أبحاث

ظاهرة الانشقاق.. تصوّرات حول الأدوار والمآلات/ عبد الله النجار

مقدمة:

في الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة السورية العظيمة، نكون قد ودّعنا عقدًا من عمر الثورة وعمر الوطن، كان حافلًا بالتضحيات، مررنا خلاله بمحطات تاريخية غيّرت وجه الوطن، وربّما تغيّر وجه الإقليم، لا ينبغي لها أن تمرّ دون مراجعة نقدية شاملة، يحدوها حبّ الوطن والغيرة على كل ما فيه، لنرى أين الصواب فنتمسّك به، وأين الخطأ فنتراجع عنه.

وفي واحدة من أبرز المحطات المبكرة في عمر الثورة، نقف مع ظاهرة انشقاق العسكريين السوريين ومن في حكمهم، عن الجيش والشرطة والأمن، والتحاقهم بالثورة، تعبيرًا عن رفضهم للآلية التي اتبعها النظام في الردّ على المحتجين السلميين.

طائفيون.. إسلاميون وعلمانيون في آن واحد

ألصق النظام تهمة الطائفية بكلّ من انشق عنه، بحكم انتماء غالبيتهم إلى لون سوري محدد، إلا أن ادّعاءاته سقطت بسبب وجود منشقين ينتمون إلى كل ألوان الطيف السوري، وإن كان ذلك بنسبٍ أقل، باستثناء المكون الذي ينتمي إليه رأس النظام، فإنه لم يلتحق منه أي عسكري بالثورة.

أما المعارضة فقد ألصقت نخبُها بالمنشقين صفاتٍ مختلفة ومتضاربة أحيانًا، فالعلمانيون اعتدّوا بخلفيتهم الإيديولوجية ودوافع انشقاقهم المباشرة، لتبرير اتهامهم للبعض بالإسلاموية، ربّما بالتطرف في بعض الأحيان، بينما اعتد الإسلاميون بخلفية النظام الذي انشقوا عنه، في سبيل التشهير بعلمانية الطرف الأول، وهكذا ألصقت بالمنشقين صفاتٌ متناقضة، بحسب الجهة القائمة على التقييم، وهو ما أدى إلى تقييم الانشقاق على أنه فرصة استغلتها المعارضة في مرحلة معينة، واستفادت منها ثمّ رمتها خلف ظهرها.

محاولة تعريف الظاهرة:

الانشقاق لغةً هو الانقسام، واصطلاحًا يعني انفصال أفراد وتمايزهم عن جماعة، ونعني به في حديثنا هنا انشقاق العسكريين السوريين عن جيش النظام وقواته المسلحة، احتجاجًا على استخدامه الآلة العسكرية في الردّ على مطالب المحتجين السلميين، وهي ظاهرة فريدة ارتبطت عمليًا بالثورة السورية، من حيث عدد المنشقين أو المواقع التي كانوا يشغلونها، حيث شملت كل الرتب والاختصاصات العسكرية والأمنية والشرطية.

أرقامٌ وإحصائيات:

لا توجد إحصائية رسمية بأعداد المنشقين عن النظام، وجلّ ما يُتداول هو تقديرات للعدد الكلي، وربما يكون بعضها قريبًا من الواقع، ويعود سبب ذلك إلى أنه لم يتح للمنشقين تشكيل كيانهم العسكري الجامع الخاص بهم، ولم يتم استيعابهم من قبل مؤسسات المعارضة.

ويُقدّر عدد ضباط الشرطة المنشقين عن النظام بـ 630 ضابطًا، في حين يبلغ عدد صفّ الضباط والأفراد ما بين 12 -13 ألف عنصر، وهو ما يشكل بمجموعه نسبة الثُلث، من ملاك وزارة الداخلية تقريبًا لحظة انطلاق الثورة.

أما بالنسبة إلى الجيش، فيُقدّر عدد الضباط المنشقين ما بين 4500-5000 ضابط، وهم يشكلون نسبة العُشر، من ضباط الجيش تقريبًا عند انطلاق الثورة، بينما يراوح عدد صف الضباط بين 6000-6500، أما بالنسبة إلى الجنود المنشقين، فتشير التقديرات إلى أن عددهم يبلغ 170.000 تقريبًا، وعلى ذلك؛ يمكن القول إن نسبة المنشقين عن جيش النظام تقارب 39% تقريبًا.

أما بالنسبة إلى الشهداء من الضباط المنشقين، فقد تم إحصاء حوالي 450 ضابطًا منهم، بينما يقدر العدد الكلي ببضع مئات قد يصل إلى الألف ضابط، أي بنسبة تراوح من 10إلى 20 % من مجموع الضباط المنشقين، جلّهم من الرتب الصغيرة ممن هم في عمر الشباب، أما بالنسبة إلى صف الضباط والجنود، فلا يمكن تقدير أعداد الشهداء منهم.

أسباب الانشقاق ودوافعه

تعددت الأسباب التي دفعت الضباط وصفّ الضباط والجنود السوريين إلى الانشقاق عن جيش وقوات النظام وأجهزته الأمنية والشرطية، ويمكن إجمالها في البنود الرئيسية التالية:

    الشعور الوطني القائم على تعاطف المنشقّ مع أبناء بلده، خاصة بعد أن اتجه النظام إلى أسلوب الحسم العسكري مبتعدًا عن الحوار والحل السلمي للأزمة.

    السبب الوجداني أو الأخلاقي، ويندرج تحته الجانب الديني المتعلق بالخوف من التورط في سفك الدماء التي أراد النظام توريط الجميع فيها.

    السبب الاجتماعي المرتبط بالحاضنة الاجتماعية التي ينتمي إليها المنشقّ، حيث ضغطت من أجل سحب أبنائها من جيش النظام والحيلولة دون مشاركتهم في عمليات القمع.

    الشعور بالاضطهاد، ذلك أن الظلم والتمييز لم يكن مقتصرًا على المدنيين فقط، بل شمل العسكريين أيضًا.

    هناك من قفز من المركب الآيل للغرق، وقد عاد قسمٌ منهم إلى النظام بعد أشهر عدة من انشقاقه.

أما الجوانب السياسية فلا يمكن اعتبارها سببًا للانشقاق؛ ذلك أنه لم تكن هناك حياة سياسية في سورية، وكان العسكريون أبعد ما يكونون عن الأحزاب والتنظيمات المعارضة السرية منها والعلنية. غير أن توفر السبب وحده غير كاف للانشقاق، إذ لا بدّ من أن يمتلك الشخص الإرادة والشجاعة الكافية لتحمل نتائج احتمالات الفشل، وهو ما يجعلنا نعتقد بوجود عدد من العسكريين الذين قُتلوا أو اعتُقلوا أثناء محاولتهم الانشقاق.

آثار الانشقاق ونتائجه

أفرزت الانشقاقات نتائج مهمة، سواء على صعيد النظام أو على صعيد الثورة، كان أبرزها:

    استنفاد قوات النظام وخاصة جنود المشاة التي يعتمد عليها في الأعمال القتالية، الأمر الذي دفعه إلى الاعتماد على فرق الشبيحة، وتشكيل الميليشيات كـ “الدفاع الوطني”، وطلب الاحتياط، وإغراء المتقاعدين، وتشكيل الشركات الأمنية، وأخيرًا التوجه نحو تجنيد عناصر نسائية.

    اضطرار النظام إلى الاعتماد على قوات النخبة (الفرقة الرابعة، الحرس الجمهوري، القوات الخاصة) لتعويض النقص الحاصل.

    استعانة النظام بـ “حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية، التي أدت بدورها إلى زيادة الاستقطاب الطائفي، وأظهرت هشاشة الهوية الوطنية السورية، على حساب الانتماءات الفرعية.

    حلّ وحدات عسكرية بكاملها، بسبب حجم الانشقاقات التي تعرضت لها، كالفوج 35 قوات خاصة والفوج 46 قوات خاصة.

    أما بالنسبة للثورة فقد عززت من شرعيتها التي توجت بحصول الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة على اعتراف دولي.

    تشكيل كتائب مسلحة للردّ على آلة النظام القمعية التي استدرجت الشارع السوري وثورته السلمية إلى العسكرة والتسلح.

    ارتفاع الروح المعنوية لدى الشعب السوري الثائر، في مقابل يأس وإحباط سيطر على جيش النظام وحاضنته.

    عمل المنشقون من العسكريين على مأسسة الحراك المسلح، من خلال تشكيل “حركة الضباط الأحرار” و “الجيش السوري الحر” لاحقًا، ورفده بكل الاختصاصات العسكرية.

أسباب توقف الانشقاقات:

انطلقت الانشقاقات في وقت مبكر من عمر الثورة، حيث شهد شهر نيسان/ أبريل 2011 انشقاق مجموعة من المجندين في الحرس الجمهوري، كان أبرزهم المجند وليد القشعمي، واستمرت الانشقاقات مدة سنتين تقريبًا، حيث توقفت في منتصف عام 2013، وقد شهد عام 2012 النسبة الأكبر من الانشقاقات عن جيش النظام.

    أدت الظروف المعيشية الصعبة التي واجهها المنشقون في اليوم التالي لانشقاقهم، ثم تهميشهم في مرحلة تالية، إلى دفع الآخرين إلى نبذ فكرة الانشقاق، وتفضيل البقاء إلى جانب النظام على الانتقال إلى المجهول.

    تشديد المراقبة وإغلاق الطرق والمنافذ التي قد يسلكها المنشقون، بعد أن تحولت خطوط التماس إلى جبهات معادية.

    عدم توفر فرص الهروب إلى أوروبا، فضلًا عن احتمالات تعرضهم للملاحقات القضائية في دول اللجوء.

وهناك مجموعة من الإجراءات التي لجأ إليها النظام للحد من ظاهرة الانشقاق، نذكر منها:

    التعتيم الإعلامي على الوحدات العسكرية، وتوجيه العسكريين وتعبئتهم من المنظور الذي يريده.

    إطلاق كثير من الإشاعات بخصوص انتهاك حقوق وخصوصيات المنشقين في المخيمات.

    تشديد المراقبة الأمنية على الضباط خصوصًا والعسكريين عمومًا، والتعامل بقسوة مع أي شبهة انشقاق.

    تقييد حركة العسكريين عمومًا، ثم منع الإجازات، وسحب البطاقات العسكرية من المجندين لمنعهم من إمكانية اجتياز الحواجز العسكرية.

    دفع النظام عملاءه لتدبير محاولات انشقاق فاشلة، انتهت بأصحابها إلى الاعتقال، الأمر الذي زاد من مخاوف الانشقاق واحتمالات الفشل.

    تجنّب النظام إقحام المشكوك في ولائهم من الضباط في الخطوط الأمامية، فقلل من نسبة تعرضهم للأخطار والإقلاع عن فكرة الانشقاق.

    التصفية الجسدية لكل من يرفض أوامر إطلاق النار.

النتائج والتوصيات:

بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة؛ بات عدد من الضباط المنشقين في سنّ التقاعد، في الوقت الذي تستمر فيه كليات النظام في تخريج مئات الضباط سنويًا من مختلف التخصصات، وقد فشل الائتلاف والحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع وقيادة الأركان في استيعاب الضباط المنشقين أو حتى ترقيتهم، ولم يتم إنشاء أي كلية أو أكاديمية عسكرية معترف بها لتخريج دفعات جديدة من الضباط. وبسبب عدم إجادتهم للأعمال الحرة وضيق العيش، اضطر الضباط والعسكريون المنشقون إلى الهجرة إلى بلدان الاغتراب، ما جعل إمكانية استعادتهم عند الحاجة إليهم أمرًا غاية في الصعوبة. وبناء على ما سبق؛ نخلص إلى التوصيات التالية:

    ترسيخ الانشقاق كظاهرة وطنية في المجتمع السوري عبّرت بشكل عملي عن تحريم استخدام الجيش في مواجهة الشعب، وهي ظاهرة تستحق دراسة معمقة للإحاطة بكل جوانبها، كما تستحق عمليةُ تهميشهم ومحاولة إنهاء أي تأثير لهم، البحثَ والتحقيق من قبل مؤسسات المعارضة الرسمية متمثلة بالائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة، لارتباط ذلك عضويًا بمحاولات إطالة عمر الأزمة السورية التي عمل عليها أعداء الثورة.

    سوف تتزايد الحاجة إلى الضباط المنشقين، بالتوازي مع تزايد الحديث عن الحل السياسي وفق القرارات الأممية، الأمر الذي يجب الاستعداد له.

    على الائتلاف والحكومة المؤقتة والأركان إعادة ارتباط الضباط المنشقين، ومنحهم ترفيعاتهم التي استحقها زملاؤهم لدى النظام، والمحافظة على من بقي منهم قريبًا من الأراضي السورية.

    السعي بكل الوسائل لإنشاء كليات عسكرية معترف بها لتعويض النقص، وابتعاث ما يلزم من الشباب السوريين لنيل الشهادات المتخصصة في العلوم العسكرية والعلوم الشرطية من كليات الدول الشقيقة والصديقة.

_____

(*) أُعدّت هذه الورقة بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لانطلاق الثورة، وألقيت في 18 آذار/ مارس 2021، ضمن ورشة “مراجعات في الثورة السورية” التي نظّمها مركز حرمون في الدوحة. وشارك في إعدادها عددٌ من الضباط المنشقين.

مركز حرمون

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button