الاعتقال أكبر مآسي السوريين/ فايز سارة
سيعجز السوريون إذا رغبوا في رصد وتعداد ما أصابهم من كوارث، وما عاشوه من مصائب في العشر سنوات الماضية، ولا شك أن عجزهم سيكون مؤكداً في ترتب تلك المصائب والكوارث وفقاً للأضرار التي تركتها في حياتهم وفي أرواحهم وفي مستقبلهم، والأمر في كل الحالات، يتصل بحجم ما تعرضوا له من هجمات وحروب، تشاركت فيها دول وقوى وجماعات، بدأها النظام بإطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم واعتقالهم، ثم توالت فصول الدم والتهجير والمعاناة تتصاعد، وأخذ يتزايد ويتعدد المشاركون في إنتاج وتكريس المعاناة السورية.
وإذا كانت المؤسسات الدولية المعنية بإحصاء أرقام الكارثة السورية، قد أوقفت عمليات الإحصاء في بعض مجالات الكارثة منذ سنوات، لأن الأرقام تجاوزت حدود التقديرات أو التصورات، فإن ذلك فتح الباب أمام تقديرات، باتت أرقامها تصل حدود الخيال في بعض المجالات، إن لم نقل كلها، ما يدفع إلى استبعاد طرحها ومناقشتها، لأنها لن تضيف شيئاً في شرح كوارث تجاوزت حدود التصورات.
وبالرغم مما يعكسه ذلك من مظاهر وعمق كارثة السوريين، فإن السوريين كما كل الشعوب الأخرى، سارعوا ما استطاعوا للتغلب على ما أصابهم. فالذين تم تهجيرهم، اتخذوا مناطق أخرى للإقامة وخصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لكن القسم الأكبر الذين زادت أعدادهم عن ثمانية ملايين سوري ذهبوا إلى اللجوء في بلدان الجوار وفي الأبعد منها.
وبينما قد توافرت ظروف أفضل لحياة اللاجئين في البلدان الأوروبية، ولمن قام أقاربهم برعايتهم، كما حدث في بلدان الخليج العربية، فإن أغلب اللاجئين الآخرين، أقاموا توافقاً ولو قاسياً بين ظروفهم واحتياجاتهم، وانخرط منهم من استطاع في عمل يساعده على الحياة وفي تلبية احتياجات من معه، واستعانت الأكثرية مثل إخوانهم في الداخل بمساعدات يرسلها الأقارب والأصدقاء القادرون لتغطية احتياجاتهم، يضيفونها إلى المعونات القليلة، التي يقدمها المجتمع الدولي، ويستولي نظام الأسد وشبكات الفساد في بعض الدول المضيفة على جزء منها.
ولم يقتصر جهد السوريين في السعي للتأقلم مع الظروف الصعبة على ترتيب إقاماتهم ومواردهم وتحديد مستويات عيشهم بغض النظر عما كانوا عليه في السابق، بل استعانوا بخبراتهم في تجاربهم المُرة مع نظام الأزمات المفتعلة الذي تعودوا عليه في معظم سنوات حكم الأسد الأب من اختلالات بين الأجور والصرفيات، وعدم توافر احتياجات وسلع أساسية، وتردي الخدمات وخصوصاً في قطاعات الصحة والتعليم، وانتشار الفوضى والفساد وخرق القانون، وجميعها عادت للظهور بصورة واسعة في عهد الأسد الوريث خصوصاً في ظل حروب السنوات العشر الماضية، ما جعل أكثر السوريين وخصوصاً في مناطق سيطرة النظام، يتنازلون عن كثير من احتياجاتهم الضرورية، والاكتفاء بالحدود الدنيا، التي بالكاد تكفي لاستمرار الحياة في ضوء الأزمة المعيشية، التي أطاحت بقيمة العملة السورية وانخفاض فرص العمل وأجور العاملين.
لقد اختفت الكماليات والاستهلاكيات في حياة أغلب السوريين، وجرى استبعاد بعض الضروريات إذا أمكن، أو تم استبدالها بما هو أقل سعراً وجودة في حالات الضرورة، وكان في نتائج النمط الجديد من التغييرات المعيشية التوقف عن إرسال الأولاد وخصوصاً الفتيات إلى التعليم أو اقتصاره على مراحل أدنى، ودفع بعض الأطفال إلى سوق العمل رغم ظروفها البائسة.
ورغم بؤس التدابير، وسوء الخطوات التي قام بها السوريون لمواجهة ما يحيط بهم من كوارث، وتداعيات الحرب التي تعرضوا لها، فإنه يمكن القول، إن أكثرية السوريين عالجوا بما أمكن ظروفهم، وإن قسماً منهم دخل في طور أفضل من تحسين ظروف وشروط حياته بعد ما تعرضت له من نتائج موت وتدمير ممتلكات وتهجير وغيرها من جرائم أصابت أغلب السوريين، إن لم يكن بواسطة نظام الأسد وحلفائه، فقد كانت بواسطة جماعات التطرف والعصابات المسلحة أو بواسطة قوى تدخل إقليمي ودولي، الحقت قتلاً ودماراً بحق سوريين.
الجزء أو الحيز الوحيد من كوارث السوريين الذي ما زال حاضراً ويتفاقم، وتتصاعد تداعياته، هو موضوع المعتقلين والمختفين قسراً، وهو موضوع غاية في الصعوبة والتعقيد، حيث إن المعتقلين والمختفين قسراً أشخاص مجهولو المصير، لا يعرف أهلهم وأحبابهم، إن كانوا بالحياة أو ماتوا، ولا يعرفون إن كان سيفرج عن الأحياء منهم أو سيظلون في غياب. عشرات أو مئات الأسئلة، تحيط بمصائرهم دون أن يكون لها أجوبة، وسط حقائق من أبرزها أننا أمام أطراف متعددة مسؤولة في قضية المعتقلين والمختفين أولها النظام وعصاباته، ثم جماعات التطرف والإرهاب إضافة إلى العصابات المسلحة، وكثير منهم مضى على اعتقاله وتغيبه سنوات طويلة، دون أن تظهر أي علامة موت أو حياة تتصل بهم، فلا هو حي ينتظره أهله، ولا ميت يحسمون أمره.
إن عذابات المعتقلين والمختفين قسراً في الظروف السورية التي مرت، وبما هو واقع الحال من ظروف، أكبر من أن يحتملها إنسان، وهو ما أكدته معلومات تسربت من داخل معتقلات والسجون، معلومات يبدو الموت أقل قسوة وبشاعة من العيش في واقع المعتقلات والسجون، وتتجاوز حال المعتقلين عذاباتهم لتصب أشد تأثيراتها على أحبابهم وأهاليهم من آباء وأمهات ومن أبناء وبنات وزوجات وأخوات، لا تتعلق التأثيرات بعواطفهم فحسب، بل تتصل بما يحيط بهم من جوانب حياتية ومعيشية عملية، ما يجعل من الضروري، تحرك السوريين للكشف عن مصائر المعتقلين والمختفين، وأن يبذلوا كل الجهود لتحويل قضيتهم إلى قضية رأي عام، ليس في سوريا وإنما في المستوى العالمي، إذ لا يصح أن يسكت العالم على جريمة مستمرة من عشر سنوات، تشمل نحو ربع مليون إنسان، وخلفها أكثر من مليوني شخص يحملون آثارها، ويعانون إلى أبعد الحدود في حياتهم وأرواحهم.
كاتب وصحفي سوري
الشرق الأوسط