في هذه الخطوة”، مؤكدة على أن “إعادة إعمار سوريا تتطلب توفير الخدمات”.

إبراهيم خولاني، الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يفسر ذلك بالقول: “إن الحديث عن شروط وخطوط حمراء من الاتحاد الأوروبي يشير إلى أنهم ما زالوا مترددين في منح شرعية كاملة للحكومة الجديدة في دمشق، وهذا يعني أن هناك موقفًا حذرًا أو متوجسًا من المسار السياسي الجاري الآن، وأن هناك مخاوف من تكرار أنماط استبدادية أو التواءات سياسية قد تشبه ما كان عليه الوضع في عهد النظام السابق”.

وأضاف في حديثه لـ”الترا سوريا”: “توحي هذه التصريحات بأن الاتحاد الأوروبي يريد من الحكومة الجديدة التزامات ملموسة، قابلة للقياس والمراقبة، مثل احترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات السياسية، وإشراك أطراف أخرى كانت تعارض النظام السابق، وتوحي أيضًا بأن العقوبات ستظل أداة سياسية بيد الاتحاد الأوروبي للضغط على القيادة الجديدة وضمان ألا تنزلق مجددًا في ممارسات الاستبداد والتهميش، وألا تتبنى سياسات لا تتماشى مع المبادئ الأوروبية”.

    بينما يفتح الاتحاد الأوروبي الباب أمام علاقة جديدة مع سوريا، فإنه يضع شروطًا صارمة قد تحدد مسار هذه العلاقة

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الشروط مجرد آلية للضغط على دمشق، أم أنها تعبر عن عدم ثقة كاملة في المسار السياسي الجديد؟ يبدو أن الإجابة تكمن في محاولة الاتحاد الأوروبي تحقيق توازن دقيق بين تقديم الدعم اللازم لإعادة الإعمار وضمان ألا تتحول هذه الجهود إلى مظلة لتعزيز سلطة غير مرغوب فيها، حسب تعبير خولاني.

هل التحول الأوروبي مرتبط بالموقف الأميركي؟

لا يمكن تجاهل الدور الأميركي في تشكيل الموقف الأوروبي، فعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بقدر من الاستقلالية في قراراته، إلا أن التنسيق الوثيق بين الجانبين، خاصةً في ملفات الشرق الأوسط، يجعل من الصعب فصل الموقف الأوروبي عن التوجهات الأميركية.

محمد السكري، الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يقول لـ”الترا سوريا”: “لا أعتقد أن هناك تحولًا في موقف الاتحاد الأوروبي، وإنما إعادة توضيح السياسات الأوروبية بما يخص متابعة وتقييم الوضع في سوريا، والتذكير بأن الرفع الجزئي للعقوبات مقترن بإحداث تغييرات مطلوبة بملفات التنوع والانفتاح على جميع المكونات السورية”.

وتابع: “وبلا شك يتأثر الاتحاد الأوروبي بالموقف الأميركي المتوجس، لكن يعتبر موقف الاتحاد أكثر تقدمًا من الجانب الأميركي، وخاصةً في ظل بناء الثقة مع الحكومة السورية والزيارات المتبادلة”.

وفي السياق ذاته، يرى المحلل السياسي عزت الشيخ سعيد أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى الاستقلالية في اتخاذ قراراته، خاصةً في مواقفه وسياساته الخارجية. ويقول: “لابد أن نذكّر بالمقولة المعروفة، التي تقول إن الاتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي ولكنه قزم سياسي؛ بمعنى أنه يشغل دورًا هامًا في الاقتصاد العالمي، لكنه ذو أداء سياسي ضعيف وتابع لمواقف الولايات المتحدة الأميركية”.

وأضاف لـ”الترا سوريا”، أنه لابد أن نذكر أيضًا التصريحات التي أدلى بها نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، منذ أيام، حول تبعية دول الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة، حيث قال: “إن العديد من الدول الأوروبية كانت تفتقر إلى الحزم الكافي في معارضتها لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، ولو كانت أكثر استقلالية واستعدادًا لمواجهة قرارات السياسة الخارجية الأميركية، لربما أمكن تجنب الكارثة الاستراتيجية المتمثلة في غزو العراق”.

