السوري مقهورًا وقاهرًا/ رشيد الحاج صالح
تعدّ مشكلة قهر المقهورين لذواتهم من المشكلات الشائعة في المجتمعات التي تعاني القهر والظلم سنوات طويلة، إذ يقع عدد كبير من الناس المقهورين في ما يسمّيه علم النفس “العدوانية المرتدة على الذات”، حيث لا يجد المقهور وسيلة لمواجهة قاهره والنيل منه، فيلجأ -بلا وعي- إلى قهر ذاته بطرق عديدة. وأحدُ أهم أشكال العدوانية المرتدة على الذات، في المجتمعات المقهورة، عدوانية الآباء تجاه أبنائهم.
ولعل وفاة الطفلة نهلة العثمان، في ريف إدلب قبل أيام، بعد أن كبّلها والدها بسلاسل حديدية مدة طويلة، يجعل من العدوانية المرتدة على الذات قضيةً، على السوريين التنبّه إليها والعمل على فهمها وتجاوز أشكالها الكثيرة. فقد باتت لهذه الظاهرة عواقب مأساوية لا تقلّ فداحة عن المصادر الحقيقة للقهر التي يعانيها السوريون، والمتمثلة بالنظام الأسدي، وكل من يحمل السلاح في وجه السوريين.
وتعد عدوانية الفئات الأقوى تجاه الفئات الأضعف من السمات البارزة في المجتمعات المقهورة، لأنها وسيلة يلجأ إليها المقهورون (الأقوياء) للتنفيس عن مشاعر القهر التي يعانونها، بسبب عدم قدرتهم على مواجهة مصدر القهر الحقيقي. وبذلك يتمكن المقهورون الأقوياء من إثبات أنهم أقوياء أمام أنفسهم، عبر التنكيل بأولادهم أو الفئات الضعيفة المقربة منهم، بحيث يظهرون أمام أنفسهم بأنهم أقوياء وقادرون على عقاب الآخرين حتى قهرهم، وبذلك يرفع عن كاهله ضغط الشعور بالقهر الذي يعانيه.
أعلى درجات العدوانية المرتدة على الذات هي “التماهي” مع القاهرين الحقيقيين للمجتمع. فبحسب عالم النفس المعروف مصطفى حجازي، يلجأ المقهورون إلى أساليب القاهرين في التعامل مع الآخرين. هكذا يقوم الآباء المقهورون بضرب أبنائهم يوميًا، وهكذا قام والد الطفلة نهلة عثمان بتكبيلها بالسلاسل طوال أشهر، في سلوك يحاكي فروع الأمن الأسدية سيئة الصيت.
ممارسة “القوة الوهمية” تتحول إلى هوس لدى المقهورين، يشبه إلى حد كبير شراء الفقير لسيارة “آخر موديل” بأموال اقترضها. الأول يريد أن يخفي قهره، والثاني يريد أن يخفي فقره؛ الأول يضغط عليه شعوره بعدم القدرة على مواجهة القاهر، والثاني يريد أن يثبت لنفسه وللآخرين أنه يستطيع أن يكون غنيًا، ولو لبرهة من الزمن. وما يجمع بين السلوكين هو تدمير الذات في النهاية.
المشكلة تزداد تعقيدًا، عندما يتحول هؤلاء القاهرون/ المقهورون إلى أشخاص فاقدين للشعور بالذات، بوصفها مصدرًا للقيم والمعايير. ولا يتصرف هؤلاء بوصفهم أشخاصًا طبيعيين لديهم عائلات ومسؤوليات وحياة خاصة عليهم أن يهتموا بها، بل بوصفهم قاهرين لغيرهم، حتى لو كان هذا المقهورُ أبناءهم، ولعل هذا ما يفسّر ارتفاع الأرقام التي تتحدث عن محاولات الانتحار بين الأطفال السوريين في السنوات الأخيرة.
فالمقهور يبحث عن “ذنب”، لكي يفرغ فيه شعوره بالذنب. السبب الحقيقي للشعور بالذنب هو فشل المقهور في مواجهة القاهر له، أما الذنب الذي يتم اختلاقه، أو تحميل الذنب عليه، فهو الأطراف الضعيفة من أبناء وجيران وأقارب وزملاء مهنة. وذلك على طريقة صاحب المزرعة الذي أخذ يضرب ثوره المربوط، لأن الثور الآخر قد هرب، بحجة أن هذا الثور سيهرب أيضًا لو سنحت له الفرصة.
يتحول الطفل إلى وسيلة لتفريغ مشاعر الإحباط واليأس، ويصل الأمر، في كثير من الحالات، إلى درجة يتم فيها تحميل الأطفال سبب البؤس الذي يعانيه الوالدان المقهوران. ولعل هذا ما يفسر ظاهرة تهاون ترك الأمهات السوريات المطلقات لأبنائهن، في كثير من الحالات، مثلما يفسر ظاهرة محاولة الزوج حرمان الزوجة من أبنائها، لشعوره أنه تمكّن من قهرها، ودخل عالم القاهرين، وحرّر نفسه من عبء عالم المقهورين؛ فالطفلة نهلة عثمان، كانت ضحية لقهر مزدوج، قهرها والدها عندما حرمَها من أمّها أولًا، وعندما كبّلها بالسلاسل وتركها تعاني الإهمال وسوء المعاملة ثانيًا.
إن تعميم القهر على المجتمع السوري، أو على أي مجتمع آخر، لسنوات طويلة، يؤدي إلى تراجع الأخلاق العامة، وضمور الشعور بالمسؤولية لدى الناس المقهورين. وإن الشعور بالقهر يدفع المرء إلى الاعتقاد بأنه يعيش في غابة، وأن عليه أن يكون الأقوى حتى لا يؤكل، مهما كان الثمن. وبحسب نظريات علم نفس المقهورين، يمكن القول إن والد الطفلة نهلة قد يكون من أقلّ الناس حزنًا عليها، وأن شعوره أشبه بمن تخلص من عبء كان يُثقل كاهله، ويقلل من هيبته أمام من يريد قهرهم من أبناء المخيم الذي يعيش فيه، خاصة أن الأخبار القادمة من المخيّم تشير إلى أن الطفلة كانت تعاني مرضًا عصبيًا مزمنًا، وأن أهالي المخيم لم يتدخلوا لمساعدة الطفلة خشية من سطوة والدها.
لا شكّ في أن هناك ألوفًا مؤلفة من الأطفال السوريين الذين يعانون اليوم بسبب الآباء السوريين المقهورين/ القاهرين، الذين بدورهم يعانون الشعور بالإحباط والبؤس، ولكنهم، في الوقت نفسه، متعطشون لكبت مشاعر القهر بقهر الآخرين.