رجلُ الأمن السوريّ يبيعُ الخواتمَ والأساور… وغالباً البشر/ كارمن كريم
إنها الحياة التي اختارها نظام الأسد للسوريين، حياة النظرات المريبة وحياة “الحيطان لها آذان”، هؤلاء هم آذان السلطة، إنهم في الأزقة والشوارع يبيعون البوالين والمجوهرات والبشر.
على رغم تجاهلي إياه مذ فتح بسطتهِ المريبة على زاوية الحارة التي أقطن فيها، وتحاشيّ نظراتهِ المريبة إلّا أنّه وكلما انعطفتُ لأدخل الحارة تتبعني بعينيه، ربما تزعجه فكرة عدم معرفتي حتى الآن، سائلاً لماذا لا تشتري هذه الصبية الخواتم والحُلّي ككلّ فتيات الحيّ؟ أيعرفني بالفعل؟
كان هذا الشاب الثلاثيني قد فتح شيئاً أشبه بالبسطة المصغرة مع لوحٍ أحمر علّقت عليه عشرات الأطواق والأساور والخواتم من النوعية الرخيصة. إنّه رجل أمن، جميعنا يعلم ذلك، أقصد قاطنو المنطقة، فنحن نعرفهم من أشكالهم ولباسهم وطريقة تحركهم وإن كنا محظوظين لمحنا السلاح مخبأ على خصورهم وتأكدنا بالفعل أنّهم رجال أمن.
رجلُ الأمن يحمل البوالين
ألمحهُ أثناء مروري ينصح فتاة قائلاً لها: “هذا قرط (مدندش شوي) أي طويل لكن هذا بسيط”، أنظرُ إلى كلا القرطين وأدرك أنّه لا يعرف معنى البساطة حتى، فتصميم القرطين مبالغٌ به ولونهما المائل إلى الصفرة المزيفة مثير للاشمئزاز، على رغم ذلك كلما مررتُ من جانبه، رأيت نساء وفتيات يتحلقن حوله ويخترن الخواتم والأطواق، وكأنَ هذه البسطة الرخيصة هي أهم محل مجوهرات في دمشق. هنا حيث يستطعن تعويض عجزهن عن شراء الذهب، باستبداله بمجوهرات مزيفة، هنا حيث يستطعن شراء “محبس” يلمع عوضاً عن الخاتم الذهبيّ الذي بعنه في وقت الحاجة. تحب النساء من حولي تأكيد أنهن متزوجات بارتداء الخواتمِ، حتى لو صُنعت من معدنٍ يفقد لونه مع الوقت.
ينتشر رجال الأمن المتنكرون في الأحياء والأزقة والشوارع، تكاد لا تخلو منطقة منهم ويكثرون في الأحياء الشعبية، والأكثر اكتظاظاً، عملهم هو مراقبة أي حركة مريبة أو كلمة قد تقال بحق النظام أو شتيمة ما. نعرف أنهم رجال أمن لأسباب عدة، أولها أنهم يتخذون مهناً لا تتلاءم وأشكالهم، كرجل عريض المنكبين وطويلٌ ومخيف يحمل البوالين الملونة وينسى إخفاء السلاح المغروز بين خصره وبنطاله! أو يفتح آخر بسطة لأشياء سخيفة كالقداحات أو أساور جلدية رخيصة أو بسطة ثياب بائسة تجد فيها في أفضل الأحوال كنزة ببقعة مستحيلة الإزالة.
تعرفهم من طريقة لباسهم، القمصان والكنزات الضيقة، الأحذية ذات الموضة القديمة بمقدماتها الدقيقة، قد تبدو مواصفاتٍ عادية ولباساً لا ريب فيه لكننا في سوريا ندرك أنّه لباسٌ يدل على أولئك الذين يجب أن نخفض أصواتنا إذا رأيناهم. نعرفهم من نظراتهم، وكأنّهم يقولون لنا نعم نحن رجال أمن واحذروا منا. في العادة يبدو أصحاب المهن المتواضعة ذات الدخل المحدود متعبين أو خائفين، لكن هؤلاء ينظرون بريبة من حولهم وبثقةٍ لا تشبه أعمالهم، لماذا قد ينظر بائع البوالين ذو الأربعين سنة بريبة من حوله؟
كنت أعمل في إحدى المنظمات الإنسانية، حين ساعدنا أماً وأطفالها الثلاث بعدما كانوا ينامون في الحديقة، وبعد أخذهم إلى الطبيب وتجهيز أوراقهم ليلتحقوا بأحد المراكز السريّة الخاصة بالنساء المعنفات، وقفنا أمام بائع بوالين بأشكال مختلفة (لولو كاتي، دلافين، زرافات) وقد قفز الأطفال من الفرح حرفياً، التقطتُ لهم بعض الصور للتوثيق في العمل، فجأة خطف أحدهم الكاميرا من يدي وقال: “ماذا تصورين؟”، سرعان ما تجمّع حولنا أكثر من 10 رجال، عرفنا أنا وصديقتي أنهم رجال أمن، ظهروا من حيث لا ندري وبسرعة لا أستطيع تذكرها، هددونا على رغم وجود مهمة رسمية من المنظمة قدمناها لهم، علت أصواتهم علينا، وأجبرونا على مسح الصور، على رغم أنها منطقة مدنية ولا نقاط عسكرية قريبة منها، حمل الأطفال بوالينهم التي على شكل حيوانات، وعدنا صامتين وخائفين إلى سيارة المنظمة الإنسانية. وحين سألنا السائق ماذا هناك؟ قلت له: “كدنا نُعتقل لأننا نشتري البوالين ونصورها”.
أتذكر هذه الحادثة بالتحديد بين حوادث كثيرة أوقفنا فيها الأمن والحواجز، لأن صديقاً يحمل كاميرا أو يلتقط لي صورة بكاميرا هاتفي، أو بسبب مرورنا متأخرين قرب حاجز أمني، أتذكر هذه الحادثة بالتحديد لأن المشهد كان كوميدياً ومحزناً في الوقت ذاته، كانت تحيط بنا البوالين والأطفال يبدّلون بالوناً بآخر ويصرخون، ثم تحوّل المشهد إلى مكان أشبه بالمعتقل أو مركز التحقيق، وصمت الأطفال تماماً، الرجال من حولنا كقضبان السجن ونحن عالقون مع أطفالٍ مشردين وأمّ معنّفة وبوالين على شكل حيوانات في الداخل.
أتذكر هذه الحادثة بالتحديد لأني حينها علمتُ كيف يصنع الأمن السوري من حياة كلّ واحد منا سجناً له، كيف يجعلون أبسط حقوقنا كالتقاط صورة عملاً فيه من المخاطرة ما لا يستهان به، علمتُ حينها أن الفرح يظلّ مشكوكاً فيه وأن هؤلاء الذين يتمشون كأناس طبيعيين يستطيعون في أيّ لحظة الهجوم عليَّ من دون رادع ومن دون أن يستطيع أحدٌ حمايتي حتى حين طالبناهم بإظهار بطاقاتهم الأمنية ورفضوا، كانوا يستطيعون في حينها اقتيادنا إلى التحقيق، كانوا يستطيعون رمينا في السجن لأيام، لكنهم لم يفعلوا، ربما لأننا محظوظون وربما لأنهم أرادوا إخافتنا والمارين وحسب.
لعبة أين يختبئ رجال الأمن
اعتدتُ أن ألعب لعبة تخمين أين يختبئ رجال الأمن بين الجموع والبائعين، كلما كنتُ برفقة أحد الأصدقاء، رحت أشير بصوت منخفض: “أترى ذلك الواقف على الزاوية؟ إنه رجل أمن”، “ذلك الذي يبيع الكعك، إنه أيضاً رجل أمن”، وفي الغالب يوافقني الأصدقاء، لكن واحداً فقط قال لي: “أحقاً تستمتعين بإيجادهم؟”. ربما يتقصدون أن نعرفهم، ويضحكون في سرهم على طريقة لباسهم وتحركهم لكنها الطريقة الوحيدة التي يقولون فيها للسوريين نحن نراكم، لا أعلم حقاً هل أنا من أراهم أم هم قد فعلوا ذلك مسبقاً؟
هل هناك شعب في العالم يلعب لعبة تخمين أين يختبئ رجال الأمن؟ هل هناك شعب ينسى الاستمتاع بضوء الشمس أو النظر إلى المحال التجارية ليتتبع بأعينه رجالاً خطيرين يدَّعون أنهم يبيعون البوالين والألعاب؟
هؤلاء هم أكثر أدوات النظام انتشاراً، تجدهم في كلّ مكان، هم الذين دخلوا في التظاهرات بداية الثورة وصوروا وجوه الثّوار أو نقلوا الأسماء لقيادتهم، هؤلاء الذين يبدون للحظة منّا، أشخاصاً يعيشون بيننا، لكنهم في الحقيقة العيون التي لا تكفُّ عن ملاحقتنا.
أفكر هل يستمتع هؤلاء بعملهم؟ وهم يتجولون طوال النهار بحثاً عن المذنبين والمتهمين بكره النظام؟ هل هذا هو العمل الذي حلموا به في طفولتهم؟ أن يتنكروا بهيئة أشخاص طيبين، ويرسلوا آخرين إلى السجن والتعذيب والموت؟
لطالما حيرني أن يكون أحدهم من أذرع النظام الصغيرة، التي تندس بين الشعب، هل يتفاخرون بإنجازاتهم مرددين: “أرسلت اليوم خمسة سوريين إلى الحبس” أو “أمسكت بثلاثة شاتمين للنظام”؟، إنه أمر محيّر لو تخيلتَ نفسك تعمل لساعة مكانهم، أطردُ الفكرة سريعاً فحتى تخيلها مثير للاشمئزاز، ممارسة العمل الأقذر في العالم، إرسال أبناء شعبك إلى يد أكبر ديكتاتور في العالم.
إنها الحياة التي اختارها نظام الأسد للسوريين، حياة النظرات المريبة وحياة “الحيطان لها آذان”، هؤلاء هم آذان السلطة، إنهم في الأزقة والشوارع يبيعون البوالين والمجوهرات والبشر.
درج