وقال الشيخ سعيد: “ما ذكرناه يدلل على أن الاتحاد الأوروبي افتقر سابقًا ويفتقر حاليًا لهذه الاستقلالية في اتخاذ قراراته، خاصةً في مواقفه وسياساته الخارجية، لذلك نرى هذا التردد في موقفه من سوريا وقيادتها الجديدة”.

وضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء

وتابع عزت الشيخ سعيد قائلًا: “كنا نأمل من الاتحاد الأوروبي دعم القيادة الحالية في سوريا، وهي تملك الكثير لتقدمه، في ملفات الأمن وبناء وإدارة الدولة وإعادة الإعمار وتدريب الكوادر في شتى المجالات، ورفع العقوبات الموضوعة على النظام البائد، لتستطيع هذه الدولة الناشئة تجاوز العقبات التي تعترض خروجها من هذا المخاض الصعب، لكنها آثرت وضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء”.

ولفت في سياق حديثه إلى أن “القيادة الجديدة ترتكب عديدًا من الأخطاء، مما ينفر الاتحاد الأوروبي من الانفتاح الذي نرجوه ونعوّل عليه، لكن مواجهة هذه الأخطاء لا تتم بوضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء، بل بالحوار المستمر لتلافي الأخطاء المرتكبة، ومن هنا يبقى الأمل أن يدرك قادة الاتحاد الأوروبي وقادة سوريا أيضًا، أن وجود دولة ناجحة على مرمى حجر من حدودهم يعود بالخير علينا وعليهم، ويبقى الأمل في أن تسعى الدول العربية للمبادرة في الانخراط والمساعدة في بناء سوريا دولة وطنية مدنية ناجحة، تقوم بدورها في محيطها العربي والإقليمي والإسلامي والعالمي أيضًا، كون ذلك يشجع باقي الدول للانخراط في دعم الدولة الوليدة، لتجاوز الوضع الصعب الذي ورثته عن النظام الإجرامي البائد”.

يبدو أن تقييم الاتحاد الأوروبي سيكون بوابة أساسية نحو رفع العقوبات عن سوريا، سواء بشكل جزئي أو كامل، ومع أن القرار الأخير بتخفيف بعض العقوبات المرتبطة بقطاعات الطاقة والنقل يعكس خطوة أولى في هذا الاتجاه، إلا أن الآليات القانونية والسياسية المعقدة تجعل رفع العقوبات مرهونًا بتحقيق مؤشرات إيجابية واضحة.

وأعلن الاتحاد الأوروبي نهاية شباط/فبراير الماضي تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، والتي طالت لسنوات قطاعات اقتصادية حيوية في البلاد. وشمل قرار رفع العقوبات مجموعة من القطاعات الرئيسية التي كانت تخضع لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية منذ سنوات، وأبرزها: قطاع الطاقة بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء، وقطاع النقل الذي كان يعاني بشدة من القيود المفروضة عليه.

كما قرر الاتحاد الأوروبي رفع خمس جهات سورية من قائمة الجهات الخاضعة لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية، وتضم هذه الجهات: المصرف الصناعي، مصرف التسليف الشعبي، مصرف التوفير، المصرف الزراعي التعاوني، مؤسسة الطيران العربية السورية.

وأوضح مجلس الاتحاد الأوروبي، في بيان رسمي له، أن هذه الخطوة تهدف إلى “تمكين تلك الجهات من استئناف نشاطاتها الاقتصادية”، كما تم السماح “بوضع الأموال والموارد الاقتصادية الخاصة بها تحت تصرف البنك المركزي السوري”.

ووفق إبراهيم خولاني، الباحث المساعد في مركز حرمون، فإن رفع العقوبات يتطلب دليلًا واضحًا على تغيّر فعلي في الوضع السياسي والحقوقي، ويُعد التقييم بوابة نحو رفع العقوبات الجزئي أو المشروط، ويشمل مراجعة الخطوات التي اتخذتها الحكومة الجديدة، مثل إطلاق سراح المعتقلين، وضمان حرية التعبير والتنظيم السياسي، وإذا وجد الاتحاد الأوروبي مؤشرات إيجابية، فقد يتجه إلى رفع جزئي للعقوبات أو تعليق بعضها، مثل تسهيل التحويلات المالية، وتخفيف العقوبات القطاعية، ومنح استثناءات إنسانية موسعة.

علاوة على ذلك، فإن تقييم الاتحاد الأوروبي قد يكون له تأثير غير مباشر على مواقف دول أخرى، خاصةً الخليجية منها، التي تنتظر إشارات من الغرب قبل المضي في مشاريع إعادة الإعمار أو تقديم الدعم المالي، وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي ليس فقط لاعبًا محوريًا في هذا الملف، بل أيضًا مصدر مرجعية للدول الأخرى، حسب خولاني.

طريق طويل مليء بالتحديات

وبينما يفتح الاتحاد الأوروبي الباب أمام علاقة جديدة مع سوريا، فإنه يضع شروطًا صارمة قد تحدد مسار هذه العلاقة، وفي ظل التداخل بين المصالح الأوروبية والأميركية، وبين الحاجة إلى إعادة الإعمار والحذر من الانزلاق نحو ممارسات سابقة، يبدو أن الطريق ما زال طويلًا ومليئًا بالتحديات.

ويبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن الحكومة السورية الجديدة من تلبية هذه الشروط؟ وهل سيكون هناك توافق أوروبي أميركي على خطوات مستقبلية؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد إلى حد كبير ملامح المرحلة المقبلة في الملف السوري.

——————-

الاتحاد الأوروبي وسوريا: شروط تعجيزية أم فتح صفحة جديدة؟/ أحمد زكريّا

19 أبريل 2025

في تحول لافت، وإن كان محسوبًا، كشفت تصريحات مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عن ديناميكية جديدة في التعامل مع الملف السوري.

وبينما تشير هذه التصريحات إلى انفتاح أوروبي نسبي على الحكومة السورية الجديدة، إلا أن “الشروط الفنية” و”الخطوط الحمراء” التي تمت الإشارة إليها ترسم إطارًا مشروطًا لهذا الانفتاح، ما يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة المتوقعة والضغوط الكامنة خلفها.

رسالة واضحة أم حذر استراتيجي؟

تعكس تصريحات كالاس، التي جاءت في أعقاب اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، موقفًا مزدوجًا: الرغبة في دعم استقرار البلاد وإعادة الإعمار، والحذر من منح شرعية كاملة للحكومة السورية الجديدة دون ضمانات ملموسة.

ويتجلى هذا الحذر بشكل واضح في الإصرار على “تقييم العملية حتى الآن”، وربط أي خطوات مستقبلية بـ”الالتزام بشروط فنية وخطوط حمراء”.

وقالت كالاس: “لم نرَ خطوات كثيرة من القيادة السورية الجديدة ولا يزال مستقبل سوريا هشًا للغاية، لكنه يبعث على الأمل”، مضيفةً: “اتفقنا على أننا سنقيّم العملية حتى الآن لأننا رفعنا بعض العقوبات”.

ولفتت إلى أن “الاتحاد الأوروبي يعمل على اقتراح الخطوات التالية، مع مراعاة الشروط والخطوط الحمراء التي سنضعها أو الشروط التي يجب تحقيقها”. وزادت موضحة: “سنعمل على المواصفات الفنية هناك، ثم نعود إذا كنا مستعدين للموافقة والمضي قدمًا في هذه الخطوة”، مؤكدة على أن “إعادة إعمار سوريا تتطلب توفير الخدمات”.

إبراهيم خولاني، الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يفسر ذلك بالقول: “إن الحديث عن شروط وخطوط حمراء من الاتحاد الأوروبي يشير إلى أنهم ما زالوا مترددين في منح شرعية كاملة للحكومة الجديدة في دمشق، وهذا يعني أن هناك موقفًا حذرًا أو متوجسًا من المسار السياسي الجاري الآن، وأن هناك مخاوف من تكرار أنماط استبدادية أو التواءات سياسية قد تشبه ما كان عليه الوضع في عهد النظام السابق”.

وأضاف في حديثه لـ”الترا سوريا”: “توحي هذه التصريحات بأن الاتحاد الأوروبي يريد من الحكومة الجديدة التزامات ملموسة، قابلة للقياس والمراقبة، مثل احترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات السياسية، وإشراك أطراف أخرى كانت تعارض النظام السابق، وتوحي أيضًا بأن العقوبات ستظل أداة سياسية بيد الاتحاد الأوروبي للضغط على القيادة الجديدة وضمان ألا تنزلق مجددًا في ممارسات الاستبداد والتهميش، وألا تتبنى سياسات لا تتماشى مع المبادئ الأوروبية”.

    بينما يفتح الاتحاد الأوروبي الباب أمام علاقة جديدة مع سوريا، فإنه يضع شروطًا صارمة قد تحدد مسار هذه العلاقة

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الشروط مجرد آلية للضغط على دمشق، أم أنها تعبر عن عدم ثقة كاملة في المسار السياسي الجديد؟ يبدو أن الإجابة تكمن في محاولة الاتحاد الأوروبي تحقيق توازن دقيق بين تقديم الدعم اللازم لإعادة الإعمار وضمان ألا تتحول هذه الجهود إلى مظلة لتعزيز سلطة غير مرغوب فيها، حسب تعبير خولاني.

هل التحول الأوروبي مرتبط بالموقف الأميركي؟

لا يمكن تجاهل الدور الأميركي في تشكيل الموقف الأوروبي، فعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بقدر من الاستقلالية في قراراته، إلا أن التنسيق الوثيق بين الجانبين، خاصةً في ملفات الشرق الأوسط، يجعل من الصعب فصل الموقف الأوروبي عن التوجهات الأميركية.

محمد السكري، الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يقول لـ”الترا سوريا”: “لا أعتقد أن هناك تحولًا في موقف الاتحاد الأوروبي، وإنما إعادة توضيح السياسات الأوروبية بما يخص متابعة وتقييم الوضع في سوريا، والتذكير بأن الرفع الجزئي للعقوبات مقترن بإحداث تغييرات مطلوبة بملفات التنوع والانفتاح على جميع المكونات السورية”.

وتابع: “وبلا شك يتأثر الاتحاد الأوروبي بالموقف الأميركي المتوجس، لكن يعتبر موقف الاتحاد أكثر تقدمًا من الجانب الأميركي، وخاصةً في ظل بناء الثقة مع الحكومة السورية والزيارات المتبادلة”.

وفي السياق ذاته، يرى المحلل السياسي عزت الشيخ سعيد أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى الاستقلالية في اتخاذ قراراته، خاصةً في مواقفه وسياساته الخارجية. ويقول: “لابد أن نذكّر بالمقولة المعروفة، التي تقول إن الاتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي ولكنه قزم سياسي؛ بمعنى أنه يشغل دورًا هامًا في الاقتصاد العالمي، لكنه ذو أداء سياسي ضعيف وتابع لمواقف الولايات المتحدة الأميركية”.

وأضاف لـ”الترا سوريا”، أنه لابد أن نذكر أيضًا التصريحات التي أدلى بها نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، منذ أيام، حول تبعية دول الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة، حيث قال: “إن العديد من الدول الأوروبية كانت تفتقر إلى الحزم الكافي في معارضتها لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، ولو كانت أكثر استقلالية واستعدادًا لمواجهة قرارات السياسة الخارجية الأميركية، لربما أمكن تجنب الكارثة الاستراتيجية المتمثلة في غزو العراق”.

وقال الشيخ سعيد: “ما ذكرناه يدلل على أن الاتحاد الأوروبي افتقر سابقًا ويفتقر حاليًا لهذه الاستقلالية في اتخاذ قراراته، خاصةً في مواقفه وسياساته الخارجية، لذلك نرى هذا التردد في موقفه من سوريا وقيادتها الجديدة”.

وضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء

وتابع عزت الشيخ سعيد قائلًا: “كنا نأمل من الاتحاد الأوروبي دعم القيادة الحالية في سوريا، وهي تملك الكثير لتقدمه، في ملفات الأمن وبناء وإدارة الدولة وإعادة الإعمار وتدريب الكوادر في شتى المجالات، ورفع العقوبات الموضوعة على النظام البائد، لتستطيع هذه الدولة الناشئة تجاوز العقبات التي تعترض خروجها من هذا المخاض الصعب، لكنها آثرت وضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء”.

ولفت في سياق حديثه إلى أن “القيادة الجديدة ترتكب عديدًا من الأخطاء، مما ينفر الاتحاد الأوروبي من الانفتاح الذي نرجوه ونعوّل عليه، لكن مواجهة هذه الأخطاء لا تتم بوضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء، بل بالحوار المستمر لتلافي الأخطاء المرتكبة، ومن هنا يبقى الأمل أن يدرك قادة الاتحاد الأوروبي وقادة سوريا أيضًا، أن وجود دولة ناجحة على مرمى حجر من حدودهم يعود بالخير علينا وعليهم، ويبقى الأمل في أن تسعى الدول العربية للمبادرة في الانخراط والمساعدة في بناء سوريا دولة وطنية مدنية ناجحة، تقوم بدورها في محيطها العربي والإقليمي والإسلامي والعالمي أيضًا، كون ذلك يشجع باقي الدول للانخراط في دعم الدولة الوليدة، لتجاوز الوضع الصعب الذي ورثته عن النظام الإجرامي البائد”.

يبدو أن تقييم الاتحاد الأوروبي سيكون بوابة أساسية نحو رفع العقوبات عن سوريا، سواء بشكل جزئي أو كامل، ومع أن القرار الأخير بتخفيف بعض العقوبات المرتبطة بقطاعات الطاقة والنقل يعكس خطوة أولى في هذا الاتجاه، إلا أن الآليات القانونية والسياسية المعقدة تجعل رفع العقوبات مرهونًا بتحقيق مؤشرات إيجابية واضحة.

وأعلن الاتحاد الأوروبي نهاية شباط/فبراير الماضي تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، والتي طالت لسنوات قطاعات اقتصادية حيوية في البلاد. وشمل قرار رفع العقوبات مجموعة من القطاعات الرئيسية التي كانت تخضع لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية منذ سنوات، وأبرزها: قطاع الطاقة بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء، وقطاع النقل الذي كان يعاني بشدة من القيود المفروضة عليه.

كما قرر الاتحاد الأوروبي رفع خمس جهات سورية من قائمة الجهات الخاضعة لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية، وتضم هذه الجهات: المصرف الصناعي، مصرف التسليف الشعبي، مصرف التوفير، المصرف الزراعي التعاوني، مؤسسة الطيران العربية السورية.

وأوضح مجلس الاتحاد الأوروبي، في بيان رسمي له، أن هذه الخطوة تهدف إلى “تمكين تلك الجهات من استئناف نشاطاتها الاقتصادية”، كما تم السماح “بوضع الأموال والموارد الاقتصادية الخاصة بها تحت تصرف البنك المركزي السوري”.

ووفق إبراهيم خولاني، الباحث المساعد في مركز حرمون، فإن رفع العقوبات يتطلب دليلًا واضحًا على تغيّر فعلي في الوضع السياسي والحقوقي، ويُعد التقييم بوابة نحو رفع العقوبات الجزئي أو المشروط، ويشمل مراجعة الخطوات التي اتخذتها الحكومة الجديدة، مثل إطلاق سراح المعتقلين، وضمان حرية التعبير والتنظيم السياسي، وإذا وجد الاتحاد الأوروبي مؤشرات إيجابية، فقد يتجه إلى رفع جزئي للعقوبات أو تعليق بعضها، مثل تسهيل التحويلات المالية، وتخفيف العقوبات القطاعية، ومنح استثناءات إنسانية موسعة.

علاوة على ذلك، فإن تقييم الاتحاد الأوروبي قد يكون له تأثير غير مباشر على مواقف دول أخرى، خاصةً الخليجية منها، التي تنتظر إشارات من الغرب قبل المضي في مشاريع إعادة الإعمار أو تقديم الدعم المالي، وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي ليس فقط لاعبًا محوريًا في هذا الملف، بل أيضًا مصدر مرجعية للدول الأخرى، حسب خولاني.

طريق طويل مليء بالتحديات

وبينما يفتح الاتحاد الأوروبي الباب أمام علاقة جديدة مع سوريا، فإنه يضع شروطًا صارمة قد تحدد مسار هذه العلاقة، وفي ظل التداخل بين المصالح الأوروبية والأميركية، وبين الحاجة إلى إعادة الإعمار والحذر من الانزلاق نحو ممارسات سابقة، يبدو أن الطريق ما زال طويلًا ومليئًا بالتحديات.

ويبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن الحكومة السورية الجديدة من تلبية هذه الشروط؟ وهل سيكون هناك توافق أوروبي أميركي على خطوات مستقبلية؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد إلى حد كبير ملامح المرحلة المقبلة في الملف السوري.

——————-

==============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى