الناس

عن القاع الذي نسكنه في دمشق/ يوسف نبيل نعمان

كنت أبلغ من العمر 15 عاماً عندما شاهدت فيلم “دمشق مع حبي”. في أحد مشاهد الفيلم تقيم فرقة مسرحية احتفالاً بعرض لها. تلك العادة متعارف عليها لدى جميع من يعمل في الفن بكل أنواعه. كان “العرق” في ذلك الاحتفال سيد الطاولة، كما هو المتعارف عليه لدى المثقفين القديمين. تنطلق أبيات الشعر والقصائد المحكية في تلك السهرة ويتم تلحينها أيضاً ليكون هذا المشهد هو أحد أكثر المشاهد إغراءً لي لأختار دمشق كمكان أريد الاستقرار فيه.

هذه الأجواء هي التي كانت تجذب انتباه أي شخص قادم من خارج هذه العاصمة، إن كان أحد أبناء سوريا أو ضيفاً عليها، كانت تُفتح على هذه الطاولات أهم النقاشات، تتعرّض فكرة “الله” للنفي والتأكيد حوالي 20 مرة في كل جلسة. لا يمر أي موضوع فلسفي مرور الكرام. وهذه الحالة كانت تنحصر ضمن أماكن وأجواء محددة، يقودها أشخاص لهم باع طويل في الفن والأبحاث والعلوم. من السهل إدانة أي نظرية علمية وإثبات مدى صحتها أو خطأها وفق إثباتات وبراهين علمية صحيحة. تبدأ السهرة بمن جاء أولاً “الدجاجة أم البيضة” وتنتهي بـ “هل الله موجود أولاً؟”.

عام 2008، وقع الاختيار على دمشق لتكون “عاصمة الثقافة العربية”. تبلورت الصورة الثقافية التي جمعت الفئة المثقفة وبلغت أوجها في تلك الفترة، أحد هذه الفئات كان النموذج الرحباني، سيّما الذي اتخذ من شخصية زياد الرحباني وأفكاره طريق حياة يسلكونه. ورغم انتشاره في أوساط فئة صغيرة، إلا أنه لاقى استهجاناً كبيراً من قبل فئات أخرى في المجتمع. ونظرًا لثقافتهم الواسعة، لم يكن نيل الإعجاب هو الهدف الرئيسي لهذا النموذج بقدر ما كان الهدف هو الحوار الذي يشكل مكسباً لأفكار ورؤى جديدة لهم.

عند بداية عام 2011، أصبح معظم من قاد هذه الأحاديث خارج سوريا. لم يساعدهم الضغط الذي وجدوه والظروف غير المستقرة في إكمال مشاريعهم، لأن الحرب قادرة دائماً على خلق المطبات والعقبات لأي مشروع في طريقه ليرى النور. اليوم، نستمتع بالحوارات التلفزيونية الغنية التي نشاهدها لمن بقي منهم على قيد الحياة. ونلحظ اختلاف أسلوبهم عن معظم ما أفرزته الفترة الزمنية الممتدة من 2011 وحتى اليوم من نماذج ثقافية.

كانت هذه الصورة عن مثقفي بلادنا سائدة معظم الأوقات. لقد كانوا موسوعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وكأن هذه المفردة قد فُصّلت لتكون على مقاسهم تماماً. وبالتالي، كانت هذه هي الصورة الحقيقية عن البلاد ومجتمعها.

في يومنا هذا اختلفت تلك الصورة، أصبحت صفة “المثقف” تهمة سيئة لمن تطلق عليه، كما أنها ارتبطت بنظرة استهزاء للشخص وأفعاله. لم أعتقد في يوم من الأيام أن كل ما كنت أشاهده عبر التلفاز وأتمنى أن يحصل أو أن أخوض تجربته مرّة واحدة في بلادي سيتحقق؛ تلك الحفلات والسهرات التي ارتبطت بأفلام هوليوود، والتي تصل إلينا عبر الشاشات وتكون مصدر بناء الأفكار عن حياة الشباب حول العالم، أصبح حقيقةً في دمشق، ولكن بالصورة المزيفة فقط.

من ناحية، لا أستطيع أن ألقي اللوم على جيل أصبحت كل حياته مقيّدة. أصبحت مفردة مثقف مرتبطة بالوصول إلى أعلى درجة من الزيف؛ أن تكون مثقفاً، في الغالب، يعني أن تستمع إلى موسيقى غريبة، أن تتكلم بمفردات محددة، أن تتعاطى المخدرات وتجهر بأفعالك، أصبح ذلك معيارًا لمدى اختلافك، العلاقة طردية بين الاختلاف وتعاطي المخدرات. أصبحت “السوريالية” طريقاً لتثير إعجاب فتاة أكثر مما هي نوع من الفن، بإمكانك أن تقرأ صفحتين عن موضوع ما وتدخل النقاش فيه، وكأنك المتبني الوحيد له. بإمكانك مشاهدة الذوق الموسيقي لشخص ما يتبدل خلال يوم واحد لأنه يهوى إثارة الإعجاب دائماً، ما القاسم المشترك بين “موسيقى المهرجانات وموسيقى الديب هاوس؟”

شبان كثيرون في سوريا هم من الكتّاب والمصورين الفوتوغرافيين، بإمكان أي شخص شرح النظرية النسبية حتى لو كان لا يعلم عنها سوى اسمها. أصبح جواب “ما بعرف” أقل جواب من الممكن أن تسمعه، الجميع يعرف حتى لو أثبت الجواب أنه على جهل تام بمحتوى السؤال.

في يومنا هذا أصبح الجميع يمارس مهنة الإعلام. كل فرد في لحظة ما أصبح مصدراً موثوقاً للمعلومة. أن تكون إعلامياً في هذه البلاد هو أحد الطرق لتأخذ شكلاً آخر من الثقافة؛ تعطي نفسك الحق في الحديث والكتابة ونشر الإشاعات. من ناحية أخرى، أصبح من الضروري ألا يعجبك نزار قباني أو محمود درويش لتكون مثقفاً مختلفاً، أن تنتقد كل ما تراه أمامك هو دليل المعرفة الوحيد لتعطي نفسك تلك الهالة المحيطة بالمثقف.

الكاتب الحقيقي هو الذي يمكنه بلفظ واحد أن يجعلك متيماً بما ترى عبر كلماته، من السهل اليوم أن تكون كاتباً، من السهل جعل أي شخص محور اهتمام وضجة كبيرة وكأنه النجم والمثقف الأوحد في هذه البلاد. كما تنتشر “بروشورات المعارض” بأسماء لم نعرفها يوماً. ما الذي يخفيه الفن ضمن طيّاته ليجعله واحداً من أكثر الأشياء الثقافية طلباً لدى هذا الجيل؟

أصبح شكلك الخارجي هو المنطلق لتحديد ماذا تفعل في حياتك. عند بداية دراستي الجامعية كان شعري طويلا.، كنت واحداً من شخصين فقط من بين كل طلاب “الكلية” ممن يقومون بربط شعرهم. دائماً كان الحكم المسبق عليّ بأني مثقف وأني أنتمي لكليات وأماكن أخرى. اليوم ينتشر الشعر الطويل بكثرة ضمن جامعتي لأنه أصبح شكلاً آخر ودليلاً آخر على تمتعك بثقافة وفكر يساري وحرية مطلقة وفي أغلب الأوقات يكون التناقص كبيراً بين الشخصية والمظهر.

“تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”، هذه الجملة ولدت معنا منذ مراحل دراستنا الابتدائية. لكنها اختفت تماماً اليوم، فأصبحت الحرية مرتبطة بشكل الثقافة وشخصياتها. كما أنها متعلقة بأمور محددة وبديهية نطلقها ونمضي بها دون مناقشتها. على سبيل المثال، ليس من الضروري أن المرأة، التي ترتاد سهرة ما لوحدها، تريد ممارسة الجنس مع أي شخص. من الممكن أنها تريد السهر والرقص فقط. ليس من الضروري أن يكون خياري لارتياد سهرة في مكان لموسيقى “الديب هاوس” هو من أجل تعاطي الممنوعات. من الممكن أن تكون رغبتي مرتبطة فقط بتجربة هذه الأجواء. أن تكون طريقة تعبيري خالية من الشتائم لا تعني بالضرورة أنني شخص جيد. من الممكن أن أكون معارضاً ولست سلفياً، أن أكون مؤيداً ولست شبيحاً. أصبح من الصعب ممارسة حريتك في أبسط أشيائك، دائماً هنالك صورة نمطية مرتبطة بفعلك، تعطي أثراً وكأنها أحد القوانين التي إن خالفتها ستسجن. لا تستطيع إن كان صوتك نشازاً أن تغني بصوت عال، بإمكانك الغناء لوحدك إن كنت تهوى الغناء.

حريتك في اختيار شكل ثقافتك الذي تريد أن تظهر به مرتبط في أن تعيش ما تختاره ضمن مساحتك، لأن لكل شخص مساحته المختلفة. الصورة الثقافية الحقيقية لم تعد موجودة اليوم. كل ما هو موجود هو سبيل تغطية الفشل والخيبة التي نحملها، الاكتئاب سهل لدرجة تستطيع طرحه في أي وقت.

دائماً ما نضع التبريرات لكل هذه الحقائق والأشكال التي نتقمصها أو نعيشها اليوم، ونطلب من الجميع أن يرتقوا لأن القاع ازدحم. ولكن الحقيقة أن حياتنا هي القاع نفسه. وأننا بهذا الزيف لم ترتق إلى أي مكان.

كل حدث يكون مثير للريبة، أشكال الجميع مخيفة، الطاقة المزيفة تنتشر في كل أنحاء هذه البلاد، اعتدنا أن يصلنا من كل منتج النسخة التقليدية الأولى منه “Copy One” بينما اليوم تصلنا النسخة التقليدية الأسوأ من كل شيء ولا نملك خياراً إلا أن نستخدمها رغم سوئها، فهي النافذة الوحيدة التي نرى من خلالها.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى