«تبادل النساء»: لماذا الشرف مهم وقاتل لهذه الدرجة؟/ محمد سامي الكيال
يعود مفهوم «تبادل النساء» للأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس، الذي عمل على تفسير النظام الأبوي، بوصفه نتاجاً لبنية اجتماعية، وليس محصلةً لفروق طبيعية بين النساء والرجال: تستمد البنى الاجتماعية التقليدية استقرارها، وتعيد إنتاج ذاتها، عبر التحكّم بعلاقات القرابة والمصاهرة فيها، وتنظيم تبادل النساء بين العائلات والعشائر المختلفة. تحريم سفاح القربى يوجّه البشر نحو البحث عن شركائهم في التزاوج خارج المجموعة الأساسية التي ينتمون إليها، ما يؤدي إلى نشأة شبكة معقدة من العلاقات والتحالفات والأعراف وأساليب التواصل بين المجموعات التقليدية المختلفة، تشكّل جانباً أساسياً من النظام الاجتماعي القائم، وتؤسس لنقل الملكيات والامتيازات والمنافع المادية، ما يجعل عدم سيطرة رؤساء المجموعات، أي الآباء، على نسائهم تهديداً للجماعة، وتدميراً لأساس وجودها الاجتماعي.
ماثل شتراوس علاقات تبادل النساء بتداول الكلمات في اللغات الإنسانية، ولهذا أهمية كبيرة، فحسب اللسانيات البنيوية، التي تأثّر بها الباحث الفرنسي وجيله بأكمله، لا تمتلك الكلمات/الدوال مدلولاتها من خصائص جوهرية موجودة فيها، بل من موضعها في أنساق اللغة، وعلاقاتها ببقية الدوال، وبالتالي فإن الخصائص المسبغة على النساء، بوصفهن زوجات وأمهات وجوارٍ وعاهرات، عفيفات أو مدنسات، تنتج بأكملها عن موقعهن في الأنساق البنيوية القائمة. وأيضاً فإن الأدوار المعطاة للرجال هي نتيجة البنية، فمن لا يمتلك القوة والعناية اللازمة للسيطرة على نسائه يفقد «معناه» أي ليس شرفه ومكانته وحسب، بل وجوده ذاته. لا يوجد وفق المنظور البنيوي، الذي طمح لإيجاد صيغ علمية اختزالية للعلوم الاجتماعية، جلادون وضحايا، فكل الأدوار، أنثوية أو ذكورية، عناصر لا تكتسب خصائصها من إرادة أو عقل/روح ذاتي، بل من بنية تصنع الذوات.
كانت الأنثروبولوجيا البنيوية ثورة فكرية على المناهج السائدة قبلها، مثل الطبيعانية والوظيفية والمادية الاختزالية، إلا أنها تراجعت تدريجياً بسبب أعمال ميشيل فوكو، الذي رفض تحديد السلطة بوصفها بنية، واعتبرها نتيجةً لوضع استراتيجي معقد في مجتمع معين، يعبّر عن علاقات القوة القائمة. ومؤخراً تبدو التحليلات عن النظام الأبوي بعيدة تماماً عن شتراوس، بل حتى فوكو نفسه، رغم أنها تنسب نفسها غالباً إلى تقليدهما الفكري، إذ تبدو الأبوية «امتيازاً» يملكه الذكور وتُحرم منه الإناث، والسلطة قدرةً خاصة، يتمتع بها البعض، بينما يفتقدها الآخرون، ولذلك لا بد من قلب هرميتها لمصلحة «المهمشين».
رغم هذا فربما كانت العودة لمفاهيم شتراوس الكلاسيكية شديدة الأهمية، خاصة في الوضع العربي، لفهم الأهمية الخاصة للهيمنة الأبوية، ودورها، ليس فقط في إنتاج العنف، الذي تعاني منه النساء في المنطقة، بل أيضاً في صياغة الميدان السياسي والقانوني والثقافي: لماذا يلعب الشرف، الذي يُحمّل على النساء دوماً، هذه الأهمية الكبرى في القوانين والسياسات، بل حتى الحروب الأهلية العربية؟
مؤسسة الغضب الذكوري
يبدو العنف تجاه النساء نتيجةً لغضب الذكور الدائم، لدى شعورهم بالتهديد بفقدان ما يملكونه من سيطرة وامتياز، فهم يقتلون بناتهم وأخواتهم؛ يتحرشون بالنساء لإبعادهن عن المجال العام؛ ويمارسون العنف والاغتصاب، في تأكيد دائم للسلطة؛ ويقومون في الحالات الأكثر تطرفاً، المرافقة للحروب الأهلية، بخطف النساء واستعبادهن. إلا أن هذا الغضب ليس مجرد حالة انفعالية غريزية لدى الذكور، إذ يمكن ملاحظة ترميزات ثقافية/سياسية معينة له، لا تنتمي فقط إلى إرث مفترض، بل أيضاً إلى الوضع القانوني والمؤسساتي القائم.
لعبت العشيرة والعائلة تقليدياً الدور الأساسي في تقنين العنف الذكوري، إلا أن العنف الذي تتعرّض له النساء اليوم يبدو أكثر فوضوية مما يسمح به أي عرف أو تقليد، كما أنهن مفتقدات للحماية والأمن، اللذين توفرهما المجتمعات التقليدية عادةً، ما يجعل عنف الذكور الحالي مُحدداً سلبياً وليس إيجابياً، أو مُنتِجاً للنظام الاجتماعي، أي أنه لا يعمل على إعادة إنتاج وبلورة علاقات اجتماعية، وأساليب معينة للتواصل بين البشر، والحفاظ عليها، بل يحاول فقط تغليب تصورات مُتخيلة، وليست مُعاشة، عن الدين و»قيم الأسرة» و»ثقافة المجتمع» من خلال إنزال عقوبة جماعية بالنساء، اللواتي لم يعدن يطابقن هذه التصورات.
يمكن اقتراح تفسير لهذا يتعلق بانهيار العرف والتقليد وليس ترسّخهما، فالمجتمعات العربية، التي عرفت صيغتها الخاصة من الدولة الحديثة منذ عقود، لا تعيش خارج التاريخ، بل تشهد تطورات متسارعة على كل الأصعدة، أدت إلى تغيّر الأدوار التقليدية للنساء، ما يجعل ضبط العلاقات الاجتماعية، وعلى رأسها أسس تبادل النساء، عسيراً للغاية، خاصة مع تحلل البنى الاجتماعية التقليدية، هنا تتم مأسسة الغضب الذكوري، عبر سلسلة من القوانين والأجهزة العنفية والأيديولوجية، المرتبطة بالدولة الحديثة، التي تحاول الحفاظ على البنى التقليدية سياسياً، مقابل ضمان ولائها وخضوعها: تمنع التشريعات «الحديثة» الزواج المختلط بين الطوائف، وتتساهل مع العنف ضد النساء، سواء عبر جرائم الشرف والعنف الأسري، أو التعريفات الجنائية المائعة للتحرش والاغتصاب، اللذين كثيراً ما يُدرجان ضمن خانة «هتك العرض» أي يُعدان جرماً بقدر ما ينتهكان ولاية الآباء على أجساد نسائهم، لا بقدر ما يتسببان بضرر مادي ورمزي للإناث.
العنف الذكوري بهذا المعنى متضمن في بنية المؤسسات العامة والثقافة الجماهيرية، ويمكن تتبعه في السلطتين التشريعية والقضائية، وممارسات السلطة التنفيذية، والخطاب الإعلامي والتعليمي والديني، فضلاً عن دوره التقويمي غير المعلن، فالتحرش والقتل والاغتصاب تساهم في دفع النساء للالتزام بالأدوار المحددة لهن، وكذلك بتخفيض سقف الحقوق والحريات السياسية والفردية للمجتمع بأكمله.
الذكور الغاضبون بهذا المعنى لا ينتهكون قيم المؤسسات الاجتماعية، عندما يعتدون على النساء، كل ما في الأمر أنهم قد يمارسون عنفاً مفرطاً، وربما يهددون، في بعض الحالات المتطرفة، احتكار الدولة للعنف، ما يستلزم بعض العقوبات المُخففة. لكن ماذا عندما تنهار سلطة الدولة نفسها، وهو ما شهده عدد من المجتمعات العربية مؤخراً؟
أبعد من الإذلال
لا يعني انهيار الدولة ازدهاراً للعرف والتقليد السابق عليها، فالسلطة الحديثة ليست مجرد قشرة، يؤدي نزعها إلى عودة الجوهر الأصيل للمجتمعات، بل عنصر تكويني في كل العلاقات الاجتماعية القائمة. بيّنت كثير من التجارب التاريخية أن «خلاص» المجتمعات من سلطة الدولة، لم يؤد إلى ما هو أكثر من الانحدار إلى ممارسات صادمة بوحشيتها، وإظهار عجز البنى الأهلية عن أداء أبسط الوظائف الاجتماعية، مثل ضمان البقاء الجسدي، والحد الأدنى من التنظيم الاجتماعي والرمزي.
شهد كثير من الحروب الأهلية العربية، التي نتجت عن تزعزع قدرة الدول على الهيمنة الاجتماعية، حالات استهداف ممنهج للنساء. وعلى الرغم من أن انتهاك النساء، اغتصاباً وقتلاً واستعباداً، رافق معظم الحروب في التاريخ، بهدف إذلال الخصم وإخضاعه، فإن العنف ضد الإناث في الحروب العربية يتسم ببعض الخصائص الفريدة، فهو يستهدف بالصميم علاقات تبادل النساء لدى مجموعة معينة، ليس فقط بغرض إذلالها، بل في محاولة لاجتثاث وجودها الاجتماعي، فعندما تحرم عدوك من السيطرة على نسائه تذوّب هويته الطائفية أو العرقية، وأنماط حياته نفسها. في هذه الحالة فإن استهداف النساء جانب من حرب إبادة هوياتية، وممارسة لا تقتصر على الميليشيات والتنظيمات المتطرفة، مثل ما فعله تنظيم «داعش» بحق نساء الطائفة الإيزيدية في العراق، بل ترتكبها الدول نفسها، التي كثيراً ما تحوّلت إلى مجرد طرف من أطراف الحروب الأهلية.
عبء الهوية
بهذا المعنى تحمل النساء عبء هوية مجموعات بأكملها، ما يجعلهن دوماً تحت طائلة الاستهداف، سواء من قبل مجموعاتهن نفسها، التي تحاول الحفاظ على هويتها؛ أو من قبل خصومها؛ فضلاً عن تركيز خطابات سياسية شديدة الحداثة على أجسادهن، مثل الإسلام السياسي والتعددية الثقافية، بل حتى جانب كبير من النسوية المعاصرة، المرتبطة بسياسات الهوية.
يمكن استخلاص نتيجتين أساسيتين من هذا، أولاهما أن الخطاب الليبرالي للحرية الفردية، الذي يؤكد حريات النساء في السلوك والتصرف وتقرير المصير، قاصر عن حمايتهن، لأنه يفترض أنه يمكن ضمان الخيارات الفردية بمعزل عن تحقيق تغيير بنيوي في مجمل العلاقات الاجتماعية، وعلى رأسها علاقات تبادل النساء القائمة، وارتباطها بالدولة والبنى الاجتماعية والثقافة السائدة؛ وثانيتهما أن مواجهة الأبوية القاتلة تتطلب بناء ائتلافات فعّالة، من مختلف القوى المتضررة من النظام الاجتماعي والسياسي القائم، وليس اعتبار النساء، بوصفهن كتلة متجانسة، في مواجهة مفتوحة مع ذكور يمتلكون «الامتياز».
ربما كان الأجدى ترجمة التجربة التاريخية لاضطهاد النساء إلى لغة عمومية، بدلاً من تحويلها إلى هوية جديدة، تُحمّل النساء أعباءً جديدة، سواء تجاه الذكوريين، الذين يستهدفون النساء باسم الحفاظ على ثقافة وقيم المجتمع، أو حتى تجاه ناشطات وناشطي سياسات الهوية النسوية، الذين «يقاطعون» بدورهم كثيراً من الهويات القمعية على أجساد الإناث.
كاتب سوري
القدس العربي