سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

ذكرى تبدأ بـ…توتة توتة/ عبير داغر إسبر

السبت 2025/04/26

أن نحكي يعني أن نتذكّر. لترويَ مدينة، عليك ألّا تدخلها من أبوابها فحسب، بل أن تفكّ طلاسم إشاراتها المرمية في ذاكرتك. فللمدن أصوات وروائح قد تكون عبقة أو مريبة، سلِمية أو مشرّعة الرماح. المدن تُروى بالحواس، بلغةٍ أكثر حصافةً وإفصاحاً، أكثر أناقةً وإبداعاً، أكثر حسيّةً وتصويرية من صفِّ مفردات راوٍ ماهر. لغة المدن عمارتها. لغةٌ تدربت لقرون على أن تكون مخاتلة، زلقة، أفعوانية النوايا.

قد تظن بعد ارتحالك الطويل أنك أتقنت تلك اللغة لتكرار حروفها في الأمكنة البعيدة والقريبة، وتناثر مفرداتها في أرجاء الكون. لكن تكرار مفرداتها العمرانية لا يعني أن المدينة المنتقاة قد سلّمتك حكايتها، أو فتحت باب تاريخها الروائي لمشاع المريدين والحكّائين والمنتصرين. فكلما طال وجود مدينة، كلما تعقّدت مساراتها الروائية وكثرت حبكاتها، واحتدمت طبقات الصراع بين سنواتها. هكذا هي المدن العتيقة: لا تتحرّك بنزق الشبان، تمنعها حكمتها من الانهيارات الكبرى. قد تهرم وتشيخ، قد تتعب وتيأس، لكنها نادراً ما تموت… وحتى إن فعلت، تترك أبنيتها لتحكي.

وأنا، ككل منفي، يشغلني الحكي، كما يشغلني سؤال الذاكرة، لا بأحقيتها بالحنين، بل بسؤالها الأكثر إلحاحاً: هل باستطاعتنا توطين الذاكرة؟ ذاكرتنا الغامضة، غير الحكائية؟ رائحة الرطوبة في غرفة “المونة”، قشعريرة الرعب فوق الأكتاف العارية لجسدين في ظلام الطابق الأخير لبناء مهجور… كيف نكتب عن رائحة أو نرسم قشعريرة، كيف نحكي لحظة رعب – وأجسادنا القزمية نازلةٌ صاعدةٌ في الأقبية الحجرية – من دون أن نمارس خيانة التبسيط؟

في سؤال المنفى، تحاصرني الشام. أخاف أن أدعوها دمشق، فتُخلق المسافة وتزداد غربتي غربة. أكتبها وأعيشها ككل منفي، تحضر كنصّ لا يعنيني فيه سوى أن أملك مكاناً، لا لأوطّن جسدي فيه فحسب، بل ذكرياتي عن ذاك الجسد، عن تمرّغه في الأمكنة، ارتحاله فيها، لأعلن بالصوت، واللمسة، والتذوّق، حصاد سنوات من التيه والضياع، اللقى والألفة.

ككل غريب، أحب أن أخلق معادلاً للحكايات وأزرعه في رحم الأمكنة علّني أزهر في مكاني الجديد، أُخلق من جذرٍ أتسامح مع هجينيّته ومع المنفى فيه. فأماكن المنفيين “مخزّقة”، مرقّعة، وهجينة. كل ما فيها فولكلوري، حتى استعادتها فولكلورية، مهزوزة المشاعر، مقلقلة التوطين. تنفرط  فيها الكلمات كحبّات رمان في قبضة طفل. فإن كانت المدينة نصاً، فإن لغتها هي التفاصيل الغامضة، التي حين استحضرتها من منفاي وكتبتها، بدت هكذا:

“تركت الشام من دون أن أحمل منها ولو ذرّة غبار في صدري، أو سواد إسفلت على حذائي الجديد. لم آسف لأني لم أشمّ ياسمينها المخلوط برائحة بردى الآسنة. فحصّتي منها هي حصص صوتيّة، حصص الخفاء والأسرار للمدن التي تكره الإفصاح وتعبد وشوشات الأبواب والأيدي المتشابكة للعشّاق الهواة، تعيش زمنها بين طرطقات ملاعق الغداء عند الثانية تمامًا، ورعشات الصمت التي تضرب عامودك الفقري في ‘بيت الدرج’ للأبنية العالية، وأنت تُرمى في خرمشات ملابس حبيبك الشتائية، وفي لهفة القُبل العمياء في بيوت المصاعد وأنين مواتيرها الجهنمية، وهسهسة التراب في الطرقات المهجورة في برد الساعة الخامسة مساءً. فمن لم يزُر الشام في الشتاء، من لم يمشِ في طرق مسفلتة بالريح، لن يعيَ أن عزلة الساعة الخامسة مساءً لا يضاهيها رعب سوى فحيح الأوراق التي تسقط كمخالب تحفر في بداية كل ليل قبورًا للساعات المنقضية في فعل اللاشيء”.

وهكذا ألاحق بذاكرة غامضة، ذكرها ألكسندر كليج في كتابه عن الإدراك غير المفهرس. حيث إن الذاكرة هنا ليست وثيقة، بل أثر. ليست سلسلة من الأحداث المترابطة، بل شبكة غير مرئية من الإشارات المتناثرة، قد تظهر حين نظن أننا في مأمن من التذكّر. تتسرّب حين لا نكون متنبهين، حين نغلق الباب معتقدين أننا غادرنا، فتنزلق تحت العتبة وتلحق بنا. تتنكّر في رائحة خبز محترق تُشبه الصباحات القديمة، أو في صوت حذاء مثقوب بمسامير الفقر يقرقع في ممر بلاطي طويل.

في Sans Soleil، يصوغ كريس ماركر فيلماً بلا زمن ولا بداية، بل شذرات من مدن، من وجوه، من لحظات. كأنه يكتب من داخل اللاوعي البصري للعالم. لا يحكي عن أحداث، بل عن ارتجاجاتها داخل النفس. يحوّل المشاهد إلى صدى شعوريّ، ويعيد خلق ذاكرة لا توثق الحدث بل الإحساس به. يقول في واحد من أكثر مشاهده سكوناً: “الذاكرة، مثل الحلم، لا ترتّب نفسها. إنها تملي فقط… كأنها تكتبنا”.

وهذا ما اقترفه، من دون ذرة ندم أو خفقة رمش. أندريه تاركوفسكي، حين جعل من الذاكرة بوصلة للرؤية في المرآة، لم يسعَ إلى توثيق زمنٍ مضى، بل إلى استعادته بالشكل الوحيد الممكن: فأعاد اكتشاف إمكانات الحلم وقهر الزمن. لا تسلسل زمنياً، لا حبكة. فقط صور تتردد كأنها أحلام يقظة. ويصرّ تاركوفسكي على أن “الذاكرة ليست آلة تسجيل، بل طريقة للبقاء في الزمن الذي مضى”. يقدّم الذاكرة كحيّز مقاومة ضد المحو، ضد الرواية الرسمية، ضد النسيان الذي تفرضه الحكايات المكتملة. الصور عنده لا تُستعرض بل تُستحضر، كأرواح، ككائنات تتنفس ببطء داخل غرفة الوعي.

هذه هي ذاكرتنا الحسيّة، خيط غير مرئي بيننا وبين أمكنتنا، أو ما نودّ أن نُوطّن بداخلنا. أثرٌ حسيّ لا روائي، يعيد تشكيل حاضرنا من دون أن ننتبه، جاعلاً من السير في شارع قديم تجربةً وجودية، حيث لا تستأذن الذاكرة حين تعود… بل تنقر فوق كتفك فجأة، وتهمس: كنت هنا، ولا تزال. هكذا هي الأمكنة: تسكننا، حتى حين لا نسكنها. تظل تحكي، لا كقصة، بل كوسمٍ على حواس المنفيّ، حين تبدأ كل ذكرى بـ…توتة، توتة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى