تثقيف السياسي أم تسييس المثقف.. هذا هو السؤال/ حكيم مرزوقي
المثقّف يرى السياسة محرقة للفكر والسياسي يرى الثقافة مضيعة للوقت.
في مختلف الدول العربية نلاحظ انسحابا للمثقفين من الشأن العام وخاصة السياسي، ولا يحضر هؤلاء إلا من باب النقد أو السخرية، وهذا ليس مرده سلبيتهم بقدر ما يعود إلى العلاقة المضطربة بين السياسي والمثقف، حيث كلاهما يقف على الطرف النقيض من الآخر، وهو ما يؤدي في النهاية إلى خلل في الرؤى وتذبذب في السياسات، وبالتالي ضياع إمكانية التطوير والبناء لمستقبل أفضل.
حين توفي المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط، منذ أسابيع قليلة عن سن ناهزت 86 عاما، اكتفت الجهات السياسية الرسمية بنعي هذا المثقف العربي النادر، عبر كلمات مقتضبة، ولم يشارك في جنازته من الرئاسات الثلاث والأحزاب السياسية الوازنة في البلاد، سوى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، في خطوة وصفها مراقبون، بمكر شديد، بأنها “ضربة معلّم”، في إشارة إلى أن الزعيم الإسلامي أراد أن يقطع الطريق على خصومه السياسيين، ويوصل رسالة مفادها أنه يهتم للشأن الثقافي.. رغم أن الرجلين لا يلتقيان عند أي أرضية فكرية مشتركة.
وحين شارك الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، في مهرجان خطابي لصالح الحملة الانتخابية التي أقامها حزب الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي، استنكر جمع من المثقفين ما أقدم عليه هذا الشاعر المعروف بمشاكساته، والمحسوب على اليسار المعارض، واعتبروا ذلك انزلاقا خطيرا، خصوصا وأن الشاعر الراحل قد انبرى في أيامه الأخيرة لكتابة المقال السياسي، مما جعل أسماء من الوسط الثقافي تلومه على ذلك، وتعتبر ما أقدم عليه “تلويثا” لمكانة المثقف وتشويها لصورته.
هذا يحدث في بلد يتلمّس طريقه نحو ديمقراطية ناشئة مثل تونس التي يعتبرها البعض ـرغم أزماتها الاجتماعية والاقتصاديةـ جزيرة ديمقراطية وسط محيط إقليمي بالغ القتامة، أما في معظم أقطار العالم العربي، فإن وضع المثقف وموقفه من المشهد السياسي يتراوح بين التبعية والإذعان المطلق للسلطة السياسية أو المعارضة التي يُعرف مصيرها الفاجع. وثمة فئة ثالثة من المثقفين الذين أمسكوا بالعصا من الوسط، وخلطوا الزيت بالماء فكانوا من أولئك الذين جمعوا بين “شرف المعارضة وامتياز السلطة”.
تجاوز النمطية
يبقى عزوف المثقف عن الخوض في الشأن السياسي، وكذلك العكس، هو العنوان السائد لمشهد ثقافي سياسي تشوبه الضبابية والالتباس، مما يستدعي طرح السؤال الجوهري الأكثر خطورة وهو “هل يوجد لدينا من الأساس، مثقف حقيقي وسياسي حقيقي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون في مجمله مجرد أشباه سياسيين وأشباه مثقفين؟”.
تكرست هذه الصورة النمطية عن المثقف والسياسي في العالم العربي، ورافقتها أحكام مسبقة ومحنّطة من كلا الطرفين حتى أصبح كل طرف لا يقترب من مساحة الآخر إلا بقدرما تقتضيه الحاجة، بمفهومها الانتهازي وليس العملي أو الإجرائي أو البراغماتي بمفهومه الإيجابي.
المثقف لا يكاد يعرف من السياسة سوى أسماء العواصم والرؤساء والنظم الدستورية، والسياسي لا يفقه من المعرفة والثقافة سوى الأقطاب المكرسة والمتداولة، وذلك للتدليل على عدم جهله ليس إلاّ.
العلاقة بين المثقف والسياسي تحتاج إلى تصحيح عن طريق لعبة “توريط متبادلة” وتكون مرتكزة على مفاهيم جديدة وأصيلة غير تلك التي سادت منذ عقود، وتعتمد على مقولات يزدري فيها السياسي المثقف وينعته بالعزلة والكسل والتفكير غير الواقعي من جهة، ويتأفف فيها المثقف من السياسي، ويصفه بالسعي نحو السلطة والنفوذ من جهة ثانية.
المثقفون يجب أن يملأوا أمكنتهم في مكاتب الحكومات وعلى مقاعد البرلمانات، وحتى الترشح للانتخابات الرئاسية أسوة بنماذج ديمقراطية في العالم، والسياسيون من جهتهم، عليهم أن يقبلوا على الفكر والمعرفة فعلا، لا قولا، وينبغي أن تكون تلك المنجزات والبنى التحتية الثقافية، فاعلة ومفعّلة وليس مجرد واجهات للبروبغندا السياسية.
إذابة أسوار الجليد بين السياسي والثقافي، ومحو الحواجز بين المجالين لا يمكن أن تتوفر دون إرادة من الطرفين تضمنها دولة القانون والمؤسسات. وهذا الأمر بإمكانه أن يحدث في العالم العربي اليوم كما حدث في الماضي البعيد والقريب.
ألم يكن محمود المسعدي في تونس، غازي القصيبي في السعودية، فخري البارودي في سوريا، وطه حسين في مصر، من المثقفين الذين احتلوا المراكز المتقدمة في عالم السياسة والدبلوماسية، واستطاعوا تقديم الكثير دون أن تشوههم السياسة وتسيء لمكانتهم في عالم الإبداع والفكر.
معادلة غير متكافئة
ثمة عقدتان تسيطران على نفسيتي السياسي والمثقف في العالم العربي، ومنشأها انعدام الثقة، وهما تخوف المثقف من الخوض في الشأن السياسي، وتوجّس السياسي من المثقف باعتباره عديم الالتصاق بالواقع وحساباته الاقتصادية والسياسية.
المشكلة أن السياسي (رجل السلطة) يستطيع بسرعة أن يأخذ بيد المثقف نحو عالم السياسة، ولكن من البوابة المغلوطة، أما المثقف ففي غالب الأحيان يفشل في توريط السياسي ضمن مشروع ثقافي طموح ومثمر.
المؤسف في العالم العربي أن الأمور تعود نحو القهقرى من حيث تداخل وتكامل الثقافي والسياسي. أليس الخديوي إسماعيل هو الذي أسس دار الأوبرا في مصر مثلا؟ أين ولت تلك الأيام. الجميع يتفق على أن النخب العسكرية التي استولت على الحكم هي سبب كل بلاء.
الصورة النمطية للمثقف الذي يختفي خلف نظارات سميكة ويتمترس وراء كومة من الجرائد وسط سحابة دخان وجهاز الراديو يصدح بنشرات الأخبار، لم تعد اليوم، نفسها، من جهة الكاركتر (الشكل)، لكنها لا تختلف عنها من ناحية العزلة والابتعاد عن صناعة الحدث السياسي أو المشاركة فيه بل وحتى مجرد إبداء الرأي.
قد يكون مثقف اليوم أكثر التصاقا بواقعه الاجتماعي من حيث المظهر ومواكبة مفردات العصر، إلاّ أن سلبيته المفرطة تجاه الواقع السياسي ظلت على حالها بل وزادت “تطيّرا” منه في حدود ما تسمح به هوامش التعبير بين بلد عربي وآخر، أي أنه يكتفي بالنقد والسخرية أحيانا، دون الانخراط في المبادرة، وكأن الفعل السياسي شأن لا يخصه.
مردّ هذا التأفف يعود إلى ضيق وفقر الحلبات السياسية أوّلا، وسط غياب الحياة الديمقراطية الحقيقية، بالإضافة إلى كون السياسة في نظر المثقف، محرقة، نظرا إلى ارتباطها في العالم العربي بكل أشكال الفساد والانتهازية، في حين أنها من أنبل وأرقى مسؤوليات الفرد إزاء المجموعة، وفقا لجميع المنظومات الأخلاقية منذ اليونان القديمة وحتى عصور الأنوار، وكذلك التاريخ الحديث الذي ارتبط فيه العمل السياسي بحركات التحرر الوطني.
السياسي بدوره، يرى الثقافة مضيعة للوقت، ولا تنفع إلا في حدود ما تخدم مراميه ونواياه، أي أنها مجرد ديكور لتأثيث مشهد انتخابي واسترضاء فئات هشة يمكن الاستفادة من أصواتها واستخدامها كأبواق دعائية. هذه المعادلة غير المتكافئة بين السياسي والثقافي لا يمكنها أن تتحقق إلا بمشاريع تنموية حقيقية داخل مناخ سياسي صحي وديمقراطي، و“هنا حطنا الجمّال” على قول المثل السائد.
كاتب تونسي
العرب