مقالات تناولت سبل الحل في سورية، الواقع، الحلول
الثورة السورية الواقع والحلول/ خالد المطلق
أولًا- مقدمة
ثانيًا- المآلات التي وصلت إليها الثورة السورية
ثالثًا- الحلول:
الحراك الشعبي السلمي
مقاومة الاحتلالات
رابعًا- خاتمة
أولًا- مقدمة:
يسعى السوريون جاهدين، على مختلف مشاربهم، للخروج من عنق الزجاجة التي وضعهم فيها الأسد وعصاباته ومشغلوه وعصابات المعارضة ومشغلوها؛ فالوضع كارثي على مختلف الأصعدة، خاصة الأوضاع المعيشية التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ سورية الحديث، من حيث الارتفاع الشديد لمستوى خط الفقر، والازدياد الكبير في مستوى البطالة، والانحدار الشديد في مستوى تعليم الأطفال، خاصة في المناطق التي تسمى “محررة”، فضلًا عن الأوضاع الأمنية المزرية لمختلف مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع، بالإضافة إلى نزوح وهجرة السوريين إلى داخل وخارج سورية، طمعًا في تحقيق الأمن والأمان لهم ولعائلاتهم، وهناك معضلات أخرى يصعب حصرها تتفاقم يومًا بعد يوم تجعل السوري في كل مكان قلقًا على مستقبله ومستقبل أبنائه، يردد بينه وبين نفسه أسئلة مشروعة: هل يمكن أن نعود إلى بلادنا وبيوتنا؟ وهل يمكن أن تعود سورية إلى ما كانت عليه قبيل اندلاع الثورة؟ وما هي الطرق والآليات التي تمكنّنا من ذلك؟ وهل هذا سيحدث في المستقبل القريب؟ كل هذه الأسئلة المشروعة تجول في خاطر ووجدان كل السوريين، وفي كل المناطق، بدرجات متفاوتة لكنها متقاربة جِدًّا بين منطقة وأخرى، وفي هذه الدراسة، سأستعرض الواقع الميداني لكل المناطق، من الناحية الأمنية والعسكرية والمعيشية، وواقع التحالفات السياسية بين مختلف الأطراف الفاعلة في الملف السوري، ومن ثم سأضع الحلول بحسب رؤيتي على مختلف الأصعدة الشعبية والعسكرية.
ثانيًا- المآلات التي وصلت إليها الثورة السورية:
تعتبر الجمهورية العربية السورية حَالِيًّا من أكثر مناطق العالم سوءًا، من حيث ارتفاع نسبة الفقر والجريمة والبطالة التي أدت بدورها إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني، بالإضافة إلى تصدّرها ذيل قائمة دول العالم، من حيث معدّل دخل الفرد، ولعلّ حرب العشر سنوات المنصرمة كان لها الأثر الكبير على سورية والسوريين في مختلف المناطق التي سيطر عليها الأسد وأعداؤه، كسلطات أمر واقع، فمنذ عشرة أشهر، لم تشهد خطوط التماس بين تلك المناطق تغيّرًا جديدًا، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا، ووفقًا للخريطة التي يُصدرها مركز جسور للدراسات شهريًا، فإنّ نسب سيطرة القوى على الأرض هي على النحو الآتي:
• – حافظت فصائل المعارضة على نسبة سيطرتها التي تم تسجيلها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 عند (10.98%).
• – حافظ النظام السوري على نسبة سيطرته التي تم تسجيلها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، عند (63.38%).
• – حافظت “قوات سوريا الديمقراطية” على نسبة سيطرتها التي كانت قد سجّلتها منذ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، عند (25.64%).
• – بطبيعة الحال لم يعد لتنظيم “داعش” أيّ سيطرة عسكرية على الأرض السورية، منذ شباط/ فبراير 2019 (1).
ولمعرفة واقع تلك المناطق، سأبحث في الظروف المحيطة بها:
يسيطر نظام الأسد مع حلفائه المحتل الروسي والإيراني بشكل كامل على محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص ودمشق وريفها وحماة وحلب، أما محافظات درعا والسويداء والقنيطرة والحسكة ودير الزور والرقة، فيسيطر عليها جُزْئِيًّا، بينما تسيطر قوات المعارضة المتمثلة بالجيش الوطني والمدعومة من تركيا على ثلاث مناطق: الأولى في إدلب التي تقع تحت سيطرة هيئة تحرير الشام؛ والثانية منطقة ما يسمى “درع الفرات وغصن الزيتون” الواقعة شمال وشمال شرق مدينة حلب، وتضم بلدات إعزاز والباب وجرابلس وعفرين، ومنطقة “نبع السلام”، وتضم 68 بلدة وقرية من أهمّها رأس العين، تل أبيض، سلوك، مبروكة والمناجير، أما المنطقة الثالثة فهي تضم جزءًا كبيرًا من محافظات الرقة والحسكة ودير الزور، ويسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” وتدعمها قوات التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، تشترك جميع تلك المناطق في كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية؛ فالمواطن السوري الرازح تحت حكم نظام الأسد وحلفائه يتعرض لكثير من الضغوط الأمنية، خوفًا من عودته للتظاهر، وهذه المرة ليس من أجل الحرية أو الكرامة إنما من أجل تأمين لقمة العيش لأطفاله، فضلًا عن التغلغل الإيراني في قلب المدن السورية ومؤسسات الدولة خاصة العسكرية والأمنية، وظهور كثير من المؤسسات الإغاثية التابعة للميليشيات الإيرانية، في محاولة لشراء الذمم وفرض التشيع بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، بالإضافة إلى الأعمال الاستفزازية التي يقوم بها أتباع إيران في شوارع المدن السورية، وخاصة العاصمة دمشق وما حولها، من حيث ممارستهم لطقوسهم الدينية البعيدة كل البعد عن طقوس أبناء تلك المدن على مختلف مشاربهم، فثورة الجياع والخوف من المستقبل على الأبواب، ولا تحتاج إلا إلى من يطلق شرارتها الأولى، وأعتقد أنها آتية لا محالة، إن استمر الوضع على ما هو عليه في الأيام والأسابيع والأشهر القليلة القادمة، أما مناطق سيطرة المعارضة، فالأمرُ لا يختلف كثيرًا عن مناطق سيطرة الأسد، حيث القمع والخطف وتكميم الأفواه والاعتقالات التي تمارس جميعها تحت غطاء الدين، وحدث ولا حرج، فضلًا عن الفساد المستشري، الأمر الذي فرض سياسة التجويع التي تمارسها سلطات الأمر الواقع في تلك المناطق، لتمكين سيطرتها على الشارع، ومنعه من التحرك للمطالبة بأبسط حقوقه المشروعة التي اقتُلع بسببها من أرضه وقد قدّم مليون شهيد وآلاف المعتقلين والمغيبين في سجون الأسد، وأعتقد أن هذه السياسة التي ترافقها كثيرٌ من التنازلات السياسية للمعارضة، والارتماء في أحضان أعداء الشعب السوري وثورته، لن تصمد كثيرًا، فحجم الإساءة إلى حاضنة الثورة كبير وكبير جدًّا، ولهذا لن يصمت من انتفض على بشار الأسد ومخابراته وجيشه، أمام من يقف سَدًّا لمنعه من تحقيق تطلعاته المشروعة المتمثلة في الحرية والديمقراطية والأمن والأمان، وبالحديث عن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية يمكن أن نقول إن هذه المنطقة هي الأقل سوءًا من باقي المناطق، من النواحي الاقتصادية والأمنية والمعيشية، إلا أن القبضة الأمنية لسلطات الأمر الواقع هناك لا تقل سوءًا عن باقي المناطق السورية الأخرى، وهذا ما ساعد في انطلاق كثير من التظاهرات والتحركات التي قادتها العشائر العربية هناك، وما حدث في منبج أخيرًا خير دليل على ذلك.
أما الدول الفاعلة في الملف السوري، كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإيران وتركيا، فما زالت تعقد الاجتماعات وتكثف الاتصالات، وكلٌّ يلهث وراء تحقيق مصالحه الوطنية، في ظل غياب تام للسوريين من الأطراف كافة، سواء الأسد أو معارضته الذين أصبحوا عبارة عن دُمًى تحركها الدول المشغلة لهم، وفق مصالح تلك الدول بعيدًا عن تحقيق أي إنجاز أو أي مطلب من مطالب الشعب السوري، بل يمكن أن أقول إن حلفاء الأسد حققوا الكثير له ولنظامه، وأهمّ ما حققه هؤلاء ابتلاع أغلب المناطق المحررة من خلال اتفاقات “أستانا وسوتشي” المُذلتين، التي كانت نتائجها أيضًا تهجير سكان تلك المناطق إلى الشريط الحدودي مع تركيا في منطقة ضيقة جُغْرَافِيًّا يكتظ فيها حوالي خمسة ملايين سوري، وإذا أردنا إلقاء الضوء على دور الدول الفاعلة في القضية السورية، فسنجد الولايات المتحدة الأميركية تعمل على الملف بطريقة إدارة الأزمة من بعيد، وتتقصد تبريد ملف المنطقة، وتكتفي برعايتها لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، في شمال شرق سورية وحماية حقول النفط والغاز في تلك المناطق، ولا يوجد دليل واضح على طرحها لأي حل حاليًا أو في المستقبل المنظور، أما روسيا فبعد نجاحها عسكريًا في مساعدة الأسد وميليشياته باستعادة أجزاء كبيرة من المناطق التي خسرتها في بداية الثورة، من خلال رعايتها لمؤتمرات “أستانا وسوتشي”، ونجاحها سِيَاسِيًّا بحماية الأسد في المحافل الدولية، من خلال استخدام حق النقض “الفيتو” 16 مرة في مجلس الأمن الدولي، لمنع صدور قرارات بخصوص سورية من بينها ستة قرارات ذات علاقة باستخدام السلاح الكيمياوي (2)، ولم تكتف روسيا في ذلك، بل ما زالت تعمل جاهدة -بكل إمكانياتها- لإعادة تعويم الأسد وإنتاج نظامه من جديد، عبر استخدم كثير من الأوراق السياسية التي تمتلكها، لكنها لم تنجح على الأقل حتى الآن، أما الجانب الإيراني، وهو أكبر المستفيدين من الثورة السورية، فخططه تُنفذ بشكل رتيب على مختلف الأصعدة، فتغلغلهم في مؤسستي الجيش والأمن السوري بات واضحًا، وأصبح كثير من قادة هاتين المؤسستين مرتبطًا بقيادة الحرس الثوري الإيراني مناصفة مع ارتباطهم وولائهم للمحتل الروسي، وأصبح قسم من الميليشيات الإيرانية من ضمن ملاك الجيش والأمن السوري، بعد إعطائهم الجنسيات السورية، فضلًا عن التغلغل الديني ومحاولاتهم الحثيثة في فرض التشيع على الشعب السوري، بالترهيب تارة من خلال الضغوطات الأمنية، وبالترغيب تارة أخرى من خلال نشر كثير من الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرتهم التي تتركز في محافظات دمشق وريفها ودرعا ودير الزور وحلب واللاذقية، ولعل ظهور الحُسينيات وتحويل كثير من الجوامع إلى حُسينيات بشكل كبير، في تلك المحافظات، خيرُ دليل على ذلك، أما الطرف التركي الذي يرعى المعارضة ويدعمُها فهمّه الأول هو تحقيق مصالحه الوطنية، وعلى وجه الخصوص أمنه القومي المهدد من قبل “قوات سوريا الديمقراطية”، ويتم تسخير قوات المعارضة العسكرية لهذا الهدف، لمنع وصول الأكراد الانفصاليين إلى حدوده الجنوبية، وهذا ما جعله ينخرط في مؤتمرات “أستانا وسوتشي” مع الروس والإيرانيين.
ثالثًا- الحلول:
من خلال ما سبق، نستنتج أن الأسد حقق كثيرًا من المكاسب، بفضل الدعم المطلق من قبل حلفائه الروس والإيرانيين وميليشياتهم، وصمت المجتمع الدولي عن الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، وخاصة استخدامه السلاح الكيمياوي ضد الآمنين من الأطفال والنساء والشيوخ، بينما نجد أن الثورة السورية قد خسرت كثيرًا من نقاط القوة التي كانت تمتلكها قبيل عام 2014، ولم يعد يخفى على أحد أن ممثلي الثورة السياسيين والعسكريين باتوا مسلوبي الإرادة دُمًى تُحرّكها أيدي الدول الفاعلة في الملف السوري، ولهذا لا بدّ من طرح حلّ بعيد عن هؤلاء ومشغليهم، يمكن من خلاله إعادة الثورة السورية إلى الطريق الصحيح، وأعتقد جازمًا أن العمل على مبدأ “الفوضى الخلاقة”، وتنفيذها وفق خطط مدروسة، يمكن أن يُخرج الثورة وحاضنتها من النفق المظلم الذي وُضِعت فيه، ومن هنا يجب التركيز على خلق فوضى متحكم فيها، تخلط الأوراق على كلّ المستويات وفي كل المجالات، على مساحة الوطن السوري، في مناطق سلطات الأمر الواقع كافة، ومن ثم إعادة ترتيب تلك المناطق وفق منظور وطني جامع لكل السوريين، يمكن من خلاله التخلّص من سلطة المرتزقة ومشغليهم، وفرض أمر واقع جديد على المجتمع الدولي، يحمل فكر سورية الوطن الحر المستقل، ولهذا علينا أن نعيد للثورة أقوى سلاحين تم تجريدها منهما، وهما سلاح المقاومة وإعادة إظهار القوة العسكرية كذراع قوية للثورة، وسلاح التحركات الشعبية الفاعلة والتظاهرات في كل المناطق، ابتداء من مناطق سيطرة الأسد وانتهاء بمناطق سيطرة المعارضة، ولهذا لا بدّ من العمل على كلا المحورين بالتوازي، ووضع آليات فاعلة يمكن أن تحقق نجاح ذلك المسعى، وسأفصّل ذلك بما يلي:
1- الحراك الشعبي السلمي:
نتيجة الوضع المعيشي والأمني غير المسبوق للشعب السوري في كل المناطق دون استثناء، لا بدّ من العمل على تحريك الشارع ضد سلطات الأمر الواقع على مساحة القطر، وللقيام بهذه الخطوة التي باتت معالمها تظهر تباعًا يومًا بعد يوم، لا بدّ من إيجاد طرق لإعادة بناء جسور الثقة بين مكونات الشعب السوري على مختلف مشاربهم، وإقناعهم بأنهم الخاسر الأكبر من بقاء السلطات التي تحكمهم، وإبلاغهم بكل الطرق بأن معاناتهم ستزداد إذا لم يتحركوا، وسيكون مستقبل أبنائهم وأحفادهم عُرضة للمجهول، فمن استمرأ القتل والإجرام لن يحكم بالديمقراطية ولن يعيد الكرامة لشعبه، بل سيحكمه بيد من حديد أكثر شراسة وقوة من اليد التي حكمته طوال خمسة عقود، وأعتقد جازمًا أن الإعلام هو العامل الرئيسي في ذلك، ويجب أن يقوم بمهامه الوطنية والأخلاقية في هذه المسألة، وهنا لا أقصد الإعلام الرسمي للأسد، ولا إعلام مؤسسات المعارضة الغائب الأكبر عن الثورة منذ بدايتها، ولهذا على وسائل الإعلام المحسوبة على الثورة إيجاد طرق وآليات حقيقية لمخاطبة جميع فئات الشعب السوري، في مختلف المناطق، كل باللغة التي يفهمها والطريقة التي يمكن أن يتجاوب من خلالها، وفق خطط منهجية تزرع الروح الثورية والحس الوطني بين هؤلاء، ولا شك في أن العلاقات الاجتماعية بين مكونات الشعب السوري يمكن أن تقوم بدور فاعل ومؤثر؛ فأغلب الشرائح الاجتماعية في مناطق سيطرة الأسد لا تؤيد الأسد، بل تنتظر من يحركها لتخرج من تحت الممارسات القمعية والظروف الاقتصادية القاهرة التي ترزح تحتها مجبرة مكرهة، وبالتأكيد لدى كثير من تلك الشرائح ارتباطات عائلية أو مصلحية أو ثقافية مع إخوتهم في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وتحفيز أبناء تلك الطبقات على التواصل مع بعضها سيساعد كثيرًا في تحريك الجمر من تحت الرماد، خاصة إذا كانت هناك تطمينات متبادلة بين تلك الأطراف، نتيجة وعيهم بما سيحدث لهم إن بقوا صامتين، ولهذا يجب زرع فكرة جوهرية في أذهان هؤلاء تقول بأن فاتورة الانتفاضة على سلطات الأمر الواقع الآن هي أقلّ بكثير من فاتورة الصمت عن تلك السلطات على المدى المتوسط والبعيد، وبهذا يمكن الحديث عن مد جسور التواصل بين مكونات الشعب السوري في مختلف المناطق، وأعتقد أن الإعلام والعلاقات الاجتماعية مرتكزان رئيسان لتحقيق هذا الهدف.
2- مقاومة الاحتلالات:
تعدّ المقاومة -وفق القوانين الدولية والشرائع السماوية- حقًّا مشروعًا سنّته تلك القوانين والشرائع للشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال الأجنبي، فكيف إذا كان من يحتل أراضي تلك الشعوب -كالحالة السورية- عددًا من الاحتلالات، والطامة الكبرى أن يكون من بين تلك الاحتلالات من يطمع في تفتيت النسيج الاجتماعي لهذا الشعب، ويسعى لإحداث التغيير الديموغرافي في المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يغير التركيبة السكانية في المنطقة لصالح مشروع طائفي مقيت، ولهذا لا بد من العمل على إيجاد الطرق والأساليب العملية لمقاومة تلك الاحتلالات، خاصة الاحتلال الإيراني والروسي، فأجدادنا دحروا المستعمر الفرنسي عن سورية، من خلال المقاومة الشعبية التي استطاعت أن تُجبر المستعمر على الرحيل ليتم الإعلان عن سورية الحرة المستقلة، وهذا ما يجب التفكير به والتخطيط له وفق قاعدة “ما أُخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة”، فمقاومة المحتل الروسي والإيراني وتفكيك قواعدهم العسكرية في سورية ستضعف الأسد وعصاباته، والجميع يعرف أن بقاء الأسد وجيشه ومخابراته مرهون بوجود الميليشيات الإيرانية التي قدمت الكثير للأسد منذ بداية الثورة، فضلًا عن الغطاء الجوي الذي وفّره المحتل الروسي للأسد وجيشه وللميليشيات الإيرانية، ولولا تلك القوات لسقط الأسد وانهار جيشه ومؤسسته الأمنية، ولانهارت دولته المزعومة.
كلنا يعرف أن الشعب السوري جرّب المفاوضات المجردة من عناصر القوة الميدانية، وتلاعب به من مثّله وباع دماءه ومعاناته في بازارات النخاسة السياسية، وأعتقد جازمًا بأن المفاوضات السياسية التي لا تستند إلى ذراع قوة مسلحة لا يمكن أن تحقق أهدافها، وهذا ما سعى إليه الثوار الأوائل في الثورة، عندما حققوا كثيرًا من الانتصارات الميدانية، استدعت تدخل المجتمع الدولي والاتصال بهم في محاولة لسلبهم هذه القوة، وفعلًا نجحوا في ذلك بمساعدة القيادة السياسية للثورة وما سمّي زورًا وبهتانًا “أصدقاء الشعب السوري”، ولهذا يمكن تحقيق أهداف الثورة، من خلال رصّ الصفوف وإعادة ترتيب أنفسنا والابتعاد عن الأمراض التي أصابت الثورة، مثل الفصائلية والمناطقية والحزبية وأخطرها أسلمة الثورة وسيطرة الإسلام السياسي على قرارها، الأمر الذي سهّل على الأسد ومشغليه إطلاق صفة “الإرهاب” على الثورة، ويمكن التحرّك في ذلك على الأراضي السورية كافة، وفق خطط عسكرية متقنة وموضوعة من أصحاب الخبرات العسكرية والميدانية، بسريّة تامة، من دون ارتباط بأي جهة غير سورية. وما يحدث الآن في حوران مثال على تلك المقاومة التي يمكن أن تكون نموذجًا يُحتذى في باقي المحافظات السورية؛ فالشباب الثائر موجود على كل تراب سورية وفي كل مكان في المدن والمناطق والقرى، وهم بانتظار من يوجّههم ويأخذ بيدهم ليعيدوا الثورة العظيمة إلى سيرتها الأولى، وليعيدوها إلى أصحابها الحقيقيين وإلى أبناء سورية الوطنيين الأحرار الذين ضحّوا بكل ما يملكون، من أجل إسقاط نظام القتل والإجرام القابع على صدور السوريين، ومن أجل تحقيق حرية الشعب وكرامته ودولته المدنية الديمقراطية التي حلم بها معظم شهداء الثورة الذين لم يبخلوا وقدّموا أغلى ما يملكون من أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى الذي سيسير على طريق تحقيقه، ولو بعد حين، شباب سورية الوطنيون المؤمنون بسورية الوطن الواحد الموحد بشعبه على مختلف مشاربه.
رابعًا- خاتمة:
بناء على ما تقدّم؛ يمكن أن نختم هذه الدراسة بضرورة التأكيد على العمل الدؤوب والحرص على زرع الأمل وإعادة الثقة في نفوس السوريين، وخاصة الشباب منهم، فسورية لن يحررها من الاستعمار والإجرام والدكتاتورية والجهل ومدّعي الإسلام إلا أبناؤها المخلصون لشعبهم ولوطنهم. وأعتقد أن العمل على حثّ الشعب السوري المكلوم في كل المناطق على عدم اليأس وعلى أخذ زمام المبادرة والانتفاض على من قتلهم وشردهم وانتهك حرماتهم وغيّب أبناءهم في غياهب سجونه، وعلى من باعهم وباع قضيتهم ودماء أبنائهم ومعاناة معتقليهم ومعتقلاتهم بحفنة من الدولارات، ليس من أجل هؤلاء فقط بل من أجل مستقبل أبنائهم وأحفادهم ومستقبل سورية التي يجب أن نعمل ونضحّي ونبذل كلّ الجهود، فسورية وشعبها تستحق منا أن نقوم بكل ما يلزمهم لنرى شمس الحرية تشرق من جبل قاسيون، ولن تشرق تلك الشمس حتى يتم طرد المحتلين والغزاة من على تراب بلدنا، وطردهم يتعلق -كما أسلفنا- بأمرَين: أولهما الانتفاضة الشعبية في كل المناطق التي تقع تحت سلطات الأمر الواقع، وتنظيف بيتنا الداخلي؛ وثانيهما إيجاد السبل لإحداث نقلة نوعية في مسيرة الثورة، وقلب الطاولة على جميع من تاجر بالدم السوري ومن تآمر عليه ومن قتله ونكّل به ومن احتلّ أرضه؛ فالمسألة ليست صعبة -بحسب اعتقادي- والتحرّك بهذا الاتجاه يحتاج إلى أصحاب رؤى وفكر وطني سياسي وعسكري، كما يحتاج إلى من يستطيع التخطيط لمثل هذه الأعمال، من أصحاب الكفاءة في التخطيط الاستراتيجي وعلماء اجتماع ونفس واقتصاديين. ومن خلال دراسة واقع الشعب السوري بالكامل، وإيجاد الطرق المناسبة لتحريكه لينفض عنه الرماد الذي غطى الجمر الذي سيحرق جلاديه ويرميهم في مزبلة التاريخ؛ يمكن أن نعيد الثورة إلى طريقها الصحيح، والفوضى الخلاقة هي البوابة الرئيسية لتحقيق ما نصبو إليه كسوريين.
الهوامش:
(1)- جسور للدراسات، خريطة النفوذ العسكرية في سورية، https://bit.ly/3AxI4mZ
(2)- الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الاستخدام التعسفي للفيتو 16 مرة من قبل روسيا والصين https://bit.ly/3jTb5nh
مركز حرمون
—————————-
دور القصور الذاتي في المحنة السورية/ عبد الباسط سيدا
أن تُختزل الثورة السورية التي خلخلت أركان النظام، وجعلت مسألة رحيله، قبل نحو عقد، مسألة وقت، لولا تدخل رعاته وحماته لإنقاذه وبأي ثمن؛ في لجنةٍ دستوريةٍ كسيحة، وفي قرار خاص بآلية إدخال المساعدات الإنسانية ستة أشهر، يصدر عن مجلس الأمن بعد جولات من الحوارات والاتصالات، بغية إقناع الروس بعدم استخدام حق النقض (الفيتو)، أو التوافق معهم على الخطوات اللاحقة، من أجل تمرير مشروع تمديد القرار الذي لن يغير كثيراً من الوضع الكارثي المأساوي الذي يعيشه السوريون على مختلف المستويات، وفي جميع المناطق؛ أن تختزل الثورة هكذا، فهذا أمر لا تُحمّل مسؤوليته للمجتمع الدولي وحده، أو لمجموعة أصدقاء الشعب السوري التي كانت تمتلك من الأوراق والمشروعية في بدايات تشكيلها ما يمكّنها من التدخل، وإرغام النظام على الانصياع لإرادة القسم الأكبر من السوريين الذين كانوا يطالبون بالتغيير، وذلك في وقتٍ لم تكن الجماعات المتطرّفة الإرهابية قد ظهرت، ولم يكن الخطاب الطائفي البغيض قد طغى، وإنما كان الخطاب الوطني الجامع الذي يقرّ بالتنوع، ويحترم الخصوصيات والحقوق، هو المهيمن.
فالسوريون أنفسهم، خصوصا الذين تصدّروا المشهد في البدايات، يتحمّلون المسؤولية الكبرى بقراءاتهم الخاطئة، وأحكامهم المتسرّعة، وعجزهم عن فهم أبعاد استراتيجية النظام، وإخفاقهم في طمأنة سائر المكونات السورية؛ هذا إلى جانب الحالة التنافسية، والعقد النرجسية المتضخمة. فهذه “النخب” قد راهنت على تغييرٍ سريعٍ عبر ضغط شعبي ودولي، وتعاملت مع قضية شعبها الوجودية بعقليةٍ اتكالية، وانشغلت بمواقعها وحساباتها الشخصية والشللية، وكانت ضحية قلة خبرتها في ميدان فهم حسابات الدول ومعرفة طبيعة أولوياتها. ونتيجة ذلك وغيره، عجزت عن تشكيل “النواة الصلبة” التي كان من شأنها أن تكون في موقع القيادة الوطنية الناضجة المتماسكة، القادرة على تبديد هواجس جميع السوريين، والتحاور مع الجميع، واستيعاب الحساسيات والمعادلات الإقليمية والدولية، مع الاستمرار في اعتبار القضية السورية أولوية الأولويات بالنسبة إليها.
قبل تأسيس المجلس الوطني السوري (خريف 2011)، بُذلت جهود في مختلف الاتجاهات عبر المؤتمرات واللقاءات التي عُقدت في أماكن عدة؛ ومن خلال الاتصالات التي كانت تجرى بين المعارضين السوريين في المهاجر والوطن. وكان الاتجاه العام يضغط، ويطالب بتشكيل هيئةٍ وطنيةٍ تكون بمثابة القيادة للثورة السورية التي كانت تتصاعد مع الأيام، ويتّسع نطاقها في مختلف المدن والبلدات السورية؛ وتجسّد ذلك في المظاهرات والاعتصامات والمهرجانات التي كان من شأنها استقطاب الملايين، لولا لجوء النظام، منذ الأيام الأولى، إلى إطلاق النار على المدنيين العزّل، بغرض كسر إرادة المتظاهرين، وتهديد السوريين الآخرين الذين كانوا يمقتون استبداد النظام وفساده، ولكنهم كانوا يتحسّبون لوحشيته وجرائمه التي لا حدود لها.
ومع تشكيل المجلس الوطني السوري، لاحت في الأفق إمكانية تجاوز الثغرات الناجمة عن غياب القوى السياسية التي كان من شأنها تحديد المطالب، ووضع الخطط والبرامج لبلوغها. وبُذلت جهود كبيرة من أجل توسيع قاعدة المجلس، وكانت الحوارات مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية للانضمام إليه؛ وكنّا نؤكد باستمرار أن المجلس مشروع وطني غير ناجز، مفتوحٌ على الجميع. ولكن “النرجسية السورية”، والحسابات الشللية، والنفس القصير، والاستعجال في بلوغ موقعٍ ما طالما أن التغيير على الأبواب وفق القراءات الخاطئة المشار إليها؛ كل هذه العوامل، وغيرها، أدّت بمعارضين سوريين عديدين، لا يُشكّك في نزاهتهم ووطنيتهم، إلى التحرّك من أجل مشاريع بديلة، في وقتٍ كان في مقدورهم تركيز تلك الجهود ضمن المجلس ذاته، حفاظاً على وحدة الموقف الوطني.
وقد نبهنا مراراً وتكراراً إلى خطورة تلك المحاولات، على الرغم من النيات الحسنة لأصحابها، ولكننا لم نتمكّن بكل أسف من إقناعهم، خصوصا بعد أن تلقوا وعوداً بدعمٍ لم يجد طريقه إلى التطبيق على أرض الواقع من قوى دولية لم تكن في وارد الموافقة على التغيير السياسي الذي كان المجلس يشدّد عليه بناء على مطالب غالبية السوريين وتضحياتهم. وقد عبرنا عن هواجسنا في ذلك الحين بصراحة، وشكّكنا في وعود مجموعة أصدقاء الشعب السوري بكل وضوح، في المؤتمر الثاني للمجلس في الدوحة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012)، وقلنا وقتها إن أصدقاءنا، على كثرتهم، لم يتمكّنوا من إصدار قرار، مجرّد قرارٍ يدين جرائم النظام في مجلس الأمن، ويدعو إلى محاسبته. هذا في حين أن أصدقاء النظام، على قلتهم، يمدّونه بكل شيء؛ يمدّونه بالمال والسلاح والرجال، ويحرصون على تغطيته سياسياً باستمرار في مجلس الأمن. كما قلنا صراحة، في ذلك الحين، إن أي مساس بالمجلس الوطني السوري معناه إطالة عمر النظام، المسؤول الأول عن قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلدهم. وهذا ما حصل. لم نكن نقرأ الغيب، وإنما كنا نستند إلى ما نشاهده ونسمعه ونتابعه، ونتوصل إليه بموجب الاستنتناجات المنطقية المبنية على معرفتنا بتاريخ هذا النظام، واطّلاعنا على شبكة علاقاته الدولية، والأدوار الوظيفية التي تم تكليفه بها تباعاً في المنطقة.
وجاء تشكيل الاتئلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) الذي وافقنا عليه على مضض، وعلى أمل أن تكون المصلحة السورية على رأس قائمة أولوياته. ثم سرعان ما تغيّرت الموازين بعد تدخل الدول، فأصبحت الحسابات الشخصية والشللية هي الموجّهة، وبرزت ظاهرة الكتل الانتخابية الوهمية؛ وبدأ الاستقواء بوعود الدول وتوجهاتها، حتى وصلنا إلى مرحلة المبادرات الفردية من دون أي مرجعية. وتشكلت المنصات، وهكذا إلى أن وصلنا إلى مرحلةٍ باتت فيها الإرادات جميعها في هيئات المعارضة السورية الرسمية مكبلة بإرادة الرعاة والداعمين.
وقبل أيام، كان هناك اجتماع أستانة 16، وهو يندرج ضمن سلسلة اجتماعات المحور الذي جمع فيه الروس بين إيران وتركيا (تحت مسمى الدول الضامنة) من أجل الالتفاف على بيان جنيف، وتجاوز موضوع هيئة الحكم الانتقالي الذي نص عليه البيان (30 يونيو/ حزيران 2012). فقد حضر ذلك الاجتماع وفد باسم المعارضة، ولكن ليس من المعروف الجهة التي يمثلها هذا الوفد في المعارضة السورية. هل هو يمثل “الائتلاف” أم الهيئة العليا للمفاوضات السورية أم المنصات المتناثرة؟ الجميع يلتزم الصمت، حفاظاً على المواقع الوهمية.
هناك حراك سوري لافت، يقوم به نشطاء سوريون في مختلف الأماكن، على صعيد توثيق جرائم النظام، ورفع الدعاوى القضائية على عناصره ممن اقترفوا الجرائم بحق السوريين. وهناك جهود كبيرة في ميادين الإعلام والإغاثة والحركة النسائية؛ ولكن كل هذه الجهود لن تعطي ثمارها المرجوّة، ولن تصبّ نتائجها في مصلحة القضية السورية الكبرى كما ينبغي، في غياب القيادة الوطنية الجامعة الناضجة القادرة على توحيد مواقف السوريين، وتحديد الأهداف الرئيسة والفرعية والأولويات، وتوزيع العمل، واستثمار الجمهود، والبناء على تراكم الخبرات، ورسم السياسات. هناك محاولاتٌ في الداخل في هذا الاتجاه أو ذاك. ولكن كل هذه المحاولات تظل ناقصة، لن تؤدّي إلى المطلوب ما لم يتم التخلّي عن النزعات الشخصية، والمكاسب الحزبية أو الشللية ضيقة النطاق والأفق. وفي المقابل، إذا ما تم الاستمرار على هذا الوضع الذي نحن فيه، فسيتابع الانتهازيون والمتسلقون جهودهم التي لم ولن تخدم السوريين بشيء، وستظلّ معاناة الأهل في المخيمات، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي؛ وهي معاناة بدأت تستفحل، وتأخذ أبعاداً ماساويةً كارثية، تتمثل في أميةٍ مرعبةٍ بين الأطفال، وأمراضٍ مزمنة، ومشكلاتٍ اجتماعية على غاية الخطورة. والأفظع من هذا كله انعدام الآفاق بعد أن تحوّل الوطن إلى مناطق نفوذ، تتحكّم فيها الدول الكبرى والإقليمية التي تعتمد ميدانياً على مليشيات وافدة، وأخرى محلية تتحكّم بمصائر الناس وموارد البلاد، بينما يتهاوى الوضع الاقتصادي والمعيشي في جميع أنحاء سورية ومن دون أي استثناء.
يحدُث ذلك كله في سورية؛ ومع ذلك يُلاحظ أنه ليس للروس من شاغلٍ سوى تسويق بشار الأسد بعدما انتهوا من عملية إعادة تدويره. مع علمهم، وعلم الجميع، بأنه كان السبب وراء كل ما حصل، ويحصل، في سورية من قتل وتهجير وتدمير وانهيارات على المستويين، المجتمعي والعمراني.
العربي الجديد
————————
هل ثمّة فرصة لحل الأزمة السورية؟/ مروان قبلان
لأول مرة منذ سنوات، تلوح في الأفق فرصة، وإنْ ضعيفة، لتحقيق تقدّم على طريق حل الأزمة السورية. الآمال بهذا الشأن تجدّدت نتيجة الاتفاق الروسي – الأميركي الذي تمثّل في صدور قرار مجلس الأمن رقم 2585 ومدّد العمل بالقرار 2165 الصادر عام 2014 الخاص بآلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود.
قد يبدو هذا الإنجاز بسيطًا، لكنه، بالنسبة لملايين المشرّدين والمحتاجين السوريين، يعني مسألة حياة أو موت، ويعدّ تقدما مهمًا أيضًا، إذا أخذنا في الاعتبار ضآلة الاعتبارات الإنسانية في التفكير السياسي الروسي، خصوصا أن روسيا استخدمت المدنيين سلاح حرب وأداة لانتزاع تنازلاتٍ في مفاوضاتها مع الأميركان والأوروبيين منذ تدخلها عسكريا في سورية عام 2015. بهذا المعنى، يمكن القول إن المقاربة الإنسانية التي اختار الأميركيون التركيز عليها للتهرّب من مسؤولية لعب دور أكبر في حل الأزمة السورية، وتجنب الغوص في مستنقع القضايا السياسية الشائكة، قد حقّقت تقدمًا يمكن البناء عليه، خصوصا أن إدارة الرئيس بايدن اعتبرت أن التجاوب الروسي بهذا الشأن يعني أنهم مستعدّون للتفاوض، والوصول إلى حلول وسط.
لا يجوز للمرء، في هذه المرحلة، أن يرفع سقف التوقعات، أو يبيع الوهم لشعبٍ حطّمته خيبات الأمل الناتجة من تقولات وتحليلات رغبوية على مدى سنين الأزمة، فليس هناك ما يشي بحصول تحوّل كبير في المواقف الأميركية والروسية، فسورية ما زالت في موقع متدنٍّ على سلم أولويات واشنطن الدولية، وما زالت زوايا الاهتمام بها محصورةً بملاحقة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنع حصول كارثةٍ إنسانيةٍ تضطرّها إلى التدخل لفرض منطقةٍ آمنة، كما فعلت في شمال العراق عام 1991. من هذا الباب، هناك احتمال أن تركن الولايات المتحدة إلى نجاحها المرحلي في الحفاظ على المعبر الإنساني، وآلية إيصال المساعدات، وتعود إلى تجاهل المسألة السورية. روسيا ما زالت على نهجها الذي بدأته منذ عشر سنوات، وتفاقم مع تدخلها عسكريا، في استخدام سورية والسوريين صندوق بريد للتعاطي مع الأميركيين، وأداةً لجرّهم إلى التفاوض معها بندّية حول مروحة واسعة من القضايا الثنائية والدولية.
مع إدراكنا ذلك كله، يمكن أن يمثل التفاهم الروسي – الأميركي أخيرا، على جزئيته ومحدوديته، حافزًا نحو التعاون في ملفاتٍ أخرى، تخدم التوصل إلى حل للصراع على مراحل، ابتداءً بالقضايا الإنسانية وصولًا إلى القضايا السياسية والأمنية الأكثر تعقيدًا. هنا تبرز أهمية الملف الإنساني الآخر الذي يشكّل جرحًا غائرًا في الجسد السوري المثخن، وهو ملف المعتقلين والمفقودين، فليست هناك قضية حاليًا يمكن أن تصنع فرقًا في الصراع السوري وتعزّز الثقة بإمكانية حله، مثل قضية إطلاق المعتقلين، والكشف عن مصير المغيّبين والمفقودين. ولهذا السبب تحديدا، يجب أن يحظى هذا الملف بأولويةٍ قصوى خلال المرحلة المقبلة، ويبدو أنه كان مثار بحثٍ في أثناء زيارة المبعوث الروسي، ألكسندر لافرنتييف، إلى دمشق عقب القمة الروسية – الأميركية في جنيف في 16 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، ما يعني أنه جرت مناقشته بين بايدن وبوتين.
إذا حصل تقدّم في هذا الملف، فالأرجح أن ينعكس إيجابيا على المشهد العام للقضية السورية. ويمكن، بالبناء عليه، التوجّه إلى مناقشة القضايا الإنسانية الأخرى، مثل توفير شروط عودة اللاجئين والمهجّرين، وإطلاق عملية إعادة الإعمار ورفع العقوبات، بالتوازي مع معالجة القضايا المتصلة بالملفين، السياسي والأمني، وهي: فرض وقف إطلاق نار دائم وشامل على كل الأراضي السورية، والدفع بمسار اللجنة الدستورية المؤدّي إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، بحيث يتم استيعاب فصائل المعارضة فيها، وإخراج كل المليشيات والمقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، وانسحاب كل الجيوش الأجنبية، مع الاتفاق على ترتيباتٍ خاصة بالوجود العسكري الأميركي والروسي، باعتبارهما الضامنين لأي اتفاق.
هناك إذًا ثلاثة مسارات يمكن أن تسير بطريقة متزامنة على طريق الحل وإعادة بناء الدولة: الإنساني (إطلاق المعتقلين وعودة اللاجئين ورفع العقوبات وإعادة الإعمار)، السياسي (صياغة الدستور والانتخابات)، الأمني (وقف إطلاق نار شامل ودائم، وهيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإخراج العناصر الأجنبية، وحصر السلاح بيد الدولة). هل يمكن العبور من الثغرة الصغيرة التي فتحها اتفاق المعبر إلى معالجة هذه القضايا الكبرى؟ ممكن، إذا توفرت إرادة الحل لدى الروس والأميركيين، والسوريين بالطبع.
العربي الجديد
—————————–
عن مستقبل السوريين مسبق الدفع/ سوسن جميل حسن
ماذا بعد أن اكتمل عقد، ودخلت سورية في عقد ثانٍ، نحلم بأن يكون بعيدًا من الحرب والدمار؟ وماذا بعد تشتت شعبها في بلدان اللجوء وتقسيم وطنه وخضوع هذه الأقسام إلى سلطات الأمر الواقع التي ترنو إلى أن تصبح دائمةً في بعض منها؟ ماذا بعد أن صار سوريّو الداخل يسامون الحرمان والجوع والذل والمهانة في تحصيل حدّ الرمق الذي يبقيهم أحياء، ويبقي أولادهم أيضًا؟ ماذا ينتظر السوريين وإلامَ يرنون وأي أحلام تراودهم أو طموحات يتطلّعون إليها، فيما لو افترضنا أن مكانًا صغيرًا للأحلام والطموحات بقي في زاويةٍ منسيّة من نفوسهم اليائسة؟ سورية نموذج للانهيار الحاصل في المنطقة التي تعاني كل دولة فيها من انهيار مماثل، وها هي لبنان نموذج صارخ وصادم وموجع، كما سورية، وكما العراق واليمن والحبل على الجرّار.
عندما يصير الماضي، بكل نواقصه وإجحافه، حلمًا بالنسبة إلى الشعوب التي عانت من الاستبداد والفساد وهدر المال العام والتخلف عن مواكبة التقدّم البشري، وعانت من الحرمان، ويصير الحاضر الحارق والمستقبل المتوعّد بمزيدٍ من التردّي والسقوط في قيعانٍ ليس لها قرار، من دون أملٍ بالغد أو خطةٍ وبرنامجٍ يمكن الركون إليهما، فهذا دليلٌ دامغٌ على أنّ الواقع قاتم أكثر من إمكانية الفهم والتصديق والاحتمال، واعترافٌ بأنّ هذا الواقع صار مرهونًا بإراداتٍ خارجية، من أجل الخروج منه والإمساك بطوق النجاة. هذا أوّلًا. وثانيًا، من أجل انتظار حياة مستدامة، من دون الرهان أو الحق في التفاوض على نوع استدامتها وكفاءته وكلفته.
عشر سنوات من الاستثمار في الحرب، بكل أدواتها وتجارتها، والأمد ما زال مفتوحًا، بالنسبة إلى الدول والقوى الفاعلة فيها، من الطبيعي والمتوقع والحاصل حاليًّا، أن تكون المفاوضات بين هذه الدول حول اقتسام الكعكة، ما يعني وضع الأساسات وبدء الخطوة الأولى للشركات الطامعة بالاستثمار في مجالات إعادة البناء، من أبسط مستلزمات الحياة العامة إلى أكثرها تعقيدًا، مع عدم إغفال أن هذه الأكثر تعقيدًا ربما، أو غالبًا، تفرضها مخرجاتُ العولمة التي أدخلت الشعوب قاطبةً في بوتقتها، لتعيد إنتاج حياتها وفق النماذج التي تخترعها وتصنعها وتسوّقها، العولمة التي أقامت إمبراطوريات العصر الراهن، ووضعت يدها على المستقبل، فأصبح لا فكاك للشعوب منها ومن سطوتها، ولا تملك أن تغرّد خارج السرب، لأنها مربوطة بخيوط إليها.
في كتابه “الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصادي”، يقدّم الخبير الاقتصادي الأميركي، جون بيكنز، خلاصة تجربته نموذجا لما هي عليه سطوة هذه الإمبراطوريات، مالكة المال والاقتصاد، وبالتالي صانعة السياسات، حيث تنشئ المنظمات المالية الدولية الظروف التي تؤدّي إلى إخضاع الدول النامية لهيمنة النخبة الأميركية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، إذ توافق هذه المنظمات، بناء على دراسات الخبراء الاقتصاديين، على منح قروض إلى الدول النامية، بهدف تطوير البنية الأساسية، من محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط أن تنفذ المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأميركية هذه المشاريع، بطريقةٍ تعود معها الأموال إلى البنوك الأميركية، ويبقى على الدول المستهدفة سداد الديون بفوائدها، وكلما كان حجم القرض أكبر يُجبر المَدين على التعثر بالسداد، ما ينجم عنه الانصياع لشروط الدائن التي ليس أكثرها التصويت على قراراتٍ ما في الأمم المتحدة، بل السيطرة على موارد البلد، والخضوع للتدخل العسكري أو القبول بالوجود العسكري فوق أراضيها.
هذه القروض، كما يشرح الكتاب، سوف تستفيد منها نخبة قليلة، وتسهم في تكوين مجموعة من الأفراد والعائلات ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي، بينما يبقى معظم الشعب يتحمل تبعية القروض، محرومًا من الخدمات الاجتماعية عقودا مقبلة، وهذا أمر يبدو من المجدي التفكير فيه انطلاقًا من تجارب سابقة في العالم، انتهاءً بمنطقتنا، العراق نموذجًا، واليوم ما هي عليه سورية ولبنان.
لن يكون المستقبل رحيمًا بالنسبة للشعبين، السوري أو اللبناني، فنموذج القاتل الاقتصادي صار مدرسةً في السيطرة على الدول وإدارة الصراعات، ونهجًا تمارس وفقه قوى كثيرة حالية سياستها وهيمنتها. لم تعد أميركا هي الوحيدة، هناك القوة الموازية، الصين، وهناك روسيا الطامحة بعودة أمجادها كإمبراطورية، وهناك الدول الإقليمية في المنطقة، إيران وتركيا، كل هذه الدول تمارس دورها بقدر ما يمنحه لها موقعها في مراكز الثقل العالمية، وتعرف كيف تدير ألعابها لتفاوض على مصالحها وحصصها، والمثير للحزن والخزي أننا نحن الملعب والأدوات.
مستقبل سورية مرهون للديون مسبقة الدفع. لم تدخل روسيا بكل ثقلها، وتتكبد تكاليف انخراطها في الحرب السورية لأجل مصلحة الشعب، ولم تدخل أميركا وحلفاؤها أيضًا، كذلك إيران وتركيا. كل هذه القوى تنتظر المستقبل المطروحة فيه بلداننا لإعادة الإعمار والنهوض بمشاريعها الأساسية، لتبقى مرهونةً إلى إمبراطورية المال المتحكّم بالعالم، الإمبراطورية الأكثر توحشًّا في تاريخ البشرية، فهي لا تأبه بمصير الشعوب، ولا بكل المنظومات الأخلاقية، تلهث وراء المال والربح، بأساليب ماكرة وناعمة أحيانًا ومضلّلة، ولو كان يهمّها لوصلت المشكلة السورية إلى حلّ يحقن الدماء ويمنع التقسيم ويساعد الشعب في إقامة دولته الضامنة حقوق الجميع. ولو كان يهمّها لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه بسبب سياسات مالية مرتبطة وطبقة سياسية فاسدة، وأصحاب رؤوس أموال نهبوا البلاد، وهرّبوا ودائعهم خارجها، بينما الشعب متروك لمشكلاته وانهيار حياته، وتحمّل مسؤولية لاجئين قديمين وآخرين جُدد.
ربما لو تعمّقنا في السياسة المتبعة والأحداث المفصلية التي عصفت بالمنطقة خلال العقود الأخيرة، لدخلنا في غيمةٍ كثيفةٍ من الضباب القاتم، وتاهت بصائرنا وأبصارنا عن فهم حقيقة ما يجري، ولضيّعنا خيوط أي محاولةٍ لربطها مع بعضها بعضًا، هل بقاء الصراع الأميركي الإيراني مطلوبٌ، حتى إشعارٍ تحدّده الولايات المتحدة؟ وهل روسيا المتمسكة بموطئ قدمها ونفوذها في المنطقة مفارقة للسياسة الأميركية؟ وهل الصراع الدائر والحامي بين الصين وأميركا يمكن أن يكون بعيدًا عمّا نحن فيه وعليه؟ وهل طموحات إيران وتدخلها من جهة، وتركيا من جهة أخرى، يمكن أن تكون لأجل الشعب السوري، وعونه على بناء مستقبله؟
كل هذه القوى، وأخرى غيرها من المتورّطين في أزمتنا، يمكن تسميتهم بالقتلة الاقتصاديين، بعد أن كانوا، في جزء كبير منهم، قتلةً فعليين للشعب، بتدخلهم السافر عسكريًّا بشكل مباشر أو بالوكالة. لذلك التفكير في مستقبل البلاد بالنسبة للمواطن العادي يبعث على الخوف، المواطن الذي يحلم بلقمة الخبز اليوم سوف تكلّفه هذه اللقمة مستقبلًا أيضًا، لأن إعمار البلاد الموعود، فيما لو تمّ الاتفاق على الكعكة، ستدفع كلفتها من لقمته، لأن المستقبل صار مرهونًا لسنداتٍ مدفوعةٍ مسبقًا، فالقاتل الاقتصادي يعرف كيف يقتل، لا يُرضي نهمه غير اغتيال مستقبل الشعوب وليس حكامها.
العربي الجديد
—————————-
لماذا يجب أن يكون الحلّ في سورية عربياً؟/ حسان الأسود
باستثناء فترة الحكم الأموي، لم تكن سورية ذات حضور مركزي قائد في المنطقة. ويصلح هذا الوصف للفترة منذ انتشار الإسلام وتجذّره ضمن إطار العروبة، وفق مفاهيم متفاوتة في الدلالة، حسب تطوّر مصطلحي العروبة والإسلام ذاتهما. لقد أمْلَتْ الصراعات البينية على السلطة، والتي ثارت أواخر عهد الخليفة عثمان بن عفّان، على الأمويّين من أبناء عمومته التمترس في دمشق، لصيانة مُلكهم العضوض الذي نصحهم كبيرهم أبو سفيان بالعضّ عليه بالنواجذ والأنياب، وبتقاذفه بينهم تقاذف الكرة. لقد كانت قوّات الأمصار القادمة من الكوفة والبصرة ومصر قادرةً على إطاحة الخليفة ذي النورين، بعد حصار دام أربعين يوماً حسبما يذكر الطبري والبلاذري وغيرهما من المؤرّخين الإسلاميين. وقد كان في وسع معاوية (حكم دمشق أربعين عاماً منها عشرون والياً وعشرون أميراً للمؤمنين) إرسال جيش جرّار خلال هذه الفترة لفكّ الحصار عن ابن عمّه، لكن، يبدو أنّ اعتبارات السياسة، والنظر بعين الطامع للحكم من سدّته، فرضت عليه التريّث، ليكتب التاريخ أكبر مأساةٍ سياسيةٍ دينيةٍ في تاريخ الإسلام، حديث النشأة آنذاك بعد حروب الردّة.
لعلّ هذه الضرورة، أو مجموعات المصادفات وتقاطع الاحتمالات، هي ما صنع لدمشق هذه المكانة المميزة في التاريخ الإسلامي. لكن، لو نظرنا إليها بغير هذا المنظار، لوجدنا أنّ سورية، المعروفة باسم بلاد الشام، كانت على مرّ التاريخ مسرحاً للصراع بين الإمبراطوريات والممالك والأحلاف. ولعلّ التاريخ القريب يذكّرنا باحتلال إبراهيم باشا هذه المنطقة قبل إعادتها بمساعدة الغربيين إلى السيطرة العثمانية، وكذلك نستذكر قادة المنطقة من أبناء الشريف حسين وتأسيس الممالك السورية والأردنية الهاشمية، وحتى العراقية، على يد أبنائه، قبل إطاحة الحلم العربي على يد البريطاني سايكس والفرنسي بيكو. ثم لا ننسى حلف بغداد ومراكز الثقل الكبرى بالتشارك مع القاهرة والرياض.
على الرغم من الموقع الاستراتيجي لسورية، فإنّه لم يكن لها في العصر الراهن سوى أدوار ملحقة وتابعة، وما كانت لتستطيع وحدها أن تتزعم قيادة العالم العربي. وباستثناء الخطابة الجوفاء عن الوحدة العربية، والتي تميّز بها عهد حزب البعث منذ انقلاب 1963، لم يكن للحضور السوري سوى مواقع التخريب على الحضور العربي. وربّما كانت الفترة اللاحقة لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل أهمّ مرحلةٍ بالنسبة لهذا الدور، إذ قاد حافظ الأسد خلالها، وعبر خطاباته العنترية، موجة القومية الجوفاء. وهي كذلك بكلّ جدارة، لأنّه اصطفّ مع الإيرانيين الفرس في حربهم ضدّ العراقيين العرب، فكان خنجراً بظهر القومية العربية التي طالما صدّع رؤوسنا بها.
والآن، والحال التي أوصل سورية إليها حكمُ الأسد وابنه لا تخفى على أحد، وبعد عشر سنواتٍ من حرب طاحنة على سورية وشعبها، حربٍ لم يبقَ من دول الجوار القريب والبعيد من لم يشارك بها بقسط كبُر أو صغُر، لا بدّ من حلّ ينهي مأساة العصر. ملامح هذا الحل عربيّة بالضرورة، ولا يمكن أن ينقذ هذه المنطقة من براثن التغيير الديموغرافي المرسوم بحرابٍ إيرانيةٍ والمحمي بسلاح الجو الروسي، سوى درع عربي. وبغضّ النظر عن موقف أنظمة الحكم في الدول العربية القادرة على رفع هذا المشروع من قضايا ثورات الشعوب وحقوقها، إلّا أنّ قضايا الأمن القومي العربي تفرض عليها أن تُدرك مدى التهديد الذي يحيق بها جرّاء تنكّبها عن الوقوف مع سورية وشعبها.
لقد بات الهلال الشيعي، وهو في الحقيقة قومي إيراني بصبغة طائفية دينية، والذي حذّر منه ملك الأردن، عبد الله الثاني، قبل أعوامٍ طوال، واقعاً لا جدال فيه. والواجب الآن التحرّك بجديّة لدعم القوى المحلّية التي يمكن أن تشكّل قوس الصدّ العربي في مواجهة هذا الهلال الإيراني. يجب أن يتوسّع التفاهم المصري الأردني العراقي الذي بدأت ملامحه الاقتصادية تظهر أخيرا ليشمل السعوديّة. هذا هو العمق الاستراتيجي الحقيقي لسورية، والأخيرة لا وجود لها ولا قيامة إلّا بعمقها العربي. وعلى قادة هذه الدول أن يوازنوا بين اعتبارات السياسة والأمن القومي لدولهم وبين مصالح الشعب السوري بالانتقال السياسي. يجب أن يدركوا أنّ بشار الأسد ليس قادراً وليس راغباً بإخراج سورية من حضن إيران، وعليهم أن يقبلوا بتطلّعات السوريين التي من دونها لن تنجح دولهم بتحقيق أمنها على المدى البعيد، فلا يمكن القفز على إرادة شعبٍ حارب عشرة أعوام من أجل حقوقه.
لا يتوقف التغلغل الإيراني في سورية على بناء قواعد عسكرية، ولا على الاستيلاء على المرافق الاقتصادية، وهو ليس مثيلاً للوجود الروسي بأي شكل كان. إنّه نوعٌ من الاحتلال الاستيطاني بأدواتٍ لم يعرفها العالم من قبل. وقد أثبتت هذه الأدوات نجاعةً فائقةً بتخريب المجتمعات وتفتيتها عبر أربعين عاماً ونيّف من سيطرة الملالي على مقاليد الحكم في إيران. لا يُقارن الخطر الاستيطاني الصهيوني بأيّ حال بالخطر الإيراني. يجب أن يفهم العرب أنّ هذا الغول لا يهدف إلى نهب ثرواتهم فقط، بل إنّه يحارب من أجل تغيير جيناتهم القومية والدينية عبر المتحوّل الطائفي. لا يستهدف هذا الاستيطان إحلال قومٍ آخرين مكان العرب، بل يريد تغيير هؤلاء بتغيير عقائدهم، ومن خلف ذلك يريد محو ليس الحاضر فقط، بل والماضي قبل المستقبل.
ما زال الوقت سانحاً لانتشال سورية من بين براثن هذا الغول، وعلى العرب أن يبحثوا مع الوطنيين السوريين عن أسس تدعيم قوس الصدّ العربي هذا. عليهم أن يدركوا أنّهم بحاجة لشركاء لا لعملاء. السياسة والمصالح القومية تفرض عليهم أن يساعدوا أشقاءهم لبناء قواهم السورية ببعدها العربي. ولأجل ذلك، عليهم أن يساعدوهم بصناعة هذه الطبقة السياسية الوطنية، التي ستُنجز حصّتها من مشروع الأمن القومي العربي، عندما تنجز مشروعها الوطني السوري بالتحرّر من الاستبداد والخلاص من حكم الأسد. سورية اليوم مريضة، وشعبها منهكٌ، حائرٌ، خائر القوى، وعلى إخوتها أن يقفوا معها، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه الندم.
العربي الجديد
————————————–
أزمة الهوية في المعارضة السورية… الائتلاف الوطني نموذجاً/ محمد السكري
طالبت الحاضنة الشعبية التي أيدت الثورة في سوريا منذ انطلاقتها، منتصف آذار/ مارس 2011، على مدار عشر سنوات، المعارضة بكل تشكيلاتها وتوجهاتها العسكرية والسياسية، بالتوحد لتحقيق التطلعات الوطنية، ولا شك أن أهم وسيلة لتطبيق هذه الغاية هي التنظيم الذي يُعرف على أنه قوننة العمل وتوحيد الغايات والرؤى عبر صياغة المشتركات والتطلعات تمهيداً لتحويلها إلى أهداف تلتزم بها المجموعة وفق محددات النظام الداخلي الذي يُصاغ بناءً على توافق عام.
استجابت المعارضة السورية السياسية لهذه المطالب، بغض النظر ما إنْ كان ذلك نتيجة ضغط دولي أو تلبيةً لرغبات الشعب السوري، بعدما قامت بإنشاء “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” والذي اعترفت به “سياسياً” أكثر من 110 دول حول العالم، أي ما يُعرف بـ”مجموعة أصدقاء سوريا”.
على هذا الأساس، اتجهت المعارضة السياسية لتوحيد وتنظيم نفسها ضمن هذا الجسم، وأقرّت في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 نظامها الداخلي.
وبعد ما يقارب الثماني سنوات على ولادة الائتلاف، ما زال يعاني بشكل كبير على مستويات عدة منها الداخلية، كالقيادة، وإدارة الخلاف، وتوحيد وجهات النظر، والتوافق، والعمل لغايات وطنية، وبناء المؤسسة، والتعيين (التمثيل)، والتواصل وغيرها؛ ومنها الخارجية على مستوى العلاقة مع مؤسساته كالحكومة السورية المؤقتة، وليس نهايةً بملف التفاوض.
أيضاً، يعاني الائتلاف أصلاً من مشكلة فهم المهام الأساسية والأهداف التي قام لأجلها. على سبيل المثال، يعرّف نفسه على أنه كيان وطني عابر للأيديولوجيا، مهمته التفاوض للوصول إلى العملية الانتقالية المنشودة، وعندها سيعتبر نفسه منحلّاً، أي أنه سيكون جزءاً من العملية التفاوضية مع النظام السوري.
ولكن، بالنظر إلى المهام التي يقوم بها، يلاحَظ أنه تجاوزها، وتحوّل إلى شبه سلطة سياسية وقانونية مختلطة (تنفيذية-تشريعية)، مما يشكل تعارضاً كبيراً بين الأهداف التي قام لأجلها والمهام التي يقوم به حالياً.
أيضاً، نص النظام الداخلي للائتلاف، في المادة 27، على مهام الحكومة السورية المؤقتة، باعتبارها مؤسسة تنفيذية تتبع لأخرى تشريعية. هذا يشير إلى فقدان الائتلاف إلى البوصلة الأساسية التي قام لأجلها، فهل هو دولة، أم أنه مجرد مؤسسة سياسية تُعنى بالعمل التفاوضي المرحلي؟
بنية مضطربة
من الواضح أن الائتلاف يعاني من قلة أو غياب الانسجام الداخلي، جراء الخلل الكبير على مستوى تمثيل المكونات المختلفة والمتباينة فكرياً وأيديولوجياً والتأثير الدولي عليه، ما تسبب بنشوب أزمة داخلية وأدى إلى ولادة مجموعات متنازعة ومتنافسة داخله، مثل مجموعة G4، والمجموعة المحسوبة على نصر الحريري وغيرها. هذا عدا الخلافات بين مؤسسات الائتلاف نفسها مع الحكومة السورية المؤقتة والتنافس وتداخل المهام بينهما.
وتحوّل الائتلاف من منصة أساسية قامت بهدف التفاوض إلى تكتل سياسي يشكل إحدى مكونات هيئة التفاوض، بعدما أضاع فرصة انفراده في تمثيل المعارضة السورية خلال مفاوضات جنيف حتى عام 2015، وهو تاريخ تأسيس الهيئة العليا للمفاوضات.
كذلك، يفتقر الائتلاف إلى وجود آليات واضحة لصنع القرار بشكل كبير. يبدو قرار رئيسه نصر الحريري نهاية عام 2020 بإنشاء مفوضية الانتخابات مثالاً على ذلك، فقد تسبب بسخط شعبي كبير، واستياء داخل الائتلاف نفسه، إذ عبّر الكثيرون من الأعضاء عن استغرابهم واعتراضهم على القرار الذي لم يكن لهم علم به إلا من خلال وسائل الإعلام. هذا يشير إلى مدى المشاكل التنظيمية التي يعاني منها الائتلاف على مستوى التواصل وصنع القرار.
من الواضح أن هناك اتجاهاً داخل الائتلاف يقوم، أحياناً، على التفكير الفردي دون الجماعي، وعدم الالتزام بالقوانين الناظمة التي نص عليها النظام الداخلي، كالبند رقم (13) في الفقرة رقم (ب) والتي نصت على عدم جواز القيام بأي عمل باسم الائتلاف دون تكليف رسمي مسبق.
بالعموم، لدى قراءة النظام الداخلي للائتلاف يلاحَظ مدى استنساخ الكثير من بنوده ومواده عن أنظمة داخلية أخرى، دون تفهم السياقات المرحلية التي مرت بها الثورة السورية. بكل تأكيد، من المهم قراءة التجارب الأخرى والاستفادة منها طالما أنها ستصب في النهاية في مصلحة تطوير المؤسسة ولكن هذا لم يحدث في حالة الائتلاف.
خضع النظام الداخلي للائتلاف لأكثر من 12 تعديلاً خلال سبع سنوات ونصف من وضعه. وفي حال اعتبرنا، وفق المهام التي يقوم بها الائتلاف، أنه دولة، نلاحظ أنه لم يخضع أي دستور من دساتير سوريا الخمسة عبر التاريخ لهذا الكم من التعديلات خلال هذه الفترة الوجيزة، ما قد يدلل على الارتباك وغياب الكفاءة وضعف الأداء الذي يعاني منه هذا الجسم بصفته أبرز مؤسسات المعارضة.
بالتالي، إذا كانت لدى الائتلاف رغبة في حل مشاكله التنظيمية، عليه قبل أي شيء أن يعيد النظر في آليات تواصله، ونظامه الداخلي بصفته الحجر الأساسي في بناء هذه المنظومة، ويرفع حجم التمثيل ليشمل جميع المكونات السورية على اختلافاتها، لا سيما عنصر الشباب، ويبدأ بوضع خطط سنوية واضحة تساهم في تعزيز حضوره على المستوى الشعبي والدولي.
توافق أم ديمقراطية؟
ما زالت مؤسسات المعارضة السورية تفتقر إلى فهم الأسس التي من المفترض أن تتبناها في بناء منظومتها، فركّزت منذ تأسيسها على الشعارات الظاهرية بدلاً من قراءة المشهد السياسي بشكل دقيق والبناء عليه، واعتمدت مفاهيم الديمقراطية والتداول على أساس الانتخاب، كآلية الوصول إلى إدارة وقيادة مؤسساتها كالائتلاف الوطني، بالرغم من أن هذا لم يتحقق خلال فترة عشر سنوات من الثورة، فكل الممثلين داخل الائتلاف لم يأتوا على أساس الانتخاب بل الانتداب والتمثيل النسبي بناءً على التوافق، كذلك مَن هم في دائرة صنع القرار.
يمكن القول إن وصول أنس العبدة ونصر الحريري إلى رئاسة الائتلاف والتحضير لتسلم سالم المسلط الرئاسة المقبلة تعتبر نماذج توافقية وليست ديمقراطية.
بات الائتلاف يفتقر بشكل واضح إلى تفسيرات أساسية كتعريف نفسه، وآليات عمله، وأهدافه والشخصيات التي من المفترض أن تشغل مناصب الإدارة، بينما تتطلب ظروف المرحلة قيادة من خبراء غير منتخبين (تكنوقراط) أكثر بكثير من الانتخاب الذي قد يفرز أشخاصاً غير قادرين على الوصول بالمعارضة السورية إلى مطالبها.
إن عودة الائتلاف إلى التفكير بتبني التوافق كآلية عمل قد يؤدي إلى إحداث خلل تنظيمي داخله، فكان من المفترض اعتماد ذلك منذ البداية. بالتالي، لا يبدو أن هناك الكثير من الخيارات المتاحة له للخروج من هذا الارتباك الحاصل.
بالمحصلة، لم ترتقِ معظم مؤسسات المعارضة السورية إلى مستوى تمثيل مطالب المحتجين السوريين، حتى صار وعي الشعب أعلى من وعي النخب. ويُقصد بالوعي طبيعة التعاطي مع مفاهيم مثل الانتخابات الديمقراطية، والتوافق (الكفاءات)، وتعاون المؤسسات، وآليات الحوكمة، والمواطنة.
بالتالي، سيؤدي ذلك حتماً إلى مزيد من فقدان الثقة بين الطرفين، ومن ثم البحث بشكل جدي عن أدوات تساهم في تشكيل بديل تمثيلي، في الوقت الذي يتم فيه أصلاً البحث عن بدائل بشكل محدود. مثال على ذلك، تشكيل “الهيئة الوطنية السورية” نهاية عام 2020، والتي قدمت نفسها بديلاً عن الائتلاف واعتمدت بشكل أساسي على بناء الثقة بينها وبين الحاضنة الشعبية عبر استقطاب شخصيات سياسية وعسكرية واجتماعية وقانونية تحظى بقبول نسبي لدى الرأي العام.
ومع ذلك، لا يمكن تصنيف نموذج الهيئة بالمثالي، لأنها عوّلت على استثمار النخب في تشكيل الحوامل المجتمعية في حين أغفلت أهمية إقامة شبكة من العلاقات الإيجابية مع الدول المؤثرة التي قد تكفل لها الرعاية مما سيوفر لها خدمات تسهيل الظهور والحصانة الدولية.
يفتقر الائتلاف الوطني إلى المبادرة والبحث عن شركات سواءً على المستوى المحلي أو حتى على المستوى الدولي، فقد غيّب بشكل غير مبرَّر قادة الرأي العام عن المشهد السياسي وهذا ما أفقده أهم أدوات التواصل وبناء القواعد الاجتماعية وأبقاه مؤسسة مترهلة عاجزة عن إعادة إنتاج نفسها ومواكَبة المطالب الشعبية الآخذة بالازدياد.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف 22
رصيف 22
———————————–
التقارير الدولية عن سوريا/ رضوان زيادة
تقرير منظمة أوكسفام الأخير عن سوريا يثير الرعب، 88 في المئة من السوريين تحت خط الفقر وعلى حافة المجاعة، سنوات الحرب ومن ثم وباء كورونا جعلت سوريا من أكثر الدول مرشحة لحصول مجاعة بسبب تخبط وفشل نظام الأسد في الاستجابة للتحديات الاقتصادية، ربما لم يكن هذا التقرير هو الأخير وحتما لن يكون، فمؤشرات الانهيار الاقتصادي بدأت تتصاعد في سوريا منذ عام 2014 من دون أن يكون هناك رد من نظام الأسد أو اكتراث لهذه الأرقام المخيفة.
وصلت سوريا إلى الحضيض مع الأسد لا شك في ذلك كما تشير كل هذه التقارير الدولية، لكنه للأسف وهو يغوص في الوحل يكاد يجر كل السوريين معه إلى هذا الوحل.
الجواز السوري هو الأسوأ عالميا وأينما يسافر السوري يشعر أنه مطرود أو مطارد، لا يأمن التنقل بجوازه السوري الذي يعرف أن لا قيمة له، وأنه في أسوأ الخيارات لا يستطيع الذهاب به إلى سوريا.
السؤال هنا لماذا لا تجد كل هذه التقارير الدولية والأرقام المرعبة أية رد فعل من قبل الأسد؟ نعرف أن لديه تبلداً في الإحساس العام، ونعرف أنه يكذّب كل هذه الحقائق، لكن من المستحيل على السوريين أن لا يروا كل هذه الصور والفيديوهات التي تنقل المأساة لحظة بلحظة من دون أن يكون هناك أية ردة فعل من قبل حكومة الأسد.
هذا هو بالضبط انفصال الدكتاتورية عن الواقع، فهي تعيش جنون عظمتها في الوهم الذي تخلقه عن نفسها، لا تكترث للملايين التي لا تجد قوت يومها، لا سيما بعد رفع الأسعار الأخيرة وانهيار الليرة السورية المتزايد ، فقد فقدت الليرة السورية أكثر من 60 في المئة من قيمتها، خلال أقل من عام وهذا الانهيار ليس له قاع يستقر عنده وهو ما قاد إلى انهيار دخل المواطن السوري بشكل لم يسبق له مثيل في ظل امتناع النظام عن اتخاذ أي إجراء أو تدخل فاعل للحد من التدهور، فهو لا يملك أيا من أدوات التدخل الذي يمكن النظام من الحد من هذا التدهور.
الحقيقة أن القيمة الفعلية للدولار على حساب الليرة أكبر بكثير وربما يفوق حاجز الثلاثة آلاف ليرة، وأن السقوط الحر لليرة السورية سيستمر إذا ما بقي نظام الأسد من دون أية عملية للانتقال السياسي، هل هذا يعني أن الأسد سيكترث للمصاعب الاقتصادية التي يعانيها الشعب السوري اليوم أو غدا؟ بالطبع لا، إنه نوع من أنظمة الإبادة التي لا يهمها ذل الشعب أو فقره أو حتى إبادته كما فعل الأسد في استخدام السلاح الكيماوي في أكثر من 53 مرة ضد المدنيين السوريين وفقا للأمم المتحدة.
وبالتالي فعلينا أن نكون واثقين بأن كل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها سوريا اليوم لن ترف جفنا في عين الأسد فما فعله بالسوريين كان أكبر بكثير من أن تجعله يكترث لفقر السوريين أو وجعهم وآلامهم ، وهذه هي المعضلة الحقيقية، فصحيح أن العقوبات تستهدف نظام الأسد بشكل رئيسي لكنها وبشكل غير مباشر تؤذي السوريين وتؤلمهم حتى المواطنين العاديين منهم الذين لم يدعموا نظام الأسد يوماً، لكن فك عزلة الأسد أو إزالة العقوبات المفروضة عليه لن تخدمهم أيضا، فالأسد اليوم يدين بحمايته لروسيا وإيران أولا، وثانيا للقيادات العسكرية والشبيحة في طائفته التي وقفت ضد خيارات الشعب السوري، وقررت الغوص في دمائه بعيداً، ضد تطلعات السوريين ورغباتهم في الحرية والديمقراطية، فالأسد اليوم مدين لهم بالوفاء وبإرضائهم بكل الامتيازات التي يرغبون بها، مهما كانت هذه الامتيازات وارتفع ثمنها، فرفع العقوبات سيخدم الأسد ولن يفيد الشعب السوري بشيء وهذه تماما معضلة الليرة السورية فمن يتأذى هو الشعب السوري لكن تحسنها لن يفيده، بالنهاية مشكلة الليرة السورية مع الأسد وليس مع الدولار.
علينا أن نكون واثقين بأن كل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها سوريا اليوم لن ترف جفنا في عين الأسد فما فعله بالسوريين كان أكبر بكثير من أن تجعله يكترث لفقر السوريين
تلفزيون سوريا
——————————
بدخول الأزمة عامها العاشر واستمرار العنف والقمع: مشروع قرار بريطاني عن حقوق الإنسان في سوريا/ نصر المجالي
أعلنت المملكة المتحدة عن تقديم مشروع قرار حول وضع حقوق الإنسان في سوريا، لمجلس حقوق الإنسان 47 بمناسبة دخول الأزمة عقدها الثاني.
ومشروع القرار مقدم أيضا نيابة عن فرنسا وألمانيا وإيطاليا والأردن والكويت وهولندا وقطر وتركيا والولايات المتحدة. وقال في مقدمته إن الأزمة في سورية دخلت الآن العقد الثاني – عشر سنوات من العنف والموت والقمع والانتهاكات والإساءات. لدى النظام السوري قدرة تامة على إنهاء هذا الصراع لكنه يختار ألا يفعل ذلك متجاهلا مرارا وتكرارا التزاماته الأخلاقية.
وفي مداخلة له لدى تقديم مشروع القرار، قال سفير المملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية في جنيف، سايمون مانلي، إن تقديم قرار آخر بشأن أوضاع حقوق الإنسان في سورية ليس بالأمر السهل علينا. بل إنه من المؤسف أننا مضطرون لتقديم قرار أصلا. الأزمة في سورية دخلت الآن العقد الثاني – عشر سنوات من العنف والموت والقمع والانتهاكات والإساءات.
مسؤولية النظام
وأضاف: لدى النظام السوري قدرة تامة على أن يختار إنهاء هذا الصراع الآن عن طريق الانخراط بصدق في عملية الأمم المتحدة تحت رعاية مبعوثها الخاص، لكنه يختار ألا يفعل ذلك متجاهلا مرارا وتكرارا التزاماته الأخلاقية.
وقال السفير مانلي: وطوال هذه المدة وضع حقوق الإنسان مستمر في التدهور. من واجبنا ضمان أن يستمر تسليط الضوء على حقوق الإنسان في سورية. ومجلس حقوق الإنسان هو المكان المناسب لفعل ذلك. بينما عدم إثارة هذا الموضوع يوحي بحدوث تحسن على الأرض. وذلك سيكون فشلا ذريعا في مسؤوليتنا تجاه الشعب السوري.
وتابع: لقد ركزنا في هذا القرار الموجز على مسألة المختفين، بمن فيهم ضحايا الاختفاء القسري. فهذه قضية بذلت منظمات المجتمع المدني السورية جهودا حثيثة بشأنها. وقد احتلت قضية المختفين جزءا كبيرا في تقرير لجنة التحقيق. حيث لا يُعقل بكل بساطة أن يظل عشرات آلاف المواطنين مختفين قسريا بمعرفة النظام. نظام لديه السبل الإدارية لتقديم معلومات حول هؤلاء المختفين، والسبل لإنهاء معاناة عائلاتهم وأحبائهم. لكنه يختار آلا يستخدم هذه السبل. هذا عمل وحشي متعمد لا يوصف.
حقوق الضحايا
ونوه السفير البريطاني إلى إن هذا القرار يسلط الضوء على حجم هذه القضية، وأثرها ليس فقط على الضحايا، بل أيضا على أحبائهم الذين عانوا سنوات عديدة لعدم معرفة مصير المختفين. كما يسلط القرار الضوء على الجهود الحيوية التي تبذلها المنظمات المعنية بالضحايا وعائلاتهم والناجين، بما في ذلك الحاجة الملحّة للحصول على المعلومات، ويحث المجتمع الدولي على تنسيق أكبر للجهود حول هذه القضية.
وقال: عقدنا جلستين غير رسميتين من المفاوضات حول مسودة القرار. وأود أن أشكر جميع الوفود والزملاء من المجتمع المدني الذين شاركوا مشاركة بنّاءة في الحوار.
وخلص السفير مانلي إلى القول: بالنظر إلى فظاعة الوضع، نأمل أن يتبنى المجلس هذا القرار بالإجماع؛ لكن عند الدعوة للتصويت أحث جميع أعضاء المجلس على التصويت لصالح القرار. فهذا أقل ما يستحقه الشعب السوري.
ايلاف
—————————–
روسيا المصدرة للنفط والقمح.. تشارك في الجريمة فقط/ فاطمة ياسين
رغم ما يثيره مصطلح القطاع العام من امتعاض وما يستحضره من فساد وسوء إدارة وهدر، فإن هذا القطاع هو في الواقع مصدر دخل نصف السوريين الذين ما زالوا يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها جيش بشار الأسد وحلفائه، حيث يعيش السكان جميعا علاقة الرعية بالحاكم الذي يؤمِّن تعطفه وتلطفه مستلزمات مهمة لتسهيل حياتهم، ولكن هذا الحاكم خاض مغامرات على مدى عشر سنوات جرّت ويلات وكوارث على هذا القطاع العام، هوت به إلى مستويات مالية متدنية وسببت للسكان حالة فقر تصل إلى مرحلة التضور، وحين وصل الجوع مستويات عصية على القياس، قرر رأس النظام أن يلعب دور الحاكم الصالح، فرفع بما يمتلكه من سلطة معدلات أجور الشعب الذي يربض على صدره بقوة، ولكن وبشكل آلي وبتناغم سوقي ارتفعت أسعار الأساسيات مرة أخرى. تبدو الزيادة التي قدمها الحاكم في منتهى السخف والضآلة، بما يعني وبلغة اقتصادية فصيحة أن الزيادة كانت مجرد فخ، تجبر الحكومة فيها الشعب على دفع كل الفواتير المطلوبة، وفي حالة العجز فعليه بكل بساطة أن يجوع ويصبر على الجوع.
المشكلة الاقتصادية التي وضِع السوري فيها ذات وجهين، الأول هو المقدرة الشرائية المنخفضة، فواقعيا هناك كثير من السلع التي يحتاجها السوري في حياته اليومية موجودة ومعروضة بأناقة وزخرفة على واجهات المحال، ولكن ما يملكه الشخص غير كاف لشرائها، فالأسعار حلقت عاليا وأصبح اللحاق بها حلما عسيرا، أما الوجه الثاني فهو مشكلة عدم توفر سلع أخرى، وهناك منها ما لا يمكن الاستغناء عنه، وهو غير موجود في الأسواق، بل في أماكن محددة، وتسيطر الحكومة على توزيعه وتسعيره، ولتظهر هذه الحكومة عدلا في توزيع البؤس اخترعت لهذا النوع من السلع حلا يسمى البطاقة الذكية، وتقوم هي باختيار المواطن المحظوظ الذي سيحصل على سلعته العزيزة وبسعر قد يمكن توفيره، ولكن هنا تلعب آليات القطاع العام الحصرية المتعلقة بالفساد وسوء الإدارة دورها، وبالنتيجة يبقى القسم الأكبر من الشعب إما غير قادر على الشراء، أو هو عاجز عن الوصول إلى سلعته الضرورية.
السلعتان الأساسيتان اللتان تحركان السوق السورية هما الوقود والخبز، فالوقود يشكل عنصر التحرك والتدفئة الأساسي، أما الخبز فهو العادة الغذائية المفضلة لكل الشعب السوري، ولا يمكن الاستغناء عنها بأي شكل، وهاتان السلعتان بالذات هما مشكلة السوري، ونشاهد طوابير الخبز تقاس بمئات الأمتار وطوابير محطات المحروقات تنافسها في الطول، يعني لا توجد سلع لكن توجد طوابير! وجاء اختراع البطاقة الذكية في سياق مراوغة أزمة هذه الطوابير الضخمة، فأصبح المواطن تحت كابوس انتظار الرسالة السحرية التي تضمن بقاءه وأسرته أحياءً أسبوعا آخر. بعد أن أصبحت يد النظام مغلولة ولا تملك طولا كافيا يصل إلى حقول النفط والأراضي الصالحة لزراعة القمح في الشمال، حرمت السلطة الحاكمة من أهم مادتين لازمتين لتمتين بقائها، وحاولت إيران إمداد سوق حليفها بالوقود ولكنها هي الأخرى صارت واقعة بمشكلة مماثلة لذلك توقفت عن الدعم، وأصبح النظام يتسول المادة أو يسرقها بعيدا عن الأعين التي تراقب العقوبات المشددة.
الحليف الروسي الذي يعتبر من مصدري النفط ويتحكم بنسبة مهمة من قطاع الطاقة العالمي، فروسيا ثالث أكبر منتج للنفط في العالم بمجموع عشرة ملايين برميل في اليوم، تصدِّر نصفها، لتكون ثاني أكبر مصدر للنفط، إلى جانب ذلك فهي تحقق فائضا هائلا في محصول القمح، وتنتج سنويا نحو 85 مليون طن، من المتوقع أن تصدر هذا الشهر وحده نحو مليوني طن، وهذه الكمية تكفي سوريا “النظام” مدة عام كامل.. تشكل هذه الأرقام مفارقة وتثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين النظام السوري وروسيا التي تبدو شديدة السخاء في مجلس الأمن في الدعم السياسي، وفي الدعم الجوي الذي يهشم العائلات في قرى إدلب، ولكن عند التحدث عن الغذاء والوقود لا نجد أي تحرك روسي لمساعدة هذا الحليف الذي وصل إلى مرحلة المجاعة.
الزيادة التي قررها النظام في الأجور تعبير آخر عن أزمته المالية، وهي الطريقة التي يظهر فيها عجزه عن مواجهة استحقاقه الاقتصادي والمالي، فيلجأ إلى سرقة شعبه بالرفع الشكلي لأجور أكثر من نصف القوى العاملة التي يستوعبها ضمن نظامه المسمى قطاعا عاما، فينزل بها درجة أخرى من درجات الفقر، أما النصف الآخر والذي لا يعمل لديه فنصفه عاطل عن كل شيء، ونصفه الآخر يراقب ما يحدث بصمت، هذه مرحلة أخرى من مراحل تدهور حال النظام وسوريا، وزيادة الرواتب كذبة لا تصل إلى مرتبة الرشوة، أما الداعم الروسي فشأنه شأن الضباع التي تنتظر أن تموت الفريسة لينقض عليها.
فاطمة ياسين
——————————–
الانسحاب الأميركي والإرباك الإيراني الروسي/ منير الربيع
إذا ما لجأنا إلى استخدام آلية الخطابة الإيرانية في مقاربة عملية انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الشرق الأوسط، نكون أمام خلاصة جملة واحدة ينطق بها الإيرانيون وهي أن المشروع الأميركي في الشرق الأوسط قد فشل، وأصيبت الولايات المتحدة بهزيمة نكراء دفعتها إلى الانسحاب لتجرّ أذيال الخيبة وراءها. لكن هذا المنطق نفسه سينطبق على الإيرانيين أنفسهم بعد سنوات من الآن. ولكن بعيداً عن لسانيات الخطاب الإيراني، فإن الدخول الأميركي العسكري إلى المنطقة كانت له أهداف وغايات تقاطعت استراتيجياً مع مشاريع استراتيجية أو تفصيلية إيرانية أيضاً من الدخول إلى أفغانستان والعراق، وربطاً بكل التداعيات التي شهدتها المنطقة بعد الدخول في حقبة مواجهة الإرهاب. ينسحب الأميركيون للعودة إلى الداخل وفي نظرهم أن مشروعهم قد أدى نتائجه ولا حاجة للمزيد من الاستنزاف والبقاء. في الانسحاب الأميركي لن يكون هناك أي انتصار لإيران إنما مزيد من الإرباك لها ولداخلها كما لروسيا خصوصاً من تداعيات الانسحاب من أفغانستان.
تبقى الفكرة الأساسية أن لا شيء مستعجل بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بل هي تفضل تأجيل معظم الملفات بما أن الاستنزاف سينقلب على روسيا وإيران وغيرهما وفي النهاية ستلجأ الدولتان إلى طلب عقد التسوية مع واشنطن. أكثر ما يؤشر على هذا المسار هو التنسيق حول المعابر في سوريا بين الأميركيين والروس وخصوصاً حول معبر باب الهوى بين شمال سوريا وتركيا، من شأنه أن يؤسس لأي اتفاق في المرحلة المقبلة. ليس تفصيلاً أن تتقدم أميركا وروسيا بمقترح مشترك إلى مجلس الأمن الدولي، فهذا يؤشر إلى أن أي حل في سوريا لا يمكن أن يكون إلا بناء على اتفاق بين الطرفين. ولا يمكن لروسيا أن تفوز بأي ثمار من دون موافقة الأميركيين. وهنا يتوقف الأمر على وضع الإيراني في سوريا الذي يصر على مزيد من التقدم والتوغل والاستثمار. منطقياً أي حل في سوريا يحتاج إلى كسر عزيمة الإيراني وإجباره على التراجع والتنازل، لكن ذلك غير متاح حالياً.
أي انسحاب أميركي من العراق وفق بعض الأفكار المتداولة داخل الإدارة الأميركية، فإن ذلك سيؤدي إلى إرباك كبير في صفوف الإيرانيين. صحيح أن طهران حينذاك ستخرج لتعلن أنها حققت ما تريد وأخرجت القوات الأميركية من العراق نظرياً أو في إطار لعبة البروباغاندا والتعبئة الإعلامية التي تبرع بها طهران وحلفاؤها، أما النتائج السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية على إيران ستكون في غاية السلبية والخطورة.
لن تكون إيران قادرة على تقديم أي مقاربة جدية للمشكلات التي ستجتاح العراق، سيكون النموذج اللبناني هو الأمثل الماثل أمامهم، السيطرة على كل المقدرات والقرارات السياسية من دون القدرة على تقديم أي حلّ، ما يعني أن ذلك سيضعهم أمام مواجهة حقيقية تثبت فشل المشروع، أو أن خيارهم سيكون الذهاب إلى تسويات متعددة ومتفرقة في محاولة متقطعة للخروج من الأزمات. إيران لا يقوم مشروعها إلا على الاستثمار بالحروب العسكرية، ولكن بخروج الأميركيين وانتهاء تنظيم داعش لن يكون هناك أي مجال للدخول في معركة عسكرية مع أي طرف. حينذاك ستحتاج إيران إلى أي تسوية تحفظ ماء الوجه وتدعي من خلالها أنها انتصرت، بالرغم من تقديم تنازلات والتراجع الجوهري.
لا يمكن إغفال الاستراتيجية الأميركية، وهي أن لإيران مشروعا تدميريا في المنطقة وها هو قد أنجز في الدول التي سيطرت عليها طهران، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، من دون أي قدرة على تقديم الحلول أو مشاريع التطوير والإنماء، ما سيفرض على طهران الذهاب إلى أي تسوية يقول من خلالها إنه أصبح شريكاً في صنع القرار. لا قدرة لإيران في الاستمرار والتعايش مع هذا التدمير الممنهج، في النهاية وإذا ما اعتبرت أنها حققت انتصاراً معنوياً أو على الأرض، فلا بد من تقريشه سياسياً واقتصادياً وهو غير متوفر لها. إنما سترث دولاً ومجتمعات منهارة بكامل مقوماتها منعدمة توفر أدنى مقومات العيش من الغذاء إلى الدواء والكهرباء.
ستكون إيران بأمس الحاجة للوصول إلى تسوية معينة، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الروس في سوريا، إذ يستجدون واشنطن على إبرام اتفاق شامل، في حين واشنطن لا تبدو مهتمة وستبقي كل القوى في مواجهة الانهيارات أو حالات التضعضع. وفي ظل هذه المعادلة فإن المقاربة الإيرانية للملفات الإقليمية ستنقلب رأساً على عقب، ففي حين تصر واشنطن وبعض الدول الحليفة لها على ضرورة البحث في النفوذ الإقليمي لإيران الأمر الذي ترفضه طهران وتتمسك بالتفاوض على البرنامج النووي من الناحية التقنية فقط، فإن ذلك سيتغير فيما بعد وسيصبح البحث عن تسوية إقليمية لترتيب الأوضاع داخل الدول التي تدّعي إيران السيطرة عليها هو مطلب إيراني بالدرجة الأولى، وهذا ما ستكون أول تجلياته حقيقة الوضع ومسار التطورات في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي.
تلفزيون سوريا
——————————
مبادئ.. قضايا ولوثات عديدة/ حسان الأسود
مع كلّ حدث صارخ، تظهر إلى السطح نقاشات حقيقية حول الأولويات، حول المبادئ والقيم والقضايا والمصالح. حصل هذا أخيرًا بعد إعلانات قادة (حماس) اصطفافهم اللا مشروط خلف نظام ملالي طهران، واليوم يتجدد في قضيّة قتل المعارض الفلسطيني نزار بنات، على أيدي قوات الأمن التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وقبلها كانت ظواهر نضاليّة شابّة، مثل الشاعر تميم البرغوثي والمناضلة عهد التميمي، محلّ نقاش مستفيض. والحقيقة أنّ أغلب الساحات العربية شهدت مثل هذه النقاشات المفارقات، ففي مصر، كانت مسألة محاكمات قادة الإخوان المسلمين، وقتل الرئيس المصري الوحيد المنتخب ديمقراطيًا عبر تاريخ مصر الطويل، حاضرةً، وما زالت، وفي سورية، أخذت قضايا كثيرة مثل هذه الانقسامات، لعلّ من أبرزها تمييز كثير ممن يعتبرون أنفسهم في صفّ الثورة، بين الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين على يد عناصر “الجيش الوطني”، وتلك المرتكبة على يد عناصر جيش النظام، أو ميليشيات (قسد).
يتلخّص جوهر النقاش في المفاضلة بين المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي لا تقبل المفاضلة والمساومة بطبيعتها، مثل حقوق الإنسان ومبادئ العدالة والكرامة والحريات، وإن كانت قابلة للاستثمار السياسي بلا شك، وبين قضايا وطنيّة لها عراقتها وأصالتها ولا يمكن تجاوزها، لكنّها في الوقت نفسه حمّالة أوجه وقابلة للاستخدام السياسي والعقدي الأيديولوجي، مثل القضيّة الفلسطينية وثورات ربيع الشعوب العربية.
المفترض ألا يكون هناك تعارضٌ بين المبادئ والقيم الأخلاقيّة والقضايا العادلة. وعلى الرغم من الطابع النظري للأولى، مقابل الطابع العملي للثانية على الأغلب، فإن مجالات التقاطع لم تكن على الدوام واضحة في أذهان جميع المهتمين بهذا الشأن. إنّ القول بإطلاق المبادئ والقيم الأخلاقيّة ليس في محلّه دومًا، خاصّة أنّ ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، اليوم، لم يكن كذلك على الدوام؛ فمسائل مثل العبوديّة كانت قيمًا راسخة في مجتمعات البشر طوال قرون عديدة، بل كانت جزءًا من نمط الحياة والإنتاج، وحقوق مثليّي الجنس لم يُتّفق عليها، حتى الآن، في قلب أوروبا وفي أميركا التي تتصدّر قائمة الدول الليبرالية والديمقراطية والمنافحة عن حقوق الإنسان في العالم. كذلك فإن توصيف القضايا الوطنية بالنسبية ليس بالأمر الهيّن أو السهل، فالقضيّة الفلسطينية -وإن اختلفت زوايا النظر إليها بين الفلسطينيين أنفسهم- لا يمكن أن تكون بالنسبة إليهم محل نقاش، ولو كانت نسبية من منظور غيرهم.
ينظر أصحاب القضايا عادة إلى العالم، من خلال محورية قضيتهم بالنسبة إليهم، وهذا ضروري ومهم من جهة أولى، لأنه يجعل هذه القضيّة حاضرة في كلّ لحظة، ويبقيها على السطح دائمًا، لكنّه بالمقابل، من جهة ثانية، يورث نوعًا من النرجسية أو الذاتيّة الشديدة التي تُغفل وجود قضايا أخرى في الكون، قد لا تكون بذات الراهنية أو الأهمية عند الآخرين، كما هي عند أصحابها.
لنأخذ مواقف الغالبيّة الساحقة من السوريين على المقلبَين، فهم ينظرون إلى أحداث العالم كأنها انعكاس للموقف من قضيتهم. فالنظام اعتبر منذ اللحظة الأولى أنّ الثورة عليه مؤامرة كونيّة، والثائرون والمعارضون اعتبروا أنّ المؤامرة موجودة فعلًا، لكنّها ضدّ الشعب الثائر، وأنها في صفّ النظام لحمايته ومنع سقوطه. قليلون جدًا أولئك الذين كان لديهم -على صعيد الخطاب والممارسة بآن معًا- هذا التوازن في النظرة إلى الأمور والأحداث. وهؤلاء -على قلّتهم- لم يكن صوتهم مسموعًا إلا ما ندر، وإن تكلّموا وأسمعوا صوتهم، رمتهم سهام الشعبويين فأردتهم أرضًا.
تحديد الناس لقضاياهم، وكأنها محور الكون، يجعل الآخرين غير موجودين -بالنسبة إلى هؤلاء- إلا بالقدر الذي يتوافقون فيه مع هذا التحديد. كثيرٌ وكثيرٌ جدًا من الفلسطينيين ينظرون إلى أي قضية أو حدث، من خلال مقاربتهم الخاصّة هذه، التي تعتبر فلسطين والقضية الفلسطينية أولًا وثانيًا وثالثًا وحتى عاشرًا. ولا معاناة من نوعٍ خاصٍّ، للسوريين أو العراقيين أو اللبنانيين أو الجزائريين، خارج إطار معاناة الفلسطينيين، عليهم أن يوضحوا في كلّ مرّة أنّ قضية فلسطين مقدّمة على قضاياهم الوطنية، حتى ينالوا قسطًا من الاعتراف بها.
لا شكّ في أنّ القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والمركزية للعرب، شعوبًا وأفرادًا، لكنها ليست كذلك، لأنه ليس لديهم قضاياهم الخاصّة المتعلقة بحياتهم ومعاشهم اليومي المباشر في بلدانهم، بل لارتباطها بشكل جوهري لا يقبل الانفصام بأسس وجود دولهم وأمّتهم وكيانهم، بوصفهم عربًا، لا بوصفهم سوريين أو عراقيين أو مصريين.
من هذا المنطلق، لا تعارض بين نضال السوريين من أجل الحرية والخلاص من الاستبداد، ومن أجل بناء دولة مواطنة تحترم حقوقهم وخياراتهم بالعيش الكريم، وبين اعتبار غالبيّتهم العظمى قضيّة فلسطين قضيّتهم المركزية الأولى. يفترض هذا بالمقابل أن ينظر الفلسطينيون إلى ثورة السوريين، كجزء من نضال وطني ضدّ الاستبداد، يصبّ في النهاية في مصلحة النضال القومي ضدّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. لكننا نجد أنّ هذا الأمر ليس بهذا الوضوح، لدى عددٍ لا يُستهان به من أبناء الشعبين الفلسطيني والسوري على السواء.
ما هو تفسيرنا لاصطفاف العدد الأكبر من الحركات الفلسطينية مع النظام السوري ومشاركتهم إياه، في المواقف السياسية، وفي حمل السلاح في وجه السوريين الثائرين عليه؟! وما هو تفسيرنا لاصطفاف الغالبية العظمى من التنظيمات اليسارية العربية ومنتسبيها لجهة النظام السوري؟ أليس من حق السوريين اختيار شكل دولتهم ونظام حكمهم، مثل غيرهم من البشر، أم أنّ رفع النظام شعارات الدفاع عن القضية الفلسطينية وحده كافٍ للوقوف خلفه بوجه الشعب الثائر!
ما هي وجاهة الأصوات السورية التي اعتبرت مقتل نزار بنات، بيد أدوات القمع والاستبداد السلطوي، شيئًا طبيعيًا، لمجرّد أنّه أعلن منذ البداية وقوفه ضدّ الثورة السورية وانحيازه إلى رواية نظام الأسد القمعي المنفلت من كلّ لجام؟ هل الدنيا والمواقف والأشياء لونان فقط، أم هناك إمكانية للتعدد والتنوّع؟ أليس من المنطقي أكثر، بل من المعقول والواجب، أن نميّز بين الموقف السياسي لنزار، وأن ندينه ونوضّح خَطله، وبين الموقف الأخلاقي من اعتقاله وتعذيبه وقتله خارج القانون وبغير وجه حق؟
منذ بداية الثورة السورية، وقفت غالبية التنظيمات الفلسطينية والكردية، في أوروبا وأميركا وكندا، على الحياد منها، ولم تشارك هذه القوى المنظّمة والمسلّحة بإرث كبير في هذه الدول الديمقراطية، بدعم السوريين الثائرين، وبمساندتهم وبإيصال صوتهم إلى الحكومات الغربية والرأي العام الغربي. لقد كان بمقدورهم تسيير تظاهرات أسبوعيّة، بعشرات الآلاف، في شوارع برلين وباريس واستوكهولم ولندن وروما ومونتريال ونيويورك وواشنطن…. لكنّ لوثة الاصطفافات والأولويات كانت حاضرة على الدوام. لا يقع اللوم عليهم وحدهم، بكل تأكيد، فالمعارضون والثوار السوريون لم يتمكنوا من استقطاب جميع أبناء سورية وبناتها لصفوف ثورتهم، فهل من عتبٍ على غير السوريين، إن لم يقبضوا على هذه اللحظة التاريخية المُفارقة؟
ثمّة مساحة مشتركة، بين القيم والأخلاق والسياسة، تكبر أو تصغر بحسب ما يريده لها أصحاب القضايا وأصحاب المصالح المختلفة. بدون نظرية وتنظير، لا يمكن أن يعمل الإنسان، وبدون عمل وإنتاج، لا يمكنه أن يحيا ويتطوّر، وبدون الموازنة بين النظرية والتطبيق العملي، لا يمكن للأخلاق أن تجد تجسيدًا في حياة البشر. وإلى أن نصل إلى التوازن، بين ما يجب أن يحصل وما يحصل فعلًا، علينا أن نتحمّل انكسارات المبادئ وهزيمة القيم وانتصار اللوثات.
مركز حرمون
——————————–
الحريات الفردية في مقدمة القضايا السورية/ طلال المصطفى
اعتاد النظام الأسدي الاستبدادي الحديثَ عن القضايا الوطنية، أو ما يطلق عليها “القومية”، في أولوياته السياسية على الصعيد السوري الداخلي، وفي أنساقه الاجتماعية كافة، حيث ظهرت عبارات: “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، “لا حياة في هذا القطر إلا للتقدّم والاشتراكية”، “الصمود والتصدي”، “الوحدة الوطنية”، “الوحدة العربية”، “المقاومة والممانعة”، “التجانس”.. إلخ، لم يحصد منها السوريون إلا التخلف والجوع والموت في المعتقلات، وتدمير المدن والأحياء، والمزيد من الاحتلالات للوطن السوري.
أطلقت هذه الشعارات الكبيرة الزائفة، على حساب أبسط حقوق المواطن السوري، وأوّلها الحريات الفردية التي تتمثل في الحق في الحياة وحرمة الجسد والأمان، وحرية الفكر والمعتقد والضمير، وحرية الرأي والتعبير، والحق في الحياة الخاصة وحماية المعطيات الشخصية، والحق في حرمة المسكن وحرية التنقل والإقامة وحرية الفنون والحريات الأكاديمية، وهي الحقوق التي أقرّتها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والدول الديمقراطية في العالم كافة.
هكذا نحّى النظام السوري الحريات وحقوق الإنسان كافة، وغيّبها عن السوريين بالمطلق، واعتبرها قضايا ثانوية كمالية أمام قضايا “المقاومة والممانعة” وملحقاتها، غافلًا عن أن هذه القضايا الوطنية الكبرى لن ينجزها إلا المواطن السوري الذي يمتلك ذاتًا واعية ومستقلة عن الآخر، تستحق العيش بحرية وكرامة، وأساس ذلك ممارسة الحريات الفردية في الأنساق الاجتماعية كافة.
وما زال المواطن السوري في مرحلة حكم الأسد الأب والابن هو المغيب الرئيس في هذا الوطن، كذات واعية للحقوق، الأمر الذي جعله قابلًا للنكوص إلى اللاوعي الجمعي، في أي موقف سياسي أو اجتماعي، الناتج عن بقايا ثقافة البنى التقليدية، أي ما قبل الحداثة، التي عادة ما تستثمرها الأيديولوجيات الاستبدادية، بهدف إقصاء الفرد كمواطن، وزجّه في هويات جمعية ما قبل الدولة الوطنية في مشاركاته الوطنية والاجتماعية.
هناك علاقة طردية بين توفر الحريات الفردية وممارستها في أبعادها الثقافية والفكرية والدينية والسياسية.. إلخ، ووجود المواطن المالك للذات الواعية في المجتمع السوري، ويظهر الواقع أن الفرد ما زال مغيبًا بالمطلق بفعل الرؤى الثقافية الاستبدادية الصادرة من النظام الاستبدادي السوري، ومن قبل بعض المعارضة السورية أيضًا، تحت مقولات كبرى (الأمة، الشعب، الطبقة، الطائفة، الدين، القبيلة العشيرة، العائلة، وحدة قوى الثورة والمعارضة، الأولوية إسقاط النظام.. إلخ) التي منعته من التعبير عن ذاته السياسية والاجتماعية، خارج هذه الهويات الجمعية الزائفة التي هدفها الرئيس تزيين وتجميل الاستبداد والفساد في الوطن السوري بدعوى أن الحريات الفردية تضعف الدولة، الأمة، المقاومة، الممانعة، الوحدة الوطنية، وحدة قوى الثورة والمعارضة، وحدة نهج الجهاد والمجاهدين… إلخ.
الدعوة إلى إنجاز الحريات الفردية وممارستها في الأنساق الاجتماعية كافة، بالنسبة إلى هؤلاء، هي دعوة مشبوهة وعميلة للخارج تدعو إلى شقّ الصفوف، وتُغفل أن قوة الدولة، الأمة، المعارضة، الأحزاب، المؤسسات تأتي من قوة الأفراد الأحرار وفاعليتهم، وقد تبيّن من تجارب الدول الليبرالية أن هناك علاقـة طرديـة إيجابيـة، بـين إطـلاق الحريـات الفرديـة وممارستها والتنميـة البـشرية، ومن تجارب الأنظمة الاستبدادية، تبيّن أن قمع الحريـات والتـضييق علـى المواطنين والتