جان جينيه في طنجة: كاتب لايكتب!/ كيوم دو سارد
ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
يسلط هذا النص الذي تقدم ترجمته العربية الضوء على تفاصيل دالة من سيرة الكاتب الفرنسي الراحل جان جينيه، التي تتعالق بحضوره في طنجة. سيكون في مقدور القارئ الإحاطة علما باحتضان هذه المدينة الكوزموبوليتية للطور الأخير في سيرة الأسير العاشق، التي تميزت بقطيعته التامة مع الكتابة الإبداعية، واعتناقه لقضايا الشعوب المقهورة والمضطهدة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
كان جان جينيه قد تقدم في السن حين وصوله إلى طنجة. ينبغي أن نتخيل رجلا قصير القامة في عقده السادس، وما يسمه حركات تنم عن الكسل، وشعر أشيب واحديداب في الظهر مثلما يبدو رفقة محمد شكري في الصورة الفوتوغرافية التي يعود تاريخها إلى صيف عام 1969. لم يكن دميما او وسيما، وقد عصف الصلع برأسه، وكان له أنف أفطس يشبه أنف ملاكم، وعينان صغيرتان متقاربتان جدا. كان يشكو من ألم المفاصل، وقد تخلى تماما عن ارتداء الثياب الفاخرة ذات الألوان الزاهية، التي رام من خلالها في ما مضى من الزمان إلى التميز: البذلة ذات اللون الوردي، والقفازان المصنوعان من جلد الغزال. استعاض عن ذلك بثياب بسيطة، محاكيا في ذلك دون ريب جياكوميتي، الذي استعار منه أيضا مزاجه الساخر الحاد. وعلى الرغم من هذا المظهر الذي لا يثير أدنى اهتمام، فقد كان ما يفتأ مثيرا ومغويا لكل من يحيط به. كانت نظرته متقدة ولَم يفقد شيئا من سرعة بديهته ومكره المثيرين للرعب، اللذي ن راقا لجان كوكتو، إلى درجة لم يسعه إلا تدوينهما في مذكراته عقب لقائهما الأول.
كان جينيه قد كتب رواياته، أو تمثلها على الأقل وهو قيد الاعتقال، وقد صرح في طنجة للكاتب المغربي محمد شكري، بأنه أصبح كاتبا كي يخرج من السجن. لم تكن الكتابة إلا وسيلة كي يستعيد حريته. سمح لنفسه بالقول: لم أهتم إطلاقا بالأدب. أتخيل أن ثمة في هذا الاعتراف من الاستفزاز أكثر مما فيه من الصدق. كان جينيه يحب صدم المتلقين. كان يجد وقد أصبح شهيرا لذة ومتعة في تقوية موهبته، وقد مثل ذلك جزءا لا يتجزا من أسطورته بوصفه كاتبا صلبا حقيقيا. ليس من السهل تبين وإدراك التبجح والغرور المتضمنين في الرغبة في الكتابة، ومن شأن التفسير المنفعي أن يحل هذه الإشكالية. كان جينيه أكثر مصداقية على الرغم من التبجح الذي يحمله تصريحه لجوهاندو: السجن ليس سجنا. إنه حرية. وهناك يمكنك أن تتخلص من الأشياء التي لا معنى لها، كي نعود إلى ما جوهري وأساسي. قاد الحبس جان جينيه إلى الكتابة، بل يمكن القول إنه أرغمه ارغاما. ماذا في وسعه أن يفعل غير ذلك داخل زنزانته؟ يتيح السجن شأنه في ذلك شأن عزلة الراهب، وفِي الوقت ذاته، الذي تقوم بفرضها شروط الكتابة: التأمل وقهر السأم. وقد أوشك على المخاطرة بأسطورته حين اعترف في وقت لاحق في سياق أحد حواراته: ما الذي يسعك أن تفعل داخل السجن باستثناء أن تحلم؟ والحال أن كتبي الأولى، أقصد كتبي الوحيدة كانت أحلاما مبنينة بشكل أفضل.
يعتبر فعل الكتابة وسيلة للانفلات من البؤس الكاتم للأنفاس، والعزلة المفروضة التي لا يتم تأجيجها إلا بما تحرم منه، أقصد الجنس والحريّة. ولعل هذا ما يفسر الحضور الكثيف والحاد في نصوص جينيه للإيروسية والانتهاك، التي تمثل المثلية الجنسية تركيبا لها: «سيدة الزهور» 1943، «معجزة الوردة» 1946، «عراك بريست» 1947، «وكالات جنائزية» 1948، «يوميات لص» 1949.
ولأن القدرة على العيش بامتلاء تعوزه، فإن جان جينيه يحيا من خلال الكتابة. ويستوي في ذلك أن يتذكر أو يتخيل.
وبهذا الصنيع تكون الهوية في تجربته السجنية، مطابقة بشكل تام لهوية الماركيز دو ساد. فقد تمكن هذا الاخير داخل سجن الباستيل من القراءة، خصوصا الكتابة وهو ما كان نادر الحدوث من قبل. تصدر سيمون دو بوفوار هذا التقييم: يدخل الرجل إلى السجن ويخرج منه كاتبا. يعيش دو ساد الكتابة بوصفها انعتاقا. وفِي رسالة بعث بها في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1783 إلى زوجته التي كانت تحثه على أن لا يخط فوق الورق أشياء غير ملائمة. كانت مخطوطاته تحتجز بانتظام مثيرة باطراد حفيظة إدارة السجن. كان ساد يبرر اختياره بقوله الكتابة هي العزاء الوحيد في حياتي؛ إذ تخفف آلامي وأوجاعي وتشكل كل ملذاتي في هذا العالم. وتتجسد استيهاماته الأكثر عنفا من خلالها وهو ما أسهم بعد سنتين من ذلك عملا أدبيا فتانا في الأدب الفرنسي «المئة والعشرون عاما لسدوم». وليس من المستغرب والحالة هذه أن يكون ساد أحد الكتاب ذوي الحظوة عند جان جينيه. وقد كان من القلائل بمعيّة بروست ورامبو ومالارميه، الذين يذكرهم في حواراته والذي يعتبر نفسه قريبا منهم. ذلك أن ثمة هذا التواطؤ نفسه الذي يوحد الأعمال المكتوبة داخل السجن. العدو الصريح.
وإذا كان الأدب قد أتاح لجينيه أن يخرج من السجن، فذلك باعتباره وسيلة للانعتاق. وحين كان يقرأ بروست داخل زنزانته متنقلا من فتنة إلى أخرى، أو حين كان يشتغل على أحد أعماله الروائية، فان جينيه كان يسرح في كون آخر. وإذا كانت عبقريته قد أتاحت له في النهاية أن يحظى بدعم أشخاص رفيعي المقام وأن يحصل على عفو من رئيس الجمهورية في نهاية محاكمة سارت بذكرها الركبان، فإن تأثير ذلك كان متوقعا. تبدو الكتابة شكلا من أشكال المقاومة؛ ذلك أن جينيه يكتب رغم الأسوار والحفر والجلادين والقضاة. العدو الصريح.
وما أن اكتسب تفكيره رحابة، رغم الخصومات واكتسى طابعا سياسيا حتى أصبح حقده يدور في الفراغ. وقد اضمحل بهدوء إلى أن توقف تماما عن الكتابة. وكان قد انتهى إلى هذا الطور حين حلّ بطنجة. لم يتوقف تحديه رغم ذلك لكل ما يشبه المؤسسة، أو يبدو كما لو أنه يمارس رقابة على شخصه. لم يكن على سبيل التمثيل يتوفر على أي حساب في أي مؤسسة بنكية. ولم يكن يرغب في أن يتقاضى تعويضاته إلا نقدا. وقد روت فلورانس مالرو مساعدة أورسون ويلز، ومعها كريس ماكر وفرانسوا تروفو وآلان كافاليي عام 1960 أنها رأته يحل وسط بعض الأصدقاء وبحوزته كيس مملوء بالأوراق النقدية. وكان قد باع لتوه سيناريو «الآنسة» للمرة الألف. كان يحمل أمواله في طنجة نقدا على شكل رزم ضخمة.
وكان يعلق على ذلك قائلا: أحبذ هذه الطريقة. كانت مكتبة الأعمدة في طنجة تعود ملكيتها لدار غاليمار، وتديرها السيدتان جيروفي وكانتا زوجا من المثليات تضطلع بدور مؤسسته البنكية. وكان يتردد عليها بين الفينة والأخرى كي يطلب بعض المال. وكان يجلس بعد ذلك على سطيحة مقهى كلاريدج الملاصقة للمكتبة ويأخذ في الحديث مع الزبائن المغاربة. ولأن جيوبه كانت مكتظة دوما بالأوراق النقدية فقد كان يحكم إغلاقها بدبابيس خاصة بحفاظات الرضع. لم يكن يعوزه الحذر، وقد اعترف رغم ذلك بأنه كان عرضة للسرقة. لم يكن يحفل بالأمر وإذا فطن لذلك فإنه يعمد إلى سرقة السارق، وإذا حاق به الفشل فانه يقصد من جديد إلى غاليمار. ما تزال مكتبة الأعمدة موجودة وقد آلت ملكيتها إلى بيير بيرجي. وقد لاحظت بأن كتب جان جينيه ما تزال معروضة في مكان جيد بمعيّة كتب أخرى خصصت له وفِي مقدمتها السيرة الرائعة التي كتبها أدمون وايت، وكتاب جان بول سارتر وعدد خاص من المجلة الأدبية الموسومة «نجمة» أو الكاتالوغ الخاص بمعرض جان جينيه الذي أقيم عام 2016. وعلى الحائط سورة بالأبيض والأسود للكاتب. في سنوات السبعينات كان ثمة بورتريه لجان جينيه في مكتبة الأعمدة. بيد أن الكاتب أصر على أن يتم نزعه مهددا بان لا تطأ قدماه مكتبة جيروفي، إن لم يتم تنفيذ طلبه. كانت شهرته مثار إزعاج له، وكانت طنجة بمثابة فضاء يحتضن تقاعده عن العمل والكتابة.
يقول صمويل بيكيت عن طنجة إنها إحدى المدن القليلة التي يمكن أن نمارس فيها الكتابة. بيد أن جينيه لم يشرع ولَم ينخرط في الكتابة حين وصوله. وكان قد اشتكى عام 1958 لوكيل أعماله بيرنار فريشتمان: الكتابة تشعرني أكثر فأكثر بالقرف. وفِي إبريل/نيسان من عام 1964 وبعد انتحار صديقه عبد الله بن تاغا، الذي مثل نموذج البهلوان 1957 عمد أثناء وجوده في مدينة نيس إلى إتلاف وإحراق حقيبة بكاملها كانت تحوي كما من مخطوطات كتبه: كتابه عن رامبرانت ومسرحية بعنوان السجن والساحرة. وقد قيم جان بول سارتر هذا الفعل بقوله إنه تخلص من هذه المخطوطات ليس بسبب شعوره باليأس وانعدام الجدوى والندم، وإنما بسبب اعتبارها أقل قيمة؛ وهو تقييم مجاني صرف؛ ذلك أن النص التمهيدي لبحثه الخاص برامبرانت، الذي نشره فيليب سولرس عام 1967 في مجلة «تيل كيل» بعنوان؛ ما تبقى من رامبرانت، الذي مزق في شكل مربعات صغيرة شديدة التناسق وقذف به إلى دورة المياه مثير وجذاب. وما من شك في أن جان بول سارتر الذي لم يكن ميالا إلى إتلاف وتمزيق مخطوطات كتبه، قد أسقط سيكولوجيته الخاصة على سيكولوجية جينيه.
ومهما يكن فقد تحول جينيه في طنجة إلى كاتب لا يكتب. وقد اعتبر في هذا الخصوص، أنه لم يعد في حوزته ما يضيفه إلى أعماله. وقد أصبح اهتمامه وولعه منصبين على السياسة. وفِي عام 1986 وفِي غمرة حوار أدلى به بمناسبة رحيل جينيه تذكر الكاتب جورج لا باساد، إن جان جينيه اعتنق السياسة مثل اعتناقه للدين. وهو ما يشي بالجود الذي كان يتسم به. كان بالنسبة إليه وجود للخير والشر والأبيض والأسود والرب والشيطان.
لقد اعتنق جينيه في غياب الكتابة قضايا الشعوب المضطهدة الرازحة تحت نير الاستعمار. وإذا كانت دوافعه عصية على الكشف، فقد كان مؤكدا أنه ألفى في ذلك وسيلة لمهاجمة المجتمع الفرنسي. كان الأمر قد تعلق بالنسبة إليه بمنبر مثالي. كان كل شخص يتخلى عن فرنسا، أو يخونها يلهمه أو يوحي له بالتعاطف بمقدار الكراهية التي يمحضها لها. ألم يعمد إلى الإشادة بالميليشيا في عمله الموسوم «وكالات جنائزية»؟ غمرتني على امتداد ثلاث سنوات سعادة حانية مردها رؤية فرنسا، وهي واقعة تحت رعب فتية تتراوح أعمارهم بين ستة عشر وعشرين سنة.
اتخذ منذ عام 1955 موقفا مناهضا للحضور الاستعماري لفرنسا في المغرب العربي، ووقع في هذا الصدد صحبة فرانسوا مورياك وجان بول سارتر وفرانسواز ساغان بيانا قدم على أثره في الصحافة الفرنسية بوصفه لواطيا محترفا ولصا ذَا سوابق، ومخبرا يعمل لفائدة الشرطة. بيد أن أحداث مايو/أيار 1968 هي التي حددت في الحقيقة بداية التزامه السياسي. وقد كتب في هذا السياق مقالا في جريدة «لو نوفيل أوبسرفاتور» أبدى فيه دعمه لدانييل كوهن بينيديت. وقد شارك بعد شهور من ذلك في مظاهرة في شيكاغو ضد الحرب في فيتنام. وقد وضع بعد ذلك شهرته في خدمة حزب الفهود السود، من خلال سلسلة من المحاضرات كانت آخرها في جامعة يال الأمريكية.
* كاتب فرنسي
كاتب ومترجم مغربي
القدس العربي