مستقبل العدالة الإنسانية الغائم/ جوشوا فوا دينستاغ
ترجمة: نادين الجودي
نُشر النص في مجلة Noe أواسط شهر آب الماضي.
بين أجنّةٍ معدلةٍ جينياً في الصين، ومواطنين روبوتات في المملكة العربية السعودية، سيتسبّب لنا تطورُ علوم البيولوجيا والحاسوب بصعوباتٍ في التعاطي مع فكرة ومعنى أن نكون بشراً. ما الذي ستعنيه تلك التطورات بالنسبة لمبدأ العدالة الإنسانية؛ المبدأ الذي تقوم عليه اليوم أغلب القوانين؟
كثيراً ما نتعامل مع العدالة الإنسانية على أنها واقعٌ يعود إلى بيولوجيّتنا كبشر، نبني على أسسه أنظمتنا السياسية. نعتقد أن للبشر حقوق، على عكس الحيوانات و الحواسيب، بناءاً على الاختلاف في الطبيعة؛ حيث إنهم لا يمتلكون قدراتنا اللغوية والإدراكية، و قدرة التعاطف مع الآخر، و أشياء أخرى مشابهة.
إلا أنّه ليس هنالك صفةٌ أو ميزةٌ يمتلكها كل البشر على الإطلاق، أو يفتقدها كل اللابشر على الإطلاق. نحن ننسب الحقوق إلى بشرٍ ذوي خللٍ دماغيٍّ جذري، بينما ننزعها عن حيواناتٍ قادرةٍ على أداء مهماتٍ في غاية التعقيد. أيضاً، ننزع تلك الحقوق عن حواسيب قادرةٍ على هزيمة أبطالٍ في لعبة الشطرنج، ثم نمنحها لناسٍ غير قادرين حتى على فهم قوانين اللعبة.
الأهم من ذلك، إذا ألقينا نظرةً على التاريخ البشري، سنلحظ أننا لم نجعل من الانتماء إلى الجنس البشري عاملاً أساسيا ووحيداً للحصول على الحقوق السياسية إلا من فترةٍ ليست ببعيدة. سِجلُّنا في العنصرية والتحيز الجنسي والإمبريالية يُذكّرنا بأن القائمين على السلطة، ولعصور طويلة، لم يرو قط ضرورةً في اعطاء حقوق مساوية (أو أي حقوق أصلاً) لجميع المنتمين للجنس البشري. التاريخ ذاته يثبت لنا أنّ المساواة الإنسانية ليست واقعاً بيولوجياً بقدر كونها إنجازاً سياسياً غير مكتمل.
نحن الآن -وقد وصلنا إلى مرحلةٍ نستطيع فيها القيام بهندسة الاختلافات بين الشعوب علمياً- نواجه تحدياً جديداً من نوعه، فبعد ظهور البشر المُعدّلين وراثياً والمصنّعين بوساطة الذكاء الاصطناعي، كيف سنقوم بالمحافظة على ما طوّرناه من منطقٍ سياسي، و إن كان غير مثالي، بما يخصّ المساواة في حقوق المواطنة؟
الإجابة المنطقية على هكذا سؤال تبدأ من المبدأ التقليدي للفكر السياسي، الذي يرجع إلى منظرين مثل أرسطو و جان جاك روسو. فمبدأ المساواة الإنسانية بالنسبة لهم ليس شيئا فطرياً يمتلكه البشر بطبيعتهم، لكنه شيءٌ نطوّره عبر الخوض في علاقاتٍ بمقدور البشر حصراً الخوضُ فيها. هنالك سلسلةٌ من هذه العلاقات البشرية (العائلة، الصداقة، المواطنة)، والتي لا تخاض دون شروطٍ من الآخرين واتفاقياتٍ معهم. أنت غير قادر(ة) على تكوين صداقةٍ بمفردك، كما أنك لا تستطيع(ين) إجبار أحدٍ على إقامة صداقةٍ معك. الصداقة علاقةٌ متبادلة، وحالةٌ تنشأ من خلال الموافقة الطوعية من الآخرين حصراً.
اللغة مهمةٌ لكل تلك العمليات، ليس لأنها تمنح تفوقاً أخلاقياً لممارسيها، بل لأنها ببساطة تجعل هذه الحالات المجتمعية ممكنةً.أحياناً نظنُّ أنّ اللغة البشرية هي نتيجةٌ لتكويننا العقلي الفريد، أو ننسبها للتكوين التشريحي لحناجرنا، إلا أنّ الطفل الذي لا يتربّى في مجتمعٍ بشري لن يتمكن أبداً من التكلّم كما ينبغي. اللغة هي ظاهرةٌ اجتماعية، مثلها مثل تكوين الصداقات واللعب، فهي لا تنشأ دون تواجد عدة أطراف.
المشاركة المعنيّةُ هنا، وضمن هكذا علاقات، لا تتمثّل في محض إصدار أصوات، أو القيام بحركاتٍ معينة. هي تتمثل أكثر بتشارك الناس للدوافع والمعاني ذاتها للأشياء. الآلةُ التي تقوم برمي الكرات في الهواء، مثلاً، لا تحاول اللعب معك بجعلك تلتقط الكرات، رغم أن لعبة التقاط الكرات ليس فيها ربحٌ أ خسارة. أيضاً، الحاسوب الذي يوجه كلاماً لك -على الأقل إلى حدّ الآن- لا يقيمُ حواراً حقيقياً معك. هذه مقارباتٌ وتمثيلاتٌ لعملية المشاركة، لكنها ليست مشاركةً واقعية.
إذا أخذنا مفهوم العدالة الإنسانية من هذا المنظور، سنكون قد توصّلنا إلى خريطةٍ توضح لنا الطريق في هذا العالم المليء بالتحديات، والقائم على الذكاء الاصطناعي في مجال البشر المُحسنين، أشباه البشر، و فوق البشر. نوع العدالة، التي نحتاج الحفاظ عليها، هي تلك التي تقوم على المشاركة الفعلية في عملية صنع القرار المستمرة. بإمكان أجهزة الذكاء الصنعي (الروبوتات) القيام بلفظٍ أو طرح توقعات، هذا في حال أمرناها بأخذ «قرارٍ» في أمورٍ ذات شروطٍ معقدة، مثل لعبة الشطرنج. لكن ليس بإمكانها أن تكون جزءاً من عملية صنع القرار القائمة على التبادلية في الأخذ و الرد؛ لأنها لا تمتلك قيماً خاصّةً بها. وعلى ذلك، هم غير قابلين على إعارة اهتمامٍ لأي شيء.
لا ينبغي لنا القبول بأنّ المقدرة على خداع إنسان (كما في اختبار تورينغ/اختبار المحاكاة) تكافئ المساهمة في مجتمعٍ بشريٍّ أكثر من قبولنا بأنّ المحتال الذي يدّعي أنه صديقك هو فعلاً كذلك. ربما سنصل إلى يومٍ يظهر فيه الذكاء السيليكوني (العقول السيليكونية). إلا أنّ المعيار لا يكمن في ما إذا كنّا قابلين للتعرّض للخداع من قبل الذكاء الصنعي، بل فيما إذا كنّا حقّاً مقتنعين ومستعدين لتكوين علاقةٍ شفافةٍ معه.
عندما تقول لي أليكسا (Alexa): أتمنى لك عطلة نهاية أسبوع جيدة، فليس ثمة هنا مَن «يتمنّى» لي أيَّ شيءٍ على الإطلاق. البرمجة مصممةٌ خصيصاً لإدماجي، و أنا أعلم ذلك جيداً. إذا وددت تصديق العكس، فعليّ أن أؤمن بأن هناك شيء وراء هذه الخوارزمية يتمنّى لي حسن الحال. فقط في تلك الحالة سيكون لديّ محادثة حقيقية مع شريك/ة وند مكافِئ مُحتمَل.
علينا، أيضاً، أن نكون متيقّظين للمشكلة العكسية: الخطر المتعلق بالبشر المُعدلين جينيا لا يكمنُ في أنهم سيتقصّدون الدخول في أحاديثٍ معنا بشكلٍ سري -دون أن ننتبه- لأنهم، أساساً، و بكل تأكيد، بشرٌ، وهو مؤهلٌ كافٍ ليقوموا بذلك، بل إنّ الخطر يكمن في أنهم سيحاولون تفادي الدخول في هذه الأحاديث. العدالة الإنسانية لا تعود إلى الانتماء البيولوجي المشترك للأفراد، لكنها قابلةٌ للتدمير بشكلٍ ممنهجٍ بهدف تشكيل جماعاتٍ مختلفة، ومتميزةٍ جينياً. الخطر القادم من مجموعةٍ من البشر تحاول عزل نفسها عن باقي البشر، وترى نفسها متفوقةً عليهم، أشدٌّ من ذلك القادم من آلاتٍ تسعى إلى التغلغل والمشاركة في تلك العدالة. الأمر شبيهٌ بمجموعةٍ من الأصدقاء، أو بعائلةٍ يتمّ تدميرها، حين يظن أفرادٌ منها أنهم أفضلُ من الآخرين.
العدالة الإنسانية هي إنجازٌ هشُّ البنية، والديمقراطية مثالٌ داعمٌ على ذلك. لكي يتم تحقيق العدالة، يجبُ إدراكُ أنه لا يجوز ربط جوهرها بالواقع البيولوجي. الأجدربنا أن نربطها بالتزامٍ سياسيٍّ مستدامٍ ومتجدّد، كما هو الحال في العلاقات العائلية وعلاقات الصداقة. كقيمةٍ سياسية، العدالة عبارةٌ عن انعكاسٍ لاعترافنا والتزامنا المتبادل ببعضنا البعض ضمن إطار مجموعةٍ متنوعةٍ من العلاقات التي يهمُّنا الحفاظ عليها، و على استمراريتها.
فضلاً عن إمكان تقويض العدالة عبر تقنياتٍ جديدة، فإن بإمكانها أيضاً النجاة من خلال التزامنا بإدامتِها مهما ظهرتْ ظروفٌ جديدة. لا شك في أنه اختبارٌ سياسيٌّ لا تكفُّ صعوبته عن الازدياد.
موقع الجمهورية