الفلسفة كفعل مقاومة/ ماهر مسعود
من المعروف أن للمقاومة أشكالًا كثيرة، منها المقاومة بالسلاح، والمقاومة بالكلمة، والمقاومة بالفن، أو بالتظاهر السلمي.. إلخ. ومن المعروف أيضًا أن شكل المقاومة الذي سيطر عليه ما يسمى “محور المقاومة” بات لا يعني سوى الدفاع عن استمرار الوضع القائم، وبالتالي الدفاع عن أبديّة؛ أو أبديّات، السُلط الحاكمة في دول المحور، ومقاومة أيّ تغيير تطالب به أو تسعى له شعوب تلك الدول. وعليه فإن شكل المقاومة الذي أنتجه “محور المقاومة” هو قلبٌ لمعنى المقاومة، رأسًا على عقب. فبدلًا من أن تكون المقاومة -كما يعني اسمُها- مقاومة حكمٍ طاغٍ، باتت هي ذاتها الحكم الطاغي، وبدلًا من كونها مقاومة احتلال، باتت هي ذاتها احتلالًا للسلطة، وبدلًا من كونها خروجًا عن رأي أكثري مسيطر، أو الخروج ضد السائد المتعفّن رغبةً بتغييره، باتت تعني تأبيد السائد، وتثبيت المتعفّن، ومنع أي تغيير له مهما كلّف ذلك من طغيان واضطهاد وقمع. لقد أصبحت المقاومة إذًا هي السلطة الواجب مقاومتها بكل أنواع المقاومة الممكنة.
فضلًا عن كون دول المقاومة لم تعد (وغالبًا لم تكن) تقاوم فعليًا ما تدّعي مقاومته، أي إسرائيل، فإن “محور المقاومة” هو بالأساس خطأ مركّب، في معناه ومبناه، لأن دولتين كبريين، هما سورية وإيران، تحشران نفسيهما خلف اسم ميليشيا صغيرة، وفعل لا تقوم به دولٌ بل ميليشيات، فما يُفترض أن يكون بين الدول “المستقلة” هو عادة حروب؛ باردة أو ساخنة، وليس مقاومات. المقاومة كانت دائمًا ما دون الدولة، تحتها، أصغر منها، وضد طغيانها غالبًا، حتى عندما تكون مقاومة ضد احتلال، فإن الاحتلال ذاته يلغي شرعية ما يحتلّه، ويحوّله إلى ما دون دولة، كما الحال في فلسطين، بينما نجد أن ما حصل في لبنان، على سبيل المثال، هو أن المقاومة هي من ألغت شرعية الدولة اللبنانية القائمة وليس الاحتلال، وهي من استتبعت الدولة وسيطرت على قراراتها وسيادتها وحدودها، وبات يبدو لبنان كله تابعًا “لدولة” حزب الله.
تحيل فكرة المقاومة أصلًا إلى وضع “أقلوي”، بمعنى أقلّ قوة من قوة أكبر، أقلّ حقوقًا من فئة أخرى، وهكذا، فالمقاومة هي أصلًا الوقوف ضد اضطهاد الفئات الأقوى، صاحبة السلطة ومالكة الحكم، ولذلك وجبت مقاومتها. ومن هنا تأتي أهمية الفكرة التي صاغها دولوز، بفصاحةٍ عزّ نظيرها، عندما قال: “إن الأقلية هي كل شيء، والأكثرية هي لا شيء”! وهو لم يقصد الأكثرية والأقلية، بالمعنى الديني المتعارف عليه، كما قد يظن المرء للوهلة الأولى، ولكن بمعنى أن الأكثرية هي دائمًا معيار عام وفارغ، بينما الأقلية هي التعبير عن التنوع اللانهائي في الواقع. فمثلًا، أن تكون “أكثريًا” في أوروبا كان معناه -في مرحلة من المراحل- هو: أن تكون رجلًا، أبيض، غيريّ الجنس (أي ليس مثليًا)، متعلمًا، مسيحيًا.. إلخ، وهذا يجعل مباشرة المرأة والملوّن والأسود والمثلي والمسلم و… إلخ. أقليات مختلفة وتنويعات في الوجود، ولذلك، فالأقلية هي كل شيء، لأنها تعبّر عن كل جوانب المجتمع وغناه وتنوعاته، بينما الأكثرية هي لا شيء، لأنها مجرد معيار فارغ لا يزيد عليه أحد شيئًا ولا ينقص بغياب أحد. ومن هنا؛ كانت مقاومة المعيار الفارغ دفاعًا عن الحياة التي تقتلها المعايير الفارغة/ العامة للبشر وتحوّلها إلى جحيم.
الفلسفة هي فعل مقاومة، لأنه عندما يكتب الفيلسوف، فهو لا يكتب لأجل الناس الضعفاء والمقهورين والمهمشين فحسب، فهؤلاء نادرًا ما يقرؤون ما قد يكتبه، بل إنه يكتب بدلًا منهم، بدلًا ممّن لا يعرفون الكتابة ولا يجيدون التعبير عن أنفسهم وعن مطالباتهم، بدلًا من السجناء الذين تغرق صرخاتهم في ظلام المعتقلات، وبدلًا من الأطفال الذين يعيشون الحرب ويشعرون بها ويدفعون ثمنها في عالمٍ هم لا يفهمون منه شيئًا، وبدلًا من ملايين المشردين والمضطهدين ومن في حكمهم. فلو أخذنا الكتابة عن الحرية مثلًا، فسنجد أنها لا تعني بالضرورة أن تقول للناس من الأعلى ما معنى الحرية، بل يكفي التعبير عمّا يجول في مشاعر الناس، من شعور بالقهر والضيم والخوف نتيجة انعدام الحرية، وصياغة رغباتهم في التحرر مما يكبّل ضميرهم ووجدانهم ويكدّر حياتهم ويملؤها بسلاسل الخوف، من دون أن يستطيعوا هم صياغته بجُملٍ وتعابير ومفاهيم متماسكة، ومن دون أن يعرفوا بالضرورة ما هي الحرية التي يريدونها، فغالبًا ما لا يعرف الناس المقهورون ما يريدونه بوضوح، بقدر ما يعرفون ما لا يريدونه، وهو قهرهم بالذات. وفي الواقع، ليس هناك مهمة أصعب، وجوديًا، من مهمة الانتقال من الحرية السالبة (أي التحرر من القيد والتخلص من القهر “إسقاط النظام مثلًا”) إلى الحرية الموجبة (أي صناعة حياة جديدة، حياة تريدها وتختارها اختيارًا “بناء بديل ديمقراطي مثلًا”). فإذا كان المعنى الأول يقوم على رفض الحياة القائمة، التي لا نريدها، فإن الثاني يتقوّم بالقدرة على صناعة معنى جديد لما نريده، ووظيفة الفيلسوف هي صياغة ذلك المعنى، والبحث في ذلك الصراع الذي يعيشه آلاف البشر، بشكل مفرد أو جماعي، للخروج منه بفكرة تعبّر عنه بشكل محايث ومشخّص، لا بشكل مجرد ومتعال. وبهذا نكتب بدلًا من الناس، لا بالتوجه إليهم أو من أجلهم فقط.
الفلسفة فعل مقاومة، من حيث هي كفاح متواصل ضد الحماقة، وضد الموت الذي ينشره الحمقى والمرضى وكارهو الحياة، فكم تصبح حياتنا بشعة وموحشة عندما يسيطر عليها الحمقى، ويستولي على معناها السفلة والأغبياء، مثل أولئك الذين لا يتوقفون عن وصف أبناء وطنهم “بالجراثيم” أو “الثيران”، أو يطالبون باقتلاع البشر من أرضهم وتحويلها إلى “مزارع بطاطا”، أو أولئك الذين يريدون تحرير الناس بإرجاعهم ألف عام للوراء، وتحرير النساء بجعلهنّ حريمًا مكللات بالسواد، وسبايا للجنس والبغاء “الحلال”، ويسمّون إرهابيًا تافهًا “خليفة المسلمين”، أو مرتزِقًا بغيضًا بـ “الفاتح”! الفلسفة تجعل من الحماقة أمرًا مخجلًا، كما قال نيتشه، فكيف لا يشعر من استمع للخطاب الرئاسي الأخير، على سبيل المثال، بالخجل من كونه إنسانًا، من كونه سوريًا، بالخجل من تلك الكراهية المبثوثة على الشاشات “الوطنية”.
ربما كانت الفلسفة هي “إبداع المفاهيم”، كما قال دولوز، ولكن إبداع المفاهيم ليس إضافة كلمات جديدة إلى القواميس الميتة، كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل صياغة مشكلة! والمشكلة هي أسئلة وتساؤلات يطرحها الواقع ويعيشها الناس، وعندما لا يكون السؤال استفسارًا؛ أي متضمنًا للجواب بشكل مسبق (على ما هو سائد في جميع وسائل الإعلام اليوم)، فهو باب واسع للإبداع. وكل إبداع -أيًّا كان نوعه- هو مقاومة. يخلق الفن الصور والحكايات كي يقاوم الموت والنسيان، ولذلك قال محمود درويش متنبّئًا بذاته كالقدر: “هزمتكَ يا موت الفنون جميعها..”، ويخلق الأدب السير والسرديات التي تقاوم البروباغندا وتشوه التاريخ الذي يعيشه البشر الحقيقيون، ولذلك قال عبد الرحمن منيف: “الرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم”، أي البشر العاديون الذي يُحذَفون من سرديات التاريخ الرسمي وبطولاته، وتخلق الفلسفة المفاهيم التي تنتج وعيًا جديدًا بالمشكلات التي يعيشها البشر، ولذلك قال إلياس مرقص: “من ليس لديه مطلق، يحوّل نسبيّته إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد”، ومن هنا، نرى كيف يحول الطاغية المستبد الواقع؛ المتغير النسبي، إلى أبد، إلى مطلق، ويكبّل ملايين البشر تحت مطلقه الفارغ الذي يحط من قيمة الحياة، لينصّب نفسه حارسًا للموت وانحطاط الحياة.
الفلسفة هي فعل مقاومة، بالمعنى الذي ذكرته حنّة آرنت عندما ميزّت بين الشغل labor، والعمل work، والفعل action، فإذا كان الشغل هو ما نكدح من خلاله فيزيائيًا لتأمين المأكل والمشرب والمأوى، والعمل هو ما نقوم به فيزيائيًا وعقليًا وما نختاره كمهنة لتأمين الحياة والرفاه الاقتصادي؛ فإن الفعل action هو مشاركتنا -كأفراد أحرار- في المجال العام، والمجال العام هو دائمًا فضاء سياسي ويحتاج إلى فعل سياسي، وبهذا المعنى؛ تكون الفلسفة فعلًا سياسيًا، عندما تقاوم من يريد إغلاق باب السياسة في وجه الناس، بوصفه إغلاقًا للحياة وانحطاطًا للاجتماع البشري، وإغلاقُ باب السياسة هو قتلٌ للتغيير، وقتل للفضاء الحر الذي لا يمكن للبشر العيش من دونه، لأنهم ببساطة ليسوا بهائم تأكل وتشرب وتعمل، بالمعنى الاقتصادي، فحسب، بل فاعلون سياسيون لتوسيع فضائهم وتحرير أنفسهم على نحو دائم، فنحن، بوصفنا بشرًا أولًا وأخيرًا، “محكومون بالحرية”، كما صاغها سارتر بوضوح فلسفي وبهاء مفهومي.