إليزابيث سوزان كسّاب: يوجد تنويريّون يحكون عن الديمقراطية لكن يخافون منها
تستضيف “رمان” في هذا الحوار الباحثة الأكاديمية اللبنانية الدكتورة إليزابيث سوزان كسّاب، للحديث معها حول كتابها «تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية» الصادر عن سلسلة “ترجمان” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، في الدوحة عام 2020، بترجمة حققها محمود محمد الحرثاني العربية لكتاب، Enlightenment in the Eve of Revolution: The Egyptian and Syrian Debates، الذي صدر في عام ٢٠١٩ عن “دار جامعة كولومبيا” في نيويورك. كما تطرقنا في حديثنا معها لعدد من قضايا الفكر العربي المعاصر، ومشاريعها البحثية المستقبلية.
كتابك الأخير «تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية»، ما الذي دفعك إلى تأليفه؟ ولماذا جاء إصداره الأول باللغة الإنكليزية عام 2019، ومن ثم صدرت نسخته العربية بترجمة للأستاذ محمود محمد الحرثاني العام الماضي؟
يقع اهتمامي بنقاشات التنوير ضمن اهتمامي الأوسع بالفكر العربي المعاصر الذي أتابعه منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وكنت قد عملت طوال عقد من الزمن على موضوع النقد الثقافي في هذا الفكر، وبصورة خاصَّة في مسألة “الأزمة الحضارية”، وفي قضايا الفكر الديني والعلماني والإيديولوجي، وذلك في أعقاب هزيمة حزيران/ يونيو ١٩٦٧. وصدرت نتيجة أبحاثي في كتابي:
Contemporary Arab Thought. Cultural Critique in Comparative Perspective (Columbia University Press, 2010).
وقد صدرت النسخة العربية تحت عنوان، «الفكر العربي المعاصر. دراسة في النقد الثقافي المقارن» (مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠١٢). وفي هذا الكتاب كنت قد وضعت هذه النقاشات العربية في النقد الثقافي في إطار مقارن مع نقاشات أخرى في العالم الثالث ما بعد الاستقلالات في آسيا وإفريقيا وجنوب أميركا.
أظهرت لي دراسة النقاشات العربية تلك محورية مسألة دولة ما بعد الاستقلال والانتقال من التركيز على التحليل الحضاري والثقافي للأزمة المتفاقمة على جميع الصعد كما رآها المفكرون العرب إلى التركيز على التحليل السياسي وفي مقدمتها ظاهرة فشل دولة ما بعد الاستقلال. الشعور العام والمتكرر في كثير من الكتابات والحوارات والمقابلات مع المفكَّرين العرب كان شعور بالعجز أمام ذلك الفشل ومعه شعور باليأس من إمكانية التغيير. فاليأس والغضب المتراكمين كانا واضحين لأي متابع للنقاشات العربية بين عامي ١٩٦٧ و٢٠١٠، ولكن لا شيء أشار في ذلك الحين إلى الانفجار الشعبي الذي كان سيحصل في نهاية عام ٢٠١٠. صدر كتابي في أوائل عام ٢٠١٠ وكان من الطبيعي أن أنكب على متابعة النقاشات الفكرية التي بدأت تواكب الأحداث الجسيمة منذ اندلاع الثورة في تونس. فجاء اهتمامي في نقاشات التنوير التي حصلت عشية الثورات العربية في سياق اهتمامي بالنقاشات الفكرية العربية المعاصرة، قبل وأثناء وبعد الثورات الراهنة.
أكتب كتبي باللغة الإنجليزية بحكم تكويني الأكاديمي، ولكن يهمني جداً ترجمتها إلى اللغة العربية، لأنَّ القارئ/ة الذي/التي أتوجه إليه/ا هو/هي القارئ/ة العربي/ة. وقد وُفَّقت بمترجم ممتاز لكتابي الأخير هو الدكتور محمود محمد الحرثاني.
ما هو الموضوع الرئيسي الذي يعالجه الكتاب؟ وأي نوع من التأثير تودَّين أن يحدثه لدى القارئ الغربي وكذلك العربي؟
الموضوع كما يرد في العنوان هو نقاشات التنوير التي حصلت في مصر وسوريا في العقدين اللذين سبقا الثورات العربية، أي التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثانية. لفتني أنَّه في البلدين قامت نقاشات عن التنوير، لكن لم تكن نقاشات أكاديمية بمعنى دراسات أكاديمية للتنوير الغربي، بل ارتبطت بشكل وثيق بالواقع المعاش -السياسي والاجتماعي والثقافي- في كلا البلدين.
الهدف من الدراسة هو التعريف بهذه النقاشات كونها جزءً من تاريخ فكرنا المعاصر الذي يبقى غير معروفاً بما فيه الكفاية، خاصَّة عند القراء العرب. معرفة هذا التاريخ يشكَّل لنا خلفية فكرية نستطيع الانطلاق منها وتطوير مقوَّماتها بطريقة نقدية من أجل معالجة القضايا التي تواجهنا اليوم.
برأيكِ ما هي أبرز أسباب فشل التنويريين العلمانيين العرب في الدفاع عن الحرَّية والعلمانية في بلدانهم؟ وعلى من تقع مسؤولية هذا الفشل بشكل أساسي؟
أعتقد أنَّهم كانوا في أكثريتهم نخبويين، لا يثقون بإرهاصات التحرَّر عند عامة الناس، يحكون عن الديمقراطية ولكن يخافون منها بسبب غياب تلك الثقة. رهانهم، خاصَّة في مصر، هو على الدولة كالمحرك الأساسي للحداثة والتحديث، دون الالتفات بما فيه الكفاية إلى إساءة ممارسة السلطة من قبل تلك الدولة – أو القبول بتلك الإساءة أو التغاضي عنها بمقابل دورها التحديثي والحداثي، الذي طبعاً فشل إلى حدٍّ بعيد. فاستبداد الدولة والتسامح معه من قبل الكثيرين من المفكَّرين الذين يزعمون أنَّهم تنويريين يحملان جزءاً كبيراً من المسؤولية. أما في سوريا فالاستبداد لم يسمح بقيام دولة من الأساس.
ما الذي ميَّز مسار التنوير السوري منذ سبعينات القرن الماضي وحتى مطالع الألفية الثالثة؟
مقارنة بالوضع في مصر كان هامش حرَّية التعبير في سوريا ضيقاً جداً، بل معدوماً. فالكتابات التنويرية النقدية كانت محدودة وبالتالي أكثر جرأة ولكنها بقيت إلى حدٍّ بعيد خارج نطاق التداول العام. رأى مؤلفوها وظيفتها كشهادة لخراب سياسي واجتماعي واقتصادي دمَّر المجتمع السوري على جميع الأصعدة.
ما هي الأهداف التي وضعتها أمامك وأنت تعملين على هذه الدراسة، وتلك التي لم تتمكَّني من تحقيقها؟
أردتُ أن أكتشف الهواجس والمسائل التي ارتبطت بذهن المشتركين في نقاشات التنوير من خلال قراءة كتاباتهم وشاركت القرَّاء باكتشافاتي، تاركةً لهم حرَّية الحكم على صوابها. كنت وددتُ لو قارنتُ النقاشات التي حلَّلتها بنقاشات أكثر أكاديمية في طابعها لإبراز الاختلافات في المشهد الفكري العربي المعاصر ووجود أوساط فكرية مختلفة فيه. ففي نفس الفترة التي ظهرت نقاشات التنوير التي درستها كان هناك نقاشات أكاديمية ركَّزت على أمور درجت في الأوساط “المدرسية” عند التعاطي بموضوع التنوير ومنها الغرب والتراث والموضوعية، أي الابتعاد عن التسييس والإيديولوجيا. غابت مواضيع الغرب والتراث تماماً في النقاشات التي درستها في كتابي وبرز البعد السياسي لمفهوم التنوير فيها أسميتُه “إنسانوية سياسية” تشدد على المشاركة والمراقبة السياسية للناس كشرط ضروري لإعادة بناء الإنسان والحياة الآدمية في المجتمعات المعنية.
ماذا عن دور المثقَّف العربي منذ بدايات الثورات العربية، خاصَّة أنَّ من أبرز الأسئلة التي أثيرت في سنوات “الربيع العربي” هو غياب المثقَّفين العرب وفشلهم في التنبؤ بهذه التحوَّلات الهائلة. لماذا لم يواجه مثقَّفونا هذا الخراب الذي حلَّ بالمنطقة؟
كما كنت قد أشرت في كتابي السابق عن الفكر العربي المعاصر كان عدد من المفكَّرين العرب قد تخلَّوا عن الوظيفة الطليعية للمثقَّف خلال التسعينيات. فمع انفجار الثورات العربية لم يكونوا يزعمون بالقيام بهذا الدور أصلاً، ولا الناس/الثوار انتظروا منهم ذلك الدور. عدد من المثقَّفين، مفكَّرين وكتَّاب وفنَّانين، عبَّروا عن السخط واليأس والغضب في العقود التي سبقت الثورات والتي عايشوها مثل باقي أفراد مجتمعاتهم، وعبَّروا عنها بأدواتهم الفكريَّة والفنَّية. طبعاً لا أقول، كما أوضح في كتابي الأخير، أنَّ أعمالهم الفكريَّة والفنَّية أدَّت إلى اندلاع الثورات، ولكن أقول إنَّها وجدت صدىً في المطالب الشعبية بالكرامة والحرَّية والعدالة الاجتماعية والمحاسبة والمشاركة السياسية. ولكن لا ينطبق هذا التناغم أو الانسجام على جميع المفكَّرين والكتَّاب والفنَّانين. فهناك منهم من بقي في برجه العاجي و/أو في نخبويته و/أو في خدمة السلطة القائمة.
بتقديركِ، إلى أي مدى ساهمت ثورات الربيع العربي في فعل التغيير في الفكر والثقافة العربية في العقد الأخير؟
أعتقد أنَّه من الصعب تقدير أثر التحوَّلات الجسيمة التي نعيشها على الفكر والثقافة. لا شكَّ أنَّ أثرها سيكون عميقاً وطويل المدى. ما نستطيع أن نجزمه اليوم على المستوى الفكري هو أنَّ الحركات الاحتجاجية أظهرت الهوة بين كثير من الاهتمامات الفكرية التي سيطرت على المشهد الفكري العربي في العقود السابقة من جهة، واهتمامات الناس ومطالبها من جهة أخرى.
هل لكِ أن تقربينا من طبيعة التحوَّلات والمنعطفات التي عرفتها مسيرتكِ البحثية والأكاديمية، منذ بداية عملك الأكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت وحتى يومنا هذا؟
أولاً: اكتشافي للعالم الثالث في مدينة نيويورك بفكره وفنَّه ونضالاته السياسية أثناء تواجدي البحثي فيها بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤. ثانياً: التحاقي بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ عام ٢٠١٦، حيث أُتيح لي العمل مع زميلات وزملاء وطلبة من جميع أنحاء العالم العربي، والتعرَّف من خلالهم على أوضاع بلدانهم ومجتمعاتهم عن كثب.
ما هو الكتاب الذي تعتبرين أنَّه يشكَّل لحظة جديدة ومنعطفًا مفصليًّا في مشروعك الكتابي ومسيرتك الأكاديمية؟
ليس هناك كتاب واحد أثَّر في اتجاه أبحاثي، إنَّما ما لعب دوراً مهماً فيه هو اكتشافي لنقاشات أخرى في العالم الثالث شبيهة بنقاشاتنا من حيث المواضيع والمقاربات كالنقاشات الزنوجية في أفريقيا وأميركا، والنقاشات في جنوب أميركا والهند وجزر الكاريبي والمحيط الهندي: إذ جميعها كان عليها التموضع بالنسبة للحضارة الغربية والتجربة الاستعمارية بشتى أشكالها، ومواجهة قضايا التحرَّر وإثبات الذات والعودة إلى التراث والتعاطي مع الحداثة الآتية على ظهر الاستعمار. وهذا الاكتشاف سمح لي النظر إلى طرح هذه المسائل خارج النطاق العربي المنغلق وفهمه في إطار أوسع يفتح المجال للمقارنة ورؤية نقاط التشابه والاختلاف بين كل هذه السياقات المختلفة في العالم الثالث، وعدم مقاربة المعالجة العربية لهذه القضايا من زاوية “ماهوية” الذات العربية واختلافها “الجذري” عن كل الذوات الأخرى.
ما هو الهدف أو الأهداف التي تسعين إليها ككاتبة من الكتابة كتعبير عن الذات؟
بالنسبة لي هدف أبحاثي وكتاباتي البحثية هي محاولة فهم بعض الظواهر التي تهمني وتهم الكثيرين، مشاركة التساؤلات وطرح فرضيات التفسير. وأيضاً التعريف بالجهود الفكرية العربية خاصَّة لبنات وأبناء المنطقة بالدرجة الأولى.
توثيق تلك الجهود يسمح للمراكمة والاستفادة منها للاستمرار في محاولات الفهم والبناء عليها، وأيضاً تكوين رصيد فكري يمكن أن يشكَّل جزءً من خلفيتنا الراهنة. لقد لقي التاريخ الفكري والثقافي العربي المعاصر اهتماماً متزايداً من قبل الباحثات والباحثين العرب في الآونة الأخيرة، وصدرت دراسات عديدة في هذين الحقلين داخل العالم العربي وخارجه، على أمل أن تدخل هذه الدراسات في البرامج التعليمية المدرسية والجامعية لتصبح ثقافة عامة لعموم العرب “كالهواء والماء” من جهة ومادة دراسية دسمة للباحثات والباحثين العرب وغير العرب.
في الختام؛ ما المشاريع التي تعملين عليها حالياً؟
في الوقت الحاضر أنكب على مشروع بحثي جديد أقارن فيه بين الفكر والفنَّ التشكيلي المعاصرين في التعبير عن الذاتية. بعد العمل على قضية الاستقلال الفلسفي في الفكر العربي المعاصر أودُ أن أرى كيف تعاطى الفنَّانون والفنَّانات العرب المعاصرين مع هذا السعي إلى إنتاج فنَّ ذاتي معاصر. فجميع مجتمعات ما بعد الكولونيالية جاهدت وتجاهد لتكوين فكر وفنَّ ذاتي يميزها من والفكر والفن الغربي المهيمن وأنتجت نقاشات حول تحديات ذلك التكوين. في جميع الحالات ما بدا في البداية بديهياً أظهر مع الوقت تعقيداته: ما هو الذاتي وما هي الذات؟ من يحددهما وعلى أي أساس؟ هل هما معطى طبيعي، تاريخي أم ميتافيزيقي ثابت وأزلي؟ أم هما نتيجة إرادة وتفاوض على ضوء معطيات متبدلة وأهداف قيمية مُتَّفق عليها؟ هل الذاتي مختلف جذرياً عن الآخر ومنقطع عنه؟ ما علاقة الذاتي بالتراث والماضي وما علاقته بالعصر؟ ما هو هذا التراث ومن يحدده؟ وما هي الذات دون حرَّية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية؟ أود أن أرى كيف عالج كل من الفكر والفنَّ العربيين المعاصرين هذه الأسئلة بنقاط الضعف والقوة في كل منهما. وبصورة أدق أريد أن أنظر إلى المعالجات الفكرية من خارج الفكر، من المنظور الفني التشكيلي.
مجلة رمان