«ثغرة غودل» الدستورية… وسدّ الطرق على الاستبداد/ موفق نيربية
«ثغرة غودل» اسم يُطلق على تلك الثغرة في دستور ديمقراطي، يستطيع الديكتاتور استغلالها للوصول إلى السلطة ثم الاستبداد بها.
للحكاية التالية عدة نسخ لا تختلف في عناصرها الأساسية، أختار إحداها في ما يلي:
تقدّم عالم المنطق والرياضيات النمساوي الشهير كورت غودل، بطلب للحصول على الجنسية الأمريكية، واستعداداً لامتحان المواطنة، قام كما يُفترض به بدراسة الدستور والتاريخ الأمريكيين، ثم اتصّل بصديقه أوسكار مورغنشتيرن الرياضي الشهير، الذي كان له دور أساسي في اكتشاف «نظرية اللعبة» وكانا كلاهما يدرّسان في جامعة برينستون. قال الأخير بعد عدة سنوات إن غودل أخبره بحماسة أنه عندما تفحّص الدستور الأمريكي، وجد فيه بعض التناقضات الداخلية، وأنه يمكن أن يوضح بطريقة قانونية تماماً كيف يمكن لشخص ما أن يصبح ديكتاتوراً ويؤسس لنظام فاشي في الولايات المتحدة، لم يكن ليقصده أبداً أولئك الذين صاغوا الدستور.
قال له مورغنشترن إنه يجب ألّا يقلق، لأن هذا من المستحيل أن يحدث في أمريكا. وفي يوم الامتحان، رافق كل من ألبرت أينشتاين – وكان صديقاً مقرّباً وزميلاً أيضاً- ومورغينشترن غودل في مقابلته في دائرة الهجرة والجنسية كشهود. وبعد أن استجوب الموظّف الفاحص كلا الشاهدين، تبادل الحوار التالي مع غودل:
الممتحن: الآن، يا سيد غودل، من أين أتيت؟
غودل: من أين أتيت؟ من النمسا.
الممتحن: وأي نوع من الحكومة لديكم في النمسا؟
غودل: لقد كانت جمهورية، لكن الدستور كان على شكل سمح بتحوّلها أخيراً إلى ديكتاتورية.
الممتحن: أوه! هذا سيئ جداً. ولا يمكن أن يحدث لدينا في هذا البلد.
غودل: أوه، ولكن نعم، أستطيع إثبات أن الدستور هنا يمكن أن يسمح بذلك.
الممتحن: اللهم لا ندخل في هذا (أو لعلّها كانت» أعوذ بالله من هذا اليوم»).
في روايته لتلك القصة الشهيرة، تحدّث مورغنشتيرن عن القلق الذي كان يتفاعل عندئذٍ في صدره وصدر آينشتاين من حماسة غودل وجرأته؛ ولكن الموظف الذي يمتحنه كان متفهّماً، كما يبدو، فقطع الامتحان وأنهاه… ليحصل غودل على الجنسية في النتيجة. ما هو «التناقض الداخلي» الذي اكتشفه غودل داخل دستور الولايات المتحدة؟ سيبقى هذا لغزاً يحمل اسم «ثغرة غودل» في العلوم الدستورية، تدور حوله الأبحاث والتكهنات والمناقشات، إيماناً بأن غودل لا ينطق عن الهوى ولا عن عبث، وأنه ربما كان يشير إلى باب خفيّ يمكن اختراق الديمقراطية والدستورية من خلاله (ولعلّ ترامب كان على ما يبدو موشكاً على حلّ تلك العقدة). ولم تكن تلك الواقعة التاريخية النمساوية وحدها مصدر الرُهاب، بل هنالك الأكبر منها، تلك التي نفذ أدولف هتلر من خلالها، ليصل أولاً عن طريق الانتخاب، وبعض التحالفات، إلى منصب المستشارية، ثم ليفلت محتجزاً ألمانيا في جيبه، ومستقطباً لرعب العالم. فعل هتلر ذلك بعد حريق الرايخستاغ واتهام شيوعي هولندي شاب بافتعاله، قام بالضغط على البرلمان والرئيس ليصدر «مرسوم التفويض» الذي يعطي هتلر من السلطات الاستثنائية ما كان كافياً له للاستبداد بالأمر والإقلاع بمغامرة أعطبت القرن العشرين، ابتداءً بـ»ليلة السكاكين الطويلة» ومذبحتها التي كرّست حملاته القمعية والتطهيرية و«هيبته» وسلطته المطلقة.
ما أثار هذه الحكايات أو التداعيات هو موجة الحديث عن الدستور في أكثر من موقع نزاع، وأزمة أو عملية سياسية للتغيير، ومنها سوريا. في هذا البلد – بلدنا- تعطّل مسار اللجنة الدستورية وأعمالها في جنيف، بفعل تعنّت النظام ودعم روسيا له: فالأول يرى نفسه منتصراً على الأرض، لا يحتاج إلى مفاوضات تكون محرجة له بالتأكيد، من خلال مطالبته بالتنازلات، أو متطلبات التطور والحداثة وتطبيقات بيان «جنيف1» 2014 قرارات مجلس الأمن اللاحقة. في حين لا يزال بوتين وحكومته غير راغبين بالدخول في تسوية سورية لا ترتبط بغيرها من التسويات في غير مكان ومجال، بانتظار غودو الأمريكي المُعرِض والقانع بورطة خصومه في الطين، الراغب عن تناقضات المنطقة الصعبة. من ناحية أخرى، لم تكن المعارضة السورية تقوم بعملها على هذا الصعيد، كما ينبغي لها. وهنالك الكثير مما يمكن قوله ودراسته وفعله أيضاً في هذا الحقل. من ذلك تقصيرها في طرح وتطوير المناقشات ـ العامة – واستخلاص المبادئ الدستورية التي ينبغي أن تكون على طاولة الحوار، بحدّها الأدنى والأعلى، بما يساعد على تأمين مستقبل تلك البلاد المنكوبة بنظامها ومعارضتها، وبداعمي نظامها ومعارضتها. كان ينبغي إثارة الجمهور السوري على الجهتين، وإدخاله في الحوار والجدل حول مصيره، ومن ثمّ ليسهم في الضغط اللازم لذلك أيضاً.
نقطتان أساسيتان في بال أي مشتغل على الدستور أو القانون الأساسي: أولاهما كيف يمكن بناء دولة حديثة مدنية ديمقراطية، تجمع بصلابة بين كونها موحدة، ولا مركزية في آنٍ؛ على واقع فسيفسائي قابل للنزاع والتنازع أساساً، خصوصاً بعد انفجاره ووصولنا إلى حالة من التفتت والتشتت تنذر بترحيل اسم سورية إلى التاريخ ومن المستقبل، وتحوّله إلى محلّ دراسات وحكايات وذكريات. وثانيتهما صياغة بنية قانونية لا تسمح بعودة الاستبداد القديم، أو تخليق واحد جديد على الإطلاق. مثل ذلك الهاجس ما كان يؤرّق غودل، ومن أجل ذلك كان اشتغال علماء الدستور في كلّ بلد حديث على وضع ثوابت غير قابلة للتعديل، وأخرى تجعل مواد الدستور صعباً تعديلها وعسيراً، يضمن حدّاً من الوحدة والعقلانية كافياً لتحصين البلاد.
في الولايات المتحدة الأمريكية، كان هنالك إعلان الاستقلال بمثابة نصٍّ غير قابل للمساس به، إضافةً إلى المادة الخامسة التي تجعل طريق تعديل الدستور كابوساً عسيراً، بحيث تتجلّى شخصية ومطالب الشعب العامة، وشخصية ومطالب الولايات المتينة والمستقلة في بنيتها، التي تتمثّل في مجلس الشيوخ بشكلٍ متساوٍ في ما بينها بغضّ النظر عن مساحتها وعدد سكانها؛ وهو الأمر المنصوص على عدم المساس به، وعدم جواز تعديله إطلاقاً؛ إضافة إلى وجود آليات معقدة وأغلبيات كبيرة في التصويت. في ألمانيا تنصّ المادو 79 من القانون الأساسي الصادر في عام 1949، على عدم جواز تعديل المواد من 1 ـ 19 التي نصّت على الحقوق والحريات الأساسية، والمادة 20 التي تنص على الفيدرالية وحقوق الولايات وشرعية حق المقاومة، لأي شخص وللشعب عموماً عند أي محاولة لتعطيل الدستور.
في كثير من دساتير العالم ما يشبه ذلك: مواد أو نصوص أو مبادئ في الدستور لا يمكن المساس بها بأية أغلبية، وأخرى تنفتح للمناقشة واحتمال التعديل بعد عقود من الزمن، أو أوقات بعيدة تضمن الهدوء وتغيّر الحال والبال. يسمي أهل الاختصاص تلك المواد بالمواد الأبدية، أو المبادئ فوق الدستورية، يتوافق عليها أهل الحل والعقد الفعليون – الذين يمثلون المجتمع أثناء الخروج من نزاع كبير، أو تأسيس دولة جديدة، وتكون سلطتهم عموماً لا تقلّ عن سلطة أيّ استفتاء شعبي بأغلبية كبيوة، وتزيد عنها في الأعمّ الأغلب. يحتجّ البعض على مخالفة ذلك لمبادئ الديمقراطية البسيطة، ويعترف الاختصاصيون بذلك، ولكن التجربة الإنسانية أظهرت – حتى الآن- أنه طريق أكثر ضماناً لتحقيق الحداثة والحرية والازدهار. وإن مبادئ جوهرية تتركّز غالباً على محور القيم الجمهورية، أو حقوق الإنسان والمواطن، أو الحقوق الجمعية للجماعات المكونة للمجتمع المعني؛ لا يمكن النفاذ إلى المستقبل إلّا بتلبيتها.. وإلّا فاستمرار احتمال المذابح والنكبات كامن أو متجسّد إلى الأبد، وذلك أَبَدٌ أسوأ حتماً من أبدِ تلك المبادئ ونصوصها.
وبالمناسبة، لم تكن للحريصين على مثل هذا البناء في مؤتمر الطائف اللبناني لا أغلبية ولا صوت عالي التأثير، فخرج الميثاق من هنالك مهلهلاً وقابلاً لاحتمال كلّ الموبقات والغرائب السياسية، التي ما تزال عقابيلها تتجسّد أمام أعيننا…
كاتب سوري
القدس العربي