حكاية الصبا وجاذبية الشيخوخة/ صبحي حديدي
لأنه فضفاض واسع النطاق وحمّال معانٍ متعددة، فإنّ تعبير «أدب الناشئة» يمكن أن يشمل شرائح قراءة تتجاوز التحديد العمري أو الأجيالي (بين سنّ 14 و17 وثمة مَن يساجل بأنّ السنوات قد ترتفع إلى 21!) فضلاً عن الظاهرة التي شاعت، على مدار القرون والثقافات والأنواع الأدبية، وانطوت على جاذبية أدب الناشئة لدى الكبار.
وكان أبو زيد البلخي (849 – 934) تلميذ الكندي ومعلّم الرازي، والذي استحقّ لقب «الجاحظ الثاني»؛ قد صنّف الشرائح العمر البشري هكذا: صبا، شباب، كهولة، شيخوخة؛ ونسب إلى كلّ شريحة فصلاً من فصول السنة، هي على التوالي: ربيع، صيف، خريف، شتاء. الأمر الذي لم يسجن الفصحى في إسار مقولات جامدة، فاشتُقت مفردات مثل «فتى» و«طفل» و«غلام» و»يافع» تفيد الوصف والتصنيف في آن، أو صياغات مثل «شيخ الشباب» و»شيخ الكار» و»شيخ الشعراء» التي تميل إلى بناء المجاز وليس تحديد السنّ.
وفي التراث العربي، الفلسفي والأدبي والطبي، ثمة مادة غزيرة، لعلها مفاجئة أيضاً من حيث النطاق والغرض والتوظيف؛ تتيح لدارس أدب الناشئة العربي أن يراكم عناصر دراسية بالغة المرونة، وأن يطوّر الكثير من مناهج البحث والمقارنة ذات الصلة بالعصر وأحدث معطياته وتنظيراته ومقارباته. أشير هنا، وعلى نحو شخصي محض غنيّ عن القول، إلى تطلّع مشروع صوب يوم نقرأ فيه دراسات عربية تتناول ما بعد الحداثة في أدب الأطفال والناشئة، أو تتقصى الجوانب الميتافيزيقية في نصوص تشتغل بالضرورة على مخيّلة الطفل واليافع، أو ثالثة ترصد عنصر الطعام على وجه التحديد (وموضوعات كهذه متوفرة، لتوّها، في أعمال منشورة بلغات أجنبية).
نعرف، في المثال الأشهر والأقدم على نطاق الثقافة العربية، موقع «ألف ليلة وليلة» أو «كليلة ودمنة» في خارطة أعمار القراءة على امتداد العالم واللغات والثقافات والحساسيات، ثمّ الأعمار في المحصلة. في الأمثلة المستمدة من الآداب الغربية، ثمة أعمال مثل «حكايات إيسوب» و«خرافات لافونتين» و«أليس في بلاد العجائب» و«توم سوير»، وهذه يقبل على قراءتها الفتيان مثل الكهول والشيوخ، تماماً على غرار شعار مجلات الصور المتحركة: من 7 إلى 77!
وفي تلمّس الأبعاد الأعمق التي قد تفسّر انشداد الكبار إلى آداب الناشئة، ثمة عامل تاريخي أوّل يشير، على سبيل المثال هنا أيضاً، إلى أنّ جذور هذا الأدب في فرنسا تعود إلى أعوام اضطرابات شتى سياسية واجتماعية عام 1697 مع شارل بيرو في كتابه «حكايات الزمن الماضي»، الذي يدين له العالم بحكاية سندريللا؛ وإلى عام 1710 حين باشرت مدام دولنواي في إصدار «أقاصيص الخرافات». وأمّا في بريطانيا فإنّ مغامرات روبن هود (1450) وحكايات الملك آرثر (1486) دخلت مكتبة أدب الناشئة لأنها على وجه التحديد تروي عن صراعات بين أنظمة ملكية وإقطاعية وثورات شعبية أو ملاحم فروسية، تخصّ الكبار أساساً.
كذلك فإنّ الخطوط التي تفصل، شكلاً ومضموناً أو حتى تعسفاً وعشوائياً، بين أدب الناشئة وسواه من آداب؛ باتت مرنة تماماً، بل هي اليوم تتقلص أكثر فأكثر. لهذا فإنّ أعمال الأديب الدنماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون، والتي تُصنّف عادة في خانة أدب الناشئة والأطفال، صارت طرازاً خاصاً من الكتابة القصصية، منفتحاً ومفتوحاً على الكبار والصغار، ومختلف الأجيال والثقافات. أكثر من هذا، في المقابل، صار ممكناً لرواية «الحارس في حقل الشوفان»، العمل الأشهر للأمريكي ج. د. سالنجر، أن تُحتسب ضمن أدب الناشئة؛ رغم أنها كُتبت أصلاً للكبار، وتنهض على موضوعات إشكالية مثل الاغتراب والضياع والتمرّد لدى المراهقين، في أمريكا الأربعينيات.
لافت إلى هذا أنّ الأعمال الشعرية التي تتوجه إلى الناشئة والكبار معاً قليلة ونادرة بالقياس إلى طغيان الرواية والأقصوصة؛ ربما لأنّ الأنواع السردية تسهّل طرح القضايا التي تخصّ حياة اليافعة، والمعضلات والتحديات التي تواجه نشأتهم البدنية والعقلية والنفسية، في عالم يكون واقعياً غالباً (مقابل عوالم الأساطير والسحر وحكايا الجدّات عند الأطفال)، حتى حين تجري أحداثه ضمن حبكة الخيال العلمي. ويحدث غالباً، استطراداً، أن تتكرّس شخصيات منحازة إلى قِيَم كونية عليا مثل الحقّ والخير والجمال والبطولة والتسامح، ترتقي إلى مصافّ أنماط عليا مثالية يُقتدى بسلوكها؛ في مقابل شخصيات نقيضة، يتوجب خوض الصراع ضدّ شرورها وآثامها.
التراث الإنساني في هذا النوع من الآداب لا ينجو، مع ذلك، من عقابيل انقسامات العالم السياسية والجغرافية والاقتصادية والثقافية؛ كما في جوائز «الهيئة العالمية لكتب الناشئة»، ومقرّها بازل في سويسرا، التي لم تُمنح لأيّ كتاب عربي منذ تأسيسها سنة 1956 ولكنها مُنحت إلى الإسرائيلي أوري أورليف لدورة 1996. والإجحاف هنا لا يقتصر على التأليف وحده، بل يشمل أيضاً الرسم لكتب الأطفال والناشئة.
غير أنّ هذه المحاصصة لا تُسقط الأهمية القصوى لترجمة أدب الناشئة إلى العربية، والعكس؛ فهذه وسيلة بالغة الحيوية لتواصل الثقافات، ومدّ الجسور بين الأمم، وتقريب القِيَم الإنسانية، وتوحيد ما يصلح منها لأن يكون منهاجاً تربوياً سليماً، وأداة ناجعة في مكافحة ثقافات التمييز والعنصرية والتطرّف. ولم تكن صدفة أنّ فرنسا، التي ترجمت «ألف ليلة وليلة»، ترجمت أيضاً «علاء الدين والمصباح السحري» و»علي بابا والأربعون لصّاً» منذ سنة 1704!
القدس العربي