صفحات الحوار

محاكمة كوبلنز كفرصة لمسار العدالة السوري

———————————

\في مدينة كوبلنز الألمانية، عند تقاطع نهري الراين وموزيل، في منتصف الطريق بين فرانكفورت وبون، تُعقَد منذ شهر نيسان (أبريل) الماضي جلسات محاكمة ذات أهمية كبرى في سيرورة الصراع في سوريا.

العقيد أنور رسلان، مسؤول التحقيقات السابق في فرع 251 (فرع الخطيب)، أحد مراكز الاعتقال المهمة في دمشق، يواجه عدة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل والتعذيب. وإلى جانبه في قفص الإتهام يقبع زميله السابق في الفرع، إياد الغريب. وقد شهدت المحكمة حتى الآن، كما سبق وأن نشرنا، شهادات مروعّة لشهود مباشرين ومشاركين في الدفن الجماعي لضحايا القتل تحت التعذيب، وأكدت تلك الشهادات أن القتل الممنهج أوسع بدرجات مما سبق توثيقه. إنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها مسؤولون مباشرون عن الجرائم ضد الإنسانية ضمن النظام السوري، ويأمل المحامون المختصون بحقوق الإنسان ألا تكون الأخيرة.

أحد هؤلاء المحامين هو الدكتور باتريك كروكر، الذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والممثل لتسعة من ضحايا الأعمال المنسوبة إلى رسلان والغريب في المحاكمة. في الأول من كانون الأول (ديسمبر)، تحدَّثَ كروكر إلى الجمهورية عبر تطبيق Zoom من كوبلنز إثر انتهاء جلسة المحاكمة لذلك اليوم. أدناه نسخة مكثّفة من المحادثة، تم تحريرها من أجل الوضوح وسهولة القراءة.

دورك الرسمي في إجراءات المحكمة هو «الممثل المشترك للمدّعين الشخصيين». هل بإمكانك أن توضح هذا الدور للقرّاء الذين قد لا يكون لديهم اطلاعٌ كافٍ على معاني المصطلحات القانونية؟ هل تمثل الضحايا دون أن تكون عضواْ في النيابة العامة، ولا في الدفاع؟

هذا صحيح […] بجوار المدعي العام ، هناك «أطراف مدنية» في القضية، [والتي] تعني في الأساس طرفًا آخر في العملية القضائية. […]. من المتعارف عليه أننا ننضمّ للقضية في صفّ الادّعاء، لكننا طرف مستقل بحقوقه، ولذلك لدينا حقوق إجرائية مختلفة.

إن لم يكن دورك هو الادّعاء ولا الدفاع، فما هو إذاً؟ الحصول على أفضل نتيجة للضحايا، مثلاً من حيث التعويضات؟

سؤال جيد. وهذا في الواقع هو مفهوم الطرف المدني في النظام الفرنسي […]. دورنا يعتمد على الموكّلين وما يريدونه، بطبيعة الحال. في بعض الأحيان هناك توافق كبير مع الادعاء. في بعض الأحيان قد يكون هناك اختلاف؛ قد يريد الموكّلون تسليط الضوء على جوانب أخرى مختلفة عمّا يركّز عليه المدّعون العامّون. من الصعب تخيل قضية يكون الطرف المدني فيها قريباً من الدفاع. والسؤال الوحيد هو إلى أي مدى أنت كطرف مدني قريب من الإدّعاء، وأود أن أقول إننا، في أحيان كثيرة، متقاربون مع الادّعاء بطبيعة الحال، لأننا نعمل أيضا لإدانة المتهمين. نؤمن بقوة أن المتهم مسؤول […] عن التهم الموجّهة إليه.

ولكن، لإعطائك مثالاً تختلف فيه آراؤنا، قدمنا الأسبوع الماضي مقترحاً لإدراج جرائم العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية في لائحة الاتهام، في حين أن النيابة العامة أدرجت الاتهامات بهذه الجرائم باعتبارها نوعاً من [الجرائم] «العادية» فحسب.

ما هو تقييمك العام لمجريات المحاكمة حتى الآن؟ هل تسير الأمور كما هو مأمول لها، أم أن هناك قصوراً في جوانب ما؟

هناك جانب واحد، على الأقل، كانت لائحة الاتهام قاصرة فيه بالنسبة لما أعتقد أنه يحصل فعلاً في مراكز الاحتجاز السورية، وهذا ما ذكرته للتو. قضية العنف الجنسي، وهي برأيي جزء من اعتداء ممنهج وواسع النطاق، وبالتالي فهي أيضًا جريمة ضد الإنسانية. لكن، بشكل عام، أعتقد أنه بالإمكان القول أن المحاكمة سارت على ما يرام حتى الآن.

إن نظرنا إلى مقاصد موكّلينا، سنجد أن النقطة الرئيسية بالنسبة لهم ليست [فقط] الحصول على حكم بإدانة شخصية للمتهم الرئيسي، أنور ر.، بل تسليط الضوء على الوضع العام وإجمالي جرائم التعذيب ضد الإنسانية في مراكز الاعتقال السورية. ولهذا الأمر تأثيرات على كامل مجريات المحكمة، وقد وُضعت أدلة قوية وتوثيقات مهمة في متناول أعمال البحث عن الحقيقة، وهذا أمر مهم للغاية بالنسبة لموكليّ. إن نظام التعذيب والاعتقال هذا مرتبط بشكل وثيق بإخفاء ما يحدث، ومنع الوصول إلى المعلومات، وما إلى ذلك. وهنا لدينا ما يُعاكس ذلك تماماً: […] إذا تخيلت تلك الزنزانة المظلمة لسجن التعذيب، فقد جلبنا بعض الضوء، على الأقل، إليها.

[…]

لقد كان هناك بعض الشهود من داخل المنظومة، والذي أدلوا بشهاداتهم حول عملها، وقدموا شهاداتهم حول دور المتهم الرئيسي ضمنها. أيضاً، كان عرض صور قيصر صادماً، وشهادة الخبير الطبي الذي تفحّص  كل صورة من صور قيصر، و[عرضَ] شهادته حول عمله، ثم لخَّصَ نتائج هذا الفحص المستمر منذ عام 2017 حتى الآن.

[…]

ولدينا، بالطبع، المتهمون بأنفسهم، الذين قدموا بعض المعلومات حول دورهم في المنظومة، لكنهم لم يعطوها للمحكمة، بل للشرطة. وقد قدم عناصر الشرطة الذين وثَّقوا إفادة المتهمين المعلومات خلال جلسة الاستماع بوصفهم شهوداً في عملية التقاضي.

فيما يخص النقطة المحددة التي أشرتَ إليها بخصوص الجرائم الجنسية والتباينات بينك وبين النيابة، ما هو الوضع الحالي لذلك؟ هل سيقرر القاضي الآن ما إذا كان سيتم إضافة التهم؟

نعم بالضبط. لقد كان هذا طلباً قدمناه للمحكمة. يمكن للأطراف الأخرى، بما في ذلك الادعاء، أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى هذا الإجراء أو […] معارضته. وبعد ذلك ستقرر المحكمة في النهاية ماذا يفعلون بالطلب.

لنقم بإجراء مقارنة سريعة، قد تكون ذات صِلة أو لا، وربما عليك التعليق حول مدى ذلك […] لقد رأينا، في لبنان، مع الحكم الأخير في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. على وجه التحديد في «قضية عياش وآخرين»، قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. صدر هذا الحكم في آب (أغسطس)، وكان هناك قدر كبير من خيبة الأمل لدى الرأي العام، إذ أدين واحد فقط من المتهمين الأربعة في نهاية المطاف. وهو عنصر منخفض المستوى نسبيًا في حزب الله، دون إدانة أي شخصيات بارزة أخرى، سواء داخل حزب الله، أو داخل جهاز الأمن اللبناني، أو حتى داخل النظام السوري، الذي يُشتبه على نطاق واسع بتورطه على مستوى ما. وإلى خيبة الأمل هذه يُضاف واقع أن المحكمة قد استغرقت خمسة عشر عاماً، وكلّفت نحو مليار دولار، لتصل في النهاية إلى هذا الحكم. ولم يتم حتى القبض على المتهم المُدان الآن، بل جرت المحاكمة بأكملها غيابيًا. لذلك كان هناك شعور واسع النطاق وعميق بأن هذا لم يكن خيبة أمل للبنان فحسب، بل كان بمثابة ضربة لمفهوم العدالة الدولية نفسها ولمشروعها. إذ حتى مع وضع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ثقلهما لصالح المحكمة الدولية، وخمسة عشر عامًا ومليار دولار، لم يتمكن أفضل المدعين العامين في العالم من إنجاز ما هو أكثر من إدانة هذا الشخص، الذي من الواضح أنه لم يكن قادراً على تخطيط عملية معقدة كهذه وتنفيذها من تلقاء نفسه. وهذا الشخص، في الواقع، هاربٌ من العدالة، إذ من المتوقع أنه لا يزال يعيش حراً في مكان ما في لبنان. هل لديك هواجس من خطر حدوث شيء مشابه في كوبلنز؟ أي أن تكون توقعات الرأي العام غير متناسقة مع ما يمكن أن يحدث بالفعل، حتى في حالة نجاح الادّعاء في الحصول على إدانة، وأن هذا سيؤدي إلى إحباط وخيبة أمل حتمية من العدالة الدولية بين السوريين وغيرهم؟ كيف يمكن إدارة هذه التوقعات بشكل مناسب، دون التقليل من أهمية المحاكمة أو تقويض أهمية المُساءَلة القانونية؟

هذه نقطة جيدة، وكبيرة جدًا، لأنها تتعلق بشرعية هذه المحاكمات والمحاكم الدولية. ما زلت [أقول] أن أوجه الاختلاف بين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما يجري بخصوص سوريا أكثر من أوجه التشابه. ولذلك يمكننا فقط استخلاص استنتاجات أو مقارنات [قليلة] نسبيًا بينهم.

[…]

من المهم جدًا أن أضع شيئًا واحدًا في الاعتبار. أعتقد أن المُساءَلة الجنائية أساسية في أي من هذه العمليات، ومن الضروري أن تُدار بطريقة صحيحة. بما يخص محكمة لبنان[…] أعلم أن هناك الكثير من المشاكل، ولكن المسألة تتمحور حول إن كانت حقائق ما حول ما جرى قد كُشفت ووثقت، أو أشارت لمسؤوليات ما؛ تقول إن هذا لم يحصل. أعتقد أن المحكمات المتعلقة بسوريا، أو هذه المحاكمة بشكل خاص، ستكون مختلفة عن المحكمة اللبنانية. هناك، على سبيل المثال، أمرٌ قُدِّمَ كدليل في محكمتنا هذه، صدر عن الإدارة المركزية للأزمة -أعلى مستويات السلطة في سوريا، أولئك المسؤولون مباشرة أمام بشار الأسد- يوجّه كلَّ الأوساط المنتمية للمخابرات بضرورة سحق الاحتجاجات بكل ما يتطلبه ذلك من وسائل. هذا ليس اقتباساً حرفياً من الأمر، إذ تُستخدم كلمات مختلفة، لكن كل من يعرف منطق هذه المنظومة يعي ما يعني هكذا أمر.

أو، [لأخذ] اقتباس واحد فقط من شهادة اليوم، التي ما زلت أفكر فيها، [من] شاهد […] تحدَّثَ أيضاً عن سلسلة القيادة. إذ قال:«وفي أعلى الجميع هناك الإله، والإله قَرَّر». حينها، سأله القاضي:«إذاً، هل لهذا الإله اسم؟»، فضحك الشاهد، وقال:«أجل، طبعاً، اسمه بشار الأسد». تالياً، المحكمة تحدد مسؤوليات، ومسؤوليات من هذا المستوى كذلك.

ومع ذلك، ستكون نسبة الجرائم التي يمكن للقانون الجنائي الدولي أن يتعامل معها قليلة بالمقارنة مع المجمل[…] وكيف يمكن ألا يكون كذلك؟ إنه صراع استمر لما يقرب من عشر سنوات، وآلاف الجرائم ارتُكبت -هذا على فرض إمكانية تحديد كميتها-. لذلك، بالطبع سيكون الأمر انتقائياً للغاية. ولكن يمكن أن يكون لها دور مؤثر؟ هذا هو المهم. أن يتم التقاط هذا التأثير واستخدامه، ليس فقط من قبل الهيئات القضائية الأخرى والمحامين الآخرين لتقديم المزيد من المحاكمات والمشتبه بهم إلى العدالة، ولكن أيضًا من قبل المجتمع المدني عموماً؛ وفي المجال السياسي؛ وعن طريق وسائل الإعلام، والفنون، والتعليم، وكتابة التاريخ، وهكذا دواليك. أعتقد أن المحاكمة يمكن أن تفعل ذلك. وهناك القليل من المؤسسات الأخرى في المجتمع التي يمكن أن تعمل على هذا النحو، لأنه [في المحاكمة] تتم مناقشة الحقيقة، ولدينا المحكمة. أعني، لدينا سبعة قضاة جالسين هناك. سبعة! من أعلى القضاة [تأهيلاً] في ألمانيا. وسوف يقومون بتقييم كل كلمة قيلت على مدى سنوات في هذه التجربة. وعندما يكون لديهم حكم  فسيكون ناتجاً عن تداول طويل، ويمكن قراءته وفهمه في مكان آخر.

[…]

لقد أتى فنانون سوريون وأقاموا معارض فنية قوية الرسالة. وسيتم صنع أفلام. وهلم جرا. [الأمل] أن يؤدي هذا إلى شيء ما، حتى لا يُنسى ما حصل أو [يكنس] تحت البساط. أعتقد أن هذا هو المكان الذي يكمن فيه التأثير الكبير.

بخصوص اختيار الشهود في كوبلنز، هل بإمكانك أن تحدثنا قليلاً عن الآلية المتبعة لإيجاد الشهود واختيارهم؟

خلال مدة طويلة، أي شخص لديه معلومات عن هذا الفرع الذي هو موضوع المحاكمة الآن، أي فرع الخطيب بدمشق، وتوجّه نحو سلطات الادعاء، أو إلى سلطات التحقيق، تم سماعه كشاهد.

على من تقع مسؤولية إيجاد الشهود، وتجهيز قائمة بهم وتقديمها للمحكمة؟ على الادّعاء؟

نعم، هذا عمل الادعاء، ولكنهم بالطبع يتعاونون مع المحامين. في بعض الأحيان، أو بالأحرى في كثير من الأحيان، لا يمتلكون القدرة على التواصل؛ الناس لا يثقون بهم، أو لا يريدون التحدث معهم. يشعرون براحة أكبر عند التحدث إلى محامٍ سوري أولاً، ثم ربما محامٍ ألماني يمكنه تقديم المشورة لهم. ففي كل حالة تقريباً هناك مسألة أمنية وأسرية في سوريا، وما إلى ذلك […] الكثير من القضايا لا تمضي دون مساهمة المجتمع المدني، من محامين وناشطين سوريين، و، في مثل هذه الحالة، شركائهم الألمان.

في حال أراد أحدهم أن يتقدم ويدلي بشهادته أمام المحكمة الآن، فهل ما يزال المجال لذلك مفتوحاً؟ ماذا عليه أن يفعل؟

بإمكانه التوجه إلى مركز شرطة وتقديم أي معلومات لديه بهذا الشأن، وسيتم توثيق شهادته ومن ثم إرسالها إلى المدعي العام. [لكن]  السؤال هنا قد يكون عن عدد الشهادات التي يستطيع المدّعي العام المرور عليها بعد، أو إن كان قد قرَّرَ أن لديه شهادات كافية لهذه القضية ولم يعد بحاجة للمزيد. ليس لديّ إجابة بخصوص ذلك، لكن إن وُجد من لديه معلومات مباشرة حول الجرائم، فغالباً سيتم استدعاؤه لتقديم شهادته.

[…]

أنصح الناس دائماً بالتواصل مع محامٍ قبل كل شيء. كي يتمكن هذا المحامي من إخبارهم بما سيحصل لهم، وما لديهم الحق بالقيام به، وما يجب أن يلتزموا به. «هذا ما سيحدث، لديك الحق في القيام بذلك، وعليك الالتزام بذلك. أن تكون شاهداً ليس موضوعاً اختيارياً. إن أُخطرت المحكمة أنك شهدتَ شيئاً فسوف يستدعونك لتقديم شهادتك، وحينها سيكون من الواجب عليك أن تقول ما تعرف. وأسباب رفض الشهادة قانونياً قليلة للغاية. ما لا يفهمه كثير من الناس بوضوح هو أنهم لا يستطيعون انتقاء ما يريدون قوله وما لا يريدون. لذلك يُنصح دوماً باستشارة محامٍ مسبقاً.

من وجهة نظرك كمحامٍ، كيف تُقيّمُ التغطية الإعلامية للمحاكمة حتى الآن؟ هل كان هنا تغطيات غير دقيقة أو سوء فهم إشكالي لأي من مجرياتها؟

أعتقد أن التواصل من قبل المحكمة لم يكن مرضيًا حقًا، لأنه كان من الصعب جداً على كثير من الأشخاص أن يُتابعوها، خاصة الأشخاص الناطقين باللغة العربية الذين لا يفهمون المحاكمة باللغة الألمانية. لأن اللغة الوحيدة التي تسمعها في مجلس الحاضرين هي الألمانية. ما لم يتكلم الشاهد باللغة العربية، [حينها] يمكنك سماع ذلك الشاهد، لكنك لن تسمع الأسئلة، أو أي شيء يُقال بالألمانية. وقد حاولنا المطالبة بإجراءات إزاء هذا الأمر، أن تُتاح الترجمة أيضًا للجمهور غير الناطق بالألمانية، وقد رفضت المحكمة هنا هذا الطلب. أيضاً، أراد بعض الأكاديميين تسجيل المحاكمة لأغراض تأريخية بشكل أساسي، وتم رفض هذا الطلب أيضًا. ولذا أعتقد أنها كانت فرصة ضائعة […] لأن لديك جزءاً كبيراً من الناس، وبالتحديد السوريون، الذين لا يستطيعون الوصول إلى معلومات دقيقة حول هذه القضية.

الجلسة التي حضرتها اليوم، على سبيل المثال، كم مِنها متاح للجمهور العام؟

كروكر : لا شيء.

الجمهورية: لا شيء؟

كروكر: لا شيء. بادئ ذي بدء، لا توجد محاضر متاحة للعموم. لذاك فإن الطريقة الوحيدة للحصول على معلومات حول ما يحدث بالفعل في المحكمة هي الجلوس في الجزء المخصص للحضور العام في الصالة والاستماع. وهذا ما يمكنك فعله فقط باللغة الألمانية. ولا حتى باللغة العربية […] أنا متأكد من أنه [إذا كانت هناك ترجمة عربية] فإن المزيد من الناس سيأتون ويستمعون إلى ما يحدث.

تنوعت التوصيفات التي تم إطلاقها على المحكمة، مثل «تاريخية» و«الأولى من نوعها»، ومصطلحات أخرى من هذا القبيل. ما هو التأثير الذي تتوقعه لها على المدى الطويل، إن اعتقدت بوجوده، بما يتعدى التأثير المباشر على المُدّعى عليهم؟ كيف سيتم تَذكُّرُ هذه المحكمة؟ ما الذي ستُغيّره؟

ليس لدينا حكم بعد، ولربما تبدأ محاكمة أخرى تكون أسرع، ولكنني أعتقد أنه سيكون أول حكم ضد أجهزة الاستخبارات السورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستخدام التعذيب ضد المدنيين. وبطبيعة الحال، نحن [نعرف] هذا بفضل هيئات الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية […] ولكنني أعتقد أن حكم محكمة سيكون له وقع مختلف. أعتقد أنه سيكون لحكم المحكمة تأثير ذو ديمومة. حكم كهذا لا يُمحى […] وأعتقد أن هذا سيؤثر أيضًا في السنوات المقبلة على الإدراك التاريخي لما جرى.

ولكن ، حتى أكثر من ذلك، آمل أن يؤدي حكم المحكمة لانطلاق أنواع أخرى من آليات العدالة؛ أن يصبح من الواضح أنه، حسناً، بحوزتنا الآن حكم محكمة […] وحالما يتم تثبيت الحكم […] فإن المحاكم الأخرى، على الأقل في ألمانيا، سيكون أسهل عليها إثبات ما يَرِدُها من قضايا، لأنها لن تكون مضطرة للعودة مجدداً إلى كل هذه التفاصيل […] يمكنهم حينها القول: «حسنًا، وبما يخص هذه الجزئية، سنقرأ الآن حكم المحكمة في كوبلنز»، أي، سيكون هناك حقيقة مثبتة بالفعل. .

وآمل أن يؤدي هذا أيضًا إلى […] إعادة التفكير في مدى رغبتك حقاً في التعامل مع مثل هذه الحكومة، خصوصاً الآن إذ تفكر العديد من الحكومات في تطبيع علاقاتها مع النظام. والأمر الآخر هو الأمل في أن تتشكل عمليات قضائية وتكون كوبلنز نموذجاً مشجعاً للسوريين للمشاركة أكثر، وللمزيد من المدّعين العامين كي يوجّهوا اتهاماتهم، أو لكي يصدروا أوامر اعتقال بحق مشتبه بهم من مستويات اعلى.

بخصوص هذه النقطة تحديداً. كثيراً ما نستمع لأحاديث غير محددة ومتأملة بخصوص ملاحقات مستقبلية. هل لديك معلومات عن أمثلة محددة لملاحقات يتم العمل عليها، وقد تنطلق في السنوات القليلة المقبلة؟

نعم، هناك قضية ضد طبيب من المشفى العسكري في حمص «علاء م.» أيضا في ألمانيا. وقد تم إلقاء القبض عليه، ونقلت وسائل الإعلام ذلك. ومن المحتمل جداً أن توجّه إليه الاتهامات القضائية قريباً. وهو من المنظومة نفسها، أي المخابرات العسكرية.

لستُ على اطلاع حول قضايا أخرى يتم تجهيزها للبدء، ولكني متأكد من أنها ستتواصل. ولكن حتى تصل القضايا إلى هذا المستوى، يجب أن يكون المشتبه بهم هنا (في ألمانيا)، حاضرًين، حتى يمكن توجيه الاتهام إليهم. على الأقل في النظام القانوني الألماني، وفي معظم الأنظمة القانونية في أوروبا. لكني ما زلتُ آملُ أن يكون هناك المزيد من أوامر القبض، أيضاً، ضد أشخاص غير موجودين. هذا لا يكفي لجلبهم للمحكمة، ولكن يبقى الأمل في أن يتم القبض عليهم يوماً ما عبر الإنتربول، إذا أُصدرت أوامر اعتقال دولية، والإنتربول على علم بذلك. ربما في غضون خمس سنوات، شخص مثل [مدير المخابرات الجوية السابق] جميل الحسن سيرغب في السفر إلى السويد للذهاب للتسوق، أو لأي سبب كان، وقد يتم القبض عليه. أعتقد أنه من المهم أن يستمر هذا.

في الآونة الأخيرة ، انتشرت هذه القصة الصادمة عن ضابط في النظام السوري، خالد الحلبي، الذي وصل إلى فرنسا، حيث رُفض طلب لجوئه، وحسب التقارير تم تهريبه إلى النمسا عن طريق الموساد الإسرائيلي. يبدو الأمر وكأنه حبكة مسلسل على نِتفليكس. وقد علّقتَ على حسابك على تويتر أن هذه ضربة كبيرة لجهود محاسبة مثل هذه الشخصيات. هل لديك أمل، الآن بعد أن ظهرت القصة، وتم الكشف عنه، أن السلطات النمساوية قد تغير مسار ما يحدث؟

أتمنى ذلك. وآمل ألا يكون الوقت قد فات للقيام بذلك، ولست متأكدًا مما إذا كان الإبلاغ عن القصة في الإعلام قد زاد من فرص المضي قدماً في هذه القضية أم قلّلها. لأن الشخص، في حال كان لا يزال متاحاً، قد يهرب. لذلك لست متأكدًا من كيف ستتطور الأمور. ولكني أعتقد أن فضح هكذا أمور محق، لأن حصول هكذا أمور فعلاً فضيحة كبرى […] العدالة بخصوص هكذا جرائم هو أمر لا يمكن المساومة عليه أبداً […] هكذا أمور لا يمكن أن تحصل. هذا عمل قذر، إذا كنت تريد أن تصدق تلك [التقارير ]، وما قامت أجهزة المخابرات بفعله. أعتقد أنه من المهم الكشف عن ذلك وعدم السماح لهؤلاء الأشخاص بالإفلات من العقاب [فقط] لأنهم يحوزون أي نوع من أنواع السلطة.

جلستَ في القاعة أثناء إجراءات المحكمة. على المستوى الشخصي البحت، وبغض النظر عن دورك كمحام، بل من منظور إنساني بحت، كيف يُجلَس في الغرفة نفسها ويستنشق الهواء ذاته مع رجل مثل أنور رسلان؟ خاصة عندما يجلس بعض ضحاياه في المكان نفسه أيضاً.

بالتأكيد، الخبرة الأقوى على المستوى الشخصي هو ما ذكرته، أي أن تكون هناك مع الناس الذين عانوا. أعتقد أن هؤلاء هم الذين أجد نفسي أقرب لهم. المتهمون جالسون هناك، وأفكر «حسناً، هذه ستكون محاكمة عادلة، وهذا ما أريده، وعلى الأقل سنقيّم ما فعلوه فعلاً». لكن المشاعر كانت أقوى في اليوم الأول، حين قُرأت لائحة الاتهام، وكان هناك الكثير من القصص، قصص شخصية، تلخيصات لإفادات شهود، والكثير من هؤلاء الناس أعرفهم، وسمعتُ قصصهم. وأحياناً كنتُ موجوداً معهم حين جلسوا وقدموا إفادتهم للمدّعي العام.

هذا يحصل، وأخيراً، والمتهم، في الوقت ذاته، جالس هناك، ويُسأل «هل فهمت كل شيء؟ هل فهمت المترجمين؟ هل كل شيء على ما يُرام؟ هل تمكنت من فهم كلّ كلمة؟»، «أجل» وحينها عليه أن يستمع لساعة ونصف من هكذا أشياء وهي تُقرأ له.

أو حين عُرضت صور قيصر، وشاهدنا مئات من الصور في ذلك اليوم، وخلف كل صورة هناك قصة شخصية لأحدٍ يعرف أن قريبه قد عُذِّبَ حتى الموت. هذه خبرة مؤثرة جداً، علي أن أقول، وهي ليست أمراً يسهل عيشه على الإطلاق. […] وأنا أفكر أتوماتيكياً عن كيف يمكن أن يعيش الناس هذه الأشياء. نرى جثثاً على الشاشات قد تم تعذيبها حتى الموت، أو تُركت تموت من الجوع، هذا أخ أحدهم، أو أخته، أو غيره. ليس هذا بالأمر السهل، لكنه بطبيعة الحال السبب المركزي لانخراطي الكبير في هذا العمل، من أجل تثبيت حكمٍ وتأريخٍ موثّق، وللعمل من أجل أن تتوقف هذه الجرائم، ومن أجل أن يُحاسب مرتكبوها.

وماذا عن المتهمين؟ وهل هناك شيء تقرؤه على وجوههم في تلك اللحظات التي تعرض فيها صور الجثث؟ هل يعطون أي إشارة للندم، أو أنهم متأثرون بأي شكل من الأشكال، أم أنهم يعرضون «وجه بوكر» بارد؟

عليّ أن أقول أنني لم أرَ الكثير من رد الفعل حين أتت هذه اللحظة. أنور ر، المتهم الرئيسي، يهتمّ أكثر عندما يدلي الناس بشهاداتهم حول كيفية عمل النظام، بشكل أساسي. أي ما يعرفه جيداً وما كان جزءًا منه لعقود؛ يهتم حقاً حين يتحدث الناس عن ذلك، وإذا سمع ما يعتقد أنه كلام خاطئ -حتى لو لم يكن ذو صلة بلائحة الاتهام- يمكنك أن تراه منفعلاً ومتحدثاً إلى محاميه «لا، ليس هذا من كنت أقدم له التقارير»- أنا فقط أعطي هذا كمثال متصور، لأنني لا أعرف ما يقوله حقاً-. لكن هذه هي الأمور التي تجعله يقدم رد فعل أساساً. قصص المعاناة المروية في القاعة لا تحركه كثيراً.

ولكن، كما قال أحدهم لي [في ذلك الوقت]، «هو الوحيد الذي شاهد هذه المشاهد في الحقيقة». من المؤكد أنها كانت أكثر صعوبة حينها، فلذلك قد تكون لديه طريقة ليتمكن من التعامل مع هكذا أمور حينها، وبالتالي ربما اليوم كذلك.

شكراً جزيلاً لك على وقتك يا باتريك.

شكراً لكم.

موقع الجمهورية

———————————-

كيف يمكن لألمانيا ملاحقة نظام الأسد وإثبات ارتكابه جرائم حرب

في إطار تحقيق الهيئة الألمانية -المختصة بجرائم الحرب- في أدلة على وقوع هجمات بغاز السارين في سوريا حصلت مؤسستا دويتشه فيله وَ دير شبيغل الألمانيتان حصريا على حق الوصول إلى الشهود والتقارير السرية لإعداد التحقيق التالي، الذي يشكل علامة بارزة في مجرى القضية. تفاصيل من الصحفيين لويس ساندرز وَ بيرغيتا شولكه وَ يوليا بايَر.

كانت الظروف الجوية في هذا الوقت الحار من فصل الصيف مثالية. في الساعات الأولى من يوم 21 أغسطس / آب 2013 سمح الطقس الأكثر برودة بتغلغل غاز السارين في الطوابق السفلى من المباني حيث انتشر في أجزاء من الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية قرب دمشق.

قالت إيمان ف. -وهي ممرضة مدربة وأم لثلاثة أطفال-: “كان الأمر أشبه بيوم القيامة، كما لو كان الناس نملًا قُتل برذاذ الحشرات”. “مات الكثير من الناس على الطريق، وتوقفت السيارات، وتكدس الناس فيها [بدوا وكأنهم ماتوا وهم يحاولون الفرار]”.

طلبت إيمان من شقيقها أن يأخذ الأطفال إلى مكان آمن قبل أن تهرع إلى المستشفى المحلي حيث كانت تعمل. تبعها زوجها محمد ف. بعد فترة وجيزة للمساعدة في تقديم الإسعافات الأولية.

طوال فترة النزاع، سعى المدنيون في كثير من الأحيان إلى الاحتماء من الضربات الجوية والقصف وغير ذلك من الهجمات العشوائية في الطوابق السفلى من المباني، ولن تختلف هذه الليلة بالذات.

يروى محمد: “جاء كثير من الناس إلى المستشفى لأنها كانت في قبو”. “ذهبت إلى زوجتي وقلت لها أن تخرج لترى ما كان يحدث. وعندما عدت إلى الأعلى … سقط صاروخ أمام المستشفى. بعد ذلك لم أشعر بشيء”.

بكت إيمان وهي تتذكر عودتها من القبو إلى الأعلى لترى ما كان يحدث … وجدت زوجها يتشنج على الأرض مثل العشرات من حوله.

“لقد كان مشهدًا مروعًا لا أستطيع وصفه لك” … تتذكر إيمان المشهد فيما تستمر السيجارة التي كانت تحملها في الاحتراق. “لم أكن أعرف ما الذي حدث. غادرت لأخذ حقن الأتروبين لمساعدة زوجي الذي كان يعاني من حالة الاختناق”.

تضيف قائلة: “عندما عدت لإعطائه الإبرة، لم أشعر أنا وزميلي بأي شيء ولا أتذكر أي شيء بعد ذلك”.

والسارين هو غاز قاتل يستخدم في الحرب الكيميائية، اتخذ مساره بين باقي الأسلحة من هذه النوعية. يتميز بأنه عديم الرائحة ولا يُعرَف بأنه قد استخدم بالفعل إلا بعد أن يبدأ في شل الجهاز التنفسي، وفي معظم الحالات يتسبب في موت الضحية اختناقاً.

إخفاق العدالة

حتى يومنا هذا، تكافح إيمان صورة المشاهد التي رأتها في هذه الليلة من شهر أغسطس في الغوطة الشرقية.  تذكرها نوبات الهلع بشكل دائم بما فقدته، بما في ذلك ابنها الأكبر.

علمت إيمان وزوجها محمد بمصير ابنهما عندما تعرف أحد الأقارب على الصبي بعد أيام من الواقعة من خلال الصور المنشورة على الإنترنت. لم يُمنح الأب والأم قط فرصة استعادة جثة الابن التي دفنت في مقبرة جماعية بعد وقت قصير من الهجوم.

لكنهم لم يكونوا الوحيدين الذين فقدوا أحد أفراد الأسرة في تلك الليلة، إذ قُتل ما لا يقل عن 1000 شخص في الهجوم، بينهم أكثر من 400 طفل، بحسب عدة مصادر مستقلة.

قال ثائر هـ. وهو صحفي سوري وثق الهجوم: “حتى يومنا هذا، أتخيل الأطفال الذين كانوا يموتون أمام عيني” … “لست طبيباً. لم أكن أعرف كيف أنقذ شخصًا يموت أمامي – لم نتدرب على كيفية التعامل مع الغازات [السامة].”

في ذلك الوقت، عمل ثائر في مركز توثيق الانتهاكات، الذي سعى إلى تسجيل انتهاكات حقوق الإنسان خلال الصراع السوري. شارك ثائر مع دويتشه فيله لقطات مروعة التقطها تلك الليلة.

أما زميلته رزان زيتونة، التي أسست المركز وساعدته في توثيق الاعتداء، فقد اختطفت بعد فترة وجيزة ولم يُعرف عنها أي شيء قَطّ. تمكن ثائر في النهاية من الفرار من سوريا إلى ألمانيا حيث يقيم الآن.

قال ثائر: “شعرت بالفزع في البداية وأمسكت بالكاميرا”. “لكنني توقفت بعد أن رأيت أطفالًا يموتون أمامي. ثم فكرت: إذا لم أصور، فمن سيبلغ عما حدث لهؤلاء الأشخاص؟”.

بين الحرب وقاعة المحكمة

صدم الهجوم الوحشي الناس في جميع أنحاء العالم وكاد أن يتسبب في تدخل عسكري من قِبل فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وعندما انهارت خطط العمليات العسكرية الغربية ضد النظام السوري، تحولت الجهود العالمية نحو المحكمة الجنائية الدولية/ ICC.

ومع ذلك، فإن روسيا والصين، اللتين تتمتعان بحق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، منعتا جميع محاولات إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبدلاً من ذلك، تم الاتفاق على أن تنضم سوريا إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة الكيميائية وبالتالي تدمير مخزونها من هذه الأسلحة وفقاً لإجراءات الانضمام.

تشير الوثائق التي حصلت عليها دويتشه فيله إلى أن النظام السوري لم يمتثل لالتزاماته بتفكيك برنامج أسلحته الكيميائية بالكامل. لكن دمشق نفت ضلوعها في هجمات بالأسلحة الكيماوية على الأراضي السورية. وبالنسبة للناجين، فشل المجتمع الدولي في تحقيق العدالة.

قالت إيمان وقد انتفخت عيناها من البكاء: “لقد خذلونا” … “كل الدول خذلتنا، وخاصة الدول العربية التي لم تفتح أبوابها لنا لطلب اللجوء. نشكر ألمانيا على فتح الأبواب لنا ومساعدتنا، لكنها خذلتنا أيضًا في مواجهة ظلم نظام الأسد”.

ومع ذلك، وبعد سبع سنوات، ربما ينقلب المشهد لصالح الضحايا وذويهم.

مزايا “الولاية القضائية العالمية”

في أوائل أكتوبر / تشرين الأول 2020، قدم تحالف من ثلاث منظمات غير حكومية شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا ضد أشخاص لم يتم الكشف عن أسمائهم فيما يتعلق بحسب ما يبدو أنها هجمات بغاز السارين على الغوطة عام 2013 وعلى خان شيخون في عام 2017.

كان دافعهم في ذلك واضحًا – واستراتيجيًا.

في عام 2002، سنت ألمانيا مبدأ الولاية القضائية العالمية للجرائم الدولية، مثل جرائم الحرب والإبادة الجماعية. نجحت ألمانيا بالفعل في جعل القانون المحلي الألماني يتوافق مع نظام روما الأساسي، وهي معاهدة تم على أساسها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في ذلك العام.

وبذلك، وَسَّعَتْ ألمانيا ولايتها القضائية لتشمل “أخطر الجرائم التي تمس المجتمع الدولي ككل”، حتى لو لم تُرتَكب داخل أراضيها أو ضد مواطنيها. في مدينة كوبلينتس الألمانية فُتِحت أول قضية تتهم شخصيات في النظام السوري بالتعذيب الممنهج في أبريل / نيسان 2020 نتيجة الولاية القضائية العالمية لألمانيا.

أدى ذلك إلى قيام كل من “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح” و “الأرشيف السوري” و “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” بتقديم شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الاتحادي في مدينة كارلسروه الألمانية، حيث بدأت هيئة جرائم حرب -تأسست حديثاً- تحقيقًا تفصيلياً عام 2011 في الفظائع المرتكبة في سوريا.

أكدت هيئة جرائم الحرب في مدينة كارلسروه لـدويتشه فيله أنها تلقت الشكوى الجنائية من مكتب المدعي العام الفيدرالي. ومع ذلك، فإنها لن تقدم المزيد من التعليقات بشأن القضية. وقال متحدث باسم الهيئة: “نحن نحقق في الأدلة، وهذا كل ما يمكننا قوله الآن”.

عبء إثبات الواقعة

توفر الشكوى الجنائية توثيقًا شاملاً إلى جانب معلومات مفتوحة المصدر، مثل المواقع المستهدفة بالقصف، والتي يمكن استخدامها كدليل قانوني على جرائم الحرب المرتكبة في الغوطة وخان شيخون. وتضمنت الشكوى شهادات ما لا يقل عن 50 منشقًا عن النظام السوري لديهم معرفة مباشرة ببرنامج الأسلحة الكيماوية في البلاد.

تم تأكيد جزء كبير من شهادات الشهود بدقة من خلال مقاطع الفيديو والصور التي التقطها أشخاص على الأرض، بما في ذلك الضحايا. تم جمع المحتوى وأرشفته من قبل مبادرة الأرشيف السوري في برلين، والذي تولى مهمة شاقة للتحقق من المواد.

قال هادي الخطيب، مدير الأرشيف السوري: “ليس لدينا دليل مباشر على ما حدث لأن المنظمات الدولية لم تكن في موقع الضربة”. ونتيجة لذلك “تصبح الأدلة الرقمية مهمة بالفعل ومحورية للشكوى القانونية من خلال مساعدتها في إثبات شهادات الشهود”.

كانت هذه الأدلة الرقمية حاسمة في تكوين صورة أوسع للأحداث، بما في ذلك استكمال تحقيق رسمي للأمم المتحدة تم القيام به بشأن هجوم الغوطة.

لم يتمكن تحقيق الأمم المتحدة من تحديد الجناة المشتبه بهم لأن إسناد الاتهام لم يكن جزءًا من ولايته. لكنه جعل شيئًا واحدًا واضحًا تمامًا. إذ قالت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في تقرير بعد أقل من شهر على الهجوم إن “العينات البيئية والكيميائية والطبية التي جمعناها تقدم دليلاً واضحًا ومقنعًا على استخدام صواريخ أرض أرض تحتوي على غاز الأعصاب السارين”.

البحث عن دليل قاطع

مفتاح الشكوى الجنائية المقدمة في ألمانيا هو المجموعة المتنوعة من شهادات الشهود والتي تضم عسكريين وعلماء رفيعي المستوى في مركز الدراسات والبحوث العلمية في سوريا (SSRC)، الذي كان مسؤولاً عن تطوير وصيانة برنامج الأسلحة الكيميائية في البلاد.

تشير الدلائل إلى أن ماهر الأسد الأخ الأصغر للرئيس بشار الأسد، والذي يُعتبر على نطاق واسع ثاني أقوى شخص في سوريا، كان القائد العسكري الذي أمر مباشرة باستخدام غاز السارين في هجوم الغوطة في أغسطس 2013.

غير أن إفادات الشهود المرفوعة مع الشكوى الجنائية تشير إلى أن نشر الأسلحة الاستراتيجية، مثل غاز السارين، لا يمكن تنفيذه إلا بموافقة الرئيس الأسد.

ووفقاً للوثائق التي اطلعت عليها دويتشه فيله، يُعتقد أن الرئيس الأسد قد فوض شقيقه بتنفيذ الهجوم.

“لدينا دليل على أن (الأسد) متورط في صنع القرار. لن أقول إننا أثبتنا ذلك بأنفسنا، لكن لدينا بالتأكيد بعض المعلومات التي تشير إلى تورطه في هجمات السارين”. هذا ما أكده ستيف كوستاس، وهو رجل قانون مخضرم يعمل مع فريق التقاضي بمبادرة عدالة المجتمع المفتوح.

ووفقًا للوثائق المتوفرة، فإن ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري كان قد أعطى وقتها الأمر الرسمي على مستوى العمليات. وفقاً لهذا الأمر، كانت مجموعة النخبة داخل مركز البحوث/ SSRC التي يطلق عليها اسم “الفرع 450” قد قامت بتحميل العوامل الكيميائية (الغاز) على الرؤوس الحربية وكان اللواء 155 الصاروخي سيطلق صواريخ أرض-أرض تحت إشراف مباشر من ماهر الأسد.

يقول كوستاس: “لقد أظهرنا أن هناك وحدة محددة تسمى “الفرع 450″ داخل مركز الدراسات والبحوث العلمية في سوريا (SSRC)، والتي شاركت بشكل كبير في التخطيط لهجمات السارين وتنفيذها”. وأضاف: “لقد أظهرنا التسلسل القيادي المتورط في تلك الوحدة وصلتها بالقصر الرئاسي”.

حتى الآن، تعتبر الشهادات التي تصف التسلسل القيادي أقوى دليل متاح يربط بشكل مباشر بين الأسد واستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا.

إدانة على أعلى المستويات

لكن هل يكفي ذلك ليصدر المدعون الألمان لائحة اتهام؟ بالنسبة لخبراء القانون الدولي، لا يلزم وجود أدلة قاطعة لإصدار لائحة اتهام من هذا العيار.

على مر التاريخ ، كانت هناك لحظات اتخذت فيها البلدان بشكل جماعي خطوات لإقرار العدالة ضد مرتكبي الفظائع الجماعية، مثل محاكمات نورنبرغ وطوكيو في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

كان المفهوم التأسيسي لمثل هذه المحاكم التي تحركها الأمم هو أن الأفراد الذين يشكلون جزءًا من هيكل القيادة يمكن تحميلهم المسؤولية عن الفظائع المرتكبة، حتى لو لم يرتكبوها شخصيًا.

وبما أن جرائم الحرب غالبًا ما تُرتكب من خلال شكل نظامي للقوات المسلحة، فإن القانون الدولي يقر بأن التسلسل الهرمي للقيادة يسمح بوقوع مثل هذه الانتهاكات، بحسب ما قال روبرت هاينش، مدير منتدى كالشوفن-جيسكيس حول القانون الدولي الإنساني في جامعة لايدن ، في حديث لـ دويتشه فيله.

ويضيف هاينش: “يمكن توجيه لائحة اتهام ضد الأشخاص الذين أصدروا أوامر لجنود عاديين أو أي شخص مسؤول عن شن الهجمات بسبب إصدار هذا الأمر – أو حتى إذا لم يأمر الشخص بذلك بنفسه ولكنهم كانوا على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بهذه الأمور.

وتابع: “بسبب وظيفتهم كقادة عسكريين، فإنه من الممكن تحميلهم المسؤولية – وهذا أمر مهم للغاية، وهو مدرج أيضًا في التوصيف القانوني الألماني للجرائم ضد القانون الدولي، لأنه من دون ذلك لن تكون قادرًا على تحميل هؤلاء الأشخاص المسؤولية”.

في ألمانيا، تم استخدام القانون الذي أنشئت الولاية القضائية العالمية وفقاً له مرة واحدة فقط لإدانة الجاني. في عام 2015، وجد قضاة ألمان أن زعيم المتمردين الهوتو الروانديين إجناس مورواناشياكا ومساعده مذنبان بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. أُلغيت إدانة مورواناشياكا بعد ثلاث سنوات وتوفي أثناء انتظار إعادة المحاكمة.

المحاكمة الوحيدة الأخرى التي استخدمت فيها الولاية القضائية العالمية لمحاكمة الجناة هي “قضية كوبلنز” التي استهدفت شخصيات بارزة في النظام السوري بزعم ضلوعها في عمليات تعذيب.

“ربما هذه هي البداية”

بصفته رئيس سوريا، يقود بشار الأسد القوات المسلحة السورية. وفي عدة مناسبات أوضح أنه بصفته القائد العام، فإن السلطة النهائية تكمن في مكتبه، وقال خلال لقاء تليفزيوني مع محطة سي سي تي في CCTV الصينية الحكومية في سبتمبر 2013 إنه “صانع القرار الرئيسي في تحريك وقيادة القوات المسلحة في سوريا”.

لكن هناك عوامل أخرى حاسمة أيضًا للتمكن من الوصول إلى عقد محاكمة فعلياً.

حتى إذا قرر المدعون الفيدراليون تجاوز هذا الحاجز وتوجيه الاتهام إلى أعلى شخصيات النظام السوري المشاركة في عملية صنع القرار، فإن قضايا أخرى يمكن أن تعرقل القضية، بما في ذلك الحصانة السيادية، والتي بموجبها تتم تقليديًا حماية من هو في موقع رئاسة الدولة من الملاحقة القضائية.

وبالنسبة لأولئك الذين يسعون لتحقيق العدالة ضد كبار الشخصيات في النظام السوري، فإن هذا المسعى يمثل مهمة عصية على التنفيذ. لكن هذا لم يثنهم بعد عن الاستمرار في العمل.

يقول مازن درويش رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير: “نحن نعلم أن هذه العملية ستستغرق 10 أو 20 أو حتى 30 عامًا. لذلك يجب علينا أيضًا أن نحاول إعداد أنفسنا لاستراتيجية طويلة المدى. نعلم من جميع تجاربنا أن هذا ليس شيئًا سيتم الانتهاء منه في غضون يوم واحد”، “ربما تكون هذه هي البداية فقط”.

ومنذ عام 2011، كلفت وحدة جرائم الحرب الألمانية ما يقرب من 12 من المدعين العامين بإجراء تحقيق تفصيلي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا.

يعيش في ألمانيا الآن ما يقدر بنحو 600 ألف سوري، غالبيتهم العظمى ممن فروا من بلادهم هرباً من الصراع الوحشي. خلال طلبات اللجوء الخاصة بهم، كثيرًا ما يتم استجوابهم حول دورهم في الفظائع، سواء كضحايا أو جناة.

لكن ألمانيا ليست الولاية القضائية الوحيدة التي يخطط المدعون لمقاضاة مرتكبي الهجمات بالأسلحة الكيميائية في سوريا من خلالها، إذ يخطط اتحاد المنظمات غير الحكومية لتقديم شكاوى جنائية في ولايات قضائية أوروبية أخرى بحلول العام المقبل 2021.

وقال ستيف كوستاس من مبادرة “المجتمع المفتوح”: “نأمل أن نتمكن من تحفيز المدعين العامين في الولاية القضائية العالمية للتحقيق في هذه الهجمات والاستماع إلى الأدلة التي قدمناها حتى يتمكنوا من بناء ملفات تحقيقات جنائية تدعم الملاحقات القضائية في المستقبل”.

التوق إلى العدالة

تقع مكاتب مبادرة “الأرشيف السوري” في الطابق الأرضي من مبنى عادي في برلين، ولا يُزَيِّنها أكثر من سبورة بيضاء، وقد نجحت في عكس طابع الزهد لمؤسسها. بالنسبة إلى هادي، الذي يقيم الآن في ألمانيا، لم يكن هناك شيء أكثر أهمية من السعي لتحقيق العدالة في سوريا.

على الرغم من أن الجهود الدولية ركزت على إنشاء آلية مساءلة لمكافحة الإفلات من العقاب في النزاعات، إلا أنه بالنسبة لهادي ولكثير من السوريين الآخرين، فإن الهدف لا يزال بعيداً بقدر بعدهم عن الوطن.

قال هادي: “إن هذه الآليات التي تضمن المساءلة مهمة للغاية … كما أنها تضمن أن يفهم الناس أن العدالة لن يطويها النسيان”، ويضيف: “إنها آليات مهمة – إلى أن يأتي الوقت الذي يمكن تحقيق العدالة والمحاكمة في سوريا، الأمر الذي سيكون له معنى مختلف للغاية بالنسبة للجميع هناك”.

ويوافق على هذا الرأي مازن درويش رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الذي اعتقل عدة مرات بسبب أنشطته المناصرة للقضية وتغطيته للصراع السوري.

وقال درويش: “هذه ليست عدالة”. هذه هي الخيارات البديلة، لأننا في يوم من الأيام سننشئ نظام عدالة انتقالية محترَمًا في سوريا.

بالعودة إلى منزل إيمان ومحمد في مكان غير مصرح بالكشف عنه بألمانيا، فإن ذكريات ذلك اليوم تداعب كل لحظات يقظتهم. ومع ذلك، فإن هذا اليأس لم يردعهم عن الأمل في تحقيق العدالة يومًا ما ضد منفذي هجوم الغوطة.

تقول إيمان: “لقد علّمنا الظلم أن نكون شجعانًا. ولكن بقدر ما لدينا من الشجاعة، فإننا ضعفاء وما حدث أمامي لا يفارق ذهني”.

تضيف: “هذه هي أمنيتي في هذه الحياة: أن تتم محاسبة [الأسد] – هو وجميع أولئك الذين أجرموا في حقنا وفي حق كثيرين آخرين، الذين ظلموا العديد من الأطفال وتركوا الكثيرين من دون مأوى”.

لويس ساندرز وَ بيرغيتا شولكه وَ يوليا بايَر

ترجمة: ع.ح

حقوق النشر: دويتشه فيله 2020

تحقيق حصري لشبيغل ودويتشه فيله

———————————————-

غارديان: سوري عانى التعذيب في سجون دمشق التقى بجلاده صدفة في متجر بألمانيا

نشرت صحيفة “غارديان” (Guardian) البريطانية تقريرا مطولا عن رحلة مواطن سوري من سجون دمشق إلى حياة اللجوء في ألمانيا حيث بدأ ملحمة أخرى في ردهات المحاكم رافعا دعاوى قضائية ضد نظام الرئيس بشار الأسد بتهم تتعلق بارتكابه جرائم حرب.

وتقول الصحيفة، في تقرير للكاتبة إيما غراهام هاريسون، إن أنور البني نذر حياته للدفاع عن حقوق الإنسان في بلده، سوريا.

لم يكن قد مضى على وجود البني في منفاه بألمانيا سوى شهرين عندما وجد نفسه وجها لوجه داخل متجر تركي في برلين أمام الرجل الذي كان قد استجوبه في سوريا وأودعه في السجن قرابة عقد من الزمان. كان هو وسجانه السابق يتسوّقان في المتجر القريب من بوابات مخيم مارينفلد للاجئين في برلين الغربية.

ويلات الحرب ومشقة الحياة

كان ذلك عام 2014، أي قبل سنة من قرار المستشارة أنجيلا ميركل فتح حدود ألمانيا أمام اللاجئين، ليدخل البلاد أكثر من مليون فرد منهم هربا من ويلات الحرب ومشقة الحياة في دولهم. ومن بين أولئك الفارّين وجد آلاف السوريين طريقهم إلى العاصمة برلين.

والبنّي محامٍ ظل يدافع عن حقوق الإنسان ويحارب النظام في المحاكم لأكثر من 3 عقود، وقضى سنوات عديدة في السجون لما سبّبه من قلق لحكومة دمشق، وكان ضمن شبكة من الزملاء والأصدقاء والمعارضين السابقين.

يقول البنّي، وهو يعود بذاكرته إلى الوراء، “كنت برفقة زوجتي (أثناء تبضعنا في المتجر التركي) عندما أسررت لها في أذنها “إنني أعرف هذا الرجل”، لكنني لم أستطع تذكره جيدا. وبعد بضعة أيام أخبرني صديق لي قائلا “ألم تعرف أن أنور رسلان يقيم معكم في مخيم مارينفلد؟”، “عندها فقط أدركت الأمر”.

كلاهما درس القانون

تشير هاريسون في تقريرها إلى أن فارق السن بين الأنورين (البني ورسلان) 4 سنوات، ودرس كلاهما القانون لكنهما اختارا الانحياز إلى طرفين متناقضين في ظل النظام السياسي “الاستبدادي” في سوريا. فقد أصبح رسلان ضابط شرطة قبل أن يتحول إلى العمل في جهاز الاستخبارات، وهناك ساهم في احتجاز البني.

وحين التقى البني بالصدفة برسلان، كان ينكب على دراسة ملفات قانونية مواصلا، على البعد، نضاله ضد الدولة السورية ومن أساؤوا معاملة الناس فيها.

وقال البنّي إنه لا يكره رسلان في شخصه لأن المشكلة تكمن في النظام، “ولذلك لا أضمر في الحقيقة شيئا ضده”.

وما كان ثمة ظن أن دروب الرجلين (البني ورسلان) ستتلاقى مرة أخرى بعد 4 سنوات، وستتبدل أدوارهما حيث كان القضاء الألماني يتأهب للنظر في دعوى قانونية شهيرة. أما البني فقد انهمك في الأثناء في مساعدة النيابة العامة الألمانية في حين يواجه رسلان عقوبة السجن.

من خبرته يعرفها جيدا

وفي يونيو/حزيران الماضي صعد البني إلى منصة الشهود في قاعة المحكمة للإدلاء بتفاصيل عن الأهوال والإجراءات البيروقراطية في سجون الأسد وغرف التعذيب التي يعرفها جيدا من واقع خبرته.

ورأى البني أن الدعوى القضائية المرفوعة أمام القضاء الألماني “ليست قضية شخصية. هدفي هو إقرار العدالة لجميع السوريين”.

لقد أصبح رسلان بعد قرابة 10 سنوات على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا أول شخص في العالم يمثل أمام القضاء في تهم تتعلق بتعذيب وقتل مدنيين تحت رعاية الدولة خلال الصراع المحتدم هناك.

وساعد البني، الذي وصفه تقرير غارديان بأنه كان شوكة في خاصرة المسؤولين في دمشق، السلطات الألمانية في العثور على شهود أبدوا استعدادهم للإدلاء بشهاداتهم أمام المحاكم.

ويواجه رسلان، وهو عقيد سابق في المخابرات السورية، تهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في السنوات الأولى من نشوب الصراع قبل انشقاقه عن النظام عام 2012. وكان يعمل وقتئذ في الاستخبارات العسكرية حيث قيل إنه كان يترأس وحدة تحقيقات تابعة للفرع 251 “سيئ السمعة” والسجن الملحق به.

في زمانه شاع الرعب

ووفقا للادعاء الألماني، اتسمت المرحلة التي أشرف فيها رسلان على تلك الوحدة بإشاعة الرعب حيث تعرض السجناء خلالها إلى صنوف من التعذيب كالصعق بالكهرباء والضرب والاعتداء الجنسي طوال 16 شهرا. وتزعم صحيفة الاتهام الموجه ضده أن ما يربو على 4 آلاف شخص ذاقوا مرارة التعذيب في السجن خلال تلك المدة، وقضى أكثر من 58 معتقلا نحبه.

وبدأت محاكمة رسلان في 23 أبريل/نيسان الماضي أمام هيئة مؤلفة من 3 قضاة بمدينة كوبلنز التاريخية على ضفاف نهر الراين، ويتوقع أن تستغرق المحاكمة عاما ونيف. ويحاكم معه ضابط سابق في المخابرات السورية يدعى إياد الغريب، الذي عمل تحت إمرة رسلان في دمشق.

ووصفت صحيفة غارديان المحاكمة بأنها “لحظة تاريخية” لأعداد لا حصر لها من السوريين ممن نجوا من غرف التعذيب التابعة للنظام أو فقدوا أحباء لهم. وإذا ثبتت إدانته، فسيواجه رسلان عقوبة السجن مدى الحياة.

ولا تُعد محاكمة رسلان المحاولة الأولى لتقديم الطبقة الحاكمة في سوريا إلى القضاء، فقد سبق أن أصدرت بعض الحكومات الغربية مذكرات اعتقال بحق شخصيات بارزة.

محكمة كوبلنز التي يُحاكم أمامها أنور رسلان ومتهمون آخرون (رويترز)

بصيص أمل للعدالة

بيد أن نخب النظام والضباط العاملين بالخدمة لا يزالون في مأمن ما داموا داخل الأراضي السورية، ولم يسافروا إلا إلى الدول الحليفة لهم التي لن تقوم أبدا بتسليمهم.

ومع ذلك هناك بصيص أمل في عدالة بالداخل أو في محاكم دولية، لكن الصحيفة البريطانية ترى أن من غير المحتمل مثول بشار الأسد وزبانيته أمام محاكم محلية في وقت تتعرض فيه المعارضة في الغالب الأعم لهزائم داخل سوريا.

ونظرا لأن سوريا ليست طرفا في المحكمة الجنائية الدولية، فلن يتسنى لمدّعي هذه المحكمة ملاحقة حكومة دمشق. ويمكن لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة طلب فتح تحقيق، إلا أن محاولات من هذا القبيل أجهضتها روسيا والصين.

على يقين بالانتصار

كما أخفقت دعوات أخرى بإنشاء محكمة خاصة كتلك التي أُنشئت للنظر في دعاوى ارتكاب جرائم حرب في يوغسلافيا السابقة.

ولذلك تبقى المحاكم الوطنية هي السبيل الرئيس أمام الناجين في مساعيهم لتحميل أركان النظام السوري مسؤولية ما حدث لهم. وقد أدرجت دول مثل ألمانيا مبدأ الولاية القضائية العالمية في قوانينها مما يتيح لمحاكمها مقاضاة أي شخص على ارتكابه جريمة في أي مكان من العالم، إذا صُنفت على أنها خطرة بما يكفي.

وتصف الكاتبة إيما غراهام هاريسون في تقريرها أنور البنّي (61 عاما) بأنه “رجل نحيف القوام، خشن الملامح، كثّ اللحية، قضى معظم سنوات شبابه في كفاح محفوف بالمخاطر وبلا طائل إلى حد كبير دفاعا عن حقوق الإنسان في بلد بات رمزا لانتهاكها”.

وعندما سألت كاتبة التقرير أنور البنّي عما إذا كان يئس من مواصلة كفاحه من أجل حياة أفضل لسوريا، أجاب بالقول “لم أفقد قط إيماني بقضيتي. إنني على يقين بأننا سننتصر”.

المصدر : غارديان

—————————————-

شهادات مروعة للناجين من التعذيب في السجون السورية/ خليل مبروك

قدم 3 معتقلين مفرج عنهم شهادات مروعة عن التعذيب وظروف الحياة القاسية في سجون النظام السوري، وما يلقاه المعتقلون فيها من معاناة.

واستضاف اتحاد تنسيقيات الثورة السورية المعتقلين المفرج عنهم: صلاح عاشور الذي قضى في معتقلات النظام 25 عاماً، والمحررة حسنة الحريري التي يطلق عليها لقب “خنساء الثورة السورية” والناجية من حكم الإعدام ميسون لباد التي شاركت في نقل المواد الطبية للجرحى فاعتقلت وعذبت وتم الحكم عليها بالإعدام.

وروى المحررون الثلاثة في لقاء عبر موقع “زوم” (zoom) شهادات حول تفاصيل هذا التعذيب، ومن ضمنه عمليات قطع للأعضاء واغتصاب النساء وثقب بالمثاقب الكهربائية ودفن جثث ضحايا التعذيب في مقابر جماعية.

وقالت هناء درويش أمين سر اتحاد تنسيقيات الثورة إن الاتحاد دأب من قبل على تنفيذ فعاليات يوم المعتقل في ديسمبر/كانون الأول من كل عام، لكنه استبدلها بلقاءات مع الناجين عبر الإنترنت بسبب جائحة كوفيد- 19.

تعذيب وقطع أعضاء

وقال عاشور، وهو من مدينة حماة، إنه لم ير وجهه بالمرآة طيلة فترة اعتقاله التي امتدت من 1980 حتى 2004 حيث قضى أغلبها في سجن تدمر.

وأضاف أن السجانين كانوا يجرحون وجهه بالشفرة والسكين ويرددون “أغاني تشرين” مؤكداً أنه عايش رفاقا من الشبان الصغار الذين جرى اغتصابهم أو اغتصاب أمهاتهم وشقيقاتهم لإرغامهم على الاعتراف بما نسب لهم من اتهامات.

وقدم عاشور شهادة قال فيها إن سجاني النظام قطعوا العضو الذكري لأحد المعتقلين وأُذُن معتقل آخر للضغط عليهما خلال الاستجواب.

ورداً على سؤال للجزيرة نت حول دوافع السلطات الأمنية ومبرراتها لهذا التعذيب، قال عاشور إن الأمر يتعلق بما سماه “عقلية العصابة” التي تغولت على السوريين دون تفريق بين اتجاه سياسي أو انتماء مذهبي أو طائفي أو عرقي.

وأضاف “تخيل أن يمضي السجين 21 عاماً يضرب ويعذب ويحرم من لقاء الأهل ويتم تبريد حرارته في الشتاء ودفعه للانفجار حراً في الصيف، كل ذلك يجري بعد سنوات من انتهاء التحقيق والاستجواب”.

وأكد عاشور أن “عقلية العصابة” لا بد أن تقابل بالعقلية الواعية المنظمة من قوى الثورة، مشيراً إلى أن ضحايا النظام نجحوا في التعايش والتعاون داخل سجونه وتقديم منظومة حضارية راقية للعمل الموحد.

كما أشار إلى أن عذاب الأسير يشمل معاناة عائلته طوال فترة اعتقاله وانقطاع أخباره داخل السجون، موضحاً أن والديه توفيا بالجلطة وهما يستقبلان الأخبار المتناقضة عن مصيره.

اغتصاب بالجملة

من جهتها روت الحريري، وهي من بصر الحرير في ريف درعا، الكثير من الشهادات عن التعذيب الذي شهدته خلال فترتي اعتقالها الأول عام 2011 والثاني عام 2012.

وقالت المواطنة المحررة، وهي أم 4 شهداء قضوا خلال الثورة، إنها شهدت الويلات عند اعتقالها الثاني مع ابنتها والذي امتد 3 سنوات تنقلت خلاله بين عدد من السجون ومراكز الاعتقال بين درعا ودمشق.

وأفادت أنها شهدت أيام اعتقالها الأولى قيام السجانين في سجن لواء 102 بدفن جثث الشبان الذين يقضون في التعذيب تحت نوافذ غرف الحجز.

وأضافت أنها عندما نقلت إلى درعا مكثت مع 30 أسيرة بغرفة واحدة، وكان السجانون يختارون منهن كل ليلة أسيرة أو أكثر يتم اقتيادهن إلى ما يزعمون أنه الاستجواب والتحقيق، لكنهن يعدن في حالة جسدية ونفسية يرثى لها ويرفضن الحديث عما تعرضن له.

قلع عيون

وتضيف “شاهدتهم بعيني يخلعون عيون أحد المعتقلين بمفك ويثقبون رقبته وصدره بمثقب كهربائي، ثم سأل المحقق الجنود: “فطس!!” (هل مات؟) فأجابوا: نعم، فقال: كبوه بالحمّام، لكنهم قبل أن يخرجوه كتبوا على صدره بالقلم العريض “خائن للوطن”.

بعد درعا، تم نقل الحريري إلى دمشق في حافلة “بوسطة” أقلت نحو 40 معتقلاً بينهم 6 فتيات، كانت الرحلة بذاتها كما تصفها المواطنة قطعة من الجحيم، فالحافلة مكونة من قواطع من الشبك والسلاسل المعدنية، وعند الوصول إلى مقر فرع الاحتجاز في دمشق كانت الصاعقة الجديدة.

تقول الحريري “كانوا يدفعوننا بالأقدام خارج الحافلة، ويضربون جميع المساجين رغم أن أغلبهم لديهم إعاقات من التعذيب، وقد صعقت من منظر ساحة الفرع، كان مفروشا بجثث عارية لمعتقلين ومعتقلات”.

وردا على سؤال للجزيرة نت حول الأسئلة التي كانت توجه لها خلال التحقيق، قالت إن المحققين كانوا يطلبون منها الاعتراف بتلقي تعليمات من إسرائيل وبالحصول على تمويل من السعودية وقطر والكويت.

وأضافت أنها كانت في المقابل ترفض ذلك، وتخبرهم أن أهالي درعا والسوريين عموما خرجوا دفاعا عن أنفسهم بعدما أصبحت بيوتهم وأموالهم وأعراضهم نهبا للاعتداءات.

وفصل السجانون الحريري عن المعتقلات الست الأخريات، ووضعوها في زنزانة انفرادية 8 أيام قبل نقلها إلى غرفة الأسيرات التي كانت مشهداً جديداً من “جهنم” وفق ما تقول.

واستطردت “كن نحو 75 فتاة في غرفة لا تتجاوز 3/3، أشبه بمصح عقلي، والأسيرات فقدن عقولهن، وكان هناك سجان يدعى محمد عليا يعري كل فتاة تدخل السجن ويغتصبها، وكان من بين الفتيات عدد كبير من اللواتي حملن سفاحا من هذا الاغتصاب”.

تهم جاهزة.. توقيع على بياض

وتقدم الناشطة الدرعاوية ميسون اللباد شهادة أخرى عن ظروف تعذيب المعتقلين في سجون نظام الأسد، تركز فيها على توجيه التهم الجاهزة لهم وعلى توقيعهم على أوراق بيضاء مقابل وقف التعذيب.

نشطت اللباد في المجال الطبي وتقديم الإسعافات الأولية لمصابي المظاهرات في درعا حتى تم اعتقالها بعد تتبعها في إحدى زياراتها للعاصمة دمشق عام 2012 لتمضي عاما ونصف العام في المعتقل.

تم نقلها فور اعتقالها إلى الفرع رقم 215 وأودعت الزنزانة الانفرادية شهرين، كانت خلالها تتعرض للتعذيب الذي شمل الشبح والجلد والدولاب، قبل نقلها إلى درعا في خزانة السيارة “الطبون”.

تعرضت الناشطة للضرب المبرح في درعا من قبل عناصر الفرع، ثم رأت ابن عمها الذي كان معتقلاً يتعرض للتعذيب، وهو مفقود حتى هذه اللحظة، ثم أودعت غرفة مع 15 أسيرة أخرى لمدة شهر التقت فيه بأسرى من لبنان لم يكونوا يعلمون أن حافظ الأسد قد مات، وفق شهادتها.

نقلت بعد ذلك إلى سجن عدرا، وهناك التقت أسيرة أردنية من أصول فلسطينية، والتقت كذلك بإحدى الليبيات من فريق مرافقة الرئيس الراحل القذافي وكذلك بسيدة محكومة بالمؤبد اعتقلوها مع زوجها الذي قتلوه بالتحقيق ووجهوا لهما تهمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل سعد الحريري.

وتقول اللباد عن ظروف الاعتقال في عدرا “التقيت بأسيرة تعرضت للاغتصاب، وكان معنا أسيرة من الطائفة العلوية قضت بالجلطة دون أن يقدموا لها أي إسعاف، وكانت ظروف السجن من أسوأ ما يكون على صعيد الطعام والظروف الصحية والتعذيب”.

وتختم اللباد التي تدرس اليوم العلوم السياسية في الأردن بالقول “أجبروني على البصم على 20 ورقة فارغة بيضاء، ثم ملأوها بالتهم الجاهزة لديهم وقدموها للمحكمة”.

الجزيرة نت

——————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى