صفحات الثقافة

ملف عن مفهوم “الشعبوية” من اعداد موقعنا “صفحات سورية”

—————————–

عزمي بشارة.. نحو تأسيس مفهومي للظاهرة الشعبوية/ حسام أبو حامد

(3/1)

في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، احتضن موقع “ضفة ثالثة” مشكورا ملفا على حلقات قمت بإعداده والتقديم له تحت عنوان «الشعبوية: “نحن الشعب، فمن أنتم؟”.. من المصطلح إلى المفهوم» طرحت فيه على عدد من الباحثين والمثقفين والكتاب العرب تساؤلات حول الظاهرة الشعبوية بوصفها إشكالية راهنة كان سؤالها المركزي ما الشعبوية؟ هل تعدت مستواها الاصطلاحي لتتصبح مفهوما محدد في دلالته وإحالاته؟ واشتقت منه عدد من الأسئلة الفرعية: هل الشعبوية خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ هل كل شعبي هو شعبوي؟ هل الحركات الموصوفة بالشعبوية هي حقا كذلك، وتشكل خطرا على الديمقراطيات الغربية، أم أن الحركات الموصوفة بالشعبوية في تلك الساحة السياسية إنما هي في حقيقتها حركات نتجت عن أزمة الديمقراطية التمثيلية لانتزاع مزيد من المطالب الجماهيرية؟ ما هي ملامح الشعبوية السياسية في الدول النامية ومنها الدول العربية، وكيف تختلف عن الشعبوية في الديمقراطيات الغربية؟

وكان من حسن حظنا، قرّاء وكتابا وباحثين، أنه ما أن انتهت حلقات الملف حتى انطلقت في الدوحة سلسلة محاضرات “حوارات العصر” التي نظمتها كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا، واختتمت في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وشهد يومها الثاني والأخير من هذه الفعالية عقد ورشة عمل بعنوان: “الشعبوية وتحولات السياسة المعاصرة”، تحدثت فيها ثلة من الباحثين والأكاديميين، كان من ضمنهم المفكر العربي عزمي بشارة، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا، فقدم محاضرة عامة حول “الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية”، ميّز فيها بين الشعبوية والحركات الأيديولوجية الشمولية التي تكتسب تأييداً شعبياً عبر استخدام الديماغوجيا والأدوات الشعبوية، والتحريض ضد الآخر، موضحاً أن الشعبوية ليست أيديولوجيا، وأن الحركات الأيديولوجية الشمولية تستغل الشعبوية في التعبئة ضد الخصوم السياسيين، أو للتجييش ضد النظام الديمقراطي نفسه، وليس فقط ضد فساد السياسيين والبرلمانيين، ولكن هدفها تسيد أيديولوجية نخبوية باسم الشعب.

ولم تمض أسابيع قليلة أخرى، حتى صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جديد للدكتور بشارة، حمل عنوان «في الإجابة عن سؤال: عزمي بشارة» (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني نوفمبر 2019)، فكان محاولة منهجية أراد منها مؤلفه: «تفسير ظاهرة الشعبوية والإسهام في تطوير مفهومها، حيث أصبحت موضوعا ملحا في الآونة الأخيرة، مع رواج استخدام مصطلحها في الإعلام والأوساط الأكاديمية، ولا سيما في وصف حركات يمينية نشأت وانتشرت خارج الأحزاب المعروفة وسياسيين جدد برزوا وصعدوا من خارج المنظومات الحزبية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وسؤال العديد من المهتمين عن معناه، وهل من مفهوم محدد للظاهرة؟» (المقدمة ص 11).

الظاهرة الشعبوية

تشير “الشعبوية” عموما إلى نزعة سياسية تقوم على تقديس “الشعب”، وتؤمن بالتعارض بين الشعب الذي هو دائما على حق، وبين النخب الذين هم دائما على خطأ، وتتوسل بمحورية دور الشعب في الممارسة السياسية، وتنتعش بتوظيفها مشاعر الغضب لدى العامة، خاصة في أوقات الكوارث، والأزمات الاقتصادية، والاضطرابات السياسية. والبعض يراها في أي خطاب سطحي تتبناه الحركات والأحزاب السياسية يهدف الى تعبئة الجمهور واستثارته عاطفيا بعيدا عن أي حكم نقدي، وفي قادة كاريزميين يمتلكون مهارات خاصة في القيادة وقدرة على السيطرة على توجهات الجمهور، وفق دعاياتهم وخطابهم الثقافي البسيط.

مع ذلك، لا يزال المصطلح غامضا، تتعدد دلالاته حدّ التناقض أحيانا، بسبب تنوع السياقات التاريخية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، التي تواجد بها، ونتيجة تنوع دلالات مفهوم “الشعب” المتغيرة من شعبوية لأخرى، ولم تحافظ الشعبوية منذ ظهور المصطلح على جوهر ثابت.

وفي كتابه المذكور، يبين بشارة أن الاهتمام البحثي والسياسي الغربي الراهن بظاهرة الشعبوية السياسية ينصبّ على الديمقراطيات الليبرالية في الغرب عموما، متضمنا قلقا حول مصيرها بفعل تنامي هذه الظاهرة، التي تتمثل أهم ملامحها عند بشارة في أنها «نمط من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق. وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، كما يوظف بوصفه استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج، هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة. ويقدم حملة الخطاب أنفسهم بوصفهم الممثلين “الحقيقيين” للشعب، باعتبار ما عداهم ممثلين زائفين للشعب أو أعداء له» (ص 17).

وبينما اعتبر بعض الباحثين الشعبوية أمرا طبيعيا، واستراتيجية عمل عقلانية تستخدمها فئات متضررة، ينفي البعض فكرة منتشرة بين الليبراليين تفيد بأن الشعبوية ظاهرة متقادمة رجعية ترفض الآخر، ويراها ظاهرة حديثة، أصبحت منذ زوال الاشتراكية أداة يستخدمها الأقل نجاحا لتقليد الأكثر نجاحا والتنافس معهم، وربما مكافحتهم، ولا سيما النخب المعرفية من المثقفين والمتعلمين في المجتمعات الغنية المتطورة. وآخرون يحافظون على اعتقادهم بأنها غير عقلانية، تعبّر عن خوف وردة فعل على الانفتاح، أو مرض سياسي تنقل عدواه قيادات كاريزمية، تتوجه إلى مصوّتين خائفين في زمن الأزمات.

الخطاب الشعبوي

ينبه بشارة أن ليس من جوهر ثابت للخطاب الشعبوي، ولا يمكن التعامل معه على أنه إما أن يظهر أو يغيب، وشعبويته ليست مطلقة، بل على درجات؛ فقبل أن نجد أنفسنا أمام خطابات تهدف إلى تحقيق مقبولية شعبية عبر المبالغة والكذب وشيطنة الآخر متحولة إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة، نواجه، بداية، عدم اكتفاء أحزاب وقادة سياسيين بمخاطبة عقول الناس، بل عواطفهم أيضا، لإثارة خوف ونفور أو كسب تضامن وتأييد، وسنجد أننا أمام ديماغوجية الأحزاب المركزية الهادفة إلى مجاراة جمهور الناخبين، ولا تخلو البرلمانات بأحزابها التقليدية من الخطاب الديماغوجي، وتستخدم القوى السياسية المصنفة وسطية البلاغة الشعبوية بحسب المرحلة في قضايا مختلفة مثل: الهجرة والإرهاب والمناعة القومية وحقوق العاملين، وتتملق أيضا “أصالة الشعب” وتشيد بـ”فطرته السليمة”.

من الناحية العملية، تبدو الشعبوية لبشارة نوعا من المزاج السياسي؛ أي أفكار تسود المركز، لكن السياسيين الشعبويين يعبّرون عنها ويحشدون أولئك الذين يؤمنون بها بحدة ومرارة. ولكن المحلّوية والسلطوية وعدم الثقة بالنخب، التي تمثل “ثالوث الشعبوية”، لا تعرّف فقط التيار الشعبوي الراديكالي اليميني، بل يوجد هذا الثالوث بأضلاعه الثلاثة في سياسات التيارات المركزية بصيغ أخف، وبات جامعا مشتركا بين أحزاب كثيرة في أوروبا، فتصبح الشعبوية غير مختلفة نوعيا عن التيار المركزي، بل بالدرجة. فعند تناولنا المحلّوية التي تعطي الأولوية لمصالح السكان الوطنيين المحليين، سنجد أن جميع الأحزاب المركزية تتحدث عن مصالح الشعب والمصلحة الوطنية، ولو نزعت منها المحلّوية الإقصائية الإثنية فلن يبقى سوى وضع مصالح المواطنين قبل القضايا العالمية. لا تخلو تلك الأحزاب أيضا من السلطوية، أما عدم الثقة بالنخبة فهو التيار الأكثر انتشارا في التيارات المركزية في المجتمع، إذ يسود الاعتقاد أنه إذا ما منحت للناس الحرية والسلطة فسوف يسيئون استخدامهما ويفسدونهما.

في حالة رسوخ النظام الديمقراطي قد يؤدي الاحتجاج الناجم عن الاغتراب عن السياسيين وتراجع الثقة بالبرلمانات إلى إصلاحه وإصلاح النظام الحزبي. في مثل هذه الحالات، الأزمات الناجمة عن التوتر بين النظام التمثيلي والمشاركة الشعبية، وبين تفسيرات القوى السياسية للمساواة وتفسيراتها للحريات، وبين الخطاب الديمقراطي والواقع، تفيد في تطوير النظام الديمقراطي، وثمة حالات أخرى أسهمت فيها في وصول عناصر إلى الحكم تسعى إلى تقييد الحريات، أو التعبير عن المشاركة الشعبية بالتشديد على الخطاب القومي الشوفيني والتشريعات ضد الأجانب.

يبين بشارة أنه ليست كل استراتيجية شعبية هي شعبوية، مع أنها قد تضم عناصر شعبوية، فقد يحتوي النظام الديمقراطي القائم، وداخل أطره المؤسسية، بعض الحركات الشعبوية السياسية، فتؤدي عملية الاحتواء إلى تعديل خطابها، وفي الوقت نفسه إلى تغيير النظام نفسه. وإن كانت مشكلة التعبئة الشعبوية تتمثل بأنها لا تكتفي بتوجيه الغضب ضد السياسات فحسب، بل أيضا ضد المؤسسات الديمقراطية، فإن أسلوب الخطاب الشعبوي نفسه يصبح مشكلة للنظام الديمقراطي؛ ففي ظل تنامي منسوب الكراهية وشيطنة الآخر، يتبع هذا الخطاب أسلوب تقسيم المجتمع إلى “نحن” متخيلة تمثل الشعب، و”هم” متخيلة تمثل أعداءه (النخب والسياسيون والمثقفون والأحزاب عموما). هنا يتحول الأسلوب إلى أيديولوجيا، فتخرج الظاهرة عن كونها استراتيجية في العمل السياسي لتصبح ظاهرة معادية للديمقراطية.

أزمة الديمقراطية بوصفها مصدرا للشعبوية

لكن عن أي ديمقراطية يجري الحديث هنا؟

الديمقراطية كما يوضح بشارة ليست أيديولوجيا نهائية، ويمكن بالطبع أن تنشـأ عالميا بدائل عنها، على اعتبار أن انتصار الديمقراطية ليس حتمياً، لكن حتى الآن فالديمقراطية الوحيدة في عصرنا التي تستحق هذه التسمية بحسب بشارة هي الديمقراطية الليبرالية، التي يمارس الشعب فيها سيادته بوصفه مصدرا لشرعية النظام في الانتخابات، لكن تمثيله يبقى عملية منفصلة تقوم بها مؤسسات وسياسيون محترفون، مما يوفر فضاء يسمح بتوسط الأحزاب والمؤسسات المدنية، ويمكن من التقييم والحوار والمناقشة، وتتوافر الرقابة المتبادلة، ومؤسسات لمراقبة المنتخبين مثل المحاكم والإعلام وأجهزة الرقابة وغيرها.

مع كل ذلك، لم يخل تاريخ الأنظمة الديمقراطية الليبرالية من التوترات التي برزت على شكل أزمات دورية أدت إما إلى تطوير تلك الأنظمة (تطوير النظام التمثيلي النيابي، وضع مبادئ دستورية بوصفها شرطا للمشاركة السياسية البرلمانية، واستقلال القضاء، نشوء دولة الرفاه…) أو انهيارها (العودة الى النظام السلطوي في الديمقراطيات الوليدة)، أو نشوء نظام سلطوي جديد (الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا…). فما يعد أزمة تمر بها هذه الديمقراطية مع انتشار الشعبوية اليمينية في الغرب ليست «ظاهرة جديدة كليا، بل هو تجليات ما يمكن تسميته أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة» (ص 20).

تتمثل هذه الأزمة برأي بشارة في ثلاثة توترات قائمة في بنية الديمقراطية الليبرالية ذاتها، وفي نظريتها، حتى في ظل نظام ديمقراطي معزّز بارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية: توتر بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية والسياسية بين البشر، والبعد الليبرالي الذي يقوم على مبدأ صون حرية الإنسان وكرامته؛ داخل البعد الديمقراطي يوجد توتر بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية؛ التوتر بين مبدأ التمثيل الانتخابي وقرارات تتخذ بالأغلبية من جهة، ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة لكنها فاعلة في صنع القرار أو تعديله أو عرقلته (جهاز القضاء، أو الأجهزة البيروقراطية المختلفة) من جهة أخرى.

لكن لا تثير هذه التوترات تلقائيا غضبا شعبيا ولا تولّد خطابا شعبويا، ينفذ بدوره مباشرة من خلالها، بل بتوسط التوترات والصراعات الاجتماعية الاقتصادية نحو: التفاوت في المساواة الاجتماعية والسياسية أو غيابهما، وسوء توزيع الدخل، ومسائل الهوية، والحقوق الجماعية… والتي تؤدي إلى التهميش ووجود فئات مستفيدة من النظام على حساب أخرى متضررة. عندها يوظّف الخطاب الشعبوي الغضب الجماعي محولا إياه نقدا للنظام الديمقراطي نفسه، بتبني أحد مكونات هذا النظام ضد مكون آخر.

غالبا ما يقوم الديماغوجيون بالتحريض ضد السياسيين ومهاجمة الآليات التي تراقبهم وتضبط سلوكهم وتحاسب على الفساد في الوقت ذاته، ولا سيما تدخل القضاء في العملية السياسية، وذلك عبر قولهم الشيء ونقيضه، ومغازلة الغضب الشعبي لغايات لا علاقة لها بمنطلقاته، ويبدو خطابهم مع ذلك منسجما، المهم أنه يتصدى للنخب عموما. «وهذا من النتائج الوخيمة لانقسام “نحن” و”هم”؛ إذ إن أي هجوم ضد «هم» يصبح مقبولا ً باعتباره «منسجما مع ذاته» حتى لو كان متناقضا داخليا» (ص 33).

بين ديمقراطيتين

لا يكتفي بشارة بتناول الشعبوية بوصفها خطابا سياسيا بل يجمع أيضا بين الخطاب والممارسة، كما يفصل بين ظاهرة الشعبوية في البلدان الديمقراطية التي يمكن فيها تعيين حدودها ودرجاتها، وبين الشعبوية في بلدان غير ديمقراطية يتداخل فيها على ضفة المعارضة الشعبي والشعبوي، مع إمكان التمييز على ضفة السلطة لنظام سلطوي شعبوي من نظام سلطوي آخر.

الديمقراطيات التاريخية التي بدأت بنظام ليبرالي يضع حدودا على السلطة التنفيذية، وحماية الملكية الخاصة، والحريات، وحق اقتراع حصري توسّع بالتدريج ليشمل فئات أكبر فأكبر من المواطنين، تمكنت من احتواء الحركات الشعبوية المناهضة لمكونها الليبرالي دون إلحاق الضرر بالحريات، حتى في حالة احتوائها «في البرلمانات وحتى الحكومات، فتغيّرت تلك الحركات بذلك، وتغيّر معها النظام الذي احتواها بتعديل نفسه من خلال عملية الاحتواء ذاتها باتجاه تقوية مكون المساواة والعدالة الاجتماعية، وبتعزيز الطابع الإثني القومي في حالات أخرى” (ص23).

أما في الديمقراطيات الوليدة التي لم تنشأ عن ليبرالية سابقة عليها ولم تترسخ فيها الحريات والحقوق، فإن الشعبوية تشكل خطرا حقيقيا، فهذه الديمقراطية (الديمقراطية كمجاز سياسي إن جاز التعبير) أشد هشاشة وأقل مقاومة للخطاب الشعبوي ومضارّه، إذ تتعرض الحريات المدنية إلى خطر حقيقي مع رفع الشعبوية قيمة المشاركة السياسية وحكم الأغلبية فوق قيمة الحريات، لكن ضرورة ضبط الخطاب الشعبوي والتصدي له، في اعتقاد بشارة، قد لا تدرك من قبل ديمقراطيي الغرب،  فلسنا هنا أمام نقد تقليدي لليبرالية الكلاسيكية من قبل الداروينية الاجتماعية مثلا، التي انتعشت في القرن التاسع عشر كثقافة مضادة تحفّظت على مشاركة العامة في السياسة، ووقفت ضد حق الاقتراع، فعلى النقيض من ذلك، ينطلق النقد المعاصر للديمقراطية الليبرالية من أن الشعب طيب وخير ودائما على حق، وأن النخب هي الفاسدة.

التوتر بين البعد الديمقراطي (المساواة) والليبرالي (الحرية)

في عصرنا تقلب الشعبوية، ولا سيما الأيديولوجية منها، حكم الشعب غير المقيد إلى حكم مطلق مستبد باسم الشعب. فالتوتر الدائم بين مبادئ الليبرالية ممثلة في حماية الحقوق والحريات الفردية وبين المشاركة الشعبية الواسعة قد ينجم عنها انتشار سياسات الهوية، ومخاطبة الغرائز، وتيارات تخوض في السياسة من منطلقات معادية لها ولمؤسساتها ونخبها، لا سيما في صورة يمين شعبوي غير تقليدي. قد يصعب التمييز بين خطاب بعض الأحزاب اليمينية في الحكم والحركات الشعبوية المعارضة لها، فكما تقدم عند بشارة، تشغل القضايا التي يتمحور حولها الخطاب الشعبوي أيضا، الأحزاب المركزية، وخطابها الديماغوجي، لكن بدرجة أقل شعبوية. ففي معرض التنافس الحزبي الضاري تستخدم الأحزاب المركزية أنواعا مختلفة من الديماغوجيا التي تستبدل الأوامر الشعبية بسيادة القانون، وتصادر ثقة الشعب، ويستخدمها الديماغوجيون للحكم بوصفهم أسياد الشعب الجدد، دون قوانين تقيدهم، لذا رأى أرسطو أنه في حين يسود القانون في الديمقراطيات لا وجود للديماغوجيين.

ورغم أن أرسطو يتحدث عن دولة لا عن حركة فقد وضع يده، بحسب بشارة، على تناقضات النظام الديمقراطي في حالته الأولية البسيطة، ولا سيما عنصري المساواة والحرية، حين المضي بهما إلى حدهما الأقصى، وحذّر من مخاطر الشعبوية (الديماغوجية كما يسميها) التي تلعب على وتر مظان الناس أنهم متساوون بالحريات، وبالتالي هم متساوون مطلقا، الأمر الذي يعني بطلان أي قيود على “سلطة الشعب”، ورفض التمايز حتى على أسس مثل الأهلية والكفاءة، والتراتبية التنظيمية. وعلى غرار أرسطو وأفلاطون، وفي معرض نقده للديمقراطية، خشي ألكسيس دو توكوفيل من سيادة مبدأ المساواة وتغليبه على الحرية دون أن تقتصر احتمالات ذلك على الحكومة والبرلمان، لتنتشر في مؤسسات اجتماعية خاصة، وتمتد المطالب بالمساواة لتكون جوهرية في المنافع وليس فقط في الفرص.

يرى بشارة أن الديمقراطية الليبرالية لا تستقيم دون الجمع بين مبدأي الحرية والمساواة، فأي محاولة لعزل بعد عن آخر ينتهي الى تفريغه من مضمونه، فالحرية دون مساواة اجتماعية تفقد معناها، وتتعذر ممارستها، حيث ينتقل مبدأ عدم تكافؤ الفرص من المجال الاقتصادي الاجتماعي إلى المجال السياسي، فتصبح المشاركة السياسية بلا معنى وتصبح الحرية في حياة الفرد نظرية في ظل شح خياراته المتوفرة، ويصبح عبدا للحاجة المادية حين يضطر إلى توفير جلّ الوقت للحصول عليها مما يبعده عن الشأن العمومي. فبدون مساواة اجتماعية تتحول الحرية إلى نقيضها، وقد انتهت المساواة المتجلية في توفير الخدمات والمنافع من دون حريات إلى نظام استبدادي، طالما أنتج أنماطا جديدة من عدم المساواة.

يذهب بشارة إلى أن النظام السياسي يستمد حصانة مع ازدياد الرقابة القضائية والشعبية على المنتخبين، وتترسخ حقوق الناس وحرياتهم، إذ تحد التعددية التنافسية المؤطرة بإجراءات ديمقراطية من تعسف الدولة، وتسمح بالمحاسبة، وتحمي حقوق المواطن وحرياته. هنا يمنح بشارة القيمة لإنجازات الديمقراطية ذاتها لا لهوية الحكام، مؤكدا أن الشعبوية «تهدد هذه الإنجازات بالذات، ولا تهدد المفاسد التي تعبئ جمهورها ضدها، والتي لا تلبث أن تمارسها نخبة جديدة» (ص33)

لكن الأزمات الاقتصادية والسياسية هي مناخ مناسب لتسويق أفكار النخبة شعبويا، ويتعمق اغتراب الناس عن السياسة حين تبدو لهم الديمقراطية غطاء إجرائيا لحكم قلة امتهنت السياسة وأتقنت استخدام هذه الإجراءات، فتبادلت اللعبة الداخلية والسلطة والقوة والنفوذ، ويشعر الناس بوهمية مشاركتهم السياسية لصالح أوساط من داخل النخب. فكيف يمكن حل مشكلة الاغتراب السياسي؟

يقترح بشارة زيادة ذات معنى للمشاركة الشعبية، وتوسيع مفهوم الحقوق بحيث تتعدى الحقوق المدنية والسياسية إلى الحقوق الاجتماعية، فحين يقتنع الناس أن الديمقراطية تحمي حقوقهم تلك، وأنها إلى جانب اشتمالها على آليات لضبط الحملات الانتخابية والمال السياسي، تشتمل كذلك على آليات من شأنها أن تمتع تعسف النظام السياسي.

هناك باحثون ليبراليون يرون الشعبوية بوصفها أحد أعراض المجتمع الجماهيري لا مجرد حركات اجتماعية متنوعة؛ مستخدمين مصطلح “الديمقراطية الشعبوية” أو “الديمقراطية المفرطة” للدلالة على الشعبوية الناتجة عن وجود أشكال للديمقراطية التمثيلية من دون تطور كاف لحكم القانون، إذ تستفيد الحركات الجماهيرية المعادية للحرية وللديمقراطية ذاتها من عملية دمقرطة لم تجتمع مع سلطة مستقرة ومحدودة الصلاحيات. يعتقد بشارة أن مشكلة هؤلاء الباحثين تكمن في تشديدهم على مخاطر تشويه تقاليد المساواة بتحويلها إلى قيم مطلقة، دون اهتمام كاف بمخاطر غياب المساواة، أحد أهم مصادر الشعبوية المعاصرة «فمكافحة الشعبوية لا تكون بالتحذير من مخاطرها، ولا بسيادة القانون فحسب، بل أيضا بمعالجة مصادرها الاجتماعية والثقافية» (ص 29)

الشعبوية الراهنة عربيا

الاهتمام بالظاهرة الشعبوية ليس خصلة غربية، وقد استخدمت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم لوصف أنظمة وشخصيات سياسية في دول أميركا اللاتينية، وذاع استخدام المصطلح في الخمسينيات والستينيات لوصف أنظمة عربية، ثم ما لبث أن ندر استخدامه بعد تجاوز سلطوية تلك الأنظمة وسياساتها حدود الشعبوية.

لقد نشأت بذور الشعبوية في دول العالم الثالث عموما نتيجة عملية التحديث السريع والتي أدّت في المستعمرات السابقة إلى تغير متطرف في بنية المجتمعات وثقافتها، وتضرر فئات اجتماعية تمسكت بالتقاليد والهوية، في حين نشأت فئة مثقفين ذات تطلعات ومشاريع تحديثية توجهت إلى الشعب ضد النخب القديمة من جهة، وضد الاستعمار من جهة أخرى.

يحيلنا بشارة إلى صامويل هنتنغتون الذي ذهب إلى أن عملية التحديث على المستوى النفسي تعدّ تحولا جوهريا في القيم والمواقف والتوقعات؛ إذ يختلف الأمر بين الإنسان التقليدي الذي يتوقع الاستمرارية ولا يؤمن بقدرة الفرد على التغيير، وبين الإنسان الحديث الذي يتقبل التغيير بل ويؤمن به. هذه الشخصية المتنقلة أو المتحركة (Mobile Personality”” بتعبير دانييل ليرنر) تمكّنه من التكيف مع التغيرات في بيئته، ويطال التغيير الولاءات وتحديد الهوية انتقالا من نطاق العائلة والعشيرة والقرية، إلى المجموعات الأوسع مثل الطبقة والأمة. يعتمد هذا التغيير بشكل كبير على القيم العالمية أو الشمولية، وأيضا على معايير إنجاز الفرد.

في ستينيات القرن الماضي ذهب إدوارد شيلز إلى أن مثقفي الدول النامية تعرضوا لأيديولوجيات كونية، مثل الليبرالية والاشتراكية وغيرها، وللتهميش من قبل الاستعمار من جهة ومن قبل القيادات المحلية من جهة، مما دفعهم إلى تبني أيديولوجيات تقدس نقاء الشعب وطهارته في مقابل فساد النخب القديمة، وهي أيديولوجيات قومية، وفي الوقت نفسه تقدس الشعب، لا سيما فئات الفلاحين، ضد النظام القديم والأسر التقليدية الحاكمة والإقطاع وغيره. ولعب هؤلاء دورا مهما في بناء الدول الوطنية وتحديث الاقتصاد والمجتمع، لكن ميلهم إلى الشعبوية تحول في كثير من الحالات إلى سلطوية باسم الشعب، وقمع خصومهم بوصفهم خصوم الشعب والوطن.

لاحقا تناول هنتنغتون هذا الموضوع في كتابه “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” (*)، وقد تناول فيه عنصر التعبئة الشعبية الواسعة الذي ينطوي عليه التحديث السريع، وإدخال جماهير واسعة في السياسة بوصفه عائقا رئيسا أمام نشوء الديمقراطيات في دول العالم الثالث.

من جهته، يتوقّع بشارة أن يكتسب المصطلح راهنيته عربيا في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. فمع «تعثر موجة التحديث الأولى في العالم الثالث، وشعور فئات واسعة بالحرمان في ضوء حاجاتها الجديدة، وتضررها من الدولة السلطوية والشعبوية القومية، ومع تفكك بنى تقليدية من دون نشوء مواطنة حاملة للحقوق الاجتماعية والسياسية والحريات المدنية نشأت بيئة جديدة لأنماط جديدة من الشعبوية الساخطة إلى جانب الحراك الشعبي من أجل الديمقراطية» (ص 53).

(*) ألخّص أفكار هنتنغتون الواردة في الكتاب على النحو الآتي: يعارض هنتنغتون نظريات التحديث التي ادّعت أن التقدم الاقتصادي والاجتماعي سيؤديان إلى قيام ديمقراطيات مستقرة في المستعمرات حديثة الاستقلال، ويرفض حجتها المتمثلة في أن التغيير والتنمية الاقتصادية هما العاملان الرئيسان المسؤولان عن إنشاء أنظمة سياسية مستقرة وديمقراطية، ويؤكد أن هذه العوامل ليست مرتبطة إلى حدٍّ كبير بالتنمية السياسية؛ فالتغيرات في النظم والمؤسسات السياسية، برأيه، تحدث بسبب الاضطرابات الناشئة داخل النظام السياسي والاجتماعي مثل التحضّر، محو الأمية، التعبئة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، وأنه يجب عدم الخلط بين مسألة وجود أو عدم وجود النظام في البلدان النامية وبين مسألة نوع هذا النظام، سواء من حيث طبيعته السياسية أو من حيث توجّهه الاقتصادي.

—————————

(3/2)

انكفأت الشعبوية في أوروبا بعيد الحرب العالمية الثانية، لتنشط في دول العالم الثالث، مكتسبة مضامين جديدة مع قومية عبد الناصر، وجماهيرية القذافي، وتحولت إلى حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية أسقطت من حساباتها النضال الطبقي، مع خوان بيرون في الأرجنتين، وغيتوليو فارغاس زعيم حزب العمال غير الاشتراكي في البرازيل، وغيرهما. واستمر مصطلح الشعبوية في ثمانينيات القرن الماضي، مع عودة المحافظين إلى الحكم في عهد مارغريت تاتشر (بريطانيا) ورونالد ريغان (الولايات المتحدة الأميركية)، وفي الردة العنيفة تجاه موجة التعدد الثقافي التي عرفتها الجامعات آنذاك. وفي تسعينياته، حمّل مفكرون العولمة مسؤولية صعود التيارات الشعبوية الذي يترافق مع إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتحرير التدفقات المالية الدولية، وتباطؤ النمو العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية.

مع مطلع الألفية الثالثة، تقدمت الحركات الشعبوية في الاستحقاقات الانتخابية متشاركة قضايا: الهجرة واللجوء، سياسات التقشف المالي التي أثّرت على الإنفاق الحكومي والخدمات الحكومية، النزعة القومية، الدفاع عن الهوية الوطنية، التركيز على سياسات الدفاع، والموقف السلبي من حقوق الإنسان. وفي العام 2016 تردد المصطلح بشكل غير مسبوق في المنابر الإعلامية عند كل عملية اقتراع، ووجد البعض شعبوية في أي خطاب سطحي يهدف إلى تعبئة الجمهور واستثارته عاطفيا بعيدا عن أي حكم نقدي (خطاب الجبهة الوطنية الفرنسية، أحزاب البديل الألماني، ويوديموس الإسباني، والحرية النمساوي، وحركة النجوم الخمس في إيطاليا…)، وتمثلت لدى البعض في أشخاص كاريزميين يمتلكون مهارات خاصة في القيادة وقدرة على السيطرة على توجهات الجمهور، وفق دعاياتهم وخطابهم الثقافي البسيط (شعبوية دونالد ترامب في أميركا، وفلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب أردوغان في تركيا).

ضد الديمقراطية: شعبوية عالمثالثية

سبق لأوليفييه إيهل أن رأى صعوبة في تحديد معنى الشعبوية، لكونها ليست مفهوما بل مصطلحا، لا يستخدم للتحديد بقدر ما يتم استخدامه للتنديد، وهو استخدام يختلف بحسب التقليد، فبينما تشير الشعبوية في أميركا اللاتينية إلى الحركات اليسارية، فإنها في أوروبا تعني عادة اليمين المتطرف. أما بشارة فيتقدم في البحث موضحا أن الشعبوية اليسارية خارج أوروبا، في أميركا اللاتينية مثلاً، ليست إثنية كما هي حال الشعبوية اليمينية في أوروبا، بل تركّز على الجانب الطبقي بين الأغنياء والفقراء (كما في فنزويلا وغيرها قبل العام 2019). لكن هذه الشعبوية اليسارية غير المتحالفة مع الديمقراطية لم تعد هي الشعبوية الوحيدة إذ باتت تواجه تحديا متمثلا بصعود الشعبوية اليمينية.

بعد الاستقلال، أنشأت الشعبويات اليسارية، في آسيا وأفريقيا، أيضا أنظمة سلطوية أو شمولية باسم الشعب بعد تفشي ظاهرة الانقلابات العسكرية. كما عمّت النظم الشعبوية المنطقة العربية منذ النصف الثاني من الخمسينيات، ورأى خطابها الشعبوي أن الديمقراطية الليبرالية غربية ورأسمالية لا تلائم ثقافة العرب، واختزل هذا الخطاب حكم الشعب في التعبير عن مصالحه وإرادته وتماهيه مع قيادته الكاريزمية، ووجد في الحالة الحزبية تقسيماً للأمة وبعثرة لإرادتها، فقدّست وحدة الشعب الطيب ضد الأحزاب، وكان ذلك ذريعة لقمع المعارضة وحرية الصحافة، فتجاوزت شعبوية تلك الأنظمة حدود الشعبوية، وانتقلت إلى سلطوية فاشية أو شبه فاشية احتكرت العمل السياسي ومصادر القوة، وتآكلت منجزاتها التنموية الأولى بسرعة بفضل سياسة تعبئة الموارد عبر مركزية القطاع العام، الذي نخره الفساد إلى جانب فساد بيروقراطية الدولة المدنية والعسكرية. وترفعت هذه الأنظمة الشعبوية عن تصنيف يمين ويسار، أو تنقلت بينهما بسهولة تبعا لتنقل تحالفاتها الدولية.

على صعيد البحث في الشعبوية العالمثالثية ومقارنتها بالشعبوية في النظم الديمقراطية، يصل بشارة إلى إحدى النتائج الهامة، ألا وهي اتضاح حدود الشعبوية بوصفها ظاهرة مميزة في النظام الديمقراطي، إذ يمكن تمييز الشعبوية التي تصارع على احتكار الحديث باسم الأغلبية وعلى تمثيل الشعب ضد ما تعتبره أشكالاً تزوّر هذا التمثيل عبر الاجسام الوسيطة (أحزاب وغيرها) من الأحزاب والتيارات الأخرى الملتزمة بالنظام الديمقراطي. لكن الحال مختلفة في الدكتاتوريات، فبينما يسهل تحديد الأنظمة السلطوية في العالم الثالث وتمييزها من الأنظمة العسكرية المحضة والملكيات المطلقة والدكتاتوريات البيروقراطية، فإن ذلك يبدو صعبا حين نريد تمييز الشعبوية عن غيرها ضمن تيارات المعارضة، إذ أنها جميعا قد تستخدم الشعبوية ضد نظام الحكم الدكتاتوري.

من المعارضة إلى الحكم ومن التعددية إلى الجمهور

وصول ساسة شعبويين إلى الحكم في دول أوروبية عديدة، وحتى في ديمقراطيات عريقة كالولايات المتحدة الأميركية، دفع ناديا أوربيناتي في كتابها «أنا الشعب: الشعبوية كيف تحوّل الديمقراطية» إلى التعامل مع الشعبوية بوصفها مشروعاً في الحكم، يتضمن تحويل أعمدة الديمقراطية الثلاثة (الشعب، مبدأ الأغلبية، والتمثيل)، وبهذا يتم الانتقال من التعامل مع الشعبوية من كونها مشروع معارضة إلى اعتبارها مشروعا في الحكم يستهدف تغيير النظام الديمقراطي من داخله بوسائل دستورية، وإن كانت بالأصل ديمقراطية، إلا أنها تمثل الشعب بطريقتها في بناء ذات جمعية، فتقوم بعملية التمثيل الديمقراطي على نحو يشوه الديمقراطية الليبرالية نفسها بوصفها الديمقراطية الوحيدة الممكنة في عصرنا.

للوصول إلى “ديمقراطية شعبوية” (اسم لهذا الشكل الجديد من الحكومة التمثيلية) تستهدف الشعبوية مباشرة الأجسام الوسيطة (أحزاب ومؤسسات إعلامية ورقابية ونحوها). في هذا الشكل من الحكومة تكون العلاقة مباشرة بين القائد والمجتمع الذي يحدده القائد بوصفه شعبا محقا وطيبا دائما، ويوصف المجتمع المناصر غير المنخرط في السياسة والأحزاب بأنه متفرجون أو جمهور (audience). هؤلاء القادة ليسوا ممثلين (representatives) بل يمثلون (act) أدواراً من خلال نفاذهم من الشروخ الاجتماعية والانقسامات الحزبية. الشعبوية تكمن في هذا النوع من التمثيل، وتنمو مع تحول المواطنين إلى جمهور في حالة سيولة، وعلاقات شبكية أفقية، مع تراجع الولاءات الحزبية، ووسائل إعلام ومواطنين مستقلين عن الأحزاب والسياسة، في أجواء من التنافس الانتخابي ذي طابع شخصي، ومركزية السلطة التنفيذية مقابل تراجع دور البرلمان، مع تزايد دور وأهمية الإنترنت.

يرى بشارة هنا أن أوربيناتي «تموضع ظاهرة الشعبوية في عملية الانتقال من ديمقراطية تعددية حزبية إلى ديمقراطية الجمهور/المشاهدين (Audience Democracy / Democracy of the Public)» (ص 62).

تعريف الحد الأدنى للشعبوية باعتبارها استراتيجية ترى فيه أوربيناتي تجاهلا للسياقات التاريخية لصالح أعلى درجة من العمومية. من هذه التعريفات التي لا تقول الكثير عن تميز الظاهرة يسوق بشارة تعريف كورت ويلاند الذي يصفها بأنها «استراتيجية القائد الذي يحاول الحصول على سلطات فائضة على أساس العلاقة المباشرة غير المتوسطة وغير الممأسسة مع جمهور واسع من المؤيدين» (ص 62). أما التعريف المكسيمالي لها بوصفه تعريف الحد الأقصى، والذي يربط الشعبوية بالديمقراطية مباشرة، فترى أوربيناتي أنه لا يتعامل مع الشعبوية بوصفها نظرية وحسب، بل كبرنامج عملي يطرح مفهوما تركيبيا للشعب، ليتقاطع مع الأيديولوجيا بتشديدها على البعد البلاغي للظاهرة.

برأي بشارة أنه بخلاف الفهم الأيديولوجي الذي تنزلق إليه الشعبوية بين: نحن/الشعب/الأخيار من جهة وبين: هم/السياسيون/ الفاسدون، لا يؤسس التعريف النظري الأكاديمي نفسه على تمييز مانوي بين أخيار وأشرار. ولكن إرنستو لاكلو، مؤسس النظرية الماكسيمالية، ينحاز إلى الشعبوية اليسارية، ويجعل الشعبوية رديفا للسياسة والديمقراطية لتصبح صيرورة تركّب بواسطتها جماعة المواطنين نفسها بحرية بوصفها ذاتا جماعية (الشعب) تقاوم جماعة (غير شعبية)، وتقاوم الهيمنة المضادة في طريقها لانتزاع السلطة.

أيديولوجيا أم مزاج سياسي؟

يعتبر البعض الشعبوية عموما أيديولوجيا ضامرة (Thin Ideology) مضطرة إلى تحديد ما تتناوله من قضايا؛ تلك التي تمتلك إجابات عنها. فينفي كريستوبال روفيرا كالنفاستر، في كتابه «استجابة الشعبوية ردا على تنامي المعضلات الديمقراطية»، تصنيف الشعبوية إلى ديمقراطية أم معادية للديمقراطية، كما أنها ليست حالة مرضية تصيب الديمقراطية بل أيديولوجيا «تطرح أسئلة شرعية صعبة إن لم تكن مستحيلة الحل بالوسائل الديمقراطية» (ص83).

الشعبوية برأي بشارة خطاب يقوم على مزاج سياسي ثقافي غاضب، وليس أيديولوجيا، هذا الخطاب/الجوكر، إن جاز التعبير، قد يستخدم في خدمة أيديولوجيات متنوعة منها محدودة/غير كثيفة المضمون كالقومية، ومنها موسّعة/مكثّفة كالشيوعية والفاشية، والأصولية الليبرالية في حالات منها استثنائية. لا يتنافى ذلك مع أنه يمكن تحويل هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في حالات متطرفة، كما تقدم عند بشارة، تقوم على التصنيف التمييزي أو المعياري بين نقاء الشعوب وفساد النخبة، ومخاطرها على الديمقراطية.

في أوروبا الغربية يلحظ بشارة بعض حالات الشعبوية التي تذهب لاعتبار بعض منجزات الانفتاح الاجتماعي والتنوير جزءا من الهوية الإثنية الثقافية للشعب، لكنه ينبّه أن هذا المزاج السياسي (الشعبوية) يبقى غير ودود لليبرالية عموما، فما يبدو دفاعا عن بعض المنجزات الليبرالية في الغرب، من قبيل الحريات الاجتماعية وحقوق المرأة، وحقوق المثليين أحيانا، إن هو إلا موقف يبدو ظاهره تحرريا، مع أن الغرض منه إثارة المخاوف من الآخر، لا سيما المهاجرين المسلمين.

الشعبوية: الحدود بين اليمين واليسار

يذهب بشارة إلى أن النقد الشعبوي من اليمين واليسار، والذي يوحي بأزمة جديدة للديمقراطية الليبرالية في أوروبا، لا يمكن فهمه دون أن نأخذ بالاعتبار انهيار أو تفكك إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية حول طبيعة الديمقراطية الليبرالية في دول الرفاه الاجتماعي، وصعود النيوليبرالية من جهة أخرى. لقد بدأت هذه الأزمة الجديدة بعد أن بدا أن الديمقراطية الليبرالية قد حققت انتصارها النهائي على النظم الشمولية في بلدان المعسكر الاشتراكي. فلا تزال الديمقراطيات الغربية مثقلة بالتوترات والصراعات والمطالب والتوقعات، والسعي الجماهيري لتحقيق استحقاقات مباشرة وآنية على حساب المستقبل و«الجمع بين عدم الثقة بالدولة وانحسار التوقعات منها، وتوجيه غالبية المطالب إليها في الوقت نفسه. وتتغذى الأزمة بتعمق اللامساواة مع انهيار إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية على دولة الرفاه وهيمنة النموذج النيوليبرالي وتضرر الطبقة الوسطى والعمال الصناعيين، الذين انتقلوا إليها في مرحلة دولة الرفاه من العولمة وحرية التجارة والاستثمار؛ وهو ما أدى إلى ما يمكن تسميته بالفسخ النيوليبرالي بين الديمقراطية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أو بين مبدأي الحرية والمساواة. ويرافق توسع الفجوة في المداخيل الهوس الاستهلاكي وتزايد الحاجات في الوقت نفسه، ومضاربات سوق المال، وما يترتب عليه من نتائج وخيمة» (ص 64).

ولكن من يوجه الغضب ويقود الغاضبين؟

لم يعد اليسار الذي يشدد على مكون المساواة في الديمقراطيات هو صوت الغاضبين خلف شعارات العدالة الاجتماعية وزيادة تدخل الدولة في ضبط نشاط رأس المال، بل اليمين الشعبوي، وهو لا يقود إلى المساواة بل نحو التجانس الإثني، الديمقراطية الإثنية، وحتى تفوق العرق الأبيض، فيعبئ الجمهور الغاضب ويطالب الحكومة بإحقاق العدالة في إطار الثقافة الإثنية وأخوة الهوية، وقرع الطبول ضد المهاجرين، ومن دون برنامج اجتماعي. إذا كانت هذه شعبوية، فإنها هوياتية، كما يراها بشارة، تتخذ مظاهر إثنية أو طائفية أو جهوية بحسب البلد. وفي مقابل توزيع عملية القرار إلى هيئات دولية ومواثيق عالمية وتصدير المشاريع إلى الخارج تعد هذه السياسة المواطن بهوية و«استعادة السيطرة» بإعادة توطين القرارات في مجتمع متماسك ومألوف. وثمة تشابه اليوم بين هذا المزاج وذلك الذي أنتج شعارات الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الأولى، مع فارق مهم يتمثل في التعلّم من التجربة، ورسوخ النظام الديمقراطي، الذي تعود الناس معه على الحريات بوصفها نمطا حياتيا.

يضيف بشارة أنه ليس مصادفة ألا يجد اليسار موطئ قدم في الشعبوية الهوياتية، وإن صاغت بلغتها مظلومية اجتماعية طبقية، ولكن هذه ليست لغة اليسار، الذي يصعب عليه أن يصبح شعبويا في هذا السياق من دون مخاطبة الهويات، ما قد يوقعه في فخ بلاغة اليمين الشعبوي وإعادة تمثلها وإنتاجها.

تنتج أزمة الثقة بالسياسة والسياسيين (وهو ما سنتطرق إليه بتوسع عند بشارة في الجزء القادم) في نهاية المطاف حلولا سياسية زائفة؛ إذ تبحث عن الثقة في الهوية المشتركة. ولا تلبث أن ترى في الآخر والغريب عائقا أمام تطبيق هذه الحلول، فهو عائق أمام التجانس والحميمية المنشودة لهذا الحل. ويقوم اليمين المتطرف بمهاجمة إتاحة الليبرالية لـ«الآخرين» القيام بدور سياسي واقتصادي، وحتى ثقافي. ولا يلبث أن يستخدم هذا الخطاب الشعبوي في نقل الهجوم إلى استهداف الديمقراطية الليبرالية ذاتها، في ظل عجز اليسار عن القيام بهذا الدور. إنه بحسب بشارة “يمين من دون يسار”، إذ يلاحظ بشارة أنه، في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين، قامت دول في أوروبا الشرقية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية التي خلت عمليا من اليسار السياسي؛ فبعد التخلص من النظام الاشتراكي لم يبق يسار سياسي ينافس اليمين أو القوميين أو غيرهم. ومع أنه وضع يشبه الولايات المتحدة أكثر مما يشبه أوروبا الغربية، فإنه ينتقل بالتدريج وبسرعات ووتائر مختلفة إلى أوروبا الغربية.

“اللحظة الشعبوية”: جمع بين اليمين واليسار

قبل سيطرتها سياسيا وفي ظل الهلع من تكرار تجربة الشعبوية السياسية التي ميزت ديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، صُمّمت المؤسسات الأوروبية الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية لتقييد سلطة الأغلبية (الدساتير، إتاحة المشاركة للأحزاب غير المعادية للديمقراطية، دور القضاء الدستوري..). ومستفيدة من دروس أزمة الاقتصاد العالمي العام 1929، تم السعي إلى تدخل الدولة في الاقتصاد الذي يتيح تقييد حرية السوق للوقاية من الأزمات الاقتصادية الكبرى. ويذهب بشارة إلى أنه حتى في القرن الحادي والعشرين يصعب فهم موجة الشعبوية التي اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة من دون الوقوف عند الأزمة الاقتصادية لعام 2008 والتي ألزمت الإدارة الأميركية، وغيرها، بالتفكير في تشريعات جديدة تتدخل، خلافا للمعتاد، في سوق الأوراق المالية، وفي أعمال المصارف.

إن أحد مصادر جمع الشعبوية بين اليمين واليسار بحسب بشارة هو الفسخ النيوليبرالي السالف ذكره أعلاه، وبروز ظاهرة العودة إلى الهويات المحلية والإثنية في مواجهة عولمة القيم وتنميطها. وأدى هذا الفسخ إلى تراجع الطبقة الوسطى وتضرر فئات واسعة من العولمة والتجارة العالمية، وحرية تدفق الاستثمارات بحثا عن عمالة أرخص في بلدان لم تتحقق فيها بعد منجزات نقابية وحقوق عمالية.

في بحثه (مستقبل التاريخ: هل يمكن للديمقراطية الليبرالية الصمود في مواجهة انحسار الطبقة الوسطى) (2012) دعا فرنسيس فوكوياما إلى أيديولوجيا جديدة يحتاجها الديمقراطيون، تقدّم السياسة الديمقراطية على الاقتصاد، وتبتكر وسائل لتقديم الخدمات باستخدام تكنولوجيا متطورة تحاجج لإعادة التوزيع، وإنهاء اعتماد القطاع العام على جماعات المصالح وتحرير السياسة من سيطرتهم. لكن فوكوياما لا يتوقف هنا، بل يطالب أن تكون هذه الأيديولوجيا شعبوية مرتبطة بالقومية كاستراتيجية للتعبئة لا بالجماعات الهامشية التقدمية، وأن تجمع بين اليمين واليسار. هنا يتساءل بشارة «كيف يمكن التحكم في نتائج نشر أيديولوجية شعبية بالتنظير لها سياسيا بوصفها استراتيجية للتغيير؟» ويضيف «لقد أثبتت التجربة أنه يمكن استثمار الشعبوية لصالح رأسماليين فاسدين متحالفين مع نخب سياسية فاسدة باستخدام خطاب عنصري شوفيني يجمع بين العداء للأجانب والنخب الليبرالية» (ص91).

وترامب نموذج مناسب هنا كما يرى بشارة، فالنقد “اليساري” لحرّية التجارة طبقّه ترامب بوضع الحواجز الجمركية، وإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة، وشن حروب تجارية، وإغلاق الحدود أمام مهاجري الدول الفقيرة، ورفع شعارات شوفينية نحو: “أميركا أولا”. التدقيق في هذه الخطوات الترامبية يجعلنا، كما يذهب بشارة، نستنتج أن سياسات ترامب الشعبوية قد جمعت بين اليمين واليسار.

دعوة فوكوياما لتبني الشعبوية لم تكن الأولى، إذ توافر قبله بسنوات تأسيس نظري لتبني الشعبوية لكن بوصفها استراتيجية يسارية. وفي كتابها «من أجل شعبوية يسارية» (2019) تشرح شانتال موف؛ أنه على خلفية «حالة ما بعد السياسة» (والتي تعني عمليا «ما بعد الديمقراطية»)، التي نشأت نتيجة لخضوع تياري اليسار واليمين المركزيين في أوروبا الغربية لهيمنة النيوليبرالية، حل في غياب بدائل سياسية حقيقية نوع من الإجماع على النيوليبرالية مكان الإجماع على دولة الرفاه ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى هذه الخلفية نشأت ما تسميه «اللحظة الشعبوية» نتيجة إطلاق الحرية لقوانين السوق والتجارة والخصخصة، وتقليص التحويلات الاجتماعية، والتقشف في مخصصات الخدمات الاجتماعية في ميزانيات الدولة للحفاظ على توازنها، وتفادي العجز على حساب تراجع الإنفاق العام.

في خضم ذلك، رأت موف أنه كان من الضروري أن يتبنى اليسار خطابا غير معاد للأجانب والأقليات وغيرها، لجذب هذه الفئات بعيدا عن شعبوية اليمين. في هذه الشعبوية اليسارية ذات الخلفية الديمقراطية الراديكالية ترى موف استراتيجية ملائمة لاستعادة مُثل المساواة والسيادة الشعبية المكونة للسياسة الديمقراطية وتعميقها. لكنها، بحسب بشارة، ومع تأكيدها على بعدي المساواة والحرية، فهي في الحقيقة تصوّر الصراع بين الديمقراطية والليبرالية، أي بين الحرية والمساواة، كأنه صراع بين اليسار واليمين، لتستدعي مقولات «العدو والصديق» وإن بصيغة مخففة؛ فتستخدم بدلا منها مصطلح «الخصوم»، وهي لا تعتبر السياسة القائمة على انقسام «نحن» و«هم» بين خصوم (وليس أعداء) خطرا على الديمقراطية، بينما لا يعتقد بشارة أنه يمكن التحكم في مثل هذا الانقسام بعد التحشيد له.

شعبوية «نحن» مقابل نخبوية «هم»

يبين بشارة أنه لا ضرر على الديمقراطية من تبني اليسار خطابا مساواتيا “شعبويا”، خصوصا أن هذا اليسار سرعان ما يتبنى سياسات أكثر قربا من التيارات المركزية التي حكمت حالما يصل إلى الحكم (اليونان نموذجا)، ولا ضرر على الديمقراطية كذلك من صعود حركات احتجاج على سياسات وأوضاع قائمة، ترفع مطالب عينية، بحيث تجمع ناشطين من مشارب أيديولوجية مختلفة، والطبيعي، وفق بشارة، أن تجمع الحركات الاحتجاجية المطلبية الناس على مطالب وليس على أيديولوجيات.

إذاً أين تكمن المشكلة؟ ينبّه بشارة أن المشكلة بالنسبة إلى النظام الديمقراطي تنشأ عند التقاء أفراد وحركات من مشارب وأيديولوجيات مختلفة في حراك وتجمعات، يتشاركون فقط الغضب على النخب السياسية في العاصمة، والنقمة على الأحزاب والبرلمان والقضاء والمثقفين الليبراليين، والنظر إلى هؤلاء «الخصوم» بوصفهم الآخر أو «العدو» بحيث تتشكل «نحن» شعبوية تحتكر التعبير عن الشعب، في مقابل «هم» نخبوية.

هذا الانقسام بين «نحن» و«هم»؛ «نحن» و«العدو» أي الآخر المختلف جوهريا ووجوديا، وقابلية الانخراط ضده في صراع غير محدد بقواعد مسبقة، ولا أخلاقيات مشتركة، يحول الصراع بين «نحن» و«هم» وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين إلى القاعدة وليس الاستثناء، لأنه لا يمكن تخيل أن يحكم التعامل مع العدو والصديق بالمعايير نفسها.

لا تحتمل الديمقراطية انقساما حادا بين «نحن» و«هم» من دون «نحن» جامعة لجميع الـ «نحن» والـ «هم» الممكنة، مهما كانت هذه الـ «نحن» الجامعة ضامرة. فالتعددية ممكنة تحت سقف الإجماع على الدولة/الوطن. أما الانقسام الهوياتي من النوع المذكور فيختزل السياسة إلى بنى غير تداولية ولا تبادلية بل محصّنة في هويات، ومجرد الصراع بينها ليس تعددية تنافسية، بل يشبه التعددية الاجتماعية ما قبل السياسية، بين قبائل وطوائف أكثر مما يشبه التعددية الديمقراطية.

إضافة إلى ذلك، فإن احتكار تمثيل الشعب، واعتبار الخصم خارج هذا الشعب، ينتجان خطابا إقصائيا، يمهد لممارسات إقصائية قمعية، والانزلاق من الشعبوية إلى الفاشية، ويسهل خطر الشعبوية الثاني ممثلا في ضيقها بالمؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والصحف، وصولا إلى البرلمان ذاته، ووضع الثقة بقائد يتفاعل معه الشعب مباشرة من دون وسطاء، ويدعي أنه يتمثل هموم الشعب ويمثل إرادته. هذا الانقسام الهوياتي بتجاوزه التنافس على فهم الصالح العام، إلى صراعات بين مصالح قطاعية فحسب، يدفعنا «إلى مغادرة السياسة نحو الحرب والإلغاء، وإما العودة بها إلى القبلية الاجتماعية التي لا تتيح سياسة تعددية تداولية، بل تقود في أفضل الحالات إلى محاصصة تتعامل مع الدولة ومواردها على نحو تهارشي (أو افتراسي) بوصفها غنيمة. وإذا كان هذا أساس الشعبوية، فلا يمكن أن تكون شعبوية ديمقراطية» (ص100- ص101).

————————

3/3)

قدمنا مع بشارة، في الجزء الثاني من هذه المراجعة، أن احتكار تمثيل الشعب، واعتبار الخصم خارج هذا الشعب، ينتجان خطابا إقصائيا، يمهد لاستهداف الشعبوية المؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والصحف، وصولا إلى البرلمان ذاته، ووضع الثقة بقائد يتفاعل معه الشعب مباشرة من دون وسطاء، ويدعي أنه يتمثل هموم الشعب ويمثل إرادته. هذا الانقسام الهوياتي بتجاوزه التنافس على فهم الصالح العام، إلى صراعات بين مصالح قطاعية فحسب، يدفعنا إلى مغادرة السياسة نحو الحرب والإلغاء، وإما العودة بها إلى القبلية الاجتماعية التي لا تتيح سياسة تعددية تداولية، بل تقود في أفضل الحالات إلى محاصصة على الدولة.

يوضح بشارة أن ذلك يجري في فضاء تواصلي شبكي يتجاوز الهرمية، ويتيح التواصل مع السياسيين من دون وسائط الأحزاب والصحف الحزبية والمؤسسات الإعلامية، حيث المجال متاح لمخاطبة الغرائز ونشر الأكاذيب.

الفضاء الشبكي: شخصنة السياسة ووهم التمثيل المباشر

يتيح الفضاء المذكور، الذي وفّرته وسائل التواصل الاجتماعي المتحررة من رقابة الحكومات، توسيع مجال حرية التعبير والحصول على المعلومات، لكنه في المقابل يتيح أيضاً تحوّل المزاج الى رأي لا يستند على المعلومة، فينتشر الكذب والشائعات والتعبير بحدة عن المشاعر بما فيها مشاعر الكراهية، وردّات الفعل عليها، إلى جانب تذرير العلاقات الاجتماعية. وخلال هذا التواصل، الأفقي متعدد الأطراف، يتم إحكام الرقابة على المستخدمين وانتهاك خصوصيتهم واستخدامها لأغراض سياسية.

هذا التواصل يخلق «بيئة مؤاتية لنزعة قائمة في الشعبوية هي التواصل مع القيادة السياسية التي تمثل النزعات الشعبوية وتستثمرها، من دون المرور بالمؤسسات الحزبية والمؤسسات الوسيطة الأخرى التي قد تعقلن الخطاب بالحوار والتداول العقلاني، وبنزعاتها البيروقراطية البراغماتية» وعبر فاعلين متعددين في هذا الفضاء، تتم إعادة خلق المزاج والمشاعر وليس اكتشاف الحقيقة أو فهمها، فليست الشعبوية مزاجا شعبيا فحسب بل أيضا «قائمة في الإعلام والسياسة والمؤسسة الأكاديمية. وينشأ الخطر على الديمقراطية حين تلتقي هذه التيارات المختلفة، ويستثمرها سياسيون مغامرون وأيديولوجيون شموليون، ورجال أعمال فاسدون قرروا ولوج المجال السياسي مباشرة مع توافر إمكانية المخاطبة المباشرة للجمهور» (ص 66- 67).

مخاطبة الجمهور مباشرة، كما يبين بشارة، تخدم الشعبوية، بتجاوز المؤسسات التي تمثل الشعب والتشكيك فيها، فثمة علاقة بين فكرة الديمقراطية المباشرة (ممثلة في اتخاذ القرارات في الاستفتاءات وغيرها في مقابل الديمقراطية التمثيلية)، والشعبوية اليمينية الأوروبية الداعية إلى استفتاء الشعب مباشرة (فيما يتعلق مثلا بالموقف من الاتحاد الأوروبي والهجرة)، إذ تتيح لهم مخاطبة غرائز ومشاعر الناس بعيدا عن أي حوار عقلاني حقيقي، وتوكل لهم صنع القرارات في قضايا تحتاج إلى خبرة ومعرفة في أسباب أي قرار ونتائجه. يوفر ذلك للشعبوية إملاء سياسات جاهزة على جمهور ينبغي أن يصوت عليها بـ «نعم» أو «لا» (1).

لكن هل معنى ذلك أن هناك تطابقا بين الشعبوية والاستفتاء؟

لا يرى بشارة أن هناك دائما تطابقا عاما بينهما، فمثلا، ورغم أن نظام الاستفتاءات في سويسرا ذو نتائج محافظة عموما، إلا أنه ليس مجرد حلبة لاستثارة عواطف الجمهور ومخاطبة غرائزه، بعد أن أصبح منظما ومقننا، يوازيه نظام الكانتونات.

الفضاء الشبكي ومنصات التواصل الاجتماعي سمحا بالتواصل المباشر مع الناشطين وقادة الأحزاب، لكن ذلك لم يحل مشكلة الاغتراب كما يعتقد الشعبويون وغيرهم، بل جعل السياسة شخصية أكثر من أي يوم مضى، وأنتج وهماً لدى الناس بقربهم من الساسة الشعبويين، وحاصر وضيّق مساحة الحوار العقلاني القائم في مؤسسات مثل الأحزاب والمحاكم والإعلام التقليدي، وأضعف آليات ضبط تصرف الحكام باسم الأغلبية. يؤكد بشارة أنه لا يوجد تمثيل مباشر كما تتوهم الحركات الشعبوية، فكل تمثيل هو غير مباشر ولكن «ثمة أنواع من التمثيل غير المباشر تزعم أنها وحدها الناطقة باسم الشعب، وتدعي لنفسها سلطات لا يستحقها غيرها ممن لا يمثلون الشعب مباشرة، وفق المنظور الشعبوي. فهذا التواصل المباشر بين القائد والقاعدة الشعبية دون أجسام وسيطة هو تواصل خطير، لأنه يقود في النهاية إلى منع التعددية أو اعتبارها فائضا عن الحاجة» (ص 40- 41).

تتيح الديمقراطية التمثيلية الحرية والتعددية والمعارضة لكن مبدأ الشعبوية هو الجمهور الذي يدعم القائد في قراراته. ومع ازدياد تأثير «النيوميديا» عموما وارتفاع نسبة التعليم ترتفع حالة عدم الرضا الشعبي نتيجة لازدياد حاجات الناس وتنوعها، عدا مشاعر الإحباط بسبب المظالم المختلفة وعدم الرضا عن السياسات. يحدث هذا برأي بشارة في الدول السلطوية والدول الديمقراطية على حد سواء، وفي بعض الحالات، تعكس زيادة المشاركة الشعبية عبر تأييد شعبويين يمينيين من خارج أطر النظام ومؤسساته، انتشار الشعور بالاغتراب عن السياسيين، والشعور العام بعدم المشاركة يصاحبه الخوف على مستوى المعيشة ونمط الحياة من التطورات الاقتصادية السلبية، ومن الهجرة التي تُعرض بأنها مصدر للمتاعب الاقتصادية والصرف من ميزانية الدولة على حساب دافع الضرائب، في ظل تشويه الإعلام  لصورة المهاجرين بوصفهم، زورا، مصدر تصاعد الجريمة، وفي بعض الحملات مصدر تهديد الهوية.

علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا التعرض لدعاية قوى ديماغوجية تطرح حلولا سهلة وشعبوية تعبّر عن ضيق ببطء إجراءات الأنظمة الديمقراطية، وتخاطب الغرائز ضد «الآخر» ولا سيما المهاجرين. تحوّل الديماغوجيا الشعبوية مشاعر القلق والجزع إلى غضب سياسي، يقدم على أنه غضب الشعب. ويضيق المواطن المعرض للدعاية الشعبوية ذرعا بـ «الصواب السياسي» باعتباره إرهابا فكريا نخبويا يقيد حرية الكلام عن «الآخر» فيظهر الشعبويون بوصفهم «معبرين حقيقيين (أو أصيلين؛ بمعنى غير منافقين) عما يدور في خلد الناس ولا يتجرؤون على قوله. ويوهمون الناس بأنهم بقدرتهم على التعبير الصريح، سواء أكان عنصريا أم ذكوريا أم غيره، يسترجعون السيطرة على أنفسهم ومصائرهم بعد أن صادرتها منهم الأقليات، والسياسيون الفاسدون، ويسترجعون السيطرة على هوية البلاد التي يهددها المهاجرون والأقليات والعولمة» (ص 42-43).

“نحن الشعب”

قبل العولمة، كانت الليبرالية (“الليبرالية الأرثوذكسية”) قومية عموما، تمسكت بالتجانس الثقافي شرطا لممارسة الحريات الفردية، أما اليوم فقد تقبلت الليبرالية فكرة التنوع الثقافي والتعددية الثقافية في أوروبا، في العقد الأخير من القرن العشرين، بعد صراع طويل مع الذات، وتجد الشعبوية في هذا مدخلا لنقد الليبرالية بدعوى أنها تهمل الثقافة المحلية، ويرى بشارة أن معنى ذلك فعليا هو أنها تطالبها بالعودة إلى الانغلاق الثقافي والإصرار على التجانس. ويبين أن الشعبوية في صراعها على التمثيل تنتج “نحن الشعب” بصيغة هوية إثنية ثقافية، وعلى نحو يتضمن موقفا سلبيا من النخب السياسية، لينتج الفرد المواطن الذي يتكلم بغضب بضمير الجمع: “نحن الشارع” و”نحن الشعب”، وهو ما يرتبط بمفهوم المواطنة القديم الناجم عن الانتماء إلى مجموع هو هوية إثنية ثقافية تملك الدولة، كما في أثينا مثلا، ولدى حركات تزعم اليوم أن الدولة هي للشعب الذي تمثله هذه الحركات، ويحق لها، بالتالي، أن تحوز الإجراءات والمؤسسات والقوانين مما ينتج في النهاية نظاما إثنوقراطيا (2).

الديمقراطية: عدم الثقة بالمؤسسة

لشرح بيئة الحركات الشعبوية وخطابها يناقش بشارة موضوعة عدم الثقة بالمؤسسات الديمقراطية والاغتراب عنها، ويبين أن اتجاهات الرأي العام في الاتحاد الأوروبي تظهر توافقا على الثقة بالجيش والشرطة، وانقساما حول الثقة بالقضاء، وتدني الثقة بالمؤسسات التشريعية، والأحزاب السياسية. لكن في الديمقراطيات الراسخة تؤدي الديمقراطية وظيفتها على الرغم من حالة عدم الرضا والغضب الشعبي، وحتى حين يصل ساسة شعبويون يلحقون ضررا ببعض منجزات الديمقراطية، تتوافر أدوات مختلفة لمواجهة الشعبوية، تهمشها حينا وتحتويها حينا آخر. فاستنفار المؤسسات الديمقراطية والصحافة وفئات واسعة من المجتمع الأميركي لحماية منجزات الديمقراطية في مواجهة شعبوية ترامب مثًلا واضح للعيان. كما أن قادة شعبويين آخرين في أوروبا الغربية لا يشككون في النظام الديمقراطي، بل يصرّون على منجزات ليبرالية؛ مثل حقوق المرأة، وحتى حقوق المثليين أحيانا، ويصورونها كأنها ضمن «الخصوصية الثقافية» والإثنية التي يجب الدفاع عنها في وجه المهاجرين المسلمين “الذين يهددونها”.

وتختلف حالة عدم الرضا عن الحكومة في الديمقراطيات الراسخة عنها في الديمقراطيات الجديدة؛ فسكان الديمقراطيات الراسخة يميّزون عموما بين الحكومة ونظام الحكم الديمقراطي، بينما يصعب التمييز بين الحكومة والنظام في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا. وفي هذه الدول تحديدا ترتفع التوقعات الاقتصادية الاجتماعية من النظام الديمقراطي في الوقت ذاته الذي تنشأ فيه حالة عدم الاستقرار بعد إسقاط نظام سلطوي، أو في مرحلة الإصلاح المؤدي إلى الانتقال إلى الديمقراطية، وغالبا ما تنتشر حالة من الخيبات وعدم الارتياح الشعبي من النظام الديمقراطي في الدول النامية، ومرد ذلك، عند بشارة، إلى تحول النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام، فمواطنو تلك الدول لم يعتادوا التمييز بين الحكومة والنظام السياسي، لا سيما بعد إسقاط النظام بثورة، فتترجم حالة عدم الرضا إلى موقف سلبي من النظام الديمقراطي.

يحتاج الشعب في أي دولة راسخة إلى وقت حتى يفصل في وعيه بين الدولة ونظام الحكم. ولا تقتصر مسألة الفصل على الوعي فقط بل هي مسألة بنيوية أيضا، كما يوضح بشارة، فإذا كان ما يحافظ على وحدة دولة هو نظام استبدادي يعتمد على القمع، لا على شرعية الدولة وتاريخها، ولا على سياسة مناسبة في الاندماج الاقتصادي الاجتماعي، يمكن أن يهدد سقوط النظام وحدة الدولة. التمايز بين النظام السلطوي والدولة، والذي يمكن التمييز بينهما في الوعي، من شروط الانتقال إلى الديمقراطية. أما الفصل بين نظام الحكم والحكام، والتمييز بينهما، فهو نتاج مرحلة أخرى هي استقرار الديمقراطية. لكن، مع ذلك؛ أليس هناك من يبقي على عدائه للديمقراطية؟ يرى بشارة في ذلك دوافع أيديولوجية تستغل الغضب الشعبي من الحكومة لتحشيد فئات أوسع وراء خطاب سياسي يرجع سوء أداء الحكومة إلى مكونات أساسية في النظام نفسه.

في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا، ولا سيما النامية منها باقتصادها الهش وانخفاض الدخل ونسبة التعليم، تمارس البنى التقليدية بعض النفوذ، بينما الجيش هو المؤسسة الأكبر والأكثر تنظيما. ومشكلة هذه الدول أن الديمقراطية منذ البداية لا تُدعم دعما غير مشروط يتجاهل سياسات الحكام، وإسقاطات هذه السياسات على فئات اجتماعية مختلفة، فالأمر بالنسبة إلى غالبية الناس مرتبط بسياسات الحكومات إلى حد بعيد، ولا سيما في مرحلة يرتفع فيها سقف التوقعات والتطلعات، بعد سقوط نظام سلطوي، وامتحان رسوخ مبادئ الديمقراطية هو تمسك الغالبية بها، وبإنجازاتها في مجال الحريات وحماية المواطن من تعسف الدولة، على الرغم من عدم الرضا عن السياسات المتبعة في عهد حكومة أو حكومتين. لكن يصعب على الشعوب التي تخلصت للتو من استبداد مديد، أن تميز بين الحكومة وسياستها من جهة، وطبيعة النظام الحاكم من جهة أخرى، في دول لا تنشأ فيها الديمقراطية، بمعنى المشاركة الشعبية، بالتدريج بعد مرحلة ليبرالية طويلة كما في حالة الديمقراطيات في الغرب، بل دفعة واحدة قبل تأسيس الحريات المدنية وحقوق المواطن في بنية الدولة وفي ثقافة النخب ثم الثقافة الشعبية.

هنا يتناول بشارة بالتفصيل حالتي مصر وتونس، مستخدما وسائل كمية أيضا، ومبيناً مخاطر الشعبوية في الحالة التي أصبح فيها بالإمكان تمييز الشعبوية من غيرها من الاستراتيجيات الشعبية، وهي حالة تونس لأنها أصبحت دولة ديمقراطية، وكذلك في مصر في مرحلة استثمار قوى معارضة للحكم المنتخب في خطاب «شرعية الشارع» ضد «شرعية الصندوق».

جاذبية النظام الديمقراطي

هل يعني تحسن أداء الأنظمة السلطوية التنموي وانتشار عدم الرضا في الديمقراطيات الليبرالية تفوّق الأنظمة السلطوية عليها أم فقدانها جاذبيتها؟

ليس النظام الديمقراطي برأي بشارة تركيبا نظريا بين مدارس فكرية بل منجز تاريخي «ناجم عن تفاعل جرى في الواقع بين صون الحريات المدنية وتحديد سلطة الدولة من جهة، وتوسيع تدريجي لحق الاقتراع والمشاركة السياسية من جهة أخرى. ويجمع هذا النظام بين الإجراءات والأفكار والقيم. كما ينشأ في ظروف تاريخية ويحكم مجتمعات في ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية محددة. ومؤدى هذا كله أن صراعات جديدة تنشأ في إطار النظام الديمقراطي نفسه» (ص 155).

هل صحيح أن الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التاريخ والسياسة؟ يجيب بشارة بالنفي؛ فالديمقراطية الليبرالية تعيش صراعات لا تتوقف وتغيرات دائمة. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار التوترات البنيوية الثلاثة الدائمة في الديمقراطية (3) إضافة إلى التناقضات الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة الديمقراطية. وعندما نقارب أنظمة ديمقراطية عينية بصراعاتها الاجتماعية والاقتصادية ندرك أنها تسخف أي نهاية للتاريخ.

ربما لم يوجد نموذج عالمي مقابل للديمقراطية الليبرالية فور انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد انعطاف الصين نحو الجمع بين الرأسمالية نظاما اقتصاديا، والأيديولوجيا القومية للدولة العظمى المؤصلة تاريخيا، والملتقية مع مركزية الدولة البيروقراطية والحزب الشيوعي ونظام الجدارة الكونفوشيوسي؛ وهو نظام من غير الممكن تعميمه عالميا.

أما الأنظمة السلطوية الأخرى فجميعها ذات طابع محلي أو إقليمي، وعجزت الحركات الإسلامية السياسية عن تقديم برنامج محلي لـ «نظام حكم إسلامي» في أي دولة. وإن اتفق باحثون على أن الليبرالية الرأسمالية هي مشروع نظام حكم يعبر عن المدنية العالمية الوحيدة القائمة، فإن ذلك لا يبرر التأكيد المثالي التاريخاني، على أن الليبرالية هي المدنية العالمية الأخيرة، وستستدعي الديمقراطية الليبرالية دائما تحديات داخلية وخارجية. حيث يظل النظام الديمقراطي مسرحا للتوتر الدائم بين بعديه: الديمقراطي والليبرالي، ولا يشكل في حد ذاته حلا لقضايا اجتماعية عدة تبقى قائمة أو تحل عقلانيا في إطار النظام الديمقراطي، ولا يلبث أن ينتج قضايا وإشكاليات أخرى.

يعبر عن التوترات بأشكال عقلانية وأخرى غير عقلانية، فالديمقراطية ليست مجرد فكرة، ففي داخل نظام الحكم الديمقراطي تمارس السياسة بعناصرها العقلانية وغير العقلانية «وحتى في النظرية لا تستبعد النظريات الديمقراطية الليبرالية والجماعتية (الأهلية) وجود أنماط مختلفة من اللاعقلانية في سلوك المواطن والجمهور والمؤثرات التي يتعرضان لها، وهي لا تبقى بلا أثر في قرارات الأغلبية في الانتخابات، وحتى في قرارات الساسة في البرلمانات والحكومات. ولهذا السبب بلورت الديمقراطية عبر تاريخها أدوات ومؤسسات للتعامل معها. وعلى هذه المؤسسات والأدوات تحديدا ينصب هجوم الساسة الشعبويين» (ص 166). ومثلما لم ينتصر النظام الديمقراطي عالميا، كذلك لم يتخذ انهيار الدكتاتوريات المسار نفسه في كل مكان. ويعتقد بشارة أن الامتحان الراهن للديمقراطية الليبرالية هو في مدى الاستفادة من ظاهرة الشعبوية في تقييم ضرر النيوليبرالية، وفي النقد الذاتي. فليس الليبراليون محصنين من تقسيمات «نحن» و«هم» الإقصائية، ولا سيما في نظرتهم الوصائية إلى المجتمع، وتقسيم الناس إلى معتدلين ومتطرفين، لا وفق معايير موضوعية من أي نوع، بل بناء على هذه النظرة الوصائية.

ليس النظام الديمقراطي الليبرالي أيديولوجيا غائية نهائية لتاريخ العالم، ويمكن بالطبع أن تنشأ بدائل عالمية منه غير الشيوعية، هذا وارد نظريا، لكن السؤال هو: هل ثمة نظام أقدر من النظام الديمقراطي الليبرالي على الموازنة بين قيمتي الحرية والمساواة مكوني العدالة التي يصبو إليها الإنسان المعاصر؟ الجواب لا برأي بشارة «ليس التوصل إلى النظام الديمقراطي الليبرالي حتمية تاريخية، ولكن هذا لا يمنع أن يتطلع إليه الناس ويرغبون في تحقيقه والعيش في ظله. ويندرج الاعتقاد أن الأفضل هو أيضا الحتمي ضمن الأيديولوجيات الشمولية العلمانية والدينية. والأصح القول إن الأفضل هو ما يجدر أن نسعى إليه» (ص 169).

دفاعا عن الديمقراطية

تبذل الأنظمة السلطوية جهدا إعلاميا و«تثقيفيا» مكثفا في الحملة على الديمقراطية من خلال إبرازها لقضايا اجتماعية من فساد وفقر وجريمة في الدول الديمقراطية، في محاولة لإقناع الرأي العام بأن هذه الأنظمة لا تصلح إلا للثقافة الغربية التي تقوم على الحرية الفردية (مختزلة عندهم في الاغتراب الفردي و«الانحلال الأخلاقي»)، مستندين إلى دراسات ليبرالية غربية ترى ارتباط الظاهرة الديمقراطية بالثقافة المسيحية البروتستانتية. ويحاول هذا الجهد إبراز حالات فاشلة من الانتقال الديمقراطي في الدول النامية، أو ثورات ضد الاستبداد أدّت إلى كوارث وحروب أهلية، باعتبارها النموذج الواقعي لتطبيق الديمقراطية في «بلداننا»، في مسعاه لمساواة الديمقراطية والفوضى، عن طريق اللعب دعائيا على خشية الناس من الفوضى وانعدام الأمان أكثر من خشيتهم من الاستبداد. يبين بشارة ما هو جدير بالملاحظة هنا؛ أن جميع النماذج المقدمة على هذا الصعيد (سورية واليمن وليبيا) لم تتفجر فيها الحروب الأهلية في ظل نظام ديمقراطي، بل في ظل نظام سلطوي، ونتيجة لفشله في احتواء الحراك الشعبي سلميا، أو عدم قدرته على إصلاح بناه ومؤسساته، ونتيجة أيضا لفشل الانتقال الديمقراطي، وليس فشل الديمقراطية ذاتها.

طرح عدد من الباحثين مؤخرا السؤال عن حجم أزمة النظام الديمقراطي وفقدانه جاذبيته بنبرة متشائمة. وبرروا قلقهم بأرقام متعلقة بتقدم الدول السلطوية على سلم النمو، وحتى التنمية البشرية. في رأي بشارة، لا يعني ازدياد حصة الدول غير الديمقراطية من إجمالي الناتج العالمي تفوقها على الدول الديمقراطية في معدل دخل الفرد، فالأخير يأخذ عدد السكان في الاعتبار. هذا فضلا عن الفرق في نوعية الحياة. ولا يتفق مع الاستنتاج القائل إن الديمقراطيات الليبرالية في حالة أفول بناء على المعطيات التي تجلب للاستدلال على ارتفاع مستوى الدخل والتعليم في دول سلطوية. فهذا مؤشر لرسوخ الأنظمة السلطوية واستقرارها، «لكن السؤال هو: متى تنجب هذه العوامل نقيضها نتيجة لانتشار التعليم وتوسع الطبقات الوسطى؟» (ص 186)، لذا يطرح بشارة سؤالا مضادا حول «احتمال انتقال هذه الأنظمة إلى الديمقراطية بسبب توسع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم والإنترنت ومعهما الحاجة إلى حرية الرأي والتعبير عنه والرغبة في المشاركة».

ووفقا لاستطلاعات المؤشر العربي، فإن التأييد للديمقراطية بين مواطني المنطقة العربية الذين رأوا أن «النظام الديمقراطي وإن كانت له مشكلاته، فهو أفضل من غيره من الأنظمة» في تزايد مستمر؛ لتبلغ نسبة 74 في المئة من المستجيبين في استطلاع المؤشر لعام 2018/2017. وإن ازدهار الصين اقتصاديا واستقرار نظام بوتين في روسيا لا يعنيان أن النظامين في البلدين أصبحا جذابين لمواطني الدول الديمقراطية، أو حتى لمواطني الدول النامية. فأي مواطن عربي، مثلا، معجب باقتصاد الصين أو بمواقف بوتين يفضل العيش مع ذلك في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. ولكن ما يفترض أن يهمنا هو أن يفضل العيش في دولة ديمقراطية في وطنه، أي أن يؤيد الانتقال إلى الديمقراطية في بلاده.

خاتمة

توصلنا مع بشارة إلى أن الشعبوية خطاب سياسي، يحتكر التكلم باسم الشعب، ويجمع بين المخاطبة والممارسة، ويستمد شرعيته من مفردات الديمقراطية مستفيداً من التوتر بين الديمقراطية والليبرالية. وقد يتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في حالات متطرفة، كما ينزلق الى تقسيم «نحن» الشعب المتخيل و«هم» أعداء الشعب من المؤسسات والنخب والذي يعرقل التعددية الديمقراطية داخل «نحن» مواطنية، وقد ينقلب إلى صراع على مستوى الهوية، لكن بإمكان الديمقراطية الليبرالية الراسخة التي نشأت عبر عملية تاريخية طويلة تجاوز الخطاب الشعبوي واحتواؤه بسبب رسوخ مبادئ الليبرالية، ولا سيما الحريات والحقوق المدنية.

الشعبوية أيضا مزاج سياسي مستقبِل لهذا الخطاب ناجم عن غضب فئات اجتماعية متضررة من التطور السريع، وصعود نخب جديدة، وفقدان الألفة في المجتمع القائم، ولا سيما مع العولمة والهجرات الواسعة. والوسيلة المثلى لهذا الخطاب لتمثل الشعب والتحدث باسمه، هي نمط القيادة ذات التواصل المباشر مع الجمهور، الأمر الذي تيسره وسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل.

يشكل هذا الخطاب خطرا حقيقيا على الديمقراطيات الوليدة التي نشأت عن الانتقال مباشرة من نظام سلطوي من دون مرحلة ليبرالية سابقة، إذ يكون بمتناول الخطاب الشعبوي إمكانية التعبئة الشعبية خلف شعارات المشاركة السياسية من دون احترام الحقوق والحريات.

وتستثمر الشعبوية في التوترات في بنية الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ونظريتها، هذه التوترات وما تنتجه من أزمات يراها بشارة، في آن معا، مصدرا لأزمات النظام الديمقراطي ومحركا لتطوره وهي: التوتر بين مكوني الديمقراطية والليبرالية، وبين المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وغير المنتخبة، وبين المواطن والمؤسسات الوسيطة التي تفصله عن عملية صنع القرار. وتستقي الشعبوية أهم مصادرها من التناقضات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تضر بفئات وتهمشها، فتعبّر عن قلقها وخوفها وغضبها، بصيغة مناهضة منجزات ذلك الاجتماع التاريخي بين الليبرالية والديمقراطية، الذي نتج بدوره من تطور تاريخي طويل، وكل ما يقيد حكم الأغلبية، مثل المؤسسات الوسيطة داخل النظام، والاتفاقيات والالتزامات الدولية.

يميز بشارة بين حالتين من عدم الرضا، إحداها حالة عدم الرضا عن الحكومة في الديمقراطيات الراسخة، حيث يميز السكان، عموما، بين الحكومة ونظام الحكم؛ وحالة عدم الرضا في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا، حيث ترتفع التوقعات الاقتصادية الاجتماعية من النظام الديمقراطي في الوقت ذاته الذي تنشأ فيه حالة عدم استقرار، ولا سيما بعد إسقاط النظام بثورة. وقد تترجم حالة عدم الرضا إلى موقف سلبي من النظام الديمقراطي حيث يصعب على سكان هذه الدول التمييز بين الحكومة والنظام.

ومن خلال استقرائه للتاريخ، يذهب بشارة إلى أنه في الحالات التي كان فيها النظام الديمقراطي الليبرالي قويا تمكن من احتواء حركات شعبوية في مؤسساته، فغيرها وتغير معها، أو همشها. ويتوقع أن تندمج الحركات الشعبوية في النظام القائم في المرحلة المعاصرة، وتتهمش الحركات التي لا تحترم إنجازات الحقوق والحريات، على أن يولي النظام الديمقراطي اهتماما جديا لقضايا الثقافة والهوية، وهموم الفئات المتضررة من العولمة والنيوليبرالية على حد سواء. ويبدو بشارة واثقا من أن تحسن أداء الأنظمة السلطوية التنموي وانتشار عدم الرضا في الديمقراطيات الليبرالية لا يعنيان تفوّق الأنظمة السلطوية عليها أم فقدانها جاذبيتها.

هوامش:

(1)  لم تكن مسألة خروج بريطانيا أو بقائها في الاتحاد الأوروبي على أجندة الرأي العام حين طرحها رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، فجأة، بغرض حسم نقاش داخل حزبه، ولم يتوقع أن يجيبه الجمهور بـ «نعم» للبقاء. استراتيجيته هذه حولت التصويت من أجل الخروج إلى مجمع لاحتجاج الناس ومظالمهم، وحرضهم ساسة شعبيون مثل بوريس جونسون ونايجل فراج لصب جام غضبهم على الاتحاد الأوروبي بوصفه سببا للبطالة والهجرة غير المنظمة، وكذلك على النخب السياسية المؤيدة له والمغتربة عن هموم الناس وهويتهم. وفجأة أصبح المجتمع البريطاني منقسما بين مؤيدين للبقاء ومؤيدين للخروج ويعترف الجمهور في الاستطلاعات بأنه لم يدرك فعلا نتائج تصويته ونتائج الخروج من الاتحاد بشكل عام (بشارة، ص 75- 76).

(2)  الإثنوقراطية عموما هي نظام يعمل على تمكين الأمة المهيمنة (غالبا “الجماعة المميزة”) وفرض الإثنية وسيطرتها على الكيان السياسي، والمواطنة هنا ليست قائمة بذاتها بل هي العضوية في جماعة إثنية.

(3)  تقدم شرحها في الجزء الأول من هذه المراجعة.

ضفة ثالثة

الشعبوية: “نحن الشعب، فمن أنتم؟”.. من المصطلح إلى المفهوم/ حسام أبو حامد

(1)

مدخل إلى إشكالية راهنة

بات من المسلم به في الفكر السياسي المعاصر اعتبار القرن التاسع عشر إطارا زمنيا لولادة مصطلح “الشعبوية” (populism). ففي روسيا انطلقت العام 1870م حركة زراعية بميول اشتراكية هدفت إلى تحرير الفلاحين، وفي الفترة ذاتها، انطلقت في الريف الأميركي حركة احتجاجية ضد البنوك وشركات السكك الحديدية.

وقد تُفهم الشعبوية عموما على أنها نزعة سياسية تقوم على تقديس “الشعب”، وتؤمن بالتعارض بين الشعب والنخب، وأن الناس على حق والنخب الحاكمة على خطأ، تتوسل بمحورية دور الشعب في الممارسة السياسية، وتنتعش بتوظيفها مشاعر الغضب عند عامة الناس، خاصة في أوقات الكوارث، والأزمات الاقتصادية، والاضطرابات السياسية. لكن بسبب تنوع السياقات التاريخية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، التي تواجدت بها، ونتيجة تنوع دلالات مفهوم “الشعب” المتغيرة من شعبوية لأخرى، لم تحافظ الشعبوية منذ ظهور المصطلح على جوهر ثابت. فاكتسبت في المراحل اللاحقة مضامين مختلفة، فاختلفت شعبوية جورج بولانجيه إبان الجمهورية الفرنسية الثالثة عن شعبوية موسوليني في إيطاليا، وعن نازية هتلر في ألمانيا، واختلفت شعبوية ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق عنها في “ثورة” ماو تسي تونغ الثقافية الصينية.

“أوليفييه إيهل: هناك صعوبة في تحديد معنى الشعبوية، لكونها ليست مفهوما بل مصطلح، لا يستخدم للتحديد بقدر ما يتم استخدامه للتنديد”

انكفأت الشعبوية في أوروبا بعيد الحرب العالمية الثانية، لتنشط في دول العالم الثالث، مكتسبة مضامين جديدة مع قومية عبد الناصر، وجماهيرية القذافي، وتحولت الى حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية أسقطت من حساباتها النضال الطبقي، مع خوان بيرون في الأرجنتين، وغيتوليو فارغاس زعيم حزب العمال غير الاشتراكي في البرازيل، وغيرهما. واستمر مصطلح الشعبوية في ثمانينيات القرن الماضي، مع عودة المحافظين إلى الحكم في عهد مارغريت تاتشر (بريطانيا) ورونالد ريغان (الولايات المتحدة الأميركية) وفي الردة العنيفة تجاه موجة التعدد الثقافي التي عرفتها الجامعات آنذاك. وفي تسعينياته، حمّل مفكرون العولمة مسؤولية صعود التيارات الشعبوية الذي يترافق مع إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتحرير التدفقات المالية الدولية، وتباطؤ النمو العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية.

مع مطلع الألفية الثالثة، تقدمت الحركات الشعبوية في الاستحقاقات الانتخابية متشاركة قضايا: الهجرة واللجوء، سياسات التقشف المالي التي أثّرت على الانفاق الحكومي والخدمات الحكومية، النزعة القومية، الدفاع عن الهوية الوطنية، التركيز على سياسات الدفاع، والموقف السلبي من حقوق الإنسان.

في العام 2016 تردد المصطلح بشكل غير مسبوق في المنابر الإعلامية عند كل عملية اقتراع، بدءا من الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، مرورا بحملة دونالد ترامب الانتخابية، ولما ينتهي الجدل حوله بعد الاستفتاء حول التعديلات الدستورية في إيطاليا، إثر فوز حركة خمس نجوم الشعبوية الرافضة لهذه التعديلات. ولا يزال البعض يرى شعبوية في أي خطاب سطحي يهدف الى تعبئة الجمهور واستثارته عاطفيا بعيدا عن أي حكم نقدي، كما في خطاب الجبهة الوطنية الفرنسية، وأحزاب البديل الألماني، ويوديموس الإسباني، والحرية النمساوي، وحركة النجوم الخمس في إيطاليا، وحزب الاستقلال البريطاني. وتمثلت لدى البعض في أشخاص كاريزميين يمتلكون مهارات خاصة في القيادة وقدرة على السيطرة على توجهات الجمهور وفق دعاياتهم وخطابهم الثقافي البسيط، فوصف بالشعبوية كل من: دونالد ترامب في أميركا، وفلاديمير بوتين في روسيا، وأردوغان في تركيا.

المصطلح

المصطلح لا يزال غامضا، تتعدد دلالاته حد التناقض أحيانا، وإن وجد مارك فلورباني أن

الشعبوية تتمثل في بحث سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدى المؤسسات التقليدية، يقدمون أنفسهم ممثلين للمواطنين العاديين، أو ما يسمى الطبقات المنسية، فإن جان فيرنر مولر يعتبر العداء للبحث والمؤسسة معيارا غير كاف، لأنه يصم كل من ينتقد الوضع القائم بأنه شعبوي، مما يؤدي إلى مزيد من التشويش، فهناك أوضاع كثيرة قائمة لا تستحق النقد وحسب، بل والنقض أيضا. لذلك يقترح أن أهم ما في الشعوبية هو عداؤها للتعددية وزعمها أنها هي وحدها تمثل الشعب الحقيقي. وعلى ذلك يمكن أن نصم بالشعبوية تلك الصرخة التي صدح بها نايغل فاراغ، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، بعد بريكسيت، بأن النصر تحقق لـ”الشعب الحقيقي” طاردا من خانة الجماعة السياسية وعضويتها 48% من البريطانيين الذين صوتوا ضد بريكسيت. إن منطق الشعبوية عموما هو “من لم يؤيدنا ويوافقنا الرأي ليس من الشعب”، فحين رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على منتقديه قال في إحدى خطبه: “نحن الشعب. من أنتم؟”.

أوليفييه إيهل لا يزال يرى صعوبة في تحديد معنى الشعبوية، لكونها ليست مفهوما بل مصطلح، لا يستخدم للتحديد بقدر ما يتم استخدامه للتنديد (صعوبات تعريف المصطلح تتعلق في أحد وجوهها بالتوصل إلى تعريف إيجابي للشعبوية). هذا الاستخدام بالنسبة لإيهل أيضا، يختلف بحسب التقليد، فبينما تشير الشعبوية في أميركا اللاتينية إلى الحركات اليسارية، فإنها في أوروبا تعني عادة اليمين المتطرف. وفي تحليله للشعبوية، متناولا النموذج البريطاني، يميز جون أستوري بين الثقافة المشتركة التي تتقاسمها جميع الطبقات، وثقافة منفصلة تنتهجها الطبقة المسيطرة في المجتمع. ويرى أن ثقافة النخبة لم تعد هي الثقافة السائدة، فهناك ثقافة شعبية يمكن ملؤها بمفاهيم مغلوطة ومتناقضة تبعا لسياق الاستعمال.

أسهمت هيمنة الاتحاد الأوروبي على السياسات العامة للدول الأوروبية، والقلق الاجتماعي حيال تدفق المهاجرين، في إيجاد مدخل لليمين المتطرف لانتقاد الديمقراطية الليبرالية. وقد دق صعود الحركات الشعبوية ناقوس الخطر لدى المدافعين عن الديمقراطية الرافضين لتك السياسة المبنية على أسس تمييزية، التي يمكن برأيهم أن تزلزل مستقبلا القاعدة السياسية المؤسسة للنظم الغربية المستقرة، وتهدد بالانزلاق في الكراهية والتحيز، بسبب تحمل مجموعات “من الغوغاء” مسؤولية رسم سياسات، ومعالجة مشكلات، قد تواجهها كافة طبقات المجتمع.

ما هي ماهية الشعبوية؟ هل هي خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ هل الحركات الموصوفة بالشعبوية هي حقا كذلك، وتشكل خطرا على الديمقراطيات الغربية، أم أن الحركات الموصوفة بالشعبوية في تلك الساحة السياسية إنما هي في حقيقتها حركات نتجت عن أزمة الديمقراطية التمثيلية لانتزاع مزيد من المطالب الجماهيرية؟ ماهي ملامح الشعبوية السياسية عربيا وإسلاميا وكيف تختلف عن الشعبوية في الغرب؟ ما هي امتداداتها إعلاميا وثقافيا (فنيا وأدبيا)، وهل تلغي الشعبوية في هذا السياق القيمة الأدبية؟

نفتح في “ضفة ثالثة”، بدءاً من هذا الجزء، ملفا حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، فقصدنا عددا من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، وطرحنا عليهم تلك التساؤلات، وغيرها، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة القدرة على التعامل معها وتوجيهها.

وهي دعوة مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

الشعبوية: إشكاليات التعريف والمنهج

في كتابها “رجال الشرفات” (بيروت: دار الفارابي، 2012) تذهب منى خويص إلى أن

المصطلح لم يحظ بالاهتمام الكافي مقارنة بغيره من مصطلحات العلوم السياسية، مما أعاق استنباط تعريف محدد وواضح له، وبقيت معظم التعريفات التي تصدت لتحديده ضبابية، ولم تنل الشعبوية، حتى اللحظة، تعريفها المحدد في البحث التاريخي وبقي تعريفها عاماً، ولم ينفد إلى كنهها الخاص. إنَّ هذا النقص يحفّز على بذل جهد إبداعي للمؤرخين لإدراك سبل غير نمطية تساعد على لحظ تعريف محدّد للشعبوية، تعريف إيجابي، وليس سلبياً يشوبه الخلط بينها وبين تعريفات ظواهر أخرى. يقود هذا التفكير لطرح منهجية التأمل التاريخي، لتوّسل إيجاد التعريف الإيجابي والواضح لهذا المصطلح أو المفهوم. فالمنهجية البحثية التاريخية التقليدية هي مسار من الربط والمقاربة وإيجاد صلات العِبَر التاريخية بين الأحداث، مع أنّ ما نسميه اصطلاحاً بالمنهجية التأملية التاريخية، كما تذهب خويص، يعني الانقياد المتأني وراء الحدس التاريخي. ووفقاً لهذه المنهجية الأخيرة، يصبح للظاهرة التاريخية جانبان اثنان، جانب علمي في النظر إليه، وجانب تأملي في قياس خاصياته.

انكفأت الشعبوية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتزدهر في معظم دول العالم الثالث، التي كانت بحاجة إلى خطاب عاطفي بغية حشد الجماهير في معارك من أجل الوطن والاستقلال عن المستعمر. أما مأزق الشعبوية اليوم في أوروبا فيتمثل في ترافقها مع خطاب يميني وديني متطرف، ينزع نحو تفتيت لحمة المجتمعات بالإساءة إلى بعضها المختلف. وتدعو خويص إلى إدانة هذه الظاهرة المرضية المتكررة والمتجددة في سلوك القادة الحديثين السياسي والثقافي والاجتماعي، محصنين من اللوم التاريخي الإنساني في غياب مفهوم تاريخي إنساني يؤبّد إدانتها، حين ترك البحث التاريخي الوجه التعريفي للظاهرة ملتبسا، وخلط بينه وبين ظواهر أخرى وأيديولوجيا شمولية.

لتظهير المصطلح قدمت منى خويص في كتابها دراسة تحليلية للظاهرة عبر تتبع الحركات الموصوفة بالشعبوية التي ظهرت على مجمل الخارطة السياسية العالمية لتحفر في الخطب السياسية، وأشكال الحكم، والشخصيات القيادية، بحثا عن مكونات تلك الظاهرة المركبة، التي يتداخل فيها الإنساني بالسياسي والثقافي بالوجداني، وتداهمها ملامح ديكتاتورية وفاشية، فهي ليست ظاهرة داخل التاريخ فقط، بل هي أيضا حياة داخله.

الشعبوية: الشر السياسي

في كتابه “الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسات النقمة”، يربط فرنسيس فوكوياما بين صعود سياسات الهوية وانحطاط الديمقراطية. فهل تهدد فعلا الشعبوية السلطوية مستقبل الديمقراطية الليبرالية، أم هي نتيجة لتراجع تلك الديمقراطية؟

توجهنا بهذا السؤال إلى الباحثة والإعلامية اللبنانية منى خويص، فأجابتنا:

لطالما تمَّ التعاطي مع الشعبوية كأحد مكونات الفاشية والديكتاتورية وحتى الديمقراطية الشعبية. ولكن البحث في هذه الظاهرة توصَّل أولاً إلى أن الشعبوية تتضمن ملامح من كل ما ذكرناه، هي خطاب سياسي تستعمله الحركات المتطرفة كما تستعمله أيضا الحركات السياسية على الضفة الأخرى المقابلة لها، والشعبوية كحركة تتجلى بأبهى صورها عندما تتمكن القوى التي تتبنى الخطاب الشعبوي من الإمساك بالسلطة وفرض نفسها كمناخ عام يسود المجتمع، وتلك الصورة نجدها في المجتمعات التي تتحقق فيها وحدانية انقياد المجتمع خلف قادته، في المجتمعات التي تتشابه فيها الملايين داخل مفهوم واحد للثقافة والسياسة والاجتماع.

الشعبوية قائد ملهم وجمهور منقاد بشكل أعمى خلفه ومجتمع منغلق على نفسه، هي قيادة تكرر التاريخ، والأمس الذي يعاد إنتاجه. أما القائد الشعبوي فهو القائد الآتي من الماضي مما يعتبر مقدساً في الوجدان الجماهيري. والشعبوية لطالما كانت حركة تقف بوجه الدولة والمؤسسات لتحل محلها كما أنها حركة تقف بوجه كل النخب في المجتمع من فكرية وتكنوقراطية وبيروقراطية، كما أن أخطر ما فيها أنها حركة إلغائية لا تعترف بالآخر فحسب، بل تصب كل جهدها لإلغائه وتصفيته بكل الوسائل المتاحة.

تعتبر الظاهرة الشعبوية أحد أبرز أمراض الأنظمة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتقوم على سياسات وشعارات وحملات تحريض باسم «الشعب»، لكنها بالنتيجة تؤدي إلى تخريب الواقع السياسي والاجتماعي وإلى هدم مؤسسات الدولة.  فالسياسات الشعبوية تضع رجلاً أو فئة معينة حزبية أو طائفية أو عرقية محل الدولة ومؤسساتها، وهي تريد تجاوز الدولة والدساتير والقوانين باسم «إرادة شعبية» مزعومة، وطبعاً أبرز النتائج الكارثية هي تهديم الدولة ليحل محلها «قائد أو عائلة أو قبيلة أو طائفة أو عرق»، وفِي التاريخ أمثلة كثيرة عن القادة الشعبويين على مجمل خارطة العالم.

“تعتبر الظاهرة الشعبوية أحد أبرز أمراض الأنظمة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتقوم على سياسات وشعارات وحملات تحريض باسم «الشعب»، لكنها بالنتيجة تؤدي إلى تخريب الواقع السياسي والاجتماعي وإلى هدم مؤسسات الدولة”

منذ الحرب العالمية الثانية، انكفأت الشعبوية في أوروبا وانتعشت في دول العالم الثالث. أما اليوم فيبدو أنها عادت الى الواجهة في الغرب مع صعود حركات اليمين المتطرف وتمكنها من الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، الأمر الذي أقلق النخب هناك. والجدل مثار حتى الآن بين المفكرين حول مخاطر صعود الشعبويين وإمكانية تهديد الديمقراطية في الغرب وهم ينقسمون بين من يحذرون من خطرها على الديمقراطية هناك، وبين من يتطلعون إلى الحركات التي يصفونها بالشعبوية كحركات نشأت عن أزمة في الديمقراطية التمثيلية، وهي تهدف إلى انتزاع مزيد من المطالب التي يشعر المواطنون أنهم بحاجة إلى تحقيقها. كذلك ثمة تيار آخر يرى أن الغرب يعاني اليوم فعلاً من عودة للشعبوية إلا أنها عودة غير مقلقة، ولا تنذر بأي مؤشرات خطرة، ولا تستدعي المخاوف، لا على الديمقراطية ولا على الحياة السياسية، بحيث أن الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف في الغرب ويتمكنون من حصد أصوات الناخبين للوصول إلى السلطة يستخدمون الخطب الشعبوية، ويتلاعبون بعواطف الناس وغرائزها ويطلقون وعوداً كثيرة بالتغيير إلا أنهم لا يحققون منها إلا القليل، كما أن أحداً منهم لم ولا يتجاوز المؤسسات والدولة وهذا الأمر يشكل صمام أمان للديمقراطية. فبريكسيت في بريطانيا حتى مع إصرار رئيس الحكومة الجديد بوريس جونسون على تطبيقه دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قرار أسقطه البرلمان وصدق في الوقت نفسه على قانون يمنع رئيس الحكومة من إخراج البلاد من الاتحاد الأوروبي المقبل دون اتفاق. كما منحت ملكة بريطانيا موافقتها الرسمية على القانون الذي يُرغم الحكومة على تأجيل بريكسيت إذا لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق مع بروكسل للخروج من الاتحاد الأوروبي.

إذاً وجود الدولة والمؤسسات في الغرب يقف كجدار صلب بوجه الشعبويين والشعبوية، كون هذه الأخيرة هي حركة تقف بوجه الدولة وهي قادرة على تقويضها إذا لم تكن مؤسساتها محصنة كما هي الحال في منطقتنا، على سبيل المثال، بحيث تمكن عدد كبير من شعبويي المنطقة من الانتصار على الدول لضعف هذه الأخيرة وهشاشة مؤسساتها. والأمثلة كثيرة على مجمل الخريطة العربية، فلنأخذ لبنان على سبيل المثال الذي تستفحل فيه الظاهرة الشعبوية نتيجة تغييب الدولة منذ أكثر من أربعة عقود، ولأن اتفاق الطائف لم تتم ترجمته بمؤسسات قوية، إضافة إلى فشل مشروع بناء الدولة بعد انتهاء الحرب، استطاعت الشعبوية أن تحضر وبقوة في الواقع اللبناني، فثمة تيارات وأحزاب وحركات كثيرة تهيمن على سلوكياتها وسياساتها وشعاراتها والأهم على «خطابها» الشعبوي، بمعنى تغييب مصلحة الدولة ومؤسساتها باسم الشعب أو الطائفة أو المذهب أو العشيرة، وفي السنوات الأخيرة من حياتنا السياسية اقتربت المذهبية كثيراً من الشعبوية كمرجعية في السلوك السياسي لكثير من القيادات والمرجعيات الأمر الذي سيعطل قيام مشروع الدولة.

في المحصلة الشعبوية كحركة يصح أن يطلق عليها توصيف “الشر السياسي” كونها تقوم على تضليل الجماهير والتعمية على الحقائق وتسعى إلى ضرب الدولة والمؤسسات فيها وتقف بوجه كل النخب في المجتمع وتخنق كل صوت فيه لتبقي فقط صوت المعركة وحده عالياً.

—————————-

(2)

ما هي ماهية الشعبوية؟ هل هي خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ هل الحركات الموصوفة بالشعبوية هي حقا كذلك، وتشكل خطرا على الديمقراطيات الغربية، أم أن الحركات الموصوفة بالشعبوية في تلك الساحة السياسية إنما هي في حقيقتها حركات نتجت عن أزمة الديمقراطية التمثيلية لانتزاع مزيد من المطالب الجماهيرية؟ ما هي ملامح الشعبوية السياسية عربيا وإسلاميا وكيف تختلف عن الشعبوية في الغرب؟ ما هي امتداداتها إعلاميا وثقافيا (فنيا وأدبيا)، وهل تلغي الشعبوية في هذا السياق القيمة الأدبية؟

نتابع في “ضفة ثالثة” ملفا بدأناه حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، فقصدنا عددا من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، وطرحنا عليهم تلك التساؤلات وغيرها، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة لا تزال مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

في هذا الجزء الثاني تتمحور الآراء حول الإجابة عن السؤال: ما هي الشعبوية؟ والأسئلة المشتقة منه: هل هي خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ وهل نحن أمام شعبوية أم شعبويات تختلف باختلاف السياقات الجيوسياسية والاجتماعية والتاريخية؟

سامي داوود، باحث وناقد كردي سوري: الشعبوية في علاماتها البنيوية

لا، مفهوم الشعبوية ليس ملتبسا بالنسبة لي، رغم وجود رؤى متعارضة، تسحبُ كل منها تعينات الشعبوية إلى دلالات فضفاضة وفقا لأطر تاريخية ومجتمعية غير متماثلة، كالتعارض القائم في شعبوية الأميركيتين الجنوبية والشمالية، أو مقارباتها التي تحاول عزلها عن الإرث الديماغوجي الأوروبي، الذي زاوج بين الإرهاب المسلح والحدّة الأخلاقية، من أجل غايات لاعقلانية.

تنتظم الشعبوية في علامات تتكرر كبنية: مجموعات بشرية مصابة بحالة من التمركز على

الذات (هيغل). لديها خطاب كراهية موجه. ومتوهمة بتوفرها على تجانسٍ كتلوي، مهما كانت صيغه المختلطة، عرقية – أيديولوجية، كشعارات مارين لوبين حول إحساسها بـ “البيت الفرنسي”. أو خليط ديني عرقي، كالتحديث العثماني في شعبوية أردوغان. وترتبط هذه المجموعات بعلاقة تنويمية مع زعيم كاريزمي عنيف دون شفقة. يقدم خطابا أهبل، ويكتشف علاقات غيبية بين الانتكاسات الاقتصادية المحلية، وبين عدوهم المتربص بهم، الذي يتكفل اليوم البحر المتوسط في توفير إحدى أكثر تجلياته “العدو القادم عبر البحر”، المهاجر الذي يأتي من بلادٍ تحكمها نُخب فاسدة، وتشتغل كعصابات في خدمة الاقتصاد الغربي أو الصيني. مع وجود إحساس بالانضواء في ظل بابوية قمعية مُلهمة، تجلت في ارتماء قادة هذا التيار في عباءة المثال الروسي، بوتين، هذا الوجه المجرد من الشعور بأي شيء، والذي يضع قائمة أسعار أسلحته فوق مأدبة كل إبادة.

لذلك أجد تناقضا في مقاربة آرنيستو لاكلاو حول هذا المفهوم، إذ أنه يخلط بين الشعبوية كتنظيمات “ولاؤها هو شرفها” كما كان ينادي هملر، وبين مفهوم الشعب الذي يعتبره تجريدا يأخذ زخمه الجماهيري من خلال ما يتكون في حالة التنازع السياسي، إذ ينطبق هذا الأمر على الأحزاب السياسية أكثر من تمثيلها لتصورنا عن الشعب. ورغم ادعاء الشعبويين أنهم يمثلون الشعب، كعبارة أردوغان التي استخدمها ضد خصومه السياسيين، بعد اعتبارهم أعداء بالقول: “نحن الشعب، من أنتم”، إلا أن الشعب كمفهوم سياسي مرتكز بالضرورة على فكرتي الحق والعدل، لا يتقاطع مع الشعبويين.

لقد سبقت الأحزاب مفهوم الشعبوية في الظهور، حينما ظهرت هذه الهيكليات بالتزامن في كل من فرنسا وأميركا سنة 1800، كضرورة لتنظيم المشاركة الجماهيرية في الحياة السياسية عبر فكرة التمثيل، ما حصل لاحقا في تطور الدول، واقتصاداتها، وفشل الديمقراطية في لجم جشع النخب الفاسدة في السلطة، وظهور حركات أكثر فسادا بذريعة المطالبة بتعويض الشعب عبر تنظيمات شعبوية. في هذه المجابهة فسدت فكرة التمثيل السياسي، ومعها أيضا مفهوم التنازع السياسي المنتج للسلطة.

أجد المقاربة الأدق لهذا المفهوم في القراءات التي تناولت مجمل الأنساق المؤسسة لما أطلق عليها إدغار موران “بربرية أوروبا”. ودعوته إلى عدم التفكير في النازية والفاشية كتمثلات وحيدة لمنتهى الإرهاب المنظم. وكذلك فيما ذهب إليه بورديو في” الرمز والسلطة” حول الكيفية التي حلَّ بها استخدام اسم” الشعب” محل اسم “الله” لإيجاد مسوغات مخادعة، لتكريس المصالح الذاتية. وكذلك في قراءة كاستورياديس في استعادته لجملة سقراط الذي أصبح رئيسا لمدة يوم واحد، وواجه فيه شعبه المهتاج لإعدام بعض الضباط، قائلا “أيها الشعب، أنت على خطأ”، وذلك حينما تكون مطالب الشعب متوافقة مع كراهية العقل. لذلك كانت قوانين صولون (400 ق.م) تعاقب من يستغل عواطف الجماهير من أجل مصلحته الخاصة. وكذلك في قراءة آرندت لتحالف الرعاع والنخب، واستثمار الفشل السياسي والاقتصادي من أجل استمالة الجماهير المستلبة.

يظهر الخطاب الشعبوي في العالم العربي كامتياز انتخابي. لاحظ فقط الخطاب الانتخابي في المنطقة ككل، سيظهر كأنه كاسيت مسجل لهتلر وهو يخاطب الشرطة قائلا: “كل ما أنتم عليه، تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه، أكونه من خلالكم”.

محمد حلاّق الجرف، باحث سوري: التأسيس لأيديولوجيا لا أساس لها

لا يمكن الحديث عن الشعبوية بدون تذكّر كتاب “سيكولوجيا الجماهير” للفرنسي غوستاف لوبون، الصادر في العام 1895، فهذا الكتاب كان عبارة عن دراسة نفسية لـ “الجموع” لفهم طبيعتها أولاً، ومن ثمّ توجيهها من خلال الخطابات التي تستثير غرائزها الروحية والحسيّة، ذلك أنّ لوبون أدرك أنّ الأفكار لا تكون فاعلة إلاّ إذا تحولت إلى عواطف، ولا يمكن للقائد أن يحرّك الجمهور إلا عبر عاطفته المتطرفة، وبأنّ النّاس لا يمكنها أن تعيش بدون وهم، أو أمل. وفي لحظات كثيرة فإنّ النّاس لا تفضّل معرفة الحقيقة.

مرّ وقتٌ طويل ما بين كلمات لوبون وظهور وسائل التواصل الاجتماعي (FTY)، لكنّ “التقنية” بقيت نفسها، وبقيت الكلمات التي تمتلك القدرة على التأثير والفعل هي الكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق، فالوقوف مع أو ضد مصطلحات كالديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة، وحقوق الإنسان يجعلها ذات أثرٍ سحري ويُعطي إحساساً وكأنّها الحل المناسب لكلّ المشاكل، والتأكيد والتكرار يحوّل هذه المقولات إلى حقائق غير قابلة للجدل والشكّ. ويصبح العقل النقدي معطلاً لحركة الجماهير ووعيها!

بالعموم يتمّ النّظر إلى هذا المصطلح من خلال ثلاث زوايا: أولها يرى أنّ الشعبوية هي أسلوب، فيما يتعامل معها آخرون على أنها استراتيجية، فيما يقترح كاتب هذه السطور القول بأنّ الشعبوية هي مجموعة أفكار تشكّل أساساً لأيديولوجيا بلا أساس! مع التناقض الظاهري لهذا التعريف المقترح إلاّ أنّ تفكيكه يبدو سهلاً، فمجموعة الأفكار التي يتعامل بها الشعبويون تبدو هشّة للدرجة التي لا يمكن لها أن تُنتج أيديولوجية ثابتة أو متماسكة. وبالنهاية فإنّ الشعبوية هي شيئان اثنان: اعتبار النخب فاسدة حكماً في مقابل شعب مثالي حكماً (وذلك بغضّ النظر عن كون هذه النخب هي نخب ثقافية أو سياسية، معارضة أو في موقع السّلطة)، وتالياً لا مكان سوى للإرادة الشّعبية. والغريب في هذا السياق أنّ الشعبوية تُفرز نخبها، وأنّ نخب الشعبويين يتهمون خصومهم بالنخبوية، ويتهرّبون هم منها!

يعتبر الكثيرون من متابعي الشأن الغربي أنّ “الشعبوية” عادت للظهور بقوة في أوروبا مع انتخابات مايو/ أيار العام 2014، فقد تميّزت هذه الانتخابات بتراجع الأحزاب الحاكمة الرئيسة وصعود القوى السياسية “الطرفية”، وفي بلدان مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، والدانمارك، والنمسا، أدّت هذه الظاهرة أساساً إلى بروز اليمين المتطرّف الشعبوي مثل الجبهة الوطنية FN، وحزب استقلال المملكة المتحدة UKIP، وحزب الشعب الدانماركي DF، وحزب الحرية النمساوي FPÖ، وبما أنّ هذه البقعة المحظوظة من العالم تحظى بمعظم التغطيات الإعلامية فإنّ ذلك أعطى الانطباع بأنّ الشعبوية هي صنو اليمينية.  ولكن بقليل من التأنّي نستطيع أن نرى أنّ ميكانيزمات الشعبوية هي واحدة تقريباً لدى اليمين واليسار. ففي الأساس نستطيع فهم صعود الشعبوية في أوروبا من خلال العلاقة بين الناخبين والمؤسّسات السّياسية إذ يُشكّل عدم الرّضى المؤسّسي لدى ناخبي اليمين واليسار المؤشّر الأساس للتصويت الشعبي، وبحسب الصحف الفرنسية في فترة الانتخابات الماضية فإنّ الناخبين الشعبويين، يساراً ويميناً، أقلّ ثقةً بالأحزاب والمؤسّسات وأجهزة الدولة في مقابل ناخبي أحزاب وسط اليمين واليسار. إذاً لدينا مؤشّر مهم لا يتعلق بأيديولوجية المرشحين.

يعتقد شعبويو اليمين الأوروبي أنّ التصدّي للتهديد الثقافي هو ما يجب أن يحتل الأولوية، لذا فإنّهم يطالبون بفكّ الارتباط مع أوروبا لأنّ البقاء فيها يُشكّل خطراً على الهوية القومية، خصوصاً في ظلّ الحدود المفتوحة، وما يرونه تساهلاً حكومياً في موضوع الهجرة. فيما يعارض شعبويو اليسار استمرار الاتحاد الأوروبي لأنّ سياسات قاطرة أوروبا، ألمانيا وفرنسا، تنتهج طريقاً اقتصادياً نيوليبرالياً سيؤدي في نهاية المطاف إلى ترسيخ حكم الأثرياء، أو ما يُعرف بالبلوتوقراطية Ploutocratie، ويتخذون من وصول ماكرون لسدّة الرئاسة دليلاً. مرة أخرى نرى أنّ الأساسيين مختلفين لكنّ النتيجة واحدة: لا لأوروبا.

الأمثلة الأوروبية طازجة وكثيرة، ولكن في سورية من الأمثلة ما لا يُمكن حصره أيضاً. فعند انفجار الحدث الكبير قبل تسع سنوات، سمح النظام السّوري – في خطوة بدت غريبة- للسوريين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي (FTY)، وباتت المعلومات والتحليلات، والجرائم أيضاً، تُبنى مباشرةً على بوستات وتغريدات لا تتجاوز السطرين أحياناً. وباتت الشعبوية ثقافة مسيطرة في ظلّ تنامي لغة الكراهية والمظلومية واختفاء الخطابات النقدية. لا يملك السوريون ترف الأوروبيين في مناقشة الوحدة أو الانفصال القوميين، أو دولة العدالة في مقابل توحش النيوليبرالية. ولكنّ نقاشاتهم بين العلمانية والإسلام، بين اليسار والجهاد لا تقلّ شعبوية عن خطابات الأوروبيين، وتستخدم ذات الميكانيزم: كلمات فضفاضة بلا معنى واضح، كلمات تقول كلّ شيء ولا شيء في الآن نفسه، ورفضٌ للنقد والثقافة والنخبة في مقابل شعار “الشعب على حق دائماً”.

عمار ديوب، كاتب سوري: كلام عن الشعب وصمت عن الرأسمالية

هناك استسهال في استخدام المصطلح في وسائل الإعلام، حيث يتم تعميمه ليشمل أحداثاً تاريخية ومن عدّة قرون. أخيرا، وبعد أن كان التوصيف يتكلم عن أنظمة قومية تمثل رأسمالية

متوسطة صاعدة، صارت صفة الشعبوية تشمل بعطفها أنظمة عبد الناصر والقذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وسواهم. هذا النمط للمصطلح، يوضّح ضرورته عند مطلقيه، أي هو من أجل إخفاء مفاهيم أخرى، وهي بالتحديد الاشتراكية والرأسمالية، وما تعنيه من رؤى ومشاريع وبرامج وصراعات كلية. تزايد الكلام عن الشعبوية، بعد التسعينيات، عندما انهار الاتحاد السوفييتي، وتعاظمت العولمة وطبقت سياسات الليبرالية الجديدة عالمياً. العالم إذاً يفتقد “شيوعية” ديمقراطية، والرأسمالية لم تعد معنية بالديمقراطية والمكتسبات الاجتماعية، وصارت تتململ من كل آثار الحرب العالمية الثانية والتزاوج غير الشرعي بين الرأسمالية والطبقة العاملة (الخروج عن الرأسمالية كتشكيلة إنتاجية)، وبالتالي لا بد من التراجع عن تلك الحقوق، والعودة إلى علاقة مباشرة بين الرأسمالي والعامل، الليبرالية الجديدة وكل سياساتها تتجه نحو ذلك بالشق الاجتماعي، ونحو تتفيه الديمقراطية بالشق السياسي، ونحو الرأسمال المالي والمضاربات ونهب العالم بالشق الاقتصادي، وضمن ذلك لا بد من العودة إلى الأحاديات، والشعبويات، وسياسات الأعراق والهويات والأديان؛ الشعبوية كما أرى تخدم السياسات الليبرالية الجديدة، ومن الخطأ، إعادتها إلى حوادث قديمة، ويتم هذا لتمييع النقاش، ومنع ضبط المصطلح، والأخير يفيد، وبوضوح شديد وإضافة لما ذكرنا، في ضرورة الاستعانة بمفاهيم جديدة، وذلك لإنقاذ الرأسمالية وليس المالية منها فقط من أزمتها، التي بدأت في 2008، ولم تنته بعد، ولن نتكلم عن الاشتراكية والشيوعية فأزمتهما سابقة، وهي تتهمش تباعاً. الشعبوية ليست بديلاً عن الحداثة والليبرالية والديمقراطية والعقلانية والنخب، وليست بديلاً عن الاشتراكية المتحققة والمفلسة بآن واحد، هي حركات سياسية تتوسل مفاهيم كبرى، لإثارة غرائز الناس وشحذهم، والسيطرة عليهم وضبطهم وتفريغ مطالبهم الحقيقية، سيما أنهم يغرقون أكثر فأكثر بأزمات اجتماعية وسياسية كبرى. الكلام عن التمثيل الحقيقي للشعب، وعن فساد النخب، يقابله صمتهم عن الدولة الرأسمالية بكل منظوماتها، وكافة الشعبويات لا تعارض ذلك بالأصل.

“لم يتوسع مصطلح الشعوبية ليشمل التعددية الثقافية”

ربما يظل المصطلح قيد التداول، وسيظل ضمن الفكر السياسي. لكن أن يصبح مفهوما سياسياً، وبواسطته نحلل ونقيم حوادث تاريخية، أو يتضمن برنامجاً تتمثل فيه مصالح الشعب، فهذا استخدام خاطئ كما أظن، والأفضل العودة لربط الشعبوية بأزمة الرأسمالية من الناحية الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولنقل بعامة، والأمر ليس مرتبطاً فقط بنتائج العولمة الكارثية، وكل فصل بينهما، وتصوير الشعبوية بأنها تمثل الشعب، يعمي العقل عن تفسير الظواهر الثقافية والاجتماعية التي تظهر هنا وهناك.

هناك من يصف بوتين وترامب وأردوغان بالشعبوية، وكذلك رئيس البرازيل وسواه، أليس هذا التوصيف تعمية عما يدور من أزمات اجتماعية واقتصادية عاصفة؟ أليس تعمية عن استخدام أدوات التحليل الماركسية خاصة، ومفاهيم علم الاجتماع والعلوم الإنسانية الحديثة عامة، لفهم ما يجري من أزمات عالمية؟

ما سمح بتلك السيادة للمفهوم، بالإضافة إلى ما تقدم، هو غياب اليسار، وضعف المنظمات المناهضة للعولمة، وفشل الديمقراطيات الحديثة، والثورات العربية، عن الانتماء لمشروع تاريخي جديد، يقدم أفقاً للبشرية خارج إطار الثنائية “رأسمالية اشتراكية”.

سيظل المصطلح مستخدماً، طالما يتم تعميم مستمر لسياسات الهوية العرقية والدينية، ولن يتوسع ليشمل التعددية الثقافية، فهو بالأصل ضد النخب والديمقراطية والسياسة عامة. هذه الشعبوية ستسقط حينما تتقدم الأحزاب والقوى والثقافة بمشاريع تاريخية جديدة، وببرامج واضحة، وتمثل مصالح ليس الطبقات فقط، وإنما كذلك الشعوب والعالم.

بناء على كل ما سبق، لا يستحق مصطلح “الشعبوية” أن يصبح مفهوماً.

جمانة دحمان، كاتبة فلسطينية: فنّ الخطاب الشعبوي

رومانسيّة ثوريّة، دغدغة مشاعر الشعب، دونيّة، فلسفة سياسيّة.. الخ، تتعدد الإجابات في الإجابة على سؤال: ما هي الشعبويّة؟ ويغيب تعريف يوضح دلالة مصطلح ” الشعبويّة” الذي يشتق عموما من “الشعب”، فتحيلنا الشعبويّة إلى الشعب أولاً، أو هي وسيلة استخدمها البعض للتحدث باسم الشعب عامةً.

وحين نتحدث عن الشعبويّة، نخصَّ بالذكر الحملة الانتخابية التي فازَ بها رئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب، الذي تعمد في خطبه الانتخابية دغدغة مشاعر الشعب، ومحاكاة الطبقة المتوسِّطة الغالبة، ولم يتكبد عناء التحدث بلغة سياسيّة ومصطلحات قد يصعب على البعض فهمها، أو يسأم البعض الآخر من جملها المعقّدة، وطريقة إلقائها المملّة والمكررة، مثلما يسأم الطلبة، ولا يثير فضولهم، محاضر يلقي عليهم محاضرة يشبه مضمونها مجلداً ضخماً مبهم المصطلحات والتعابير مهما كان محتواها على غاية من الأهمية، لينحازوا إلى محاضر آخر أقل أهمية، لكنه يجيد الطابع الاستعراضي، ولديه طريقة جذّابة في الإلقاء، بمصطلحات شبابية يمازحهم أحيانا خارج الإطار الأكاديمي الجاف. الطالب الذي يتبع مشاعره لا عقله، قد يتغيب عن محاضرة ما بسبب طريقة إلقاء المحاضر الباردة التي تبعثُ على النعاس، ليحضر بشكل دائم محاضرة أخرى مركزا على شكل المحاضرة الجذاب بغض النظر عن مضمونها.

هذا مثال مبسط للشعبوية، التي ينحاز معها الشعب لمشاعره قبل عقله. فترامب روّج نفسه بطريقةٍ مسرحيّة ساخرة، وبلهجةٍ تحاكي لغة الأطفال. خطاب مسل لم يتطرق فيه إلى مشكلات سياسية حقيقية، وبمعطياتها وأسبابها ونتائجها المتوقعة. بل إنه كان يعرج على ذكر المشكلة والإشارة الى حلول متعجلة متفائلة لها، ولم ينسَ أبداً رفع الشعارات التي تهيّج المشاعر الوطنية وأن “أميركا أولاً”، وما يصاحب ذلك من بيع لوطنيات زائفة.

يقول الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته (أنا الدرويش): “ملعون أبوها الحمامة أم غصن زيتون/ معمولة لجل الضحايا يصدقوا الجلّاد”.

فالشعبوية في عالمنا العربي لا تقتصر على الخطابات، بل تمتد من السياسة، إلى الفن، إلى الدين، إلى الجامعات، إلى الشوارع. وتنتشر صور أشخاص هم أبعد ما يكونون عن الوطن والوطنية مزينة بعبارات مؤثرة عن حب الوطن. الشعبويون في عالمنا العربي أشخاص يعرفون جيداً كيف يستهدفون مشاعر الشعب عن طريق الخطب الدينية، أو الألبومات الغنائيّة التي تتغزل بالبطل المغوار حاكم الشعب بل إلههم. التعليم الشعبوي يربي جيلاً كاملاً على شعارات وتاريخ من انتصارات كاذبة. إن أسوأ ما قد يقدمه الشعبويون للجيل الجديد خاصةً هو تلقينهم مقولات مزيّفة جاهزة، ويدربونهم على قول جمل بتقنية (نسخ، لصق) دون فهم المعنى أو الهدف المراد.جاء في تقرير “Human Rights Watch” المعنون بـ “التزايد الخطير في النزعة الشعبويّة”، أن الديماغوجيين يتاجرون في الكلام، ويحشدون الدعم بالتلاعب بالتفسيرات الخاطئة، والحلول الكاذبة، لمشكلات حقيقية، وأنه يتوجب على وسائل الإعلام المساعدة في تسليط الضوء على هذه الميولات الخطيرة، وحثت الحكومات على إعلان التزامها باستمرارية الدفاع عن حقوق الإنسان، وشددت على أهمية دور منظمات المجتمع المدني، وضرورة بناء تحالفات بين مختلف الفئات تؤكد على المصلحة المشتركة في الدفاع عن حقوق الإنسان. أخيراً دعا التقرير لأن يتحمل الشعب المسؤولية، فالحد من انتشار الشعبوية والشعبويين هو مسؤوليتنا جميعاً.

جلنار برهاني، إعلامية سورية: مهارات شعبوية

تؤثر الشعبوية على عقول ومشاعر عامة الشعب، فيحاول الخطاب الشعبوي استغلال ظروف اجتماعية قلقة أو أوضاع اقتصادية سيئة، ليصدح عبر المنابر باسم الشعب مدعياً أنه المخلص، واعدا بحياة رغيدة، ورفاه اجتماعي، ومساواة بين جميع طبقات المجتمع. وصاحب الخطاب الشعبوي يدعي البساطة والتواضع، وربما أنه ترعرع سابقاً في حواري شعبية يعرف معاناة أصحابها، بعدما خبرها بنفسه، يعتمد على عنصر المفاجأة، فنراه يوماً مع الفقراء في منازلهم، ويوماً في الملاعب، وأماكن العبادة، والحدائق العامة…

تختلف أسباب صعود الحركات الشعبوية بين بلد وآخر بحسب اختلاف وتباين الثقافات والديانات والظروف الاجتماعية والاقتصادية. وفي بلدان العالم الثالث فإن وضع الشعب الاقتصادي المتدني بالإضافة إلى الموروث الثقافي والديني يتحمل مسؤولية عن صعود الشعبوية، والشعبوية التي مثلتها الثورة الإسلامية في إيران انتصرت انتصاراً ساحقاً حين استغلت الموروث الديني، والحالة الاقتصادية المتدنية لعامة الشعب الإيراني، والفروقات الاجتماعية الكبيرة بالإضافة إلى التباين الطبقي والثقافي بين فئات الشعب. الصحوة الدينية والوقوف في وجه الظلم والفساد كانا من أهم المبادئ المرسومة في الخطاب الشعبوي.

يقود الفقر إلى تدني الثقافة مما يؤدي الى مجتمع سهل القيادة والتأثر بالكلام المعسول والوعود الوردية، ومن هنا نفهم حساسية أصحاب الخطابات الشعبوية من وسائل نشر الوعي سواء كانت صحفا، أو وسائل إعلام، أو كتبا.. كم مرة سمعنا عن كتب منع نشرها وبيعها في أحد البلاد العربية؟ يقضي صاحب الخطاب الشعبوي على أعدائه من خلال تخوينهم، واتهامهم بالتبعية والعمالة لدول أخرى، ويصل حتى إلى استباحة دمهم، ولا يكتفي باقتلاعهم فكريا بل حتى تصفيتهم جسديا. ويبرع صاحب الخطاب الشعبوي في ترهيب الشعب وتهويله من أخطار داخلية وخارجية، وأحياناً يختلق الخطر ليضع الناس في حالة رعب وخوف من المجهول، ليظهر عند زواله بطلا حقيقيا استطاع حل المشكلة من خلال ذكائه وبراعته في اجتياز المحن التي حلّت في الدولة.

غالباً ما ينجح أصحاب الفكر الشعبوي باحتكار الإعلام المرئي والمسموع، أو استمالته،

ومحاربة منصات الإعلام المضاد أو المعارض، حيث أن للإعلام دورا رئيسا في حشد الشعب وترويضه، وزرع أفكار أيديولوجية معينة في عقول أفراد المجتمع، بالإضافة إلى التركيز على محاربة الفكر المعارض وتخوينه ومحاولة إثبات انتمائه إلى أجندات أجنبية.رغم صعود تيارات شعبوية في بعض الدول الأوروبية إلا أنها لا تصمد دائما في الجولات الانتخابية اللاحقة لوجود وعي بالنتائج السلبية التي نتجت عن صعودها (هزيمة اليمين الشعبوي في الدانمارك عام 2019)، في حين أنه لا يزال من الصعب هزيمة الشعبوية في دول العالم الثالث، لانعدام المعارضة ودورها، نتيجة محاربتها بشتى الطرق من قبل الشعبويين. الشعبوية أحد أشكال التطرف السياسي، وداء خطير كان ولا يزال يهدد المجتمعات في كل مكان، وشكّل عائقا أمام تقدمها.

————————

(3)

نتابع في “ضفة ثالثة” ملفا بدأناه حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

في هذا الجزء الثالث تتمحور آراء المشاركين حول الظاهرة الشعبوية المتأرجحة بين الخطاب القومي والوطني، وبين الخطاب الديني والطائفي، وذلك في سياق بحثهم في نماذج متعددة تتمظهر فيها الشعبوية سياسيا أو دينيا أو قوميا أو في تقاطعاتها مجتمعة.

*****

عمر كوش، كاتب سوري: البوتينية بوصفها المثال الأسوأ للشعبوية

لن يكون رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، آخر زعيم أوروبي يلحق بقطار الشعبوية، الذي يجتاح عالم السياسة في أيامنا، إذ تجلب هذه النزعة، بحلتها الجديدة، المزيد من الشخصيات السياسية إلى سدّة الحكم في دول عديدة، سواء من الشرق أم الغرب.

ولعل أسوأ نسخة من الشخصيات الشعبوية الحاكمة في عالم اليوم هي الشعبوية البوتينية، ممثلة في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يحكم روسيا الاتحادية منذ العام 2000 وإلى يومنا هذا، حيث تنهض شعبويته على مقولة بناء روسيا العظمى، وجعلها عظيمة، وتعويض الشعب الروسي عما لحق به من ألم وغبن، خلال تاريخه المظلم، المليء بالأزمات الكبرى، والكوارث العامة والوطنية، جراء أنظمة حكم سابقة على حكم النظام البوتيني، ومؤامرات القوى الأجنبية، التي أهانت الشعب الروسي ودولته، طوال سنين عديدة ومريرة.

وقد وصل فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، بوصفه زعيماً منقذاً من حالات الانهيار والخراب، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي عرفتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وخصوصاً خلال فترة حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، حيث وصلت روسيا في عهده إلى حافة الانهيار والإفلاس، نظراً للأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بها خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين المنصرم، وأدت إلى تخريب الاقتصاد الروسي، وإلى فقدان روسيا لدورها الدولي ومكانتها العالمية، لتصبح مجرد دولة ضعيفة تنتظر دعم الدول الغربية.

غير أن بوتين سعى للقبض على الحكم، والبقاء فيه إلى ما لا نهاية، الأمر الذي جعله يدخل في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية مع رئيس الوزراء الحالي ديمتري ميدفيديف، حتى بات بإمكانه البقاء في قمة السلطة حتى عام 2024، على الأقل. ولعل مبرره في ذلك يستند إلى براثن شعبويته الممزوجة ببراثن شوفينية قومية روسية، بعد أن ركبه الهوس الشوفيني، وبلغ حداً جعله مهووساً بأصحاب راكبي الدراجات النارية، أو ما يعرفون بنادي ثعالب الليل، المعروفين بأشكالهم المميزة والمخيفة، تجسيداً لنزعته الشعبوية الشوفينية المتغطرسة، وذلك بعد أن استبدت ببوتين نزعتا القوة والعظمة، وادعاء إعادة بناء مجد روسيا الجديد، المشدود إلى قيصرية غابرة، والقائمة على استدعاء الماضي وأمجاده المندثرة، خاصة بعد أن سادت مشاعر الاحباط لدى غالبية الروس إثر السقوط المدوي للنموذج السوفييتي، وسيادة مظاهر انتصار وغطرسة النموذج الغربي.

ولجأ بوتين إلى دغدغة مشاعر الروس بادعاء إعادة بعث القومية الروسية وأمجادها، ورفع شعارات تؤكد ذلك المسعى، وخاصة شعار “روسيا فوق الجميع”، الذي استدعى تحقيقه العودة إلى أساليب وممارسات النموذج السوفييتي في القمع والإكراه والقوة، من خلال اجتراح مفهوم غامض هو “الديمقراطية السيادية”.

وبدلاً من أن يقف هذا المفهوم الغائم حائلاً أمام تدخل القوى الأجنبية في الأمور السيادية لروسيا، تحول إلى حائل أمام الروس أنفسهم، وحقهم في التعبير عن الرأي، والعيش بحرية، وممارسة الديمقراطية التي حلموا بها، فراح النظام البوتيني يشدد من قبضته الأمنية على كافة مفاصل المجتمع، ويحدّ من الحريات العامة، وتدجين الفضاء العام، ومسخ حراك المجتمع، وقولبة الثقافة والسياسة على مقاسه، مقابل تمتع أركان النظام وأزلامه بمختلف الامتيازات من خلال الفساد المستشري والإفساد العام، لذلك لم يتردد النظام البوتيني في بداية 2015 من اغتيال المعارض بوريس نيمتسوف في وضح النهار وبالقرب من الكرملين، عقاباً على قيادته موجة الاحتجاجات غير المسبوقة، التي شهدتها الحملة الانتخابية لفلاديمير بوتين في 2011-2012 عندما كان مرشحا لولاية رئاسية ثالثة.

وتدعي الشعبوية البوتينية الحكم باسم الشعب الروسي، بعد أن تصوره ميتافيزيقاها بوصفه كياناً كلياً متجانساً ومقدساً، واحداً موحداً، ومعصوماً من الخطأ. وعليه لا بد أن تحكم البوتينية روسيا، بوصفها حكم المقدس، المستند إلى دعم كنيسة أرثوذكسية ممالئة له، الأمر الذي وظف كي يبرر احتكار بوتين حق التكلم باسم الشعب، ولا مانع من أن تردد حاشية النظام السياسية ما ينطق به الزعيم الأوحد للشعب، وأن تزايد على الجميع في امتلاك النظام البوتيني ناصية القول والأمر، بما يعني إنكار حق الآخرين في القول، وسلبهم حق الاختلاف في القول والرأي، لذلك ليس مستغرباً أن تعادي الشعبوية البوتينية الأحزاب والنخب السياسية الأخرى، وتهزأ بالمفكرين وأصحاب الرأي الآخر، وتسلب المؤسسات الديمقراطية حقها في الوجود والنشاط، وتعمل على احتكار فسحات تبادل الرأي، وتضيّق الفضاء العام.

بالمقابل، لا تطرح البوتينية وأجهزتها أي برامج واضحة الملامح، بل تقوم بالتلاعب بعقول الجماهير، واستجداء وإثارة عواطفهم القومية، عبر إثارة الرهبة والمخاوف وبناء المزيف من الآمال، والترويج الدعائي لأطروحات وأفكار للأزمات والإشكاليات المعقدة، من خلال طرح حلول بسيطة لمختلف القضايا الداخلية والخارجية، حيث تستند إلى مقولة الانقسام، التي تنهض على بدهية وجود انقسام وصراع بين الشعب وأعدائه في الداخل والخارج، وتضخم وجود مؤامرات داخلية وخارجية، تستهدف سلامة وأمن روسيا وشعبها، مع مراهنتها الدائمة على حتمية انتصار الشعب الروسي، التي تستدعي وحدة الشعب وتماسكه حول قيادته البوتينية، بما يتطلب عدم السماح بوجود تنافس أو معارضة داخلية للزعيم الأوحد، المُلهَم، والقادر على إنقاذ روسيا ومحاربة الأعداء ودحر مؤامراتهم.

عبد الناصر حسو، باحث سوري: أردوغان الشعبوي جداً

الشعبوية مفهوم سياسي واسع، مراوغ، ومضلل، رغم استعماله على نطاق واسع في توصيف الحركات الدينية والقومية واليسارية. وفي قاعدة البيانات العالمية تُصنف خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها الأكثر شعبوية، ووصفته صحيفة الغارديان بـ”الشعبوي جداً”، لافتة إلى تبنيه خطابات ذات صبغة قومية إسلاموية تعمل على شيطنة الخصوم السياسيين داخل البلاد بهدف تسويق نفسه كقائد إسلامي، وسلطان عثماني مفترض، باستطاعته التصدي للدول الكبرى واستنهاض تاريخ المعارك، مؤكداً أن “العالم أكبر من خمسة” منتقداً هيكلية مجلس الأمن الدولي.

تمسكَن أردوغان بلبوس الليبرالية حتى تمكن من إدارة معركة سياسية ممتهناً خطاباً شعبوياً مع معارضيه في الداخل والخارج، ولم تشفع في الوقت ذاته توسلاته المتكررة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكان تحالفه مع حزب الحركة القومية التركية انعطافاً تاريخياً للتوجه نحو روسيا الأوراسية، وعدم قطع الخيط الرفيع مع أميركا.

يعتمد أردوغان على لغة تستنهض المشاعر الدينية لدى بسطاء الناس من المسلمين في جميع البلدان الإسلامية وخاصة أكراد شرق تركيا، الذين يرجّحون كفة الميزان لصالحه في الانتخابات. لقد تبنى خطاباً شعبوياً قومياً تجاه الأكراد عامة، فهو لم يصعّد لهجته تجاه أوروبا وأميركا فحسب، بل أيضاً تجاه الأكراد والحزب الديمقراطي الكردي، لاستثمار العنصر القومي والديني في سياساته الداخلية والخارجية، والهجوم على عفرين واحتلاله ضماناً لأمن تركيا، من خلال خطاباته المتناقضة، وهو يرفع القرآن في كل مناسبة مثيراً عواطف مستمعيه بخطابات حماسية وأغان وطنية وتعابير محبوكة، مستخدماً خطابات مغرقة في الشعبوية، ضمن ثنائيات: نحن/هم، أنا /أنت، الأتراك الجيدون/الأتراك السيئون، والتوظيف البنيوي للمقدس الديني، الذي يشكل في جوهر الأصولية الدينية رافداً أساسياً للشعبوية السياسية، مؤمناً بأنه يمثل إرادة الناس الحقيقية، وأن الله إلى جانبه في معركته ضد المؤامرات المحبوكة، كونه يدافع عن الإسلام والأتراك الجيدين، مؤكداً أن “لا صديق للتركي إلا التركي”.

ينوس أردوغان في خطابه السياسي بين الشعبوية وبين القومية الإسلامية، ويستخدم مهارة كلامية في خطاباته الدينية التعبوية موظفاً المقدس الديني لدى البسطاء في تغييب العقل محرضاً على الكراهية في سبيل الظهور كبطل معلناً جملته: “نحن الشعب.. من أنتم؟”، مسقطاً عن خصومه السياسيين صفة الانتماء إلى الوطن والدين، وانطلاقاً من قول الفيلسوف الفرنسي بيير تاغييف: الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه قبل الآخر، فأردوغان يعاني من أزمة فكرية قبل أن تكون أزمة سياسية، بدأت أزمته الفكرية منذ أن أطلق شعارات تحريضية: “المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا”، مبشراً بفاشية دينية لا تقل عن فاشية الحركات الراديكالية، كداعش والنصرة.

يستغل أردوغان في جميع خطاباته الهجوم على خصومه الافتراضيين، يكلّف تصريحه الشعبوي تركيا الدخول في توترات مجانية مع دول أخرى، مثلاً، ينسحب من مؤتمر دافوس بعد مشادة كلامية مع شمعون بيريز حول الحرب على غزة، موظفاً موقفه وهجومه لمصالحه السياسية، ومهدداً العالم: “إن فقدنا القدس، فلن نتمكن من حماية مكة والمدينة، وإذا سقطت مكة فسنخسر الكعبة”. ينعت إسرائيل بدولة الإرهاب دون التخلي عن علاقاته معها، يغالط نفسه للتأثير على المستمع باستخدام المقدس الديني من أحداث متخيلة، مفترضة، بهدف تحسين موقفه السياسي. يمنح لنفسه حق الوصاية الدينية على المقدسات الإسلامية. ينضمّ إلى تحالف محاربة الإرهاب ويسهل مرور داعش إلى سورية والعراق.

 يبدو أن الخطاب الشعبوي التركي بدا أكثر تشدداً بعد انقلاب 2016، للتركيز على قضايا الهوية الدينية مستفيداً من مشاعر الغضب والاحتقانات والإحباطات التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية في ظل أزمات الداخل وتدخلات الخارج، وبسبب الانشقاقات الإثنية والعرقية، والتي تؤدي الخطابات الشعبوية إلى تفاقمها.

بيار عقيقي، كاتب وصحافي لبناني: الشعبوية اللبنانية والخلطة الطوائفية

لكل بيئة أو بلد في العالم تفاعله الخاص مع الشعبوية، مستولداً انسجامه الخاص معها، مما يسمح بتكوين تطرّف محدّد وموجّه. في لبنان مثلاً، يمكن صناعة الشعبوية من عاملين أساسيين: الطائفية والوطنية (وفقاً لبوصلة كل طائفة). ومع أن الأولى هي الأكثر تحفيزاً ورفداً للأفكار الشعبوية في البلاد، إلا أن الثانية تبقى مهمة، خصوصاً في سياق استخدامها من قبل السياسيين والأحزاب في الحملات الانتخابية، لوعد الناخبين بما لا يستطيعون بالأساس تقديمه. في الشعبوية الطائفية يكمن المسار اللبناني في مرحلة ما بعد الاستقلال (1943) في التحرّك وفقاً للسلوك الطوائفي، لسبب عدم قدرة النظام اللبناني عموماً على تكريس مبدأ الانسجام بين اللبنانيين، كونه مصنوعاً بالأساس لتفعيل العصب الطائفي لا الوطني.

بالتالي، كان لكل مرحلة شعبويتها الخاصة، التي تفيد مُحرّكها وخصمه على حدّ سواء. في لبنان ثمّة مبدأ يُترجم بقوة “عدوّي هو حليفي”، ما يعني أن الأحزاب والسياسيين يهاجمون بعضهم البعض في سياق شدّ العصب الطائفي، ومنع انزلاق الساحة من أيديهم لصالح طرف ثالث. ويستخدمون في ذلك كل أنواع الخطابات الشعبوية. فأيام معارك حزب الله وحركة أمل إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، كان لرئيس حركة أمل، رئيس المجلس النيابي الحالي، نبيه بري، خطاب شعبوي اعتبر فيه حزب الله بمثابة احتلال مشابه للاحتلال الإسرائيلي قائلاً “لا فرق بين احتلال واحتلال” في منتصف الثمانينيات. اليوم، بري والحزب كالوجهين لعملة واحدة، أقله في العلن. أيضاً في الحرب، كان لرئيس الجمهورية الحالي، قائد الجيش في حينه، ميشال عون، خطاب يعلن فيه حرب تحرير ضد القوات السورية عام 1989، قائلاً “بدّي كسّر راسو لحافظ الأسد” (أي أريد تحطيم رأس الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد). اليوم عون حليف وثيق للنظام السوري. بدوره كانت لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، خطابات شعبوية عدة، إلا أن أبرزها حصل حين تمّ تهجير المسيحيين من الجبل عام 1983، وقتها قال جنبلاط في خطاب أمام أنصاره في قصر الأمير أمين في بيت الدين الشوفية: “ها قد عدنا يا مير أمين”، وهي عبارة تعني السيطرة على القصر، الذي شيّده الأمير بشير الشهابي لابنه أمين، وتحوّلت ملكيته من المطرانية المارونية إلى الدولة اللبنانية ثم قوات جنبلاط. جنبلاط نفسه كان له خطاب في مرحلة ما بعد الحرب، تحديداً في عام 2007، حين توجّه لرئيس النظام السوري بشار الأسد قائلاً: “يا طاغية دمشق، يا قرداً لم تعرفه الطبيعة، يا أفعى هربت منه الأفاعي، يا حوتاً لفظته البحار، يا وحشا من وحوش البراري، يا مخلوقاً من أنصاف الرجال، يا منتجاً إسرائيلياً على أشلاء الجنوب وأهل الجنوب، يا كاذباً وحجاجاً في العراق ومجرماً وسفاحاً في سورية ولبنان”. سابقاً، كان جنبلاط مستنداً على السوريين في حروبه الداخلية. بدوره، الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، توجّه طويلاً في خطابات مهاجمة للإسرائيليين، إلا أنه في لحظة ما قرر التوجه إليها بنفسٍ طائفي في عام 2013 قائلاً “قولوا رافضة، قولوا مجرمين، قولوا ما تريدون واقتلونا حيث شئتم، فنحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك فلسطين”.

وإذا كانت لكل تلك المراحل السابقة شعبوية “خاصة بها”، فإن الشعبوية هذه الأيام تطاول اللاجئين السوريين. الجميع تقريباً يريد استغلال مأساتهم. لذلك تمّ التعامل بشعبوية مطلقة في مسألة لجوئهم إلى لبنان. بالنسبة إلى تيار المستقبل، بقيادة سعد الحريري، فإن “هؤلاء فقراء ويحتاجون للحماية”، وهو ما يعني باللغة اللبنانية الصرف: خزان سني في مواجهة النفوذ الشيعي. بالنسبة إلى التيار الوطني الحرّ بقيادة جبران باسيل، فإن “هؤلاء قنبلة موقوتة يهددون الديمغرافيا المسيحية ويجب إبعادهم من هنا بأي ثمن”.

ومع أن الأفكار المحفّزة للشعبوية تتفاوت في كل حقبة في لبنان، إلا أن العامل الأبرز هو تعلّقها في الذاكرة الجماعية للطائفة، إذ يمكن أن تسمع أغاني لمليشيات اندثرت، وخطابات لأمراء حربٍ ذهبت بلا رجعة، كل يوم، في الأوساط الجامعية والمدرسية والضواحي. ويمكن تفسير ذلك بصناعة “الحنين” إلى ماضٍ كان فيه هؤلاء “أقوياء” في طوائفهم أو خارجها، كما يمكن تفسيره في الحاجة إلى بطلٍ ينبثق من شعبوية ما. يعني ذلك أن لبنان الغارق في طوائفه وأفكارها المحدودة، غير قادر على استيلاد من يكسر حلقة الشعبوية المتناسخة، ويُنهي حالة احتجاز العقل في السياسة والثقافة المجتمعية.

إياد الدليمي، كاتب وصحافي عراقي: مقتدى الصدر.. شعبوية سياسية لمرجعية تكتمل

يمثل الزعيم الديني العراقي مقتدى الصدر الشعبوية السياسية بأصدق صورها، فالرجل الذي جاء من بعيد ولم يكن معروفاً حتى في أوساط المتدينين الشيعة قبل احتلال العراق، تمكن، مستفيداً من إرث عائلته، والده تحديداً، من أن يكون رجل الإنسان العراقي الفقير، وبطله وملهمه وشجاعه الأول، بل تحول في كثير من الأحيان الى السلطة الشعبية الوحيدة التي يمكن لها أن تقول “لا”؛ وتقف بوجه السلطة التنفيذية وحتى السلطة الاحتلالية للعراق عقب 2003.

ينحدر الصدر من عائلة دينية زاوجت بين العمل الديني والسياسي، فجده محمد حسن الصدر كان رئيساً للوزراء في العراق ابان العهد الملكي عام 1948، وعضو في مجلس الأعيان بعد ذلك، أما والده فهو المرجع الديني الشيعي المعروف محمد صادق الصدر.

هذا التاريخ العائلي الطويل والعريق كان أحد الأسباب التي أهلت مقتدى الصدر لتشكيل تيار كبير في العراق عُرف لاحقاً بالتيار الصدري، فعلى الرغم من تاريخ العائلة إلا أن الابن، مقتدى، لم يكن معروفاً خارج دوائرها ودوائر مقربيها، غير أن الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، منحه فرصة للبروز والظهور.

ما ميز الصدر عن غيره من الشخصيات الدينية في عراق ما بعد 2003، أنه سعى ليكون له خط مغاير، فهو أولاً لم يشترك بنفسه في العملية السياسية، وبقي وتياره الشعبي بعيداً عنها برهة من الزمن. وثانيا، سعى الصدر لاتخاذ مواقف متمايزة عن بقية الشخصيات والقوى الشيعية عقب الاحتلال، فقد أعلن بشكل واضح وصريح رفضه للاحتلال الأميركي، وأعلن عن مواقفه المؤيدة للمقاومة العراقية، وقدم الدعم للمقاومة المسلحة في مدينة الفلوجة عام 2004، رغم أنها مقاومة تختلف معه مذهبياً، بل الأكثر من ذلك أن فصيله المسلح اشتبك مع القوات الأميركية في النجف في ذلك العام.

كل ذلك أسهم في صنع نموذج الصدر، القائد الديني والسياسي الذي يمتلك القدرة على تحريك شارع كبير يمتد على مساحة واسعة من رقعة العراق الجغرافية. ويمتلك اليوم تياراً شعبياً واسعاً، على الرغم من أن له كتلة برلمانية واسعة شاركت في الانتخابات الأخيرة عام 2018، وعلى الرغم من أن بعض الوزارات تدار من قبل أعضاء في التيار الصدري، ومع ذلك بقي تيار الصدر هو تيار الشارع، التيار الذي يضغط به مقتدى الصدر كلما سعى لهدف معين، ولنا في تظاهرات تياره العديدة والواسعة في بغداد والمحافظات أمثلة عديدة لا مجال لذكرها هنا.

التيار الصدري بقيادة مقتدى يعد مثالا على الشعبوية التي صعدت عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، المشكلة أن هذا التيار حجب صعود نماذج شعبوية أخرى، بل وصادر حتى حق العراقيين في توليد تيار آخر بعيداً عن عباءة الدين، فحتى التيار المدني الذي اشتد عوده في الفترة الثانية من حكم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي (2010 -2014) سعى التيار الصدري إلى احتوائه وقام بالتحالف معه في انتخابات 2018، وعبر به إلى البرلمان ليذوب التيار المدني ولم يبق له من أثر في ظل هيمنة التيار الصدري.

وعلى الرغم من وجود تيارات سياسية أخرى في العراق إلا أن الشعبوية الصدرية ظلت مهيمنة مستفيدة من تاريخ الصدر وعائلته وأيضاً من النموذج الفقير الذي يقدمه الصدر في يومياته، فهو يسير في بعض الأحيان إلى مسجد الكوفة حيث يلقي خطبه هناك، وفي أحيان أخرى يركب سيارة عادية وحتى تاكسي، ناهيك عن مظاهر الزهد الأخرى التي يبدو عليها، ويضاف إلى كل هذا وذاك موقفه المناهض لحكومةٍ رغم مشاركة تياره السياسي فيها.

لقد ظل تيار الصدر، ورغم امتداده الشعبي الواسع في محافظات الوسط والجنوب، تياراً يفتقر لأي رؤية سياسية أو أيديولوجية تنظمه وتنظم عمله السياسي، وبقي معتمداً على ردات الفعل المتناثرة من وقت لآخر لزعيمه مقتدى الصدر، كما فشل هذا التيار في أن يشكل ظاهرة سياسية قادرة على أن تفرز طبقة تنفيذية يمكن أن تقود العراق بطريقة أفضل، بل إن هذا التيار أفرز في بعض مراحله شخصيات متنفذة اتهمت بالفساد وأخرى اتهمت بعمليات قتل وتطهير طائفي سعى الصدر للتخلص منها.

إن تمدد ظاهرة الصدر بين الفقراء والمعدمين ومعهم أنصاف المثقفين، ربما، لم تسمح لهذا التيار أن يعيد قراءة نفسه بنضج أكبر والخروج برؤية أيديولوجية واضحة قادرة على أن تصنع الفارق في ميدان السياسة بالعراق، هذا ناهيك طبعا عن أن زعيمه، مقتدى الصدر، ما زال يتدرج في مسيرته العلمية والدينية ولم يصل بعد لمرحلة المرجع التي تسمح له بوضع لبنة تيار ديني له أتباع ومقلدون في العراق أو خارجه.

عزيز المصري، باحث فلسطيني: حماس في شعبويتها المتدينة

من يقرأ ويتابع خطابات الحركات الإسلامية يعرف الأسباب التي صنعت لها تلك الشعبية والنفوذ بين الجماهير، وساعدتها في أن تكون الأقوى من بين سواها من الحركات والأحزاب القومية واليسارية والوطنية والليبرالية. فالخطاب الإسلامي يحتوي كافة الإمكانيات والمرتكزات التي تساعده في توظيف صناعة السلطة الاجتماعية للحزب والجماعة، خطاب ذو تأثير روحاني عال، قوي المفعول، وله ركائز أيديولوجية تحقق له مراده.

ينتمي الخطاب السياسي الإسلامي في القواعد والمقدمات، بل في نظام المفاهيم، إلى الخطاب الأيديولوجي والسياسي العربي المعاصر، وهو ينهل معطياته من ذات الثقافة السياسية التي نهلت منها سابقاته: فهو خطاب دعوي، تبشيري، تحريضي، يتجه إلى التعبئة والتجييش والتحشيد مثل سواه مما يشترك معه في ذات الأسس. وهو خطاب يميل إلى أن ينجز تواصلاً سهلاً مع جمهوره يحقق له الظهور والقوة والنفاذ، فهو ليس أكثر من نموذج من نماذج الأيديولوجيا الشعبوية، الأيديولوجيا الأوفر حظاً في مجال تنمية جمهور السياسة. ومع ذلك، فإن القوة الشعبوية في خطاب الإسلاميين تستمد أسبابها من مصادر أخرى مانعة، لا تشترك في الاعتياش منها مع الخطاب الإسلامي سائر الخطابات السياسية الأخرى.

من مرتكزات هذا الخطاب الشعبوي للحركات الإسلامية التي تتوافر في نموذج حركة حماس:

    توظيف الدين، والعقيدة، والإسلام، واللعب على المشاعر الروحية للجمهور، لتسويق النفس مدافعا عن الإسلام وشرف الأمّة والعقيدة، والسعي لأسلمة المجتمع من بوابة العادات والتقاليد، وإتقان فن الوصول إلى نقاط الضعف الحساسة لدى الجمهور، وكيفية توظيفها بحرفية عالية، تضمن التحشيد والاستقطاب الجماهيري. وليس من فراغ أن قال ماركس جملته المشهورة “الدين أفيون الشعوب”، إذ له مفعول السحر في التعبئة والحشد والاستقطاب. ويمتاز الخطاب الإسلامي بأنه خال من المنافسة، يلعب وحيدا في خانة توظيف الدين في مواجهة التيارات العلمانية واليسارية الليبرالية.

    المعارضة وفساد السلطة الحاكمة: وهذه توفر للحركات الإسلامية، ولحركة حماس نموذجا، أوراق قوة للعب على الوتر الشعبوي في الشارع، وتسويق فساد السلطة وتعريته في محاولة لوضع نفسها بديلا محتملا قادرا على معالجة فساد السلطة وأدواتها. فعندما تقوم السلطة الفلسطينية باعتقال كوادر من حماس، تبدأ الدعاية الحمساوية في تصوير الأمر وكأنه للقضاء على المقاومة، وتبدأ بسرد سيرة المعتقل، وأنه ابن شهيد، أو أن أخاه شهيد، وتعتمد حماس هنا على مكانة الشهيد لدى الجماهير، وكيف تقوم السلطة باعتقال شقيق شهيد؟!

    المقاومة: من خلال المقاومة استطاعت حركة حماس الحصول على شرعية وأفضلية في الساحة الفلسطينية، والعربية أيضا، باستغلال شعارات شعبوية معتمدة على السلوك السياسي للسلطة الفلسطينية، القائم على المفاوضات والتسوية السياسية السلمية، واعتمدت على خطاب تخويني تكفيري، بالشقين السياسي والديني، لتشويه صورة السلطة، مثل اتهامات قمع السلطة للمقاومة، وأن الاعتقالات ضد كوادر حركة حماس هي لمحاربة الحركة الإسلامية والإسلام، بل وصل أمر استغلالها للخطاب الشعبوي للسيطرة على قطاع غزة، إلى إصدار فتاوى تحلل دم عناصر الأجهزة الأمنية، وحركة فتح، كما وصف القيادي الراحل في حركة حماس، نزار ريان، ما يجري في غزة، بأنه محاربة للزنادقة العلمانيين. هذا الخطاب في فترة من الفترات لعب لصالح حركة حماس في تكريس وجودها في الحكم في قطاع غزة.

ياسر غريب، باحث وشاعر مصري: “الإسلام هو الحل”.. الشعار السحري

أصبحت عبارة “الإسلام هو الحل” منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي أبرز الشعارات السياسية الضاغطة على الشارع المصري والمؤثرة في قراره الانتخابي، فقد استطاعت من خلاله جماعة “الإخوان المسلمين” -المحظورة آنذاك- أن تسيطر على المساحة السياسية المسموح بها للمعارضة بالرغم من عدم امتلاكها حزباً سياسياً.

كانت شعارات الجماعة هي الأقرب إلى نفوس الجماهير من لافتات الأحزاب الأخرى، ساعدها في ذلك تجريف الحياة الحزبية في العهد الناصري ثم خفوت وهج القومية العربية بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.

صفوف الجماهير التي يحق لها الانتخاب لا طاقة لها بمعاني الليبرالية، الاشتراكية، القومية…إلخ، تلك الألفاظ النخبوية غير المُجرَّبة التي تُزيِّنُ بها الأحزاب الكرتونية المستحدثة لافتتها، وهي بالطبع ألفاظٌ تحملُ دلالات سلبية بفضل الخطاب الديني المسيطر آنذاك! في المقابل ستكون الجموع الغفيرة أكثر تفاعلاً مع التيار الذي ملأ الجدران بشعار “الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا”. وهي عبارات لها قداستها في قلب المتلقي المهمّش، حتى لو لم تكن تحوي بداخلها برنامجاً سياسياً واضح المعالم والأهداف. أضف إلى تلك الشعارات ذلك الخطاب الأممي الحماسي العابر للحدود الوطنية، الذي يداعب القلوب بالحديث عن القضية الفلسطينية وواجب تحرير المسجد الأقصى.

بالشعارات سيتم تحفيز الجماهير وتوجيهها نحو الاختيار، وسيكون لأسبقية شعار “نعم للأيادي المتوضئة” فِعْلَ السحر في الترجيح بين المرشحين البرلمانيين، في إشارة إلى نزاهة مرشحي التيار الإسلامي الذين يتمتعون بالصلاح والتقوى على عكس أعضاء الحزب الوطني الحاكم المستبد الغارقين في الفساد، والذين تأخر شعارهم المضاد “كلنا أيادٍ متوضئة” بلاغةً وتأثيراً.

ولم يكن استنفار الناخبين للخروج بكثافة بحاجة إلى شحن إعلامي أو فني على طريقة “قوم نادي ع الصعيدي وابن أخوه البورسعيدي”؛ إذ كان يكفي أن يَطبع شباب التيار الإسلامي المتحمس على الحوائط عبارة “صوتك أمانة” متبوعة بالآية القرآنية: “وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ” حتى يخرج الناس إلى صناديق الاقتراع أفواجاً.

وقد حمل السلوك الشعبوي الضاغط الذي أداره التيار الإسلامي بواسطة جماعة الإخوان المسلمين خلال العقود الأربعة الأخيرة العديد من المظاهر ذات العلاقة بالكيانات الدينية والسياسية الأخرى. فعلى الرغم من تناقض مبادئها مع مبادئ جماعة الإخوان المسلمين؛ وجدت الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية البارزة أن التحالف مع الجماعة، والانضواء تحت لوائها الشعبوي، هو الاختيار الأنجع للبقاء في المشهد السياسي الصوري.

حزب الوفد الليبرالي، الذي كان له نصيبٌ في حكم مصر قبل يوليو/تموز 1952، والذي يحمل شعار الوحدة الوطنية ممثلة في تعانق الهلال والصليب؛ حاول العودة إلى الحياة السياسية في الانتخابات التشريعية في 1984 عن طريق امتطاء الشعبوية الدينية التي عرفت طريقها إلى الشارع المصري منذ منتصف السبعينيات، وقد تحقق للوفد ما أراد وحصد 57 مقعداً برلمانياً، وهو رقم لم يقترب منه أبداً في كل الانتخابات اللاحقة التي خاضها بمفرده دون مساعدة من الشعبوية الدينية!

في الانتخابات التشريعية التالية 1987، حاول حزبان اشتراكيّان (حزب العمل وحزب الأحرار) تجريب حظهما بالتحالف مع التيار الديني المهيمن على الجماهير؛ وكان من مفارقات نتائج هذه الانتخابات فوز المرشح القبطي جمال أسعد على قائمة هذا التحالف تحت شعار “الإسلام هو الحل”!

وعلى الجانب المسيحي، وجدت الأقلية الأرثوذكسية نفسها مضطرة إلى تكتل شعبوي مضاد، والإعلان عن نفسها باعتبارها كياناً له القدرة على إحداث الفارق الانتخابي. وإذا كان الأقباط -منذ عقود- يُعرِّفون أنفسهم بأنهم “شعب الكنيسة”؛ فقد برز “شعب الكنيسة” موحداً ومتكاتفاً ومشحوناً لصالح المناوئين لمشروع الإسلام السياسي البارز على الساحة المصرية، خاصة بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وصولاً إلى 30 يونيو/حزيران 2013 وما بعدها.

———————

(4)

نتابع في “ضفة ثالثة” ملفا بدأناه حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

في هذا الجزء الرابع من الملف تركزت آراء المشاركين حول الشعبوية في ملامحها وخصوصيتها في السياق الاجتماعي السياسي العربي وأثرها على الواقع العربي المتردي، قبل وبعد موجات الربيع العربي، وما إذا كنا قد بتنا شعبويين في واقع حياتنا اليومية وتفاصيله البسيطة، تفضيلاتنا وأذواقنا، وصورنا التي نعبر بها عن أنفسنا؟

*****

إبراهيم فريحات، أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا: أي شعبوية للمجتمع العربي؟

يصعب فهم مصطلحات مثل الشعبوية دون الاطلاع على السياقات التاريخية والثقافية والمجتمعية التي نشأت وتطورت بها. كذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار جوانب تأقلم مثل هذه المصطلحات عندما تحط رحالها في سياقات ثقافية جديدة مختلفة عن تلك التي نشأت فيها. فالشعبوية التي يشار إلى نشوئها وتطورها في نهاية القرن التاسع عشر، وتحديداً مع ثورة تحرير الفلاحين في روسيا القيصرية عام ١٨٧٠، وحالة احتجاجات الريف الأميركي ضد المصارف وشركات السكك الحديدية، تتطلب فهماً خاصاً للتعامل معها اليوم في مجتمع آخر مثل المجتمع العربي. وتصبح عملية توطين المصطلح أكثر إلحاحاً عندما يكون المفهوم متغيراً وغير ثابت مثل “الشعبوية”. فبينما ولد مثل هذا المصطلح تاريخياً ليصف عملية الممارسة السياسية للشعب وتقديس دوره في العملية السياسية ككل، أصبحت الشعبوية اليوم تفهم على أنها حالة انتهازية سياسية ترتكز على استثمار مشاعر الشعب، واحتكار تمثيلها، للوقوف ضد الدولة ومؤسساتها بشكل خاص، والنخب المجتمعية بشكل عام.

كان للشعوب العربية دور بارز في ممارسة السياسة في حروب الاستقلال والنضال الوطني ضد الاستعمار الأجنبي. ولربما استمر ذلك أيضاً في لحظات تاريخية محددة مثل مرحلة حكم جمال عبد الناصر، الذي استند إلى شرعية شعبية في حكمه تعدت الحدود الوطنية للدولة المصرية. ولكن بشكل عام، فإن ولادة الدولة الوطنية العربية ما بعد حروب الاستقلال قد قامت على نظام الحكم الدكتاتوري الذي ألغى دور الشعب في العملية السياسية، وحكم بالحديد والنار، مخضعاً الشعب لرغباته وتوجهاته الشخصية، فلم يعد هناك دور سياسي للشعب حتى تكون هناك شعبوية يستغلها ويستثمر بها لاعبون سياسيون، وبذلك فقد أصبحت لدى المجتمعات العربية “شعبوية مقلوبة”، أي أن الشعوب هي التي تأقلم برامجها ونظم حياتها ومتطلباتها الحياتية مراعاة لأهواء ونزوات الحكام وآرائهم المتقلبة وليس العكس. فالمواقف السياسية للشعوب العربية لم تدخل في حسابات الحاكم أصلاً وعليه فلم تتكون لدى المجتمع العربي “شعبوية” بالمفهوم الأوروبي، أو تلك التي نشأ بها في نهاية القرن التاسع عشر.

اختلفت الآراء مع بدايات الربيع العربي، عندما ضعفت الدولة الدكتاتورية وأصبح لممارسة الشعوب للسياسة دور أساسي في العملية السياسية ككل. وبما أن المشاركة الشعبية في العملية السياسية لم تتطور ضمن سياقات تاريخية عربية ملائمة لها، فقد ظهرت الشعبوية في فترة الربيع العربي بشكلها الفج، القائم على ادعاء تمثيل الشعوب، واستغلال عواطفهم الجياشة، وأداة لإقصاء الآخر، على اعتبار أن كل طرف يحاول احتكار شرعية التمثيل للمواقف الشعبية.

الشعبوية نشأت مع ثورة تحرير الفلاحين في روسيا القيصرية قبل الثورة الاشتراكية 

الانتهازية السياسية للاعبين على الساحة العربية ظهرت هي الأخرى بشكلها المتوحش، فلم يعد من المهم ماذا يفكر السياسي وكيف يرى المصلحة الحقيقية لمجتمعه، بل أصبح معيار كسب تأييد الشارع العربي ودغدغة مشاعر الشعوب الثائرة هو المعيار الذي يستند إليه السياسي في بناء مواقفه. وكما يصف فوكوياما الشعبوية بأنها أحد أمراض الديمقراطية الليبرالية، فإن تخبط التجربة الديمقراطية في مرحلة ما بعد الربيع العربي قد ساعد على بروز “شعبوية متخبطة” أو “مشوهة” بهذه المرحلة. هذا لا يعني أن الشعبوية الغربية أفضل حالاً من نظيرتها العربية، ففي حين أن المجتمعات الغربية أنتجت شعبوية يمينية متطرفة فقد أنتجت ثورات الربيع العربي شعبوية ليبرالية متحررة، وبنفس الوقت، ذات نزعة يسارية لم تخلُ من بعد يميني محافظ أيضاً وهو النموذج الشعبوي المشوه وغير المنسجم الذي ذكرناه سابقاً. حالة القفز من النقيض للنقيض تعمق أزمة المجتمع العربي السياسية، والخلاص منها يكمن في بناء دولة المؤسسات التي ستعمل على تحجيم كلتا الظاهرتين الدكتاتورية منها والشعبوية.

ماجد كيالي، كاتب سياسي فلسطيني: عن “الشعبوية” وتداعياتها

أعتقد أن مصطلح الشعبوية هو بمثابة رديف لمصطلح الجماهير، إذ أن كليهما قاما على أسطورة متخيّلة، تم اصطناعها تاريخيا، بوسائل الدعاية والسيطرة الأيديولوجية، الدولتية والحزبية، في حقبة صعود التيارات الأيديولوجية الحديثة، ذات الطابع العصبوي والمغلق والمطلق، سواء كانت قومية أو اشتراكية أو دينية، إذ كل تلك التيارات أضحت بمثابة طوائف هوياتية، أو ما يشبه الطوائف “الدينية” مع أديان أرضية.

وكما شهدنا فإن زعماء، أو قادة الدول والأحزاب، طالما حاولوا الادعاء بالقرب من الشعب، وبالأحرى مماهاة أو اختزال الشعب بهم، أي بشخصهم وبقيادتهم، ولطالما تحدثوا عن الجماهير، وعيّنوا أنفسهم ناطقين باسمها، وحرّاسا على مصالحها، وأوصياء على مستقبلها، فهم بمثابة الآباء الموكّلون.

وعلى أية حال فإن “الشعبوية” في بلداننا تغذّت من عوامل متعددة، أهمها: 1) هيمنة النزعة العاطفية والإرادوية في التفكير السياسي العربي. 2) تعثّر بناء الدولة الحديثة، لصالح الدولة السلطوية، ما أخّر ولادة مجتمع مدني بمعنى الكلمة. 3) الافتقاد لأطر وعلاقات سياسية حداثية، تتأسّس على المواطنة والمصالح المشتركة، والحريات الفردية، وفصل السلطات، وسيادة القانون، والتعددية الحزبية، والمشاركة والانتخاب والتداول. 4) استغراق السياسة العربية، في القرن العشرين، بمواجهة الاستعمار والمشروع الصهيوني والسياسات الإمبريالية في المنطقة، من دون أي مبالاة بالتحديات أو المخاطر الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي ترتكز على تطوير البشر، والعمران البشري، بحيث لم ننجح لا في مواجهة التحديات الخارجية ولا الداخلية.

وبالمعنى التاريخي فإن مصطلح الجمهور (الحديث) يقترن بمصطلح الرعية (الماضوي) الذي يشير إلى كم من الكائنات قائمة خارج مفهوم الأنا الحر، أي التي لا تعي ذاتها الإنسانية والاجتماعية، وهذا هو مقصد النزعة الشعبوية، التي تنمّط البشر، وتجعلهم بمثابة قطيع مطيع، يتربى ويعتاد على الخضوع والخنوع، وحتى أن عديد من مفكري عصر النهضة تعاملوا بتحفّظ مع مفهوم الجماهير أو العوام، وضمنهم محمد عبده والكواكبي، مع مصطلحات مثل الغوغاء والرعاع. وكان ياسين الحافظ، قبل عقود، تحدث عن “الكتلة الهامدة” في الأمة “حيث الشعور بالرعوية إزاء الدولة هو الغالب لدى القسم الأكثر تأخرا من الأمة، وحيث الشعور بالمواطنية لدى القسم الأقل تأخرا لم يصل في حدته إلى مستوى عنيد وقتالي”. ويقول الحافظ: “النمط الميتافيزيقي من الإيمان بـ ’الإنسان العربي’ عجز عن إعطاء أساس واع ودائم للالتزام بالشعب.. ولعب، بما ينطوي من قبليات أسطورية مجافية للعلم، دورا كبيرا في حجز العقل العربي عن اللحاق بالعصر. لقد اثبت فقط كم هو عميق التأخر الذي يسحق الشعب العربي” (ياسين الحافظ “اللاعقلانية في السياسة”، بيروت: دار الطليعة 1975، ص6 ـ7).

على الصعيد الفلسطيني، مثلا، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقتها في منتصف الستينيات، نحت نحو تغليب اللغة الشعبوية، الشعاراتية ـ العاطفية والتعبوية، التي تتسم بالإرادوية والذاتية، في خطاباتها السياسية، وذلك على حساب اللغة الواقعية، التي تغتني بالأفكار، وتطرح القضايا، وتفكك الإشكاليات، وتشتغل على الإمكانيات وتطور المعطيات. ولنأخذ مثلا شعار: “حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد”، إذ أثبتت التجربة أن الساحة الفلسطينية لم تعرف هذا المصطلح بالممارسة، ولا في مكان، ناهيك عن عدم امتلاك أدواته، أو المعطيات التي تسنده في الواقع، ومع ذلك فقد ظل ذلك الشعار أثيرا عند الفلسطينيين وأدبياتهم الصاخبة. ولنأخذ مثلا شعار: “ديمقراطية البنادق” أو “السياسة تنبع من فوهة البندقية”، وقد بيّنت التجربة أن المبالغة بالبعد العسكري يؤدي إلى اختزال البعد المدني ـ الشعبي، وأن الديمقراطية الفلسطينية كانت مجرد ديمقراطية كلامية، شكلية، لافتقادها لحياة حزبية ولحراك سياسي داخلي، ولمسألة التمثيل والانتخابات وتداول السلطة. والثابت أن الديمقراطية والبندقية (بمعناها كسلطة قسرية زجرية متّجهة للداخل) لا يلتقيان ولا يندمجان ولا يتناغمان. أيضا شعار: “القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية”، في حين بينت التجربة أن تلك القضية، رغم الاحترام لمشاعر الإنسان العربي في كل مكان، لم تكن حقا ذات مكانة مركزية، لا عند الحكومات ولا عند المحكومين، إذ أن لكل شعب قضاياه وحاجاته، أما الحكومات فقد اشتغلت على إعلاء شأن قضية فلسطين من قبيل نيل الشرعية، أو من قبيل الابتزاز أو المزايدة، أو لتحسين صورتها ومكانتها في الداخل والخارج، في حين أن كلها أو معظمها شارك في “مرمطة” الشعب الفلسطيني، كأن فلسطين شيء وشعبها شيء آخر! طبعا يمكن أن نتحدث عن شعارات كثيرة صاخبة، وفارغة أيضا، من مثل “شعب الجبارين” في حين أن الشعب الفلسطيني شعب ضعيف الإمكانيات ومجزأ ومشرد، ويخضع لأنظمة عديدة، ومثل شعار: “سنزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل”، في حين تتزلزل الأرض تحت أقدام الفلسطينيين.

لا مخرج من هذا الوضع إلا بتعزيز التفكير النقدي، وإنزال السياسة والأيديولوجيا من مجال المقدس إلى مجال التداول، ومن المجال الهوياتي إلى المجال المصلحي، ولا بديل إلا بإعلاء شأن المواطنة، في دولة مواطنين أحرار ومستقلين ومتساوين.

خالد الحروب، باحث وأكاديمي فلسطيني: ضحايا التكلس الشعبوي

من زاوية ما، يمكن القول إن دينامية أي مجتمع أو حضارة تتدرج بين حالتين: الحيوية والتكلس. كلما ازداد المجتمع حيوية انطلقت طاقات أفراده وإبداعاتهم المختزنة أو المكبوتة أو المقموعة، واندفع المجتمع بكلّيته (وبدولته وأشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية) إلى مراحل متنوعة، أكثر صحة وحرية وإنجازاً وانفتاحاً وتفاعلاً. على العكس من ذلك، كلما ازداد المجتمع، أو الحضارة المعنية، تكلسا، كلما طُمست إبداعات أفراده وطاقاتهم، وتعمق انغلاق الذات الجمعية على نفسها، وظلّ المجتمع بالتالي يغرق في مستنقعات ساكنة يأكلها العفن الداخلي. والشعبوية هي إحدى البنى المؤسسة للتكلس الذاتي والجماعي، لأنها تعزز الغرور الثقافي والديني والسياسي، الذي لا يقوم على منطق تبدل الأشياء وتحوّلها، بل يصرّ على نفخ ماضيها ليصل إلى الحاضر، ويحتله، ويحتل المستقبل أيضا. إحدى المعضلات الكبرى للشعبوية، التي تتمظهر سياسيا وقوميا ودينيا، تبعا للسياق المعني، تكمن في تفاقم كوارثها في أوقات الهزيمة والاندحار الحضاري. هنا، تطرح الشعبوية خيارا هروبيا غالبا ما يكون نحو “الماضي التليد”، و”المجد الغابر”، قوميا، أو نحو الالتزام الديني المتنمر والغاضب، بكون هذا الالتزام يمنح الملتزمين به مرتبة أسمى من مرتبة “الآخر المنتصر مادياً”، وهو بالمناسبة ما سماه سيد قطب “استعلاء الإيمان” – أي أن المؤمن (حتى لو كان متخلفاً حضارياً ومادياً) يجب أن يستلهم شعور الاستعلاء والانتصار على غير المؤمن (حتى لو كان متقدماً حضارياً ومادياً). والاتجاه الهروبي الثاني يكون نحو المستقبل الذي سوف يشهد انتصارنا وعودة مجدنا مرة أخرى. وصنفا الهروب هذان لا رافعة لهما سوى الخطاب عالي النبرة والرطانة، المتوجه نحو العاطفة القومية أو الدينية. والشيء الذي يشترك فيه هذان “الهروبان” هو احتقار الحاضر وعدم الالتفات إليه، أو تقديم برامج وتصورات ومقاربات عملية لتغييره. الحاضر هو الضحية الأولى للشعبوية الدينية والقومية، لأن هذه الشعبوية تستمد مفردات خطاباتها، التي تلهب بها الجمهور، من الماضي (الانتقائي وأحيانا المفبرك) لترسم صورة مثالية وخيالية وخالية من العيوب، ثم تقوم ببناء مفردات، وعالم حول المستقبل، مرتبط بذلك الماضي الخيالي. وهكذا يُسترذل الحاضر بكل وطأته وحضوره ومآسيه، وما يترتب على ذلك الاسترذال هو المهم، وهو الاستقالة عن مواجهته، عوض العزم على التصدي له وتغييره.

وفي سياق ظافرية هذه الشعبوية، التي نرى راهنا مظاهر كثيرة لها دينية وثقافية وشوفينية في

عالمنا العربي، هناك اعتلالات عديدة يصعب التعرض لها جميعاً في هذه الملاحظات المختصرة. لكن واحدة منها تلحّ على النقاش، ومتعلقة بموقف المثقف من الشعبوية، والمقصود هنا المثقف الحقيقي: أي المثقف الناقد والمثقف القلق. فهنا علينا أن نفرّق بين هذا المثقف الحقيقي وبين ما أسميه “المتثاقف المهرّج”، وهو الحليف العضوي للشعبوية (وللشعوبية أيضا) وأحد أهم ممثليها الرسميين. ونرى أصنافا وتعبيرات وتمظهرات لهذا المتثاقف عبر التهريج الإعلامي والشعبوي، ينتشر في الإعلام اليوم، سواء التلفزيوني أو وسائط الإعلام الاجتماعي المُتاحة للجميع. ويعبر هذا المهرّج المتثاقف عن نفسه إما على شكل شخصية إعلامية (وغالبا تلفزيونية) مستشرسة، أو كاتب منحاز بصفاقة مُدهشة ومتبدلة، أو رجل دين يغرق ويُغرق الآخرين في خطاب طائفي متعصب، أو خطاب ديني متعصب إقصائي، أو متحالف مع سلطة استبدادية، أو في شبه مثقف علماني مُستعل هو الآخر على المجتمع، ويغرق في استشراق ذاتي لا يقدم إلا الجلد الذاتي والعجز الجمعي، وهكذا. وفي هذا السياق التهريجي يكون العقل والمنطق الضحية الثانية الأهم للشعبوية. وإذا جمعنا الحاضر كضحية أولى، والعقل كضحية ثانية، فإن الناتج هو المزيد من التكلس للمجتمع وثقافته ومستقبله، ويغدو المجتمع بالتالي الضحية الأكبر والأكثر نزفاً.

حيان جابر، كاتب فلسطيني: عناصر الشعبوية في خصوصيتها العربية

يمكن تحديد بعض العناصر الرئيسية التي تُكون مجتمعه أو منفردة ملامح السياسة الشعبوية في منطقتنا العربية، على الصعيدين؛ الرسمي ممثلا بالحكومات والرؤساء؛ وغير الرسمي ممثلا بالقوى والأحزاب والجمعيات المعارضة للسلطة. وقد نتمكن كذلك من استخلاص أهم غاياتها وأهدافها، مع الأخذ بعين الاعتبار حداثة الشعبوية المعارضة، إن جاز التعبير، مقارنة بالرسمية، استنادا إلى تاريخ المنطقة الاستبدادي الحافل بقمع واعتقال المعارضين أفرادا أو مجموعات، مهما كان حجمهم أو مكانهم أو حتى خطابهم.

بكل الأحوال تتكون الشعبوية العربية الرسمية من ثلاثة عناصر شبه متساوية القوة. ويتمثل أولها في استعادة وتكرار ذات الشعارات التي تدغدغ أحلام الشعوب، كتحرير الأراضي العربية المحتلة وعلى رأسها فلسطين، والرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والسيادة الوطنية، وغيرها من الشعارات الرنانة وفق المرحلة التاريخية ومقتضياتها. ويتمثل ثانيها في الإصرار على الكثير من اللغو الذي يفقد الخطاب أو النهج من أي مضمون فكري، أي يتم إفراغ الشعارات من معانيها ومقاصدها، وبالتالي من مرتكزات تحقيقها، وكأنها كواكب معزولة قائمة بذاتها لا تتأثر بمحيطها ولا تؤثر عليه، وما على الشعب سوى الصبر والمزيد من الصبر الذي يبدو أنه لن ينتهي. وأخيراً لدينا التفرد ورفض الآخر، أي معاداة التعددية، وهو جزء عضوي ورئيسي في المنظومة الاستبدادية، حيث تعتبر أنها المعبّر الوحيد عن الرأي الشعبي الذي لا يحتمل أي تأويل آخر، ومن البديهي الأخذ بذلك كمسلمة غير قابلة للنقد أو النقض والتشكيك، ولا حاجة بتاتا لأي نوع من أنواع البراهين والأدلة على صحتها، بل على العكس يتم بناء سلسلة من القوانين والأفعال الاستبدادية بالاستناد إليها بذريعة درء خطر الأصوات التي لا تمثل الشعب – كل ما يخالفها- خدمة للوطن والمواطن.

وعليه، تعبّر الشعبوية الرسمية- مبدئيا- عن سلوك مقصود، يراد له أن يوحي بمدى قرب الأنظمة من هموم وتطلعات الجماهير بعد إفراغ هذه التطلعات والهموم من مضمونها الرئيسي، بحيث يسهل تضليل الشعب بمدى جدية تحقيق هذه الأهداف والنقاط عموما، لتمضي الأيام والشهور والسنوات دون أي تغيير حقيقي واقعيا، وبتغير طفيف في الخطاب الرسمي، عبر تضمينه سلسلة من الاتهامات التي تحمّل أطرافا وجهات خارجية وداخلية عميلة- معارضة- مسؤولية ابتعادنا عن تحقيق أحلامنا وغاياتنا. ولاستكمال صورة الشعبوية العربية لا بد من تلمس تمددها في الأوساط والأطراف غير الرسمية أو المعارضة، التي كانت الشعوب العربية قد علّقت عليها الكثير من الآمال في أعقاب موجات الثورات العربية الأخيرة – المعروفة إعلاميا بالربيع العربي- في 2010، على اعتبارها نقيض الأنظمة القائمة، حتى اكتشفت الشعوب يوما بعد يوم أن غالبيتها قد تشربت ذات الأسلوب والمنهج التضليلي والتسويفي المتبع من قبل الأنظمة، فضلا عن ذات السلوك المتفرد والقسري، حتى غدت صورة مطابقة ومشوهة عنها لا أكثر؛ حيث غابت التحليلات والنقاشات الجدية والشاملة التي تعنى بدراسة أفق ووسائل تحقيق الأهداف الشعبية لصالح التمسك بذات الخطاب الجامد الشعبوي، الذي يدّعي التمسك بتحقيق الشعارات الشعبية العامة والفضفاضة، حتى عندما تثبت ممارسته عكس ذلك. فالشعب وفق نظرة الشعبويين مجرد دمى يسهل خداعها والتحايل عليها، ولا أهمية حقيقية لإرضائها وكسب ثقتها قولا وفعلا، لثانوية دورها في تزكية هذا النظام أو الرئيس أو ذاك، مقارنة بمركزية الدور الخارجي والأمني، وربما حصريتهما؛ الأمر الذي يجعلنا موقنين بأن الشعبوية السياسية نهج فكري وممارسة عملية تهدف إلى تشويه الوعي الشعبي، وحرفه عن غاياته وأهدافه السامية، والانشغال بصراعات جانبية مدمرة تبعده في الواقع عنها، كما أنها ممارسة منحرفة تسعى إلى تعزيز مجموعة من الأفكار والممارسات المريضة التي تفسد المجتمع أو جزءا منه، مما يعيق مسار نهضته ونهوضه، وهي أخيرا سلطوية واستبدادية تعمل على سحق الآخر أيا كان من أجل مركزة السلطة بيد فرد أو مجموعة محددة ومتحدة، وهو ما يجعل مجابهتها عملية طويلة تبدأ فكريا كي تنتهي بضوابط قانونية ودستورية تعزّز فصل السلطات واستقلالها عن أي قوى تأثير داخلية أم خارجية، سياسية أم اقتصادية.

بشار يوسف، كاتب وصحافي سوري: الخطاب الشعبوي بين اليمين واليسار

خلال السنوات الأخيرة حققت الأحزاب اليمينية، المتطرفة منها خاصة، كثيراً من الانتصارات الانتخابية في عدد من الدول الديمقراطية الغربية، الأمر الذي سمح لها بالوصول إلى الحكم في عدد منها، أو على الأقل كسب مقاعد أكثر في البرلمانات، ما أثار مخاوف كبيرة من انهيار كثير من التوازنات السياسية والاقتصادية، وحتى الاجتماعية، وأعاد إلى الأذهان ما كانت عليه الحال قبيل الحرب العالمية الثانية، في ظل وجود أحزاب يسارية متطرفة، اعتمدت النهج الشعبوي ذاته.

مكاسب الشعبوية ما كانت لتتحقق في الغالب لولا تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في

تلك الدول، لتعمد أحزاب اليمين المتطرف إلى استهداف مشاعر وحاجات شرائح محددة، وطرح حلول لمشاكلها، عبر إلقاء اللوم على سياسات الحكومة وطريقة تعاملها مع ملفات حساسة، كالهجرة والإرهاب وقوانين العمل والضرائب وغيرها. براغماتية اليمين الشعبوي أفقدت التيارات اليسارية أوراقاً رابحة استندت إليها في خطابها الموجه للطبقات العاملة عبر مناهضتها للنظام الرأسمالي، لكن أفكار اليسار ممثلاً بالتيار الاشتراكي الديمقراطي لم تدرك ما أصاب العمال والطبقة الوسطى من تغيرات عميقة أفقدتها مكانتها الاجتماعية بفعل السياسات الليبرالية والحدود المفتوحة، وترجيح الاعتبارات غير الوطنية.

تغلغلت الشعبوية داخل التيارات اليسارية التي تعادي المؤسسات التقليدية والنخب، وتدعو لإغلاق الحدود بحجة المخاوف الأمنية التي تهدد المجتمع، لتتراجع مبادئ اليسار التقليدي التي تدعو إلى الانفتاح والعالمية والترحيب باللاجئين، فلم تعد الشعبوية حكراً على اليمين الأوروبي.

اليوم بات الترويج لأي خطاب شعبوي أسهل مع زيادة معدلات الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار، وإعادة نشرها لتصل إلى عدد أكبر من المستخدمين دون التحقق من صحتها، فضلاً عن حجم المعلومات التي يمكن جمعها من هذه المنصات عن حاجات الناخبين وتخوفاتهم، ولعل الحديث عن تأثير ذلك على نتائج الانتخابات الأميركية هو أفضل دليل على ذلك.

اليمين المتطرف في الغرب اعتمد نهجاً سياسياً شعبوياً قريباً من طريقة عمل الشركات، عبر دراسة احتياجات زبائنها المستهدفين، وزيادة مبيعاتها عبر توفير سلع تناسب تطلعاتهم، بغض النظر عن المنفعة الحقيقية التي تقدمها لهم، في حين أن اليسار المتطرف، والأنظمة القومية أو الدينية، استفادت أكثر من خلق الحاجة لدى زبائنها واحتكار توفيرها عبر خلق العدو/ الآخر والتخويف منه والتحريض عليه.

أما في المنطقة العربية، ومنذ نيل الدول استقلالها، ومع غياب وجود خطط اقتصادية وتنموية حقيقية، نزعت الأحزاب الحاكمة، في سبيل تثبيت سلطتها، أو تحقيق مكاسب إقليمية، إلى الاعتماد بشكل كبير على خطاب شعبوي، يغذي ويتغذى من المشاعر الوطنية والقومية، والانتماءات الطائفية، وهو ما تجلى في كثير من الصراعات التي شهدتها المنطقة خلال العقود الماضية، وبلغ ذروته في السنوات الأخيرة. في المقابل، لم تستطع التيارات المعارضة لتلك الأنظمة تقديم نماذج أفضل مما تعارضه، بل إنها أعادت إنتاج خطاب السلطة الشعبوي المعادي للتعددية.

أبو بكر عبد الرحمن، باحث سوداني في العلاقات الدولية: البشير نموذجاً

انتهى شهر العسل في صبيحة الحادي عشر من نيسان/أبريل، ومنه إلى سجن كوبر حيث يقبع عمر البشير الآن نزيلاً يواجه عدداً من التهم الجنائية والمدنية.

شعبوية العسكرة شكلت الحديقة الخلفية للبشير

منحت الخلفية العسكرية أولاً، ثم الدعوية للحركة الإسلامية السودانية ثانياً، البشير الأساس الصلب الذي انطلق منه لحكم السودان، وقد كانت أسمى غايات دولة البشير التي نادى بها: إقامة دولة إسلامية أساسها العدل وتستوعب الآخر، مع رفض الحوار مع الجناح العلماني السوداني للوصول لأرضية مشتركة عبرها تدار الدولة، وسيطر الخطاب الدعوى الشعبوي، من الجهاد وما على شاكلته، كالأساس المتين الذي ثبت به نظام “الإنقاذ الوطني” سيطرته على الدولة، وقد نجح في كسب ود العامة والطبقة المتوسطة من الفقراء وأبناء الهامش، فكان الاندفاع العاطفي نحو الدين والدفاع عن العقيدة، هو الذي شكل اللبنة الأولى لسيطرة “الإنقاذ” فيما بعد على الدولة.

وكما أشرنا فإن شعبوية العسكرة شكلت الحديقة الخلفية للبشير، وارتكز خطابها الموجه للشارع السوداني إلى دعائم: الدفاع عن الدين، الدعوة إلى إسقاط الإمبريالية العالمية وحلفائها، الدبلوماسية التبشيرية الهادفة إلى تقويض الأنظمة السياسية في المنطقة.

كانت خطاباته يتخللها الوعيد والتهديد، تارة يستعير التهديد العبرة من قصص القرآن، وتارة يستلهم من المزاج السوداني العام، موظفا العسكرية المتوحشة (مثل: الزارعنا غير الله اليجي يقّلعنا)، هناك خطابات كان يرسلها للداخل عندما يحس أن هناك تململا داخليا في الحزب أو المؤسسة العسكرية، والأخيرة كان لها وضع خاص: مثلاً في بعض الأحيان يصف معارضيه بأصحاب الغرض، أما خطاباته عن جماعات الكفاح المسلح فكان يستخدم فيها ألفاظ (عملاء وخونة ومارقين ومندسين).

حشود البشير وشعبيته الزائفة تم اختبارها قبل أسابيع أمام القضاء، بحضور يتجاوز ثلاثين فردا، أغلبهم من أقربائه، وغاب مؤيدوه المزيفون الذين كانوا يحتشدون أمامه بالآلاف. حتى الذين كانوا يؤيدون بقاءه (والذين رفعوا عند انطلاق الاحتجاجات شعار” تقعد بس” الذي يقابل شعار المحتجين “تسقط بس”) استندوا إلى اعتقادهم أنه المنقذ، والشخص الوحيد الذي يمتلك عصا الاستقرار والأمن، وبذهابه ستعم الفوضى أرجاء المكان، وكانوا يتساءلون من هو البديل؟

لم يسلم حتى الدين وبعض أهم مقومات الدولة العصرية الحديثة من بطشه، فمفهوم الحرية ظل قاصراً عند الرجل وفي إطارها الضيق، ولم تكن مصطلحات المواطنة والمساواة في خطاباته إلا شعارات للاستهلاك الإعلامي كغيرها من قضايا نحو: محاربة الفساد، وإشاعة الحريات، ومحاسبة المجرمين. البشير لم يحترم حتى الرمزية العسكرية في كثير من الأحيان، فالثقل العسكري الذي أتى به إلى سدة الحكم سرعان ما أصبح تركة ثقيلة عليه، وتخلص من منافسيه واحدا تلو الآخر.

البشير حتى تاريخ سقوطه كان شعبوياً، وكان دائماً ما يرغم معجبيه على طقوس إظهار الشكر والعرفان، وفي كل مسرح تنطلق الشعارات “سير سير يا بشير نحنا جنودك للتعمير”، والحركة الإسلامية التي حملت البشير على أكتافها لم تؤسس دولة تحترم إرثها ولم تترك مجتمعا يدافع عنها، ولم يقدم البشير للسودان على مدى ثلاثة عقود سوى شعبويته الانفعالية، ليصبح السودان دولة فاشلة.

هشام أصلان، كاتب مصري: جميعنا شعبويون بشكل ما

إن الذين تنوعت العلاقة بين نشأتهم وبين أنواع الشارع المديني، سيندهشون حتماً من تصور بعض النخبة لما يمكن تسميته بالشعبوية في الفن، بالرجوع إلى المفهوم العام للفكرة؛ نجومية البلطجي بصورته الحديثة في السينما مثلاً، أو الأغاني الشعبية على امتداد تطورها من أحمد عدوية وصولاً لموسيقى المهرجانات. البعض سيستنكر جمع عدوية ومطربي المهرجانات في جملة واحدة، ناسين استياء النخبة من عدوية وقت ظهوره كما صدمة النخبة الحديثة من مطربي المهرجانات في سنواتنا القريبة.

ليس هناك تفسير للتعالي الثقافي على هذه النماذج سوى القالب الضيق الذي يحب البعض أن يتحدث من داخله لتصدير فكرة باتت كلاسيكية للمثقف. هكذا يمكن أن يفكر الواحد إذ يرى، منذ خرج للدنيا، أن انتشار الأغاني الشعبية لمطربين من قبيل عبد الباسط حمودة أو طارق الشيخ أو رمضان البرنس، ومن قبلهم، طبعاً، أحمد عدوية، لم يكن أبداً مقصوراً على أبناء الحي الشعبي الذي نشأ فيه، ذلك أن الانتشار والقبول هذا لم يكن أقل أبداً بين أبناء طبقات اجتماعية أعلى.

كنت من محظوظين تنوعت علاقة نشأتهم بالشارع. أعيش في حي إمبابة شديد الشعبية، وأذهب للمدرسة في حي الدقي الأرقى طبقياً، ثم أحد المعاهد العالية لدراسة السياحة في مدينة نصر، حي الطبقة الغنية من دون عراقة ثقافية. التقطت أذناي أغاني حسن الأسمر ومن بعده عبد الباسط وطارق الشيخ في مقاهي إمبابة البسيطة، ومن أجهزة الكاسيت الخاصة بسيارات زملاء دراستي الأغنياء في حي مدينة نصر، بينما الأكثر تعقيداً هو التلقي الجيد لأغاني المطربين الشعبيين بأنواعهم بين دوائر أصبحت أوسع في الحياة الثقافية نفسها، وإن كان بعض هذه الدوائر يتعامل معها بمنطق استشراقي، أو من باب الحاجة إلى تقليل مساحة العمق المجهدة واللجوء إلى العدم في لحظات البهجة.

تتجلى ظاهرة محمد رمضان كنموذج لساحة معركة فكرية مفتعلة

في السينما، تتجلى ظاهرة محمد رمضان كنموذج لساحة معركة فكرية مفتعلة على هذه المساحة من التلقي داخل دوائر الثقافة. في البداية، ومع تقديمه أفلام “قلب الأسد” و”عبده موتة”، انهالت عليه اتهامات تجاوزت إفساد الذوق العام إلى التسبب في التشكيل السيء لأدمغة أبناء الأحياء الشعبية الذين سيقلدون طريقته في ارتداء الملابس وحب اللعب بالأسلحة البيضاء وجاذبية تناول المخدرات الرخيصة، اتهامات لطالما رأيتها شديدة السذاجة، أو في وصف أكثر تهذيباً، اتهامات لا علاقة لأصحابها، إن صدقوا في طرحهم، بالأحياء الشعبية “للمدينة”. ربما نجد لدى الباحثين في علوم الاجتماع كلاماً نظرياً أو علمياً يحبه المثقفون. تجربتي الشخصية أكثر بساطة، حيث نشأتي وضعت في رأسي ما يُصعّب الاقتناع بأن أصدقاء طفولتي ومراهقتي هم من يقلدون محمد رمضان، إنما هو من ينهل من حياتهم لأعماله السينمائية، فيما هم يستحقون أن تعبر عنهم الفنون، الأدب والسينما والأغاني، أو على الأقل يستحقون أن يجدوا ما يستمتعون به.

في “إمبابة”، وربما في الأحياء الشعبية الأخرى، لا يطلقون على المُسجل لدى الشرطة في ملفات “إجرام النفس” لقب بلطجي، يقولون عليه “شقي”، وتتفاوت شهرة الأشقياء بحسب مهارتهم في استخدام السلاح الأبيض وعناصر أخرى ليس هنا مجال الدخول فيها. ما أتحفظ عليه في أعمال محمد رمضان ليس تقديمه وبروزته لصورة الشقي بامتياز، ولكن تقديمه إياها في أفلام رديئة الصنع. على التوازي كان أحمد السقا، مثلاً، أكثر حظاً في تقديمه شخصية الشقي في فيلم جيد الصنع مثل “إبراهيم الأبيض”، غير أن من تربوا في إمبابة يعرفون جيداً أن تركيبة الأشقياء، المهرة في اللعب بالمطواة، هم من عبر عنهم باقتدار محمد رمضان وليس أحمد السقا، فقط كان ينقصه حظ أوفر من التعامل مع صناع سينما يشغلهم الفن، وليس فقط شباك التذاكر.

—————————-

(5)

نتابع في “ضفة ثالثة” ملفا حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

هل ترتبط الشعبوية بالعولمة أم هي ظاهرة مناقضة لها؟ هل يكفي التركيز على القواسم المشتركة لاعتبارها ظاهرة معولمة؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ وما علاقتها باختلال التوازن بالنظام الدولي؟ وهل ما زالت هناك حدود واضحة بين الأدبين الشعبوي والنخبوي؟ وما الفرق بين الشعبي والشعبوي؟ إنها تساؤلات حاول المشاركون في هذا الجزء الخامس من الملف الإجابة عنها.

علي سفر، كاتب وشاعر سوري: عولمة الشعبوية في ميزان ما هو “متاح دوليا

لم يعد التفكير بجوهر الظاهرة الشعبوية هو المهم في هذا الوقت، رغم أن الجمهور يحتاج لمن يشرح له التفاصيل دائماً، ولكن المهم برأيي الآن هو دراسة ملامح ومظاهر الشعبوية في تبدلاتها وظهوراتها بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب!

فهي لم تولد في حيز جغرافي سياسي محدد ومن ثم انتقلت إلى بلدان أخرى كالأيديولوجيات التي يعرفها العالم الحديث، بل هي ممارسة شاعت في كل الأزمات، وتم الحديث عنها في الأدبيات التاريخية دون أن يتم الاتفاق على مصطلح يعبر عنها، ولتبيان الأمر يحتاج الدارس للعودة إلى تبيان جوهرها في الزمان والمكان المحددين من أجل وضعها في السياق الذي يجب أن توضع فيه!

الشعبوية ومن خلال ظواهرها القديمة في الشرق وفي الغرب على حد سواء، مهملة وغير ذات أهمية سوى في كونها نتاجاً لواقع تاريخي، أما في العصر الحديث، فهي نتاج لثقافة متراكمة، لا ترى في الواقع سوى وقود لها، على أرضية فشل المشاريع الرسمية في تحقيق الرفاه، وفي إرضاء النزعات المتطرفة في الأيديولوجيات الاجتماعية والقومية والدينية، ومن هذه الأخيرة نرى النماذج الطائفية والفئوية الأضيق. ففي كل تجمع بشري هناك من يذهب إلى خلق خطاب يرضي الفئات الأكثر حاجة، والأشد تعصباً، ومعاناةً!

وضمن هذا التصور، بالتأكيد باتت الظاهرة متعولمة، ومتكررة، وقابلة للتمثل في كل البيئات الخصبة، ولكن السؤال الذي غالباً ما يراود الباحثين والذي يفتتحون به دراساتهم ومقالاتهم إنما يتمحور حول ما يربط بين ظاهرة ترامب الأميركي وبولسونارو البرازيلي، مع عائلة لوبن الفرنسية، ومع غيرها من الظواهر، كان يواجه بأجوبة تتحدث عن التشابهات في ممارسات كل هؤلاء وغيرهم! ولكن قلة من حاولوا أن يجدوا أجوبة مختلفة، فعلى سبيل المثال، بات من اليسير على هؤلاء لو أرادوا أن يبحثوا في التأثير الخطير لظاهرة غير مؤطرة ضمن أقواس الشعبوية، كظاهرة نظام بشار الأسد وجرائمه، على السياق الشعبوي حول العالم! وربما يسهم تحليل هذا الأمر في تبيان مدى تعولم الظاهرة الشعبوية، فحين يرتكب نظام ما جرائم متتالية ضد شعبه، ويفلت من العقاب، بعد أن يتم تعطيل الآليات المقررة لمثل هذا الواقع في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال قواعد عمل المجلس نفسه عبر استخدام الفيتو، ولا يتم اللجوء لآليات مضادة للجمود المؤدي لتكرار وقوع الجرائم، فإن هذا الأمر يرسل رسالة للعالم كله تقول بأن ما كان ممنوعاً بحكم الضوابط الدولية، بات متاحاً طالما أن نظاماً كنظام بشار الأسد نجا من العقاب. هذا الواقع ليس جديدا بل يعيد تكرار ما جرى في إسبانيا عام 1936 حينما تمكن انقلابي مثل فرانكو وبدعم من الفاشيين الإيطاليين والنازيين الألمان من إبادة الجمهورية، ونجا من العقاب حينما غضت الدول الديمقراطية الطرف عنه، وكان مؤشراً على إمكانية أن يتسع الخطاب الشعبوي حول أوروبا ليلتهم القارة كلها في حرب مدمرة قتلت عشرات الملايين من البشر.

لقد هدد بشار الأسد وحلفاؤه العالم منذ بداية الثورة ضده، ونفذ تهديده عبر خلق الأزمة تلو الأزمة، وكل واحدة منها كانت تقود المتأثرين إلى التجمع في واقع احتجاجي يحكمه خطاب شعبوي متعاظم، ويكفي أن نحلل تأثير موجات اللجوء إلى أوروبا وتناميها بسبب الأزمة السورية لنرى كيف استفاد الخطاب الشعبوي للأحزاب اليمينية هناك من هذا الواقع ليضخ الروح في مؤيديه!

حسام ميرو، باحث وشاعر سوري: الشعبوية واختلال التوازن في النظام الدولي

تعود الشعبوية اليوم لتحتّل مكانة بارزة في الخطاب والممارسة السياسيين عالمياً، والسنوات الأخيرة تعبّر بشكل واضح عن عدد من الأزمات التي سمحت بعودة الخطاب الشعبوي، فليست مقولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب “أميركا أولاً”، إلا أحد تلك التعبيرات الصارخة عن واقع الحال اليوم، وقد خاض الرئيس الأميركي حملته الانتخابية تحت هذا الشعار، ومنذ وصوله إلى الحكم يقوم بتحويل الشعار إلى وقائع سياسية وقانونية واقتصادية.

يستند الخطاب السياسي الشعبوي المعولم، وما ينطوي عليه من قيم ثقافية، إلى إعلاء الروح القومية، بوصفها ركيزة الحماية الأساسية، ويستعيد هذا الخطاب مراحل من التاريخ تنتمي إلى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ما يعني أن المحاولات التي جرت لتجاوز تلك المراحل أصابها الكثير من الإخفاق.

بالطبع إن أي حديث عن الشعبوية العالمية لا يمكن فصله عن النظام الدولي القائم، فالفعل وردّ الفعل في هذا النظام، بل وعليه، يخضع لقاعدة الأواني المستطرقة، فقد شهد العالم في الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة خفوتاً في الخطاب الشعبوي، خصوصاً مع قدرة أوروبا الذهاب نحو بناء مؤسساتي هو الاتحاد الأوروبي، الذي تصدّى لمهامٍ عدة، من بينها محاولة تكريس “الأوروبية” في مواجهة القومية.مع نهاية الحرب الباردة، شهد العالم ثورتين كبريين، هما ثورة التقانة وثورة الاتصالات، مع التبشير بـ”نهاية التاريخ”، بحسب فرنسيس فوكوياما، ورافق ذلك طرح منظومة مفاهيمية ثقافية وإنسانية، تجلّت فيما يسمى “المواطن العالمي”، لكن العقود الثلاثة الماضية، أظهرت أن الصراعات في سوق العمل الدولية هي أكبر من الأطروحات المفاهيمية، التي ساندتها بقوة الشركات العابرة للجنسيات والثقافات.

في أوروبا، وقعت بريطانيا تحت مأزق البريكسيت، وفي إيطاليا وصل حزب الرابطة اليميني/ الشعبوي إلى الحكم، وفي المجر كذلك الأمر، وفي ألمانيا يحقق “حزب البديل” اختراقات كبيرة في انتخابات المقاطعات، وفي روسيا يستعيد الرئيس بوتين السياسات القومية، بما فيها التحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، وصولاً إلى البرازيل التي يرأسها جايير بولسونارو، الذي نجح في انتخابات الرئاسة تحت شعار “البرازيل أولاً”.

منح الفشل في إنتاج نظام دولي متوازن بعد ثلاثة عقود من سقوط القطبية العالمية الفرصة لعودة الشعبوية على نطاق عالمي، كذلك الأمر مع فشل الاتحاد الأوروبي، كمظلة ما فوق قومية، في تحقيق التنمية والرفاه المتوازن لمختلف الشعوب الأوروبية، بل عزز هيمنة اللاعبين الكبيرين تاريخياً؛ ألمانيا وفرنسا.

من جهة أخرى، فشلت الدول والمؤسسات الكبرى في تصحيح مسار الاقتصاد العالمي بعد الأزمة المالية في 2008، بل إن المؤشرات الراهنة تشير إلى أزمة جديدة، ربما تكون أكثر عمقاً وحدة، ما يعني أننا أمام كل العوامل التي تسمح بعودة الشعبوية وانتشارها في العالم، حيث يصبح الارتداد نحو الذات القومية، بكل ما يحمله من خطر عودة وصعود الفاشية، أمراً واسع الاحتمال، في مواجهة الإخفاق في بلورة نظام عالمي متوازن.

عمر بقبوق، كاتب ومخرج مسرحي سوري: شعبوية أم شعبويات؟

قبل الحديث عن عولمة الشعبوية ومتى باتت الشعبوية ظاهرة معولمة، علينا أن نميز ما بين نوعين من الشعبوية: الشعبوية القائمة في العالم الثالث كامتداد لعصر القوميات، الذي انحسر في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي استطاعت أن تصمد وتتكيف مع كل المستجدات العالمية بما في ذلك عصر العولمة الذي بدأ بثمانينيات القرن الماضي، كما هي الحال في الدول العربية. والنوع الثاني هو الشعبوية التي تنامت في أميركا والدول الأوروبية التي وصلت إلى طور الدولة ما بعد القومية؛ وقد تجلى هذا النوع بأبرز صوره بوصول دونالد ترامب إلى السلطة في أميركا، وبمشروع “بريكسيت” القاضي بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعند الحديث عن الشعبوية لا يبدو أنه من الصواب وضع هذين النوعين من الشعبوية على ذات السوية، حيث أن النوع الأول يتبنى خطاباً شعبوياً شمولياً، تلجأ حكومات ديكتاتورية لفرضه بأساليبها القمعية. وأما النوع الثاني، ففيه يبدو أن الخطاب الشعبوي يستهدف التحركات القومية تحت مستوى الدولة، التي تبنت توجهات سياسية انفعالية تتناقض مع معايير العولمة، ويصل أصحاب هذا الخطاب إلى الرقعة السياسية الفاعلة بطريقة ديمقراطية، وبالاستفادة من الوضع السياسي والاقتصادي القائم في الدولة. وهو ما يمكن لمسه بصورة واضحة في بريطانيا، التي تتجه نحو العزلة بانسحابها من الاتحاد الأوروبي نتيجةً لقرار “البريكسيت” الذي تم الاقتراع عليه بشكل ديموقراطي، دون إغفال أن معظم من صوتوا لصالح “البريكسيت” هم المتضررون من الشكل الاقتصادي المفتوح، من عمال وأصحاب مهن صغيرة، الذين تأثروا سلباً بنتائج العولمة، وما تبعها من حركات هجرة من قبل مواطني الدول الفقيرة نحو المراكز والدول الكبرى، فالطبقات الوسطى والفقيرة في بريطانيا تضررت من حركة الهجرة التي شهدتها أوروبا من دول أوروبا الشرقية الفقيرة نحو دول أوروبا الغربية الغنية.

ولا تختلف الحال في أميركا، فوصول دونالد ترامب إلى السلطة بعد أن قدم مشروع لبناء سور يفصل أميركا عن المكسيك ويحد من الهجرة غير الشرعية، هو مؤشر إلى أن غالبية المنساقين خلف الخطابات الشعبوية القاضية إلى أشكال تجارية أكثر عزلة هم أولئك المتضررون من الشكل التجاري المفتوح الذي فرضته منظمة التجارة العالمية في سنة 1995، أي زمن العولمة.

وذلك ما يدفعني للقول بأن الأفكار المنتشرة حول عولمة الشعبوية هي أفكار ذات طابع نخبوي متعال، تميل نحو التعميم بتفسيرها للظواهر السياسية العالمية دون أن تتعاطى بشكل موضوعي مع المسببات التي أوجدت جمهورا سياسيا لهذا النوع المتطرف من الخطاب الشعبوي في كل بقعة جغرافية على حدة، وتنظر بدونية إلى الجماهير المنخرطة بالتحركات السياسية الميالة للانغلاق والمناهضة للسياسات الاقتصادية الناجمة عن العولمة، حيث أن غالبية المؤيدين للتيارات الشعبوية في بلاد العالم الأول هم من الطبقات الشعبية المعدمة التي تضررت بالشكل الاقتصادي المفتوح. وبدلاً من أن تحاول النخب السياسية والثقافية فهم متطلبات هذه الطبقات الشعبية والبحث بالأسباب والعوامل التي قد تحد من خطر الشعبوية، ظهرت العديد من الأفكار المتطرفة بمناهضتها للتيار الشعبوي، فقللت النخب من شأن هذه الشرائح الشعبية، وشككت العديد من الدراسات بجدوى الديمقراطية التي تعطي لمن وصفتهم بـ”الجهلة” و”الرعاع” القدرة على التأثير بالمستقبل السياسي، لتغالي بعض المقالات مناهضتها لشكل الديمقراطية القائمة وتحملها مسؤولية توجه العالم نحو التطرف، ووجدت بالديمقراطية الإغريقية التي لا تعطي حق المشاركة السياسية الفاعلة سوى للنخب نموذجاً يحتذى به، بل إن الأحداث الأخيرة أعادت استخدام مصطلحات تتعاطى مع هذه الطبقات بدونية، مثل مصطلح “البروليتارية الرثة”، الذي استخدمه كارل ماركس، أو “قاع المجتمع”.  

وهيبة الرايد، باحثة وأكاديمية مغربية: هل باتت الشعبوية ظاهرة معولمة؟

“أينما تكون قوة مهيمنة تكون مقاومة”. هكذا كان تصور فوكو صاحب نظرية “نظام الخطاب” الذي تعمق في تاريخ الشعوب والمؤسسات الاجتماعية للدولة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي (“نظام الخطاب”، ميشيل فوكو، ت. محمد سبيلا، 2012). مع بدايات عصر ما بعد الحداثة وما أنتجته من تأثيرات فكرية ونضالية في الأنظمة السياسية تغير أيضا الخطاب السياسي إلى خطاب يدغدغ المشاعر الجماهيرية والشعبية.

إنها “الشعبوية”، حيث دائما الشعب ضد النخبة الحاكمة، والذي في الغالب، وهذا ما أثبته التاريخ منذ يوليوس قيصر مرورا بنظام هتلر إلى التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك حملة ترامب الانتخابية “أميركا أولا”، كان الهدف دائما مصلحة خاصة لا عامة على عكس ما كان يدعيه ساسة خطاب الشعبوية. هذا الخطاب الشعبوي المعولم لم يقتصر على العالم الغربي فقط، بل انتشر ليؤثر في العالم العربي أيضا. فهل باتت الشعبوية ظاهرة معولمة؟

هناك مقاربتان متناقضتان للظاهرة الشعبوية. الأولى تفيد أن الظاهرة الشعبوية مرتبطة بالعولمة، فساهمت هذه الأخيرة في انتشار الشعبوية في العالم الغربي والعربي على السواء. مع مطلع تسعينيات القرن الماضي برزت الظاهرة العالمية لثورة المعلومات والاتصالات، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة. عُرفت هذه الظاهرة بـالعولمة التي هدفت إلى ترويج وتعميم قيم ومبادئ وسلوكيات عالمية وفق معايير المؤسسة الرأسمالية الغربية التي أبرز أهدافها توحيد سوق الاقتصاد على المستوى العالمي. وعليه تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وغيرها من المؤسسات المرتبطة بالعولمة للسيطرة على الشعوب. ومما سرع في ظاهرة العولمة مؤخرا هذه الثورة الهائلة للتكنولوجيا والعالم الرقمي.

كان من السهل إذاً تأثر الكثير من الشعوب في المجتمعات – خاصة العربية-  المستهلكة لمنتوجات العولمة وأن تسارع إلى تبني الخطاب السياسي الشعبوي المعارض للأنظمة ومؤسسات الدولة. هذا الخطاب السياسي الذي نجح بدرجة امتياز فقط لأنه يخاطب مشاعر الإنسان ويتوجه إلى الطبقات الشعبية بطريقة مبسطة بغية التحريض على النظام القائم والنخبة المسيطرة عليه، خاصة بعد تنامي مشاعر الإحباط في الأوساط الشعبية.

أما المقاربة الثانية لخطاب الشعبوية فتعتبر الشعبوية نقيضا للعولمة. فالبعض يرى أن “ولادة ظاهرة معينة من وجهة نظر فلسفية يخلق بالضرورة نقيضها الرافض لها الذي يكون ضعيفا في البداية إلا أنه يزداد قوة مع الزمن على حساب تراجع دور الظاهرة نفسها، فما نلمسه منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 هو تراجع دور العولمة وبروز نقيضها الذي اصطلح على تسميته الشعبوية” (محمد عاطف جمال، الشعبوية نقيض العولمة، جريدة البيان: 10 فبراير 2017). كأنما هنا هجمة مضادة للنموذج الرأسمالي “العولمة” من التيار الشعبوي نفسه لصالح “الشعبوية”.

جرَّت العولمة على العالم أزمات اقتصادية وإنسانية خاصة منذ الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 مرورا بأحداث الربيع العربي 2011 وصولا إلى الحراك الشعبي 2017. إن وسائل التواصل الاجتماعي كمظهر للعولمة لعبت دورا مهما في تنامي الشعبوية في العالم، إذ أصبح لها فعلها القوي في تحريك الشعوب، كما شهدنا في احتجاجات السترات الصفراء الفرنسية التي قادها ونظمها الحراك الشعبي. غالبا لم يخطر ببال من ساهموا في تأسيس القيم الرأسمالية للسيطرة على العالم، أن العولمة نفسها ستكون هي الأداة الأساسية لانتشار ظواهر سياسية، اجتماعية، ثورية وشعبوية أيضا.

بين تضارب الأفكار عن الشعبوية والعولمة، يبقى الخطاب الشعبوي من أبرز خطابات الساسة والزعماء لكسب رهان القيادة باسم الجماهير والشعب.

أمل بوشارب، روائية جزائرية: المواقع المتبادلة بين الشعبوية والنخبوية

محاولة البحث في هذا المفهوم قد تكون مثيرة للاهتمام في الأدب العربي، إذا نظرنا إليه في السياق العالمي. إذ تتضمن مدونة الأدب الغربي أجناسا سردية تندرج ضمن ما يعرف باسم الأدب الشعبي popular literature وهو الأدب الموجه للعامة، ويهدف إلى الامتاع بالدرجة الأولى وتحقيق أرباح مادية سريعة، في مقابل الأدب النخبوي الذي يتضمن ناحية فنية عالية وهو موجه إلى خاصة الخاصة. إلا أنه وفي الوقت الحالي أصبحت الحدود بين الأدبين في الغرب غير مرئية وغير قابلة للتحديد بشكل قاطع، بسبب حيوية النقد في متابعة النزعات الإبداعية التي تميل إلى كسر القوالب الجاهزة. بالإضافة إلى عامل الزمن الأساسي للبت في مدى فنية أي عمل، ويكفي أن نعلم بأن شكسبير كان في زمنه يعد من كتاب الأدب الشعبي الموجه لإمتاع جمهور المسرح، لكنه مصنف الآن كأديب نخبوي. أما في الأدب العربي إذا ما طبقنا ذات المقاييس، ونظرنا إلى معيار طلب المتعة الموجهة لأكبر عدد من المتلقين، فسيعود بنا الزمن إلى المعلقات (سهلة الحفظ حينها ومنتشرة على نطاق واسع)، وأشعار سوق عكاظ، مقابل الآداب القديمة التي كان لا يصيب خبرها آنذاك سوى نخبة من الرهبان متعددي الألسن. أما قصائد الفخر والتي كان يباهي بها أعظم شعراء العرب بتفوق خصال قبائلهم عن غيرها، فستصنف كأعمال شعبوية بمصطلحات الصوابية السياسية لهذا الزمن.

هذه المقابلة تدل على أن الاعتقاد المطلق بفكرة الثنائيات الضدية والصراعات بين طرفي نقيض لا تفصل بينهما عادة سوى حدود قابلة للتبدل لا تشكل على الأقل أرضية صلبة للبحث.

والحقيقة أننا إذا ما رغبنا بأن نتوسع في فكرة قابلية تغيير المواقع بين النخبوية والشعبوية/الشعبية في الأدب في إطار الجغرافيا والتاريخ، ووقفنا على معيار مدى فنية المادة المقدمة وقدرتها على الإدهاش من الناحية الإبداعية لتحديد معايير الأدب النخبوي، وذلك في مقابل النصوص المتوقعة والتي تكتب بصيغة محددة formulaic، فسنجد أن أغلب ما ينشر في السوق العربية حاليا، ويصنف على أنه نخبوي، هو تماما ما تنطبق عليه معايير الأدب الشعبي في الغرب سنوات السبعينيات. مع اختلاف مسميات الأجناس السردية بسبب الاختلاف في تطور حركية الشعوب، ومثالنا على ذلك أن مدونة الأدب الشعبي في الغرب، لا سيما في الجنس البوليسي، تتسم بطغيان شخصيات نمطية مكررة على غرار شخصية المحقق الذكي والمرأة الفاتنة التي تحاول إغواءه، والتي ينتهي معها عادة في السرير ثم ينجح في نهاية الرواية بحل لغز الجريمة. ومثل ذلك نجد في الأدب العربي المعاصر شخصيات نمطية أخرى مكررة كالمرأة المضطهدة والمثقف المأزوم/ أو العربي المكبوت في حبكة سوداوية ذات نهاية متوقعة عادة ما توظف هي الأخرى الجنس بقوة بوصفه عنصر جذب معروف في الآداب الشعبية في عصرنا الحالي (الجنس يبيع، وهي قاعدة معروفة في التسويق). ومن الطبيعي ألا يشمل الأدب الشعبي عندنا، كما هي الحال في أميركا، أدب الخيال العلمي والبوليسي، وهما جنسان بدأت ملامحهما بالظهور مع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي، وكذا انتشار التعليم وتراجع نسبة الأمية في المجتمعات الغربية. في الحالة العربية قد تضم مدونة الأدب الشعبي حاليا، إلى جانب قصص الحب المستحيلة، روايات الحروب والاضطهاد النسوي، والمثلية، إلى جانب الحبكات الإكزوتيكية، والتي ازدهرت جميعها في العقود الأخيرة مع انتشار الحروب والاستعمار الجديد والاهتمام الغربي بترجمة الآداب التابعة subaltern، بالإضافة إلى انتشار الجوائز الأدبية، إذ يبقى العامل المادي مهما في تحديد مسارات الآداب الشعبية وعنصر الدعاية الذي تضمنه، في مقابل الأدب الرفيع الموجه للنخبة، والذي يفترض أنه يتضمن قدرة إبداعية عالية يتحرر فيها الكاتب من الوصفات المسبقة، وهو موجه للقراءة على نطاق ضيق، كحال روايات الخيال العلمي، والتي يعتبر انتشارها في الغرب في إطار شعبي هو أمر أكثر من طبيعي كما ذكرنا، بينما لدينا فإن كتابتها تكون موجهة لنخبة قراء يبحثون عن متعة فكرية بحتة، ويتهيؤون بالأساس على محمول معرفي يؤهلهم لفهم مصطلحاتها بعيدا عن قاموس نشرات الأخبار المبتذل أو مفردات السرير البيولوجية.

والحقيقة أن اعتماد هذه المقاربة للبحث في الخطاب الشعبوي/النخبوي في الأدب العربي حاليا، قد يساعدنا على فهم حالة النمطية الأسلوبية والموضوعاتية السائدة حاليا في سردياتنا، وحتى في الخطاب الشعري، كما من شأنها أيضا أن تساعدنا على تشخيص حالة إخفاق “النخبة” في قيادة قاطرة التغيير المجتمعي إذا كان ما يقدم هو انتاجات نمطية لا ترقى إلى جوهر الفن بوصفه أداة تعبير ثورية تنفر من القوالب الجاهزة وتسعى إلى التجديد.

سارة كرم، روائية ومدربة كتابة إبداعية مصرية: الأدب بين الذاكرة الشعبية والاستهلاك الشعبوي

بداية، لتجنب الخلط الذي قد تحدثه الكلمة في أذهان بعض القراء، الأدب الشعبوي ليس هو الأدب الشعبي، فهذا شيء وذاك شيء آخر تماما. الأدب الشعبوي هو الأدب الاستهلاكي الذي يتملق غرائز الجماهير، وحاجاتهم النفسية السطحية، ولا يأخذهم إلى الأعمق من ذلك أو يرتقي بعقولهم ووعيهم، هو أدب منوم للوعي وليس موقظا له. ولكن كلمة شعبوي لها معنى آخر لا يحمل هذه السمات السلبية وهو يمكن أن يرادف الجماهيرية أو الأدب الذي يلقى رواجا جماهيريا ويجذب عددا كبيرا من القراء. أما الأدب الشعبي فهو ذاكرة حضارية لروح وتراث الشعوب، ونوع خاص من أنواع الأدب يتميز بمصادره الشفاهية.

إذاً هل على الأدب أن يكون شعبويا؟ هل على الأدب أن يكون نخبويا؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بأكثر من إجابة، ستعكس كل منها حالة مختلفة للأدب. بالنسبة لي فالحالة المثالية: على الأدب أن يكون نخبويا وشعبويا (بالمعنى الإيجابي للكلمة) في الوقت ذاته، أو أن يكون نخبويا فقط.

أما حالة الأدب الشعبوي الخالصة، الأدب الاستهلاكي، فهي التي تشكل انتقاصا من قيمة الأدب.

لتوضيح هذا الأمر أكثر يمكن القول إن هناك أربعة أنواع من الكتاب:

* كاتب كتاباته جيدة، وجاذبة للجماهير (حالة أدب يجمع ما بين النخبوية والشعبوية) أدب جيد، وناجح جماهيريا أيضا، لأنه يمس موضوعات وقضايا مهمة تجذب الجماهير بأسلوب غير معقد. هذا النوع من الأعمال يتمتع بقيمة فنية عالية كما يستطيع جذب الجماهير. يمكن اعتبار أعمال مثل أعمال الروائية التركية أليف شفق، مثالا نموذجيا على هذا النوع من الأدب. وكثير من الأعمال الأدبية التي تعتبر من الخوالد أو الروائع، هي أعمال شعبوية ونخبوية في الوقت ذاته، أعمال مثل روايات تشارلز ديكنز، ودوستويفسكي، ونجيب محفوظ. ويمكن القول إن الاتجاه الواقعي في الأدب يميل لأن يكون نخبويا وشعبويا في الوقت ذاته أكثر من الاتجاهات الأخرى، كالرمزية، والواقعية السحرية، وتيار الوعي، وغيرها من اتجاهات تحتاج لثقافة أكبر لاستيعابها، وهي بذلك أقل شعبوية من الاتجاه الواقعي المألوف.

* كاتب كتاباته جيدة، وغير جاذبة للجماهير (حالة أدب نخبوي) تقرأه نخبة متخصصة أو صفوة من القراء المتمتعين بثقافة عالية وباع طويل في القراءة، أكثر مما تقرأه جماهير غفيرة. نخبوية العمل الأدبي، ربما تعود إلى تعقيد في الأسلوب الفني للعمل، أو تعقيد في المضمون المطروح بحيث يصبح بحاجة إلى ثقافة عالية، أو نوع خاص من الثقافة لاستيعابه، على سبيل المثال ثقافة فلسفية لرواية تطرح فكرة فلسفية معقدة، أو ثقافة عن الأساطير لرواية يقوم مضمونها على توظيف أسطورة قديمة، وربما تعود نخبوية العمل أيضا إلى اللغة نفسها أو الأسلوب اللغوي المستخدم في العمل. هذا الأدب النخبوي مهم، وهو يضيف لتاريخ الأدب وقيمته، ويحتفى به داخل نطاق المتخصصين، ويستفيد منه الأدباء والكتاب الذين يمتلكون ذائقة عالية للقراءة ورغبة في كتابة جيدة ومختلفة.

ما يحضر إلى ذهني الآن كمثال على عمل نخبوي، هو عمل مثل “يولسيس” لجيمس جويس.

* كاتب كتاباته جيدة، وجاذبة للجماهير، لكنه لم يصل لها بعد (حالة أدب يجمع ما بين النخبوية والشعبوية) لكن الكاتب ما زال يشق طريقه.

* كاتب كتاباته غير جيدة، وجاذبة للجماهير (حالة أدب استهلاكي شعبوي) وهذا النوع من الأدب منتشر في السوق، ويتهافت عليه كثير من الشباب والمراهقين، وبعض المبتدئين في عالم القراءة فليس كل المبتدئين في القراءة يتجهون إلى كتابات استهلاكية. أدب الاستهلاك الشعبي السريع، ضئيل القيمة الفنية وقد يكون مهترئا تماما على المستوى الفني، كما أنه ضئيل في قيمة مضمونه، ولهذا لا يصمد مع الزمن.

ما الذي بوسعنا فعله؟ لا شيء! فالأدب الاستهلاكي سيستمر في الوجود، والأدب الجيد أيضا سواء كان نخبويا أو مزيجا ما بين الاثنين ستظل قافلته تسير. ربما أفضل ما يمكن فعله إزاء مواجهة الرداءة بالفعل، هو تجاهلها، وربما حتى عدم توجيه النقد لها، حتى لا نساعد في نشرها أكثر. وبدلا من ذلك توجيه الاهتمام والنقد إلى الأعمال الجيدة.

——————

(6)

نتابع في “ضفة ثالثة” ملفا حول الشعبوية سياسياً وثقافياً، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظرياً وعملياً، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيداً على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

هنا الجزء السادس من هذا الملف:

معين الطاهر، كاتب وباحث فلسطيني: بين الشعبي والشعبوي

ربما تنحو هذه المداخلة منحًى مختلفاً عمّا كتبه الزملاء الأفاضل، على أهميته، فهي تبتعد عن محاولة التأطير النظري لمفهوم الشعبوية، وتقترب أكثر من تطبيقاته على المستوى العملي، وتلمّس تأثيراته، إيجابية كانت أم سلبية، وإلى أي مدى يمكن رسم حدّ فاصل بينهما، باستخدام نماذج عدة من السياسة والتاريخ.

بداية، يعتقد كاتب المقالة أن ثمة حاجة للتمييز بين مفهومي الشعبية والشعبوية في استخدامهما الواقعي؛ فالشعبوية، من وجهة نظر الكاتب، هي ذلك الانقياد الجارف الذي يستحيل واقعاً يصعب نقده أو مقاومته أو تطويره، ويقف حائلاً في وجه أي تغيير، مستنداً إلى ما حققه في الماضي على الأغلب الأعم. أما الشعبية، فهي مدى اكتساب الفرد أو الفكرة أو التنظيم قبولاً عاماً، وهي ضرورة لازمة لنجاح تلك الأفكار وأدواتها، ومن دونها تنعزل النخب، وتقيم في أبراج عاجية، وتفقد بذلك حتى قدرتها على الإبداع التي تُستمد من الإحساس بالواقع ذاته، والتعايش معه وفيه. كما تفقد الديمقراطية معناها، وتذوي التنظيمات وتموت. وهي شعبية يمكن ضبطها بضوابط تحول بينها وبين تحوّلها إلى شعبوية، وإن كانت هذه وصفة غير مضمونة دائماً، خصوصاً إذا تسلّط الفرد والأيديولوجيا على المجتمع

كم من تنظيم أطلق على نفسه اسم “حزب الشعب”، حتى وإن كان في تكوينه الفكري يمثّل طبقة منه، مثل الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي استبدل اسمه من حزب للطبقة العاملة إلى حزب للشعب! وهو ما قمنا به نحن، مجموعة من الشباب ذوي الميول اليسارية المنتمين إلى حركة “فتح”، في السبعينيات، حين أطلقنا على أنفسنا اسم “خط الشعب” أو “خط الجماهير”. وبعيداً عن النوايا الطيبة التي اجتاحتنا بضرورة تمثّل أماني الشعب ومطالبه وعاداته وتقاليده وأهدافه، فإن مختلف تلك المسمّيات هي تعبير عن حاجة أي تنظيم أو تيار للشعبية كي يزعم أن له صفة تمثيلية تؤهله للقيادة والتوجيه.

من المفترض ضبط هذه الشعبية عبر أدوات مختلفة حتى لا تتحوّل إلى شعبوية، ومن هذه الأدوات اللوائح الداخلية، والحياة الديمقراطية، والانتخابات وتداول السلطة، والقبول بوجود أقلية، واحترام رأيها وحقها في أن تتحوّل إلى أكثرية.

تنمو الشعبوية وتتكاثر في ظل نظام الحزب الواحد، أو سيطرة العسكر على مقاليد البلاد، أو هيمنة عقيدة أو أيديولوجيا بعينها. هنا، يُختزل الشعب بالحزب الذي يُختزل بدوره بالقائد وأفكاره الملهمة، وتُرتهن العقيدة لأيدي ممثّليها، ويصبح نقد برامجهم نقداً للعقيدة ذاتها، وكفراً وتجديفاً. كما يصبح نقد الأيديولوجيا انحرافاً عن الطريق القويم، وخيانة كبرى.

تاريخنا القديم والمعاصر حافل بالأمثلة على ذلك كله؛ تحوّلت شعبية جمال عبد الناصر إلى شعبوية لا مثيل لها، حتى استحال في حياته إمكان نقده أو معارضته، بما في ذلك من قبل أقرانه الحكّام العرب، دون أن يُقدموا على مخاطرة تتعلّق بشعبيتهم هم؛ هُزم في حزيران/ يونيو 1967، ولم يتحمل مسؤولية الهزيمة، ولم يكن غيره ليجرؤ على قبول مشروع روجرز في عام 1970. شكّلت شعبويته حماية لمشروعه الوطني، لكنها في الوقت ذاته شكّلت خطراً على تقدّم المشروع واستمراره.

كان ياسر عرفات نموذجاً آخر للزعامة الوطنية التي اكتسبت شعبوية جارفة؛ أطلق ثورة مسلحة، رافعاً شعار تحرير فلسطين كلها بالكفاح المسلح، ثم قدّم أكبر تنازل تاريخي حول الحقوق الفلسطينية في اتفاق أوسلو، ليعود وينقضّ عليه لدى محاولته إشعال الانتفاضة الثانية.

كلا المثالين السابقين يقودان إلى نتيجة واحدة؛ من الصعب أن تصنع إلهاً وتعارضه، فمشيئة الآلهة مقدسة، وإذا أردت أن تعصيه فلا مناص من أن تخرج من جنته. مهم وضروري أن يكون للقائد كاريزما وشعبية، لكن تحوّلها إلى نمط من الشعبوية يؤذن بمخاطر جمّة، تقود حتماً إلى انهيار الأفكار التي وُلد من رحمها.

ما ينطبق على شعبوية الأفراد ينطبق تماماً على الأفكار والجماعات؛ ماذا لو تناولنا ذلك الشعار الذي راج في صفوف الحركات الإسلامية “الإسلام هو الحل”، كيف يمكن نقضه أو معارضته دون أن يبدو ذلك معارضة للإسلام ذاته؟ طبعاً من الممكن تقديم أي برامج عملية تستند إلى مرجعيات إسلامية أو غيرها، ولكن باعتبارها برامج يقدّمها بشر يصيبون ويخطئون، وهي برامج قابلة للصواب كما هي قابلة للخطأ، ونقدها هو نقد للعاملين عليها. إن هذا النمط من الشعارات الشعبوية التي لديها قدرة عجيبة على حشد الجمهور، دون أن تقدّم له برامج واضحة، يعيق النقد، ويلغي العقل، ويمنع التطور والتقدّم.

على أن ثمة مفهوماً آخر أكثر خطورة، على ما أعتقد، وهو ما يمكن أن يوصف باسم “الشعبوية السلفية”، بمعنى تلك الشعبوية التي تستند، في أفكارها وتعبئتها وحشدها، إلى الماضي، ولعل ذلك يتمثّل في مثالين اثنين؛ أولهما الحركات الدينية التي تعتبر أن ما اجترحه السلف الصالح يشكّل برنامجاً للحاضر. وثانيهما، نراه في حركة “فتح” التي ما زالت في الانتخابات النقابية التي تخوضها تتجاهل بالمطلق واقعها الحالي تحت الاحتلال، والاتفاقات التي عقدتها مع العدو الصهيوني، وسياسات التنسيق الأمني، لتذكّر الجمهور الناخب بأنها كانت أول الرصاص وأول الحجارة، وتطالبه بأن ينتخبها على هذا الأساس، لتعيش الحاضر المؤسف على وقع ماضٍ مزدهر.

أنطوان شلحت، كاتب فلسطيني: الشعبوية في إسرائيل حالياً.. الحاجة إلى “قائد الشعب

تتحدّد النزعة الشعبوية في إسرائيل في الوقت الحالي أكثر من أي شيء آخر في ترويج المقولة التي اعتُمدت عنواناً لهذا الملف- “نحن الشعب، فمن أنتم؟”. وهي تشهد تبنيّاً مُطلقاً من جانب رئيس الحكومة الحالية وزعيم اليمين وحزب الليكود الحاكم بنيامين نتنياهو، وتفاقمت إثر الكشف عن تورطه أخيراً في عدة شبهات فساد.

والحقيقة أن الشعبوية في إسرائيل سبقت نتنياهو واتسم بها رؤساء حكومة سابقون، لكنه قد يكون استلهمها أو ورثها عن الزعيم التاريخي لحزب الليكود مناحيم بيغن. ويعتقد كثيرون أن هذا الأخير ألقى عشية انتخابات الكنيست عام 1981 أحد الخطابات الأكثر شعبوية في تاريخ دولة الاحتلال. وقد خاطب فيه جماهير المحتشدين في تجمع انتخابي نظمه حزب الليكود في قلب تل أبيب، وحدّد خلاله لهجة ما يعرف باسم “الخطاب الطائفي” منذ ذاك اليوم وحتى يومنا هذا. وقبل الخطاب بيوم واحد، وفي سياق اجتماع انتخابي نظمه حزب “المعراخ” (سلف حزب العمل وخلف حزب مباي) في المكان نفسه، كان أحد الفنانين المشهورين أقام فصلاً طائفياً بين المهاجرين من أبناء الطوائف الشرقية حين مايز بين “الرعاع” من “قلعة زئيف” (مقر حزب الليكود)، الذين وصفهم بأنهم “حراس (يحرسون مداخل القواعد العسكرية ومعسكرات الجيش)، إنْ كانوا يخدمون في الجيش أصلاً” وبين “الجنود وقادة الوحدات القتالية ووحدات النخبة” الذين يمثلون ناخبي المعراخ. وجيّر بيغن هذا وجعله لائحة اتهام ضد “المعراخ” الذي ينتهج سياسة الفصل والإقصاء على أساس طائفي، بينما في الواقع “أشقاء نحن كلنا، كلنا يهود، كلنا متساوون!”، وأضاف أن الأمر يبلغ حدّ “الكفر”ـ “أن يجري المسّ بكرامة سبط كامل في إسرائيل، مثلما فعل المعراخ في هذا المكان”.

وفي مقالة بعنوان “نحن الشعب (أنتم لا!) ـ شعبوية احتوائية وشعبوية إقصائية في إسرائيل”، نشرت عام 2010، اعتبر الباحث داني فيلك، من قسم السياسة والحكم في كلية العلوم الإنسانية في جامعة بئر السبع، أن خطاب بيغن ذاك لم يكن مجرد خطاب شعبوي آخر، وإنما كان خطاباً مؤسِّساً تجسدت فيه دلالات كثيرة عن فكرة الشعبوية الإسرائيلية. فأولاً وقبل أي شيء آخر، كما يقول فيلك، أبرز بيغن فكرة “كلنا” في السياق السياسي، التي “لا ترمز إلى الأمّة بأكملها فحسب، بل أيضاً يشير إليها بكونها وحدة ذات مميزات إثنية فريدة” ويجزم بأن من ينتمي إلى “كلنا” هذه فهو متساوٍ مع الجميع. وبذلك أراد بيغن تفكيك خرافة حركة العمل بشأن الطلائعيين المحاربين الذين قدموا من أوروبا إلى أرض قاحلة فأحيوها، واستبدالها بأسطورة اليهودي المحارب الذي يضحي بحياته من أجل “الأمة” كلها ـ تضحية متساوية يبذلها الأشكنازي (الغربي) والسفارادي (الشرقي)، وكلاهما يهوديان في الجوهر ـ وهو فعل ذلك بنجاح فائق من خلال تجنيده الجمهور الواسع لمحاربة نُخب حزب “مباي” القديمة.

وتشكل إسرائيل أرضية مريحة وخصبة لنشوء حركات شعبوية، على خلفية الصراع المستمر القائم فيها دونما حل، في مسألة إقصاء مجموعات اجتماعية مختلفة أو احتوائها. وهذا الوضع يخدم الشعبوية جيداً، إذ تستخدمه في بناء وتشكيل هوية المجموعة، ثم تصويرها وكأنها تتعرض للتهديد أو الإقصاء من مراكز القوة السياسية، نتيجة ممارسة نخبة ما تمنع المجموعة من تحقيق ذاتها ـ تحقيق كان قائماً في الماضي، ظاهرياً، وبالإمكان أن يعود ليتحقق من جديد، إلا إذا جرى إحباط ذلك بفعل أعداء خارجيين. والتهديد الذي تتعرض له “الأمة” و”كلنا” قد يكون من الداخل أيضاً، من طرف “خونة” يتعاونون مع الأعداء، أو حين يضع الأفراد مصالحهم الذاتية قبل المصلحة العامة. وهكذا تطالب الشعبوية كل فرد، فعلياً، بالتضحية بنفسه من أجل “كلنا”. وبذا، فإن الشعبوية هي تجسيد للأيديولوجيا التي تنزع إلى إبراز خصوصية المجموعة قياساً بالمجموعات الأخرى، إضافة إلى أسبقية المجموع على الفرد. ومن هنا مصدر المطلب المطلق بالتضامن التام والكامل مع من يعبر عن روح المجموعة ويقودها إلى هدفها.

وباختصار يمكن القول إن بيغن دعا إلى تصفية نُخبة حزب “مباي” القديمة واستبدالها بـ”سلطة الشعب”. ومن المُلاحظ أن نتنياهو أعلن فور عودته إلى سدة الحكم عام 2009 “الحرب على النُخب”، واتهم الناطقون بلسانه بيغن بأن دعوته السالفة بقيت أشبه بصرخة في واد ولم تُمارس في الواقع الميداني. ومع أن هؤلاء الناطقين اعتبروا أن بيغن نجح في تحقيق ما أسمي “انقلاب 1977” الذي كان واشياً بهزيمة “اليسار الصهيونيّ” سياسياً وصعود اليمين إلى الحُكم، إلا إنهم في الوقت عينه شدّدوا على أن نجاحه هذا اقتصر على “إعادة ترتيب الأثاث داخل البيت”، لكنه فشل في “نقل البيت كلّه”، وبالتالي كان محدوداً. وترسم تصريحات هؤلاء باستمرار صورة واحدة وحيدة هي عبارة عن أغلبية مستبدة تُعدّ نفسها أقلية مضطهدة في أرضها، وهو ما انعكس ببريق أخاذ مثلاً في شتى مراحل سن “قانون القومية الإسرائيلي” الذي يؤمن بأن هذه الأغلبية هي التي تحتاج إلى دفاع قانوني خاص بها. وفي فترة بيغن، واليوم أيضاً، جرى ويجري اتهام هذه النخب بترويج أيديولوجيات معادية للقومية وبمخاطبة جماعات من خارج المجتمع. وبرأي أصحاب هذا الاتهام أن جمهور الهدف الذي يضعه باحث في الجامعة مثلاً نصب عينيه هو المجتمع الدولي، وليس جيرانه القريبين؛ والمنتج السينمائي يوجّه أفلامه إلى السوق العالمية وليس المحلية؛ ورجل الأعمال يتوجه إلى السوق العالمية ويضع أمواله في “ملاجئ الضريبة” لا في البنوك المحلية. ومن هنا، تحديداً، جاء هذا الفصل والانقسام ما بين “نحن” و “هم” داخل مجتمع دولة الاحتلال.

ولا بُدّ من الإشارة أيضاً إلى أن استبدال تلك النخب كان يهدف إلى خدمة مصالح الاقتصاد العولمي الذي نمت فيه وترعرعت نخبة جديدة استفادت منه. وربما يجري اليوم استبدالها بنخبة تعود إلى الديانة بكونها مصدراً رئيسياً للهوية الإسرائيلية، وهذا موضوع آخر.

تتطلع الشعبوية في إسرائيل عبر نموذجها الحالي، النتنياهوي، إلى إقامة صلة مباشرة بين الشعب بوصفه صاحب السيادة وبين قائده/قيادته من دون واسطة أي مؤسسات مثل السلطتين التشريعية والقضائية، ومثل الأحزاب أو وسائل الإعلام أو منظمات المجتمع المدني وغيرها. وهي تسعى على الصعيد الاقتصادي إلى “اقتصاد الشعب”، مع التشديد على أن الرغبة في تطبيق اقتصاد كهذا تستلزم الحاجة إلى “قائد الشعب”، أي القائد الذي يعبر بصورة شعبوية عن رغبة الشعب وإرادته من خلال الدوس الفظ على أصول وأنظمة الحكم الديمقراطي، التي كانت سائدة من قبل ويجري تصويرها كما لو أنها جزء من النظام القديم الذي يخدم مصالح غريبة ولا يخدم “الأمة” بإخلاص، كما يحدث، بالأساس، في دول تفتقر إلى إرث سياسي عريق، مثلما هي الحال في أوروبا الشرقية مثلاً.

علينا أن نشير أيضاً إلى أن الحركة الصهيونية عرفت على مرّ تاريخها الكثير من الظواهر الشعبوية التي يضيق المجال لذكرها في هذه العجالة، ولا سيما في مجال العلاقة بين الأنا والنحن- الشعب.

جودي الأسمر، كاتبة وإعلامية لبنانية: الشعبوية الفرنسية.. تأويل مضلّل لسياسة ماكرون

حاولت “السترات الصفراء” تقديم عودتها الشاحبة كإرهاص سيشتعل فتيله في “أيلول أسود” لم تفِ به. ما يهمّ أنّه بصرف النظر عن حجم التهويلات، وإن صدقت أو كذبت، أظهر الحراك تجسيداً نوعيّاً لشعبوية لم تشهد الجمهورية الخامسة بضراوتها إلا خلال الحركة الطلابية عام 1968. مادياً فقط، كبّد هذا الحراك خسائر قدّرها وزير المالية الفرنسي برونو لومير ب 0.2 نقطة مئوية من النمو الاقتصادي الفرنسي حتى نهاية الشتاء الماضي، أي ما يصل، حسب “رويترز”، الى 5.7 مليار دولار أميركي.  لكن حراك “السترات الصفراء” أقل تجانساً في التركيبة من سابقاته، وأكثر عنفاً ضدّ الرئيس الى حدّ يدعو لوصفها بأنها شعبوية تبلورت حول ماكرون، قبل أن تكون لصالح إصلاحات اجتماعية قدّم لها الرئيس الفرنسي تنازلات تدريجية لا تبرّر استمرار هذا الشغب الّذي تتضّح بالخلاصة منهجته ضدّ ماكرون نفسه.  

وقد يصحّ القول بأنّ ماكرون يدفع فاتورة حملته الانتخابية النابضة بالرومانسية الثورية، وتسويقه لنفسه في السيرة الذاتية “ثورة” على كونه ضد النظام المسيطر في “ديغاجية” (*) هيمنت على ألسنة الناخبين وخياراتهم، بعدما أزاحت رموز السياسيين التقليديين أمثال ساركوزي وجوبيه وفيون وفالس، ونحّت أحزابهم لصالح “إلى الأمام”. أوحى الرئيس للناخبين المحبطين ببداية خلاص البلاد التي تورّطت بحلول العام 2016 في وهن تخطّى إرادتها، وانسحب على كلّ ميّزات وامتيازات فرنسا التي انزلقت إلى شبه انهيار في تنافسيتها الاقتصادية، وتقلّص في تأثيرها الدبلوماسي، وانكماش لفرنكوفونية ظهرت آنذاك في مؤلفات فرنسية متشائمة بعنوان “المرض الفرنسي”، وكتب أكثر مبيعاً كـ”أوهام غاليّة” و”الانتحار الفرنسي” و”الهوية غير السعيدة” وغيرها، فيما استحدث الاضمحلال (déclinisme) كظاهرة تُدرّس في الجامعات.

إزاء تصحّر معنوي بلغ القعر، رفع ماكرون سقف التوقّعات من الرئيس. فمثلاً، استخدم في أكتوبر 2016 استعارة “جوبيتر” ليسقطها على الرئيس الذي تستحقه البلاد. الرئيس “الجوبيتيري”، حسب الميثولوجيا الرومانية، هو المهيمن على الأرض والسماء وبقية الآلهة، في إشارة لمحاولة استعادة الامتياز الأوروبي الذي انتزعته بروكسل. ثم تناسلت وعوده المتفائلة بتصاريح رصدتها الصحافية الأميركية صوفي بيدير في كتابها حول ماكرون “الثورة الفرنسية”، ضمت بغالبيتها عبارات “مستقبل جديد” و”على أمل أن” ضد ما أسماه بـ”حوانيت مخاوفنا الجماعية”، الذي لن يتغلب عليها الفرنسيون سوى بإيلاء الحكم لمن يصنعه، أي إلى الشعب. وفي سياق سيرته، كتب ماكرون ما يعتبر نبوءة لعهده الذي أفرز شعبوية عمدت لخلط الأوراق في خطابه، وجزّته نحو مساءلة الشعبوية فيه، لا سيما في جانبها الساعي لتأسيس رابط مباشر بين النخبة وشعب يحق له الغضب، إذ قال “ما يغذّي غضب مواطنينا أو رفضهم، هو اقتناعهم بأن السلطة في أيدي قادة ما عادوا يشبهونهم، ولا يفهمونهم، ولا يهتمون بأمرهم، وهذا منبع تعاستنا جميعاً”.

في فرنسا اليوم تأتي الشعبوية بذريعة الآمال الخائبة، وتسوّغ لخيبتها الشغب والعنف والخسائر المادية غير المسؤولة. ولهذه الشعبوية، كما كلّ الشعبويات، خطاب مبهم فضفاض، يتجاهل الرؤى لصالح تأجيج المشاعر بدون التعاطي الجدّيّ مع المشاكل الواقعية. بالمقابل، ميّزت ماكرون تخصصية رؤيته الداخلية والخارجية، فقدّمته نموذجاً يشذّ بالفعل عن السائد- شواذ لولاه لما صار رئيساً. فهل من الوارد، أخيراً، اعتبار خطابه ديماغوجياً؟ ربما، وقد تكون الديماغوجيا وسيلة كل طموح سياسي. لكنّه لا ينحدر الى مستوى شعبوية رصدها الباحث الفرنسي بيار أندريه تاغييف في “تضليل للنفس”.

السترات الصفراء شعبويّة ضلّلت نفسها، وتستمر في سوء إفهام المشروع الرئاسي وفعله ورد فعله. فضلا عن سعيها لإشاعة “التضليل” في فرنسا كمنهج للتعبير عن الذات، يفضي بالمراقبين لسؤال: ماذا يريد هؤلاء؟ منذ رفض الحراك سابقاً دعوة ماكرون للحوار، واستمراره في تخريب المقدرات العامة والخاصة، ينحرف عن المعاناة الحقيقية بمواطنين يجسدون “فرنسات” متضاربة المصالح، للالتفاف حول مطالب ظرفيّة، لا ترتقي لمواجهة ندّية وشرعية مع المنظومة الديمقراطية. ما يجمعها بالديمقراطية هو فقط أن هذه الشعبوية الصفراء مولودها المشوّه.

(*) Dégagisme هو مصطلح سياسي جديد مشتق من فعل dégager نسبة إلى شعار «dégage» أو “إرحل” الذي رفعه تونسيون في كانون الثاني/يناير 2011، واستعمل في بلدان الربيع العربي ودول أوروبية في ما بعد. يقصد به دعوة المحتجين المسؤولين للرحيل عن السلطة دون أن يسعوا إلى الحلول مكانهم، وممارسة الحكم.

سمير الزبن، كاتب وروائي فلسطيني: الشعبوية المؤدبة في السويد

في السويد تستطيع أن تحس في الأشياء دون أن تلمسها مباشرة، إنها تخيم ولا تلامس، بمعنى أن الكثير من الأشياء لا تحدث بطرق مباشرة، إنما بطرق غير مباشرة، والثانية أخطر من الأولى. هذا ما نلمسه بتعامل السويدي مع مشكلة اللاجئين التي باتت المشكلة الطاغية على كل المشاكل الأخرى منذ موجة الهجرة الكبيرة في العام 2015.

السويدي المنتظم المؤيد للحزب العنصري، واضح في موقفه من اللاجئين، هو لا يريدهم، لأنهم لا يمكن أن يكونوا جزءا من المجتمع السويدي والثقافة السويدية، وهذا الموقف لا يتعلق باللاجئين المسلمين فقط، بوصف «فوبيا الإسلام» مرضاً منتشراً على أوسع نطاق في أوروبا، بل بكل القادمين من خارج السويد. ومن المفارقات أن الحزب العنصري في السويد، حاز تأييداً بين قدامى اللاجئين بنسب مرتفعة، وقد تم طرد اثنين من النواب في البرلمان السويدي لحزب اليسار (نائبة من أصول كردية عراقية) ولحزب «مدراتنا» (نائب من أصول إيرانية)، على خلفية التشهير ونشر الأكاذيب حول اللاجئين، وهذا النوع من اللاجئين موجود بكثرة في السويد، ويمكن اعتبارهم هؤلاء «لاجئين كارهين لأنفسهم»، بمعنى أنهم معادون لثقافتهم، وللبشر الذين تنتمون إلى ثقافتهم السابقة.

الشعبوية التي تخترق كل الطيف السياسي والاجتماعي في السويد قصة أخرى، قصة تقوم على تبني أقصى الشعبوية في صيغة تبدو محترمة، يُفترض أن احترام الآخر هي واحدة من أبرز القيم في المجتمع السويدي، لذلك تبدو الشعبوية مؤدبة في هذا البلد، لكنها تقوم بدورها بفعالية. ماذا يقول الخطاب الشعبوي المتخفي وراء الاحترام. يقول إن على السويد أن تساعد اللاجئين، وهذا موقف إنساني من آلامهم، (لكن) وما يتبع هذه الـ(لكن) يلغي ما قبلها. عندما يبقى اللاجئ بلا عمل، فهم يستفيد من التأمينات الاجتماعية، عند ذلك يقول الشعبوي المؤدب، يأتي اللاجئ إلى السويد كي يعيش على الضرائب التي أدفعها من راتبي (الضرائب في السويد من أعلى النسب في العالم) بدل أن تذهب إلى تحسين موازنات المدارس والطرقات وغيرها. وعندما يجد اللاجئ عملاً، وغالباً ما يكون من الأعمال الهامشية ومنخفضة الدخل، هذا أيضاً لا يعجب الشعبوي المؤدب الذي يعود للـ(لكن) ويقول، هذا يعني أن اللاجئ ينافسني على عملي، إنه يسلبني عملي، أنا المواطن في السويد.

لا تقف المسألة على البطالة أو العمل، فهناك مطالبات لا تنتهي من اللاجئين أن يندمجوا في المجتمع السويدي، والاندماج يعني أن طرفين بحاجة الاندماج، اللاجئ والمجتمع السويدي، نجد الشعبوي المؤدب، يقول، أن اللاجئين لا يريدون الاندماج في المجتمع السويدي، في الوقت الذي لا يجد اللاجئ من يتكلم معه من السويديين، لأن السويديين نادراً ما يتحدثون مع بعضهم، وهم ذاتهم بحاجة إلى الاندماج مع بعضهم البعض. وهذا ما يجعل الشعبوي المؤدب، يتهم اللاجئ بأنه لا يريد الاندماج في المجتمع السويدي ويريد أن يستمر في العيش كما كان يعيش في بلده الأصلي، لذلك عندما يرى الشعبوي المؤدب تصرفاً من لاجئ يبدو غريباً بالنسبة له، مباشرة يحتج، أن هذا ليس «موديلا سويدياً» للسلوك. ولا أعرف كيف لشخص جاء متكوناً على السويد في الثلاثينات أو الأربعينات أو الخمسينات من عمره أن يتحول إلى «موديل سويدي»، طبعا، هذا لا يعني أن اللاجئين نوع من الملائكة، إطلاقاً، وهم أيضاً لهم مشاكلهم مع المجتمع الجديد القادمين إليه، يحاولون التمسك بهويتهم في مواجهة المجتمع الجديد الذين يشعرون تجاهه بالنقص أو بالضعف، فيحاولون فعلاً أن يبنوا مجتمعات مغلقة في مواجهة المجتمع السويدي المغلق أصلاً في وجههم، ولكن عندما يتمسكون بهويتهم، يتمسكون بأردأ ما في الهوية، التدين الشعبوي في أسوأ صوره الشكلية.

في كثير من الأحيان يخفي الاحترام السويدي غطرسة تجاه اللاجئين، كما يخفي النقاش حول اللاجئين الكثير من القضايا السويدية التي سعدت جميع الأحزاب بتكنيسها تحت مشكلة اللاجئين. رغم كل هذه المشكلات، هذا لا يغير أن السويد ما زالت من أقل الدول عنصرية، حتى مقارنة بجارتها الدنمارك.

خليل أبو سلمى، كاتب وناشط سياسي فلسطيني: مستقبل فرنسا على محك الشعوبية

على الرغم من هزيمة الأحزاب الشعبوية إلا أن هزيمتها لا تعني أبداً أن شمسها قد غربت من الحياة السياسية والاجتماعية في فرنسا. فوز ماكرون العام 2017 لم يكن، في الحقيقة، خياراً كاملاً للفرنسيين، ما ساعده على الفوز هو ذلك الرعب الذي اجتاح المجتمع الفرنسي بجانبه الليبرالي بسبب تقدم حزب لوبان الشعبوي، حيث شارفت، في مرحلة معينة، على اكتساح الشارع الفرنسي، ما يشكّل تهديداً حقيقياً لمكانة فرنسا وللسلم الأهلي في هذا البلد الرائد في مجال الحريات وحقوق الإنسان.

شعر معظم الفرنسيين أن القيم التي حافظت على مجتمعهم غدت قريبة من مهب رياح الشعبوية اليمينية في حال فوز لوبان، وهذا ما دفعهم إلى انتخاب ماكرون (الأقل شعبوية)، إلا أن الفوز لم يكن سهل المنال بالنسبة لماكرون، ولا يعني هزيمة الشعبوية المنكرة على الإطلاق. الجدير بالذكر أن مؤيدي لوبان أكثرهم من فقراء الفرنسيين، وهم الشريحة الأوسع في المجتمع الفرنسي، على عكس ماكرون القادم من النخبة الاقتصادية ومن أجلها، والمدعوم أوروبياً.

في خطابها بعد هزيمتها طالبت لوبان أنصارها بـ”الاستعداد للمعركة الحاسمة القادمة”. هذه المعركة، التي قد تحسمها لوبان فعلاً، إذا لم يسارع ماكرون إلى إجراء إصلاحات اقتصادية جريئة وحقيقية ترضي الشعب الفرنسي، وتدفع عنه حالة الإحباط بسبب سياساته الاقتصادية القاصرة عن حل حقيقي لأية أزمة من الأزمات الكثيرة التي تعيشها فرنسا، وإلى الآن ما زال ماكرون أميناً للنخبة التي دعمته للوصول إلى قصر الإليزيه، ولا أدري إذا كان بإمكانه أن يختار مستقبل فرنسا على حساب هذه النخبة؟

دعونا نوضح هذا الخوف من المستقبل من خلال الأرقام، فلوبان حصلت على سبعة ملايين صوت في جولة الانتخابات الأولى، واستطاعت أن ترفعها إلى عشرة ملايين بفارق ثلاثة ملايين صوت أضافتها في الجولة الثانية، ونستطيع أن نقول بكثير من الثقة إن أكثر من 90% من هذه الأصوات هي أصوات صافية، بمعنى أن أصحابها يختارون لوبان رئيساً لفرنسا لأنهم يؤيدونها، على خلاف الأصوات التي فاز بها خصمها ماكرون فهي في نسبة كبيرة منها أصوات اضطرارية ليست صافية، و قد تصل نسبة 50% من أصحابها ممن انتخبوه خوفاً من لوبان وليس رغبة بحكمه، هو أهون الشرور، ومنهم أنصار الأحزاب التقليدية التي ظهر أنها لا حظ لها في الفوز، وهؤلاء يتفقون مع ماكرون على مبدأ واحد فقط: ضد لوبان.

أما عدد المصوتين لصالح ماكرون فقد بلغ 20 مليوناً و703 آلاف و694 ناخباً، مقابل 10 ملايين و637 ألفاً و120 ناخباً لصالح منافسته لوبان، هذا الفارق بعدد الأصوات أظنه قد خسره بسبب سياساته التي لم ترقَ إلى أدنى متطلبات الشارع الفرنسي. أضف إلى ذلك أن نسبة العزوف عن الانتخابات بلغت 25.38% (نحو اثني عشر مليون صوت) أضف إليها ثلاثة ملايين بطاقة بيضاء، ثم أضف مليوناً وسبعين ألفاً وهو عدد الأصوات الملغاة، ليصبح لدينا 16 مليون وسبعون ألف ناخب لم يقولوا كلمتهم، وهؤلاء يراقبون برسم المستقبل.

الأمر إذاً ليس كما يبدو من خلال الأرقام، وخسارتها لا تعني خسارة الشعبوية، هي خسرت الانتخابات لكنها لم تخسر شارعها، مقابل ماكرون الذي ربح الانتخابات ولكنه خسر الشارع، لا سيما وأن الجانب الاقتصادي هو الذي لعب الدور الأساسي في حسم أمر الناخبين في النهاية. بتعبير آخر، فإن قسماً كبيراً من الذين لم ينتخبوها لم يفعلوا ذلك لأنها لم تقدم برنامجاً متكاملاً يقدم الحلول لمشكلات فرنسا الكبيرة وأزماتها المستعصية، في حين هم يؤيدون برنامجها السياسي.

حتى ماكرون ذاته، فإن الكثير من المحللين الفرنسيين يصفونه بأنه شعبوي مستنير ليبرالي عولمي على خلاف شعبوية لوبان القومية العنصرية، ولكن شعبويته المستنيرة هذه ستنجب مشكلات جديدة، و البعض رأى أنه لم يكن لِيَهزمَ شعبوية لوبان لو لم يكن شعبوياً مثلها، فهو منذ البداية غادر حزبه الاشتراكي  ليؤسس حركته الشعبية الخاصة به “الجمهورية إلى الأمام”، التي يمكننا- كما سبق- وصفها بالشعبوية المستنيرة، و من خلالها ربما استطاع أن يهرب- بغير قصد- من الرقابة والمحاسبة الحزبية، ويتهمه الكثيرون خاصة في سياسته مع مطالبات حركة السترات الصفراء بأنه تعامل بعنجهية الزعيم و ليس بحكمة الرئيس.

ومن هنا نذكر أن حركة السترات الصفراء لم تقف عند مطالباتها بإصلاحات اقتصادية تنصف الفقراء، بل تجاوزتها إلى مطالبات بتوسيع التمثيل الشعبي في حكم فرنسا، وهذا دليل على شعور الفرنسيين بأن من يدعون تمثيل الشعب الفرنسي لا يمثلونه على وجه الواقع والحقيقة.

مما يؤكد ما نذهب إليه أن لوبان عادت وحصلت على المركز الأول في الانتخابات الأوروبية التي وصفها ماكرون بأنها (حاسمة لمستقبل أوروبا) فقد تصدر حزب “التجمع الوطني” الشعبوي الذي تقوده ماري لوبان نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا بنسبة 24%، بينما حصلت حركة “الجمهورية إلى الأمام” التي يتزعمها الرئيس ماكرون على نسبة أقل من 23% من الأصوات، وهذه النتائج بالغة الدلالة على مسار الأمور القادم الذي ينذر بأن خطر الشعبوية قادم لا محالة.

رونق فيصل الصميدعي، كاتبة وناشطة عراقية: الشعبوية عراقيا في غياب التعددية

بات تداول مصطلح “الشعبوية” مألوفاً، إذ أصبح واقعاً ملموساً. ولا تقوم الشعبوية على الانتماء لحزب أو عقيدة معينة ورغم تعدد دلالاته تقوم عموما على تمثيل الطبقات الشعبية بطريقة مغايرة لمبادئ الديمقراطية.

وصفها جان مولر في كتابه “ما الشعبوية؟” بأنها معادية للنخبة، تنفي التعددية بالرغم من كون الشعب نفسه متعدداً، فلذلك تصبح نقيضاً للديمقراطية. واقترح مولر في هذا السياق مفهوم الديمقراطية الناقصة ورفض تشبيهها بالديكتاتورية في الدول الأوروبية التي اقتصر تحليله عليها. فما هي حال الشعبوية في الدول التي تنعدم فيها الديمقراطية أو تكاد؟

في ظل انعدام العدالة الاجتماعية والتجارب الديمقراطية تعثرت الشعوب العربية في تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي فتحول ما كان من المفترض أن يكون ربيعا عربيا خريفا عربيا وحلقة مفرغة من العنف والفوضى. فساد الخطاب الشعبوي المعتمد على إثارة الحماس والوعود وتوظيف الغضب الشعبي والشحن العاطفي الديني والطائفي والبعيد عن المنطق وإعمال الفكر. خطاب كهذا تتلقفه الجماهير التي تخدعها سهولة الوعود الشعبوية والحلول المؤقتة أو السطحية على حساب الحلول الحقيقية للأزمات والمسائل المعقدة، التي تتوارى خلف عدم احترام عقول الجماهير.

للشعبوية في العراق تاريخ طويل امتد على مدى أكثر من ستة عقود، تجذرت خلالها الشعبوية سياسيا وعشائريا ودينيا طائفيا، تحت حكم العسكريين والبعثيين العراقيين. وعبر توظيف الشعبوية القومية تمكن صدام حسين من السيطرة على زمام الأمور، ووضع حداً للانقلابات العسكرية. واستثمر وسائل الخطاب الشعبوي في تهييج الجماهير، واستنفار العاطفة الجمعية لسوْق الناس الى الحروب، والتصفيق للنهج الاستبدادي، والحفاظ على مزاجٍ عام يخضع لإرادة الفرد، وأرسى بنية تحتية عسكرية للبلاد ليخوض مغامرات عسكرية غير محسوبة سنوات عديدة استنزف معها اقتصاد العراق وموارده البشرية، قبل أن يطاح به على يد الاحتلال الأميركي في أبريل 2003.

اليوم تستمر الشعبوية نشطة في عراق ما بعد صدام حسين، باستمرار الاستقطابات السياسية والاجتماعية، وعدم توافر مؤسسات حكومية ورسمية قوية وناضجة، والخلل الذي تعانيه في أدائها الحكومي والمجتمعي، الذي يترافق مع تنامي التذمر الشعبي حيال قضايا لا زالت تتطلب حلولا نحو: ضعف الخدمات، والصراعات المسلحة، والتمييز الاجتماعي، وضعف سلطة القانون.

تقف الشعبوية والتعددية على طرفي نقيض. فالأولى تستند إلى نهج أحادي في نظرتها إلى السياسة والمجتمع، وهي لا تنسجم مع أطروحة التعددية ضمن الأنظمة الديمقراطية، التي تؤمن بأن التنوع في المجتمعات والحياة السياسية يعتبر مصدر قوة فيها، وأن التوصل إلى تفاهمات وتسويات بين أقطاب القوة والتأثير المختلفة في الوضع الاجتماعي والسياسي في البلد يعد أمراً أساسياً وحيوياً وطبيعياً. خصوصاً أن الساحة السياسية الصحية ينبغي أن تشجع وجود مثل هذا التنوع، حيث تمنع التعددية من تركز السلطة بيد أشخاص أو مجموعات بعينها، طائفية كانت أو حزبية أو عرقية أو غيرها، وبالشكل الذي يمنع تلك المجموعات من فرض إرادتها على الغير. عراق اليوم لا يزال يفتقر إلى التعددية الحقيقية المستمدة أولا من الإيمان بها كقيمة عليا. هناك أمل، فالتغير يبقى سنة كونية وحدها ثابتة لا تتغير، لكن أيضا “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

——————————-

(7/7)

منسجماً مع أهدافه الثقافية، ورسالته الأخلاقية، تحمس موقع “ضفة ثالثة”، الذي بات اليوم موقعاً ثقافياً عربياً رائداً، والقائمون عليه، لاحتضان ملف يتناول الشعبوية، هذه الإشكالية الراهنة في تفاعلها مع العولمة في عصر ما بعد الحداثة، الذي تشعبنت فيه العولمة وتعولمت فيه الشعبوية.

تفاجأنا بحجم الاستجابة والاهتمام اللذين قوبلت بهما دعوتنا من جانب عدد غفير من الزملاء الكتاب والباحثين العرب، ليخرج هدفنا عن حدود ملف بـ حلقات معينة إلى ما يشبه ورشة عمل موسّعة تناولت الشعبوية طولاً وعرضاً، نظرياً وعملياً، وحفرت في زواياها المختلفة، والتي نزعم أن كثيراً منها كان حتى اليوم ينتمي إلى حيّز ما هو غير مفكر به عربياً. لذا نأمل أن يكون هذا الجهد المشترك لجميع المساهمين في هذه الورشة/ الملف (مشكورين) قد شكّل مرجعاً بحثياً يضاف إلى رفوف المكتبة العربية الرقمية. نشكركم جميعاً، ونشكر قرّاء الموقع الذين تفاعلوا مع جهود المشاركين في سعيهم سؤالاً، وإشكالاً، للإحاطة بالإشكالية المركزية (الظاهرة الشعبوية)، وساهموا في إغناء الحوار، مما عكس حاجة القراء إلى الإحاطة الوافية بالظاهرة الشعبوية التي باتت تسيطر على المجتمعات في كل مكان، خطاباً وممارسة، والذي يشعرنا بأن تلك الجهود لم تكن عابرة.

يركز الجزء السابع والأخير من هذا الملف على الشعبوية الثقافية، فينبه عبد الرزاق المصباحي إلى وسائط الثقافة ودورها في تنميط الخطابين الشعبوي والنخبوي. أما عبد الله البياري فيحفر بعمق وتفرد في سوسيولوجيا “الحدّ” ممارسة وتداولاً، معلناً إمكانية تأمل سياسات الحدود والمكان والعمران الشعبوي كتمثيل مكاني/مادي لعلاقة القوى على مستوى اللغة والمكان والإدراك، وعليه فإن تفكيك تلك المكانية/الجسدية/العمرانية هو شكل أساسي من أشكال مقاومة الشعبوية. أما محمد جميل خضر (نبارك له صدور روايته الجديدة “نهاوند”) فيعالج إشكالية العلاقة بين الشعبوي والنخبوي من خلال أبي الفنون (المسرح)، الذي ظل ينوس بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة، مستشهداً بتشريح عدد من النماذج التطبيقية.

عبد الرزاق المصباحي، ناقد ثقافي مغربي: الشعبوية مفهوماً ثقافياً

يُوظّف توصيف “الشعبوي/ الشعبوية” بشكل سلبي في الأغلب، فالمعني به متهم ببناء خطاب موجه إلى عامة الشعب بغية تحقيق مآرب سياسية أو أيديولوجية معينة، والحقيقة أن هذا الحد خاضع للثنائية الشهيرة (النخبوي/ الشعبي)، التي بموجبها يتم الإعلاء من النخبوي، الذي يؤسس خطابا مبنيا على مرجعيات نظرية؛ في مقابل الشعبوي الذي يوجه خطابه نحو العاطفة، وخاصة منها الدينية والطائفية والجندرية.

وإننا إذا تأملنا هذه الثنائية من منظور الدراسات الثقافية، سنجد أن مؤسسات النخبة هي التي تبني المفهوم السلبي للشعبي والشعبوي، وإلا فإن جون فيسك، الناقد الثقافي البريطاني، يؤكد أنه “لا دليل على أن ما هو شعبي يدعم الهيمنة”، إذا ما قارناه بالنخبة سواء كانت ثقافية أم سياسية التي لها حساباتها وتوازناتها التي تحرص عليها، ولو استدعى الأمر أن تدعم السلطوية أو تغض الطرف عنها.

فلقد شاع مفهوم “الشعبي” في الثقافة اللاتينية، كما يؤكد دوغلاس كالنر، ليدل على كل ما تنتجه الطبقات الهامشية، قصد مواجهة ثقافة المركز ومنجزها المؤسسي، لذلك ظل مفهوم الشعبي في هذه الثقافة مناهضا للسيطرة والتحكم. وفي الثمانينيات، وبفضل منجز الدراسات الثقافية، صارت الثقافة الشعبية موضوعا للدرس النقدي.

لكن كالنر ينبه إلى خطورة الاحتفاء غير النقدي بكل ما يصدر عن الثقافة الشعبية، فليس بالضرورة أن يكون طليعيا ويناهض التحكم والسيطرة ومعبرا عن التنوع الهوياتي، بل قد يكون في خدمة التجبّر.

وإذا أمكننا في وقت سابق أن نميز بين خطاب النخبوي وخطاب الشعبوي، فإنه بعد الطفرة التكنولوجية وظهور وسائط التواصل الاجتماعي، صار من الصعب أن نميز بين الخطابين، ذلك أنهما صارا يبنيان خطابا بالمواصفات عينها تقريبا، فقد استطاعت هذه الوسائط أن تنمّط الخطابين، وتجعلهما خاضعين لمنطقها.

وهذا النوع من التنميط يسميه الناقد الأميركي دوغلاس كالنر وسائط الثقافة، أي أننا لم نعد إزاء ثنائية (نخبوي/ شعبي)، وإنما أمام مفهوم تقني له إشتراطاته التي يخضع لها كل من يقبلها، ويوقع بالموافقة عليها. ولعل المضمر الأخطر في هذه الإشتراطات ما يمنحه لمستعمليه من سلطة مكذوبة، وقدرة على تدمير الآخرين.

وتمثيلا لهذه السلطة المكذوبة التي يتساوى فيها النخبوي والشعبوي، أنه حدث في الشهور الأخيرة أن أعلنت إحدى الجامعات المغربية خبرا عن مناقشة أطروحة دكتوراه في موضوع “منهجية الحوار في تدبير قضايا الخلاف في ضوء القرآن الكريم إبراهيم عليه السلام والحسن الثاني”، فإذا بتدوينات كثيرة في الفيسبوك من قبل المحسوبين على النخبة من كتاب ونقاد وشعراء و(باحثين)، إضافة إلى رواد من مختلف المشارب تسفه العمل، وتتحسر على واقع البحث العلمي، وتسب الباحث وتتهمه بمحاباة السلطة والتملق للملك الراحل.

كل تلك الأحكام القاطعة والنهائية صدرت دون حضور المناقشة، ودون الاطلاع على المنهجية البحثية التي اتبعها الباحث، ودون معرفة النتائج التي توصل إليها. ما يعني أن النخبة، هنا، خاضعة لمنطق وسائط الثقافة التي تفرض أن تساير الأحكام الجماهيرية، وتغذيها، ولا تخالفها، وإن كانت تفتقد إلى المنطق العلمي السليم التي تدعي امتلاكه.

ومن ثم فالشعبوية التي تنتقدها النخبة صارت سلوكا شائعا في خطابها، إلا من استثناءات قليلة؛ لكونها صارت تعلم أن تحقيق بعض المكاسب سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يفترض أن تتماهى مع إشتراطات وسائط الثقافة، وتستعيد الخطاب الجماهيري بغض النظر عن علميته أو واقعيته أو مساهمته في تطوير النقاش العمومي والحياة العامة.

محمد جميل خضر، روائي وإعلامي أردني: بندول الفن المسرحي يتأرجح بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة

ينأى (أبو الفنون) بنفسه بعيداً عن الشعبوية بمعناها السطحيّ الركيك.

وفي حين يفرض مصطلح “الشعبوية” مفاهيم جديدة على صعيد المشهد السياسي العالمي، ويتعمّق ارتباطه هذه الأيام بالعنصرية ودعوات المطالبة بنقاء عرقٍ ما مترفعاً عن باقي أعراق الأرض، فإن (شعبوية) المسرح ظلّت منذ إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيديس وأريستوفانيس وغيرهم، تنشد مخاطبة الجمهور، وصولاً لتحقيق جماهيرية كبرى، حتى لو تطلب الأمر تبسيط مفردات هذا الفن والتخلي عن بعض عناصره التأسيسية مثل الأقنعة والنصوص الشعرية والإضاءة الإخراجية واستخدام السينوغرافيا المرافقة والرقص التعبيري النخبوي وما إلى ذلك.

وكلما دغدغ عملٌ مسرحيٌّ مشاعر الجماهير ولعب على أوتار عواطفهم سواء السياسية أو الغرائزية، كلما قلنا بعقل مطمئن: إن هذا المسرح هو مسرح شعبويّ.

وكلما انحاز عمل مسرحي لجماليات الفن المسرحي وتقنياته الحديثة من بصريات ومؤثرات وموسيقى، وعبّر عن خطابه التطهريّ الإنسانيّ الراقيّ، وخاض بمعرفية وجدانية فلسفية ناضجة في مسائل الخير والشر والعدل والشك واليقين والألم والأمل، كلما قلنا مسنودين بِحُجَّةٍ دامغةٍ: إن هذه المسرح هو مسرح نخبويّ.

وبما أن الوجدان الجمعيّ عند أمة من الأمم، ليس ثابتاً متحجراً كل الوقت وعلى مرّ الأزمان، وبما أن شعبوية المسرح الروماني، على سبيل المثال، تجلّت بما يمكن أن ينسكب من دماء فوق منصة العرض أمام مدرجات تغص بالمستمتعين بالصراع الدمويّ القائم، في حين قد تتحقق شعبوية أخرى بما يمكن أن يلعبه نوع مسرحي من (تنفيس) جماهيري موجّه سياسياً (مسرح دريد لحّام نموذجاً)، وبما يمكن أن يبثه مسرح آخر من عبثية أمام فداحة الواقع المعاش، فيكْرجُ في أعمال من هذا النوع الشتم والازدراء ومعاينة عيوب الواقع وأنظمة الحكم دون أن تقدم هكذا عروض حلولاً ممكنة لما يرزح تحته جمهور عروضهم من أثقال ومآسٍ، فإن الحديث عن شعبوية واحدة هو تغميس خارج الصحن، وبالتالي فإن البحث عن سمات لها تخرج عن نطاق النقد العلمي الرصين.

وكون الفن غير معنيٍّ بتقديم إجابات، كما يرى كثير من الباحثين والمعنيين والمتخصصين، فإن نوع المعاينة المقترحة وذكاءها وحيويتها وجمالياتها، يمكن أن يلعب دوراً في إنضاج لحظة تغيير ما، ويرفع مجسّات التلقي لدى جمهرة النظارة.

عربياً أيضاً فإن (شعبوية) من نوع ما سادت بعد ربيع الثورات العربية، وهي الشعبوية التي تعبّر عن لسان حال السلطات الحاكمة في بلاد العُرْبِ أوطاني من شيطنة لكل إسلام سياسيّ، بغض النظر عن أن ليس جميعه على مذهب واحد. في هذا الإطار قدمت عشرات الأعمال الموجّهة المعبّرة عن أجندات بعينها، دون إجراء أي تغذية راجعة حول ما حققته هذه الأعمال، وهل تسنى لها زيادة الواقفين على شباك تذاكر المسرح (باستثناء تونس وإلى حد ما المغرب والعراق ومصر، فإن معظم الأعمال المسرحية العربية هي عروض في إطار مهرجانات مسرحية تعرض بالمجّان مع قليل جداً من العروض تقدم خارج إطار هذه التظاهرات. فالفن المسرحي العربي هو على وجه العموم، فن نخبويّ يتابعه عدد قليل من المعنيين بالمناسبة أو منظمي الفعالية).

في إطار تعريفه للمسرح الشعبوي، يرى المخرج والأكاديمي الأردني د. محمد خير الرفاعي أنه فن الجماهير، طارحاً في سياق متصل سؤالاً جوهرياً: هل نحن مع الشعب أم مع الفكرة؟ الشعبوية هنا بحسب الرفاعي هي تلمس فكرة موجودة داخل وجدان الناس وتغذيتها مسرحياً “اللعب على وترها، تصعيد دوافعها داخل هذا الوجدان، تكريس وثوقيتها وما إلى ذلك”.

وكما يرى كثيرون غيره، يؤكد الرفاعي أن مسرح دريد لحام هو في إطار المشهد المسرحي العربي، نوع من المسرح التنفيسي السياسي الذي يتبع نظاماً معيناً ويحقق أجنداته، فبرأيه لو كان غير ذلك لما مُنح كل هذه السقوف العالية، مستشهداً بما آلت أحوال رفيقيه في مشواره المسرحي (الشاعر والكاتب محمد الماغوط والفنان نهاد قلعي)، ويعزّز رأيه هذا بالموقف (المستهجن) الذي وقفه دريد لحام ضد ثورة شعبه، مديناً لها ومتخندقاً في صف (نظام البراميل المتفجرة).

من جهته، يرى المخرج والممثل المسرحي الأردني زيد خليل مصطفى، أن المشكلة ليست بالإنتاج المسرحي بل بالتلقي الجماهيري، ذاهباً إلى أن النزعة الاستهلاكية التي تسود محلياً منذ سبعينيات القرن الماضي، انسحبت بأمراضها ومظاهرها على الفن المسرحي. مصطفى رفض النظر إلى المسرح اليومي الذي شاع فترة من الزمن، بوصفه مسرح (كباريه سياسي)، رائياً أن هذا النوع الذي أطلقه النمساوي/ الألماني/ الأميركي ماكس راينهارد (1873-1943) لا يشبه بما حققه من محاكاة للناس وقدرة على تلمس أهوائهم ونزعاتهم ويومياتهم، ما يُقدَّم بين الفينة والأخرى في إطار المسمى نفسه ولكن بدسم منزوع محلياً وعربياً.

“المسرح المعلّب، المقولب، غير الأصيل والمُنْبَتُّ عن محيطه، لا يمكنه أن يصنع فارقاً ولا أن يكون لا شعبوياً ولا نخبوياً”، يقول مصطفى، متأمّلاً في سياق آخر تجربة برتولت بريشت أو بريخت (1898-1956) الذي انصهرت يساريّته واشتراكيته مع موجة عارمة من المد اليساري العالمي، فإذا بأعماله تحقق شعبوية من الطراز المضاد لشعبوية اليمين المتطرف. وإذا بها من منظور آخر نخبوية المحتوى والمستوى والخطاب.

المسرح المحكوم بميزانيات حكومات تنظم مهرجاناته وتفرض أجنداته، لا يمكنه، برأيي، أن يحقق أي شعبوية غير تلك التي يريدها من (يدفع للزمار) فأليس هو كما يقول المثل من (يحدد النغمة)؟

في أفق مغاير يتحرك المسرح الأوروبي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم، وبما أتيح له من حرية تعبير وبعد مدينيٍّ ديمقراطيٍّ حقيقي، في مسار مضاد (تماماً) للشعبوية العنصرية التي يعبّر عنها أوضح تعبير هذا الصعود المقلق لليمين المتطرف في غير دولة أوروبية، ويشكّل ترامب صدمته الجارفة الجارحة.

فإذا بمسرح ما بعد الكولونيالية وإذا بأساليب الإخراج ما بعد الكولونيالي ورؤاه تتخذ، بحسب الباحث د. محمد كريم الساعدي: “من مناهضة الخطاب الثقافي الغربي ذات الامتدادات الكولونيالية في تمييز الحضارة الغربية عن الحضارات الأخرى موضوعاً لها”. في ظلال هذه المرجعية الأخلاقية الرفيعة، نشأ تيار مسرحي أوروبي وأميركي “معارض للواقعية والطبيعية التي أغرقت المسرح بتفاصيل الحياة اليومية والتصوير الفوتوغرافي للأحداث، دون ردة فعل تجاه ما يحدث من قتل وحروب اجتاحت أوروبا والعالم، لذلك جاء المسرح السياسي الذي عمل على توعية الجماهير، لا سيما الطبقة العاملة تجاه الرأسمالية واستغلالها للإنسان وسيطرتها على الأمم”.

الأمثلة في هذا الإطار لا تعد ولا تحصى: مسرحية “راسبوتين” للمخرج الألماني آرفن بسكاتور (1893 – 1966)، مسرح الجنوب الحر في أميركا، مسرحيات الغضب الزنجية، حركة المسرح الحي التي أسسها جوديت مالينا وجوليان بك بعد حرب فيتنام، مسرحية “أسرار وقطع أخرى صغيرة”، التي لم تعتمد على نص مكتوب بل على الارتجال، محتوية على عدد من الإيحاءات ضد حروب أميركا، ومنها الموت الجماعي وانتقاد الرأسمالية من خلال أغنية كلماتها العبارات المكتوبة على الدولار الأميركي، ومن خلال هتافات توضح المشكلة التي يعيشها المجتمع الأميركي في ظل سياسات إمبريالية تسعى إلى إخضاع العالم.

العروض المسرحية ما بعد الكولونيالية لم تتوقف عند حرب فيتنام بل شملت احتلال العراق عام 2003 وما تبعه من أحداث في سجون الاحتلال الأميركي، ومعاملة العراقيين وفق النظرة الكولونيالية القديمة، حيث قدّم المخرج الأميركي أندريا مادوكس ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، مسرحية “ما الذي أعرفه عن الحرب” للكاتبة مارجولي شيرمان. العرض يكشف بشاعة الخطاب الكولونيالي الأميركي وصورته المتعالية واستهزاءه بالآخر العربي (العراق)، حيث حاول المخرج من خلال العرض أن ينتقد الحرب الأميركية على الشعب العراقي وتجردها من الإنسانية في معاملتها لهذا الشعب، وفكرة المسرحية تدور حول معاناة امرأة أميركية فقدت زوجها في الحرب، وطفل أميركي فقد أباه فيها. وتناول العمل من جانب آخر معاناة العراقيين وأطفالهم من خلال تعرضهم للإهانات والضرب، ومعاناة امرأة عراقية مسنّة لمجرد تمسكها بحقها. كما تعرض المسرحية صوراً من سجن (أبو غريب) والتعذيب الذي حدث فيه وانتهاك حقوق الإنسان على يد الجنود الأميركيين.

الفرنسي جان بول سارتر ومعظم أعماله المسرحية، مسرح العبث واللامعقول، صموئيل بيكيت “في انتظار غودو” وغيرها، مسرحيات يوجين أونيل، مسرحيات جان جانيه، مسرحيات بيتر فايس، أعمال جوناثان هولمز وجون دكستر وغيرهم، وغيرهم، أمثلة حيّة وناصعة على هذا التضاد بين شعبويتين تدعي كل واحدة منهما أنها صوت الشعب وضمير الناس.

من الأعمال المضادة بقوة وعمق للشعبوية العنصرية، مسرحية “شك: أمثولة Doubt: A Parable”، للكاتب والمخرج المسرحي الأميركي المعاصر جون باتريك شانليJohn Patrick Shanley.

فالمسرحية التي عرضت آخر مرّة قبل عامين (2017)، على مسرح سازاك Southwark Playhouse، تجسد صرخة مضيئة متوارية خلف دهاليز الشك، رافضة الوثوقيات الكاذبة، بدءاً من تلك التي أكدت للشعب البريطاني أن الخروج من الاتحاد الأوروبي في صالحه، مستندة إلى حفنة من الأكاذيب؛ وصولاً إلى تلك التي يرددها علينا دونالد ترامب صباح مساء، وهو يدّعي أنه سيعيد عظمة أميركا المتدهورة من جديد. وأنه “الشعب والشعب أنا فمن أنتم”.

مخاطر الشعبوية المرتدية قفازات الرجل الأبيض ألقت بظلالها على مختلف أوجه الحياة الأوروبية، خصوصاً مع تدفق آلاف الهاربين من الموت في بلادهم من سورية والعراق وليبيا واليمن وبلاد عربية وآسيوية وأفريقية أخرى، نحو حواضر أوروبية وغربية أساسية مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإنكلترا وهولندا والنمسا والنرويج وكندا وأستراليا وغيرها. وهي المخاطر التي جعلت العنوان الرئيسي لمهرجان أفينيون المسرحي (لعله إلى جانب مهرجان أدنبرة، من أهم التظاهرات المسرحية العالمية)، هو: “شبح الشعبوية الأوروبية مُخَيِّماً”.

هاجسٌ عبّرت عنه بأمانة وفنية عالية مسرحية “أرشيتكتور” من تأليف وإخراج الفرنسي باسكال رامبير (أحد أكثر المسرحيين الفرنسيين الأحياء انتشاراً في العالم)، التي افتتحت الدورة الثالثة والسبعين لمهرجان أفينيون (أقيم ما بين 4 و23 حزيران (يوليو) 2019)، حاملة في طياتها بعض الفرح أيضاً، إذ شارك فيها نجوم من أوساط المسرح الفرنسي من إيمانويل بيار إلى جاك فيبير مروراً بدوني بوداليديس وأودري بوني.

تروي المسرحية التي عرضت في باحة الشرف في قصر الباباوات الذي شهد ولادة المهرجان المسرحي في العام 1947، بأسلوب لا مواربة فيه، قصة عائلة فنانين وفلاسفة ومؤلفين موسيقيين ممزقة في صورة مجازية عن أوروبا المريضة.

تحت عنوان: “المسرح الشعبوي يجب أن يؤخذ على محمل الجد”، يقول الكاتب الإنكليزي مارتن ساندبو في مقال نشرته له “فايننشال تايمز”: “لا خلاف على أن الاشتباك بين الشعبوية والعالمية هو حركة مسرحية، لكنه مسرحٌ غرائبيٌّ يعبّر عن الواقع”.

بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة، ما تزال الدقات الثلاث لأبي الفنون تشكّل الإلهام الفذ لمن يحلمون بمنصّة كبرى تجري فوقها محاكمة كبرى للشر والشيطان وأعداء الإنسانية والحياة. وما يزال سعد الله ونّوس يهتف: “إننا محكومون بالأمل”.

عبد الله البياري، باحث وأكاديمي فلسطيني: تفكيك معمارية الشعبوية بين المكان والجسد واللغة (1)

فيما الشعبوية عموماً هي نزعة سياسية تقوم على تقديس “الشعب”، فإن الشعب كمقولة سياسية لا يمكن تحديدها بنفس درجة الحسم التي تدعيها الشعبوية (القداسة بنية خطابية وإدراكية عامودية حاسمة)، ما يدفع تلك الديناميات الخطابية والأدائية إلى إنتاج أشكال مختلفة من الترسيمات لفكرة ومقولة، والأهم، مكان “الشعب”، لضبط – بالمنطق الفوكوي- تلك المفارقة. فنجد، مثلاً، شعار حملة ترامب الانتخابية: “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى! فلنبنِ أسواراً”؛ ويقصد أسواراً تفصل بين الشعب كذات جوهرانية عظيمة، وآخر غريب (ليس) عظيماً، من دون التأمل التاريخي ولا السياسي في بنية الشعب، كمقولة، ولا الآخر كمقولة يفترض أن تكون مقابلة. ومن هنا يمكن تأمل سياسات الحدود والمكان والعمران الشعبوي كتمثيل مكاني/مادي لعلاقة القوى على مستوى اللغة والمكان والإدراك، وعليه فإن تفكيك تلك المكانية/الجسدية/العمرانية هو شكل أساسي من أشكال مقاومة الشعبوية.

يضيء لنا مارتن هايدغر بقوله: “ليس الحدّ ما يتوقف عنده شيءٌ ما، الحدُّ كما أدرك الإغريق ما يبدأ شيءٌ ما حضوره”، وحضور خطاب الشعبوية يبدأ من الحدّ، أي أنّ الشعب (في الشعبوية) يبدأ من الحدّ، وليس في الحدّ، لتصبح مقولة الحدّ الفلسفية والأدائية وحتى المكانية أساساً في تكوين مقولة “الشعب”، على اختلاف تنويعاتها (ترامب نموذجاً).

وإذ ثمة قرابة مطموسة بين المكان والأبجدية؛ فإن سياسات المكان/ العمارة الشعبوية لا تنحصر بين الشعار (السياسي) كلغة، والحدّ – السور- كمكان (لغوي)، بل تمتد إلى خارج تلك المعادلة لترسم شكلاً إدراكياً للذات والآخر، والمكان الذي يجمعهما، ولو أضداداً، وتستند بالأساس على فكرة الحد (2)، وما تستبطنه من فلسفة التعريف بالسلب (3). ولأن “كل ما يحدث لنا؛ يحدث في لغتنا” (هايدغر، ثانيةً!)، لعل تأمل المكان/ العمارة من خلال اللغة هو المدخل المناسب لتأمل المشاهد المكانية للشعبوية حولنا، وكيف نستجيب لها ونتحرك في نصِّها، ونقاومه.

يقول والتر أونغ في كتابه عن “الشفاهية والكتابية” أنَّ “اختراع الطباعة جسَّد العالم في مكان”. والكتابة “كسلسلةٍ من الإشارات الصغيرة تسير في خطٍّ منتظمٍ كجيوش النمل، عبر صفحاتٍ وصفحاتٍ من الورق الأبيض”، وهي بالتالي “موضعةٌ محددةٌ لفكرةٍ مجردةٍ”. هكذا هي الحال بالنسبة للمكان، لذا فاللغة تنتج مكانها أيضاً، وشعار ترامب الشعبوي كذلك فعل!

يصبح السؤال الأساس حينها: هل يمكن مفاوضة تلك الأشكال اللغوية/ المكانيّة/ المعماريّة للشعبوية، وصولاً إلى تفكيكها متعالين عن ثنائية الذات والآخر الحادة التي انبنت عليها؟

بنى ترامب سوراً على حدود بلاده مع المكسيك، ومنذ أسابيع بدأت مجموعة فنية/ معمارية شكلاً من أشكال التفاوض اللغوي مع مفهوم الحدّ المكاني (السور)، باعتباره فاصلاً لغوياً/مكانياً بين الذات والآخر الذي تنبني عليه أدبيات الخطاب الشعبوي، بأن جعلوا على السور أراجيح للأطفال (يُنظر صورة 1)، ما استدعى تدخّل حرس الحدود ليحمي منظومة اللغة والمكان، و/ أو الذات والآخر، لكن ما الذي قد تفعله القوة أمام كل هذا المجاز(؟)، وهذا التساؤل هو ثقيل بنفس القدر في الجهة المقابلة من السور/الحد/المجاز(!).

خلق هذا الشكل من التفاوض الأدائي مع بنية الحدّ اللغوية/ المكانية (السور) توتراً في مفهوم الحدّ الفاصل في الخطاب بين مكانين، وبالتالي في شكل الإدراك للعلاقة بين الذات والآخر، بما يخلق شكلاً من أشكال القوة البسيطة للعبة الأطفال تلك، لا تستطيع أن تمحوه قوى الطمس (الجيش) (يُنظر صورة 2).

والعبقري في الأمر، أن تفكيك ذلك الحدّ اللغوي كأداة شعبوية لم يأت من خارجه، كأن يُكسر الحدّ، أو أن يُخترق، فيقع فاعل ذلك في تجريم قانوني (لعبة لغوية أخرى)، إنما من داخل السور/ اللغة/ الحدّ.

الحركية التي أدتها لعبة الأرجوحة بالنسبة لهذا الحدّ (الحدود المكسيكية) هو شكل أدائي من تداول فكرة الحد الفاصل بين طرفين. ونعني أنها تحركت من داخل الحد، وإليه، فهي لم تخل بمنظومة الثنائيّات، الأنا الأميركي، والآخر المكسيكي، فلا يزال كل على “أناه”، لكن خارج الحد، إنما على الأرجوحة، فكلاهما آخره وأناه معاً. بحيث أنها هدمت وغيرت شكل الحدّ ومفهومه العلاقاتي بين الاثنين، بأن مثلت شكلاً مرآوياً يجمع الأنا والآخر الطفلين، في شكل إدراكي أكبر من مفهوم الدولة القانوني في تعريف كلٍ منهما أمام الآخر، فكلاهما طفل، وكلاهما يلعب، وكلهما أنا وآخر.

الأرجوحة هي حركية تقع داخل الحد، باعتباره فضاءً بينياً منفصلاً عن الاثنين معاً، يقوم بذاته بقدر ما يقوم بخلق التعريف السلبي لكل طرفٍ من الطرفين، خارجه.

أنموذج آخر يخلق شكلاً تفاوضياً لغوياً ومكانياً مع عمارة المكان المديني، والتي تتقاطع مع فكرة الشعبوية في أنها قائمة عضوياً على فكرة الفصل بين شيئين/ كيانين جوهرانيين؛ وهما الداخل والخارج، أو العام والخاص، وموضعتهما تقابلياً. فقد قدم الفنان ومصمم الرقصات النمساوي، ويلي دورنر (1959-)، عمله الفني “أجساد في فضاءات حضرية”، مستغلاً الفراغات المدينية البينية في أكثر من مئة مدينة قُدم فيها هذا العمل.

يقوم العمل الفني في أساسه على مشاهد متعددة، تقع داخل الفضاء المديني، مستخدمة الجسد كعلامة سيميائية على العام والخاص والحركة بينهم؛ دون أن يتمرأى الجسد السيميائي بأحدهما. فمثلاً “تملأ” مساحات/ فضاءات/ فراغات مدينية بأجساد بشرية (يُنظر صورة 3)، وفيه يمتلك الجسد المكان ويحرره من تصنيف اللغة وحدودها؛ وتصنيفها القانوني. ومشهد آخر من خلال خلق تداخل بين العام والخاص مستخدماً الأجساد البشرية (يُنظر صورة 4)، أو خلق شكل مادي بالجسد في الفضاء

العام (يُنظر صورة 5) بما يخلخل ثنائيات العام والخاص، أو الداخل والخارج، أو حتى الأعلى والأسفل، وغيرهم، مستخدماً الجسد في حالته الرخوة. وهي نفس الثنائيات التي تقوم عليها خطابية الشعبوية لتقمع الجسد؛ قتلاً أو منعاً أو وسماً، كما تفعل الأنظمة، حين تحظر التجول، أو تغلق الفضاءات المدينية.

يضيء العمل الأخير على أحد أهم أدوات الأنظمة العربية في امتلاك الفضاء العام وعسكرته (النظامان السوري والمصري كنماذج فجة). فيصبح الميدان/المكان فضاءً لغوياً/مجازياً حين تريد الدولة استلاب معناه لصالحها، بأن تطالب “الشعب” (مقولة غير معرفة أيضاً) بتفويض النظام لفعل شيءٍ ما، والذي عادة ما يكون عسكرة فضاء مديني عام، وتحويله إلى ساحة حرب، بادعاء “المحافظة على عموميته”، كما حدث مع ميدان رابعة العدوية، في القاهرة، في العام 2013.

في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها القاهرة، وبعيداً عن الجدل عن محركها الإعلامي ومن أين يأتي (ونعني المقاول محمد علي)، وتأويل كل ذلك، لا شك أن ثمة ذكاء ما في أن تخرج الجموع إلى الأرصفة وتحت البيوت لتعلن موقفها الرافض من النظام، وكيف أن دمج الثنائيات التي هي عمومية الفضاء العام وخصوصية المنازل والأرصفة والتقسيم الحضري، لعبت لعبتها في خلق زخمٍ ما للحراك والتجمع، بات أذكى من فكرة تحرير الفضاءات والميادين العامة من السلطة، وهي الفكرة التي رفدت الحراك الثوري العربي في بداياته 2011.

لعل الرؤية عربياً لهذه المشاهدات في تحوّلات المكان واللغة الشعبوية تدفعنا إلى النظر في أمر ثوراتنا التي لم تخب جمرتها بعد، والتي بدأت بأن احتلت أجساد الشعوب – المادية واللغوية – فضاءاتٍ عامة (الميادين كأمكنة، والسياسة كلغة)، وأعادتها للشعب، ثم ما لبثت قوى الدولة العميقة، مستقوية بأنظمة رجعية إقليمية عربية، أن انقضّت عليها لتفرغ تلك الفضاءات العامة من الأجساد والمعاني، مستخدمة في ذلك كل أعتدتها الحربية، والخطابية.

هل يمكن لنا كجيل يصارع في بلادنا تلك الأشكال الشعبوية والرجعية والعسكرية كلها، أن يخلق شكلاً تفاوضياً جدلياً مع واقعنا وهوسه بالحدود والأجساد، يكسر ثنائياته الحادة المفروضة عليها (مقاومة – ممانعة، إخوان – عسكر، علماني – إسلامي، وغيرها) ويخلق من داخلها صوتاً ثالثاً متعالياً، وديناميكياً، قادراً على خلق واقع جديد، يمتلك هو معناه وحقّ الخيال فيه، وليس جسده فحسب؟

أظننا قادرين/قادرات.

هوامش:

(1) هذه المادة هي إضاءة من بحث غير منشور بعد لكاتب هذا المقال عن موضوعة سوسيولوجيا الحدّ كممارسة وتداول، مقدّم للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية.

(2)  يجب أن نؤكد أن الحد كفكرة إدراكية وفلسفية لها انعكاساتها وتمثلاتها في الواقع والمتخيل، هي أكبر من تنميطها وحصرها في نموذج الشعبوية؛ فالحد فكرة مستبطنة في بنية اللغة مثلاً، ومفهوم الذات والآخر، والأشكال المختلفة للإدراك، وغير ذلك. وإن تناولها هنا ينحصر في غرض التركيز على حركية الخطاب الشعبوي وديناميات بناء المكان، وليس القصد تناول مفهوم الحد بشكله الأوسع من مفهوم الشعبوية.

(3)  التعريف بالسلب، يُقصد به تعريف الذات بما يغيب عنها مما يعرف الآخر، كقولنا مثلاً: “فلان يميني إذاً أنا يساري”.

ضفة ثالثة

———————————–

============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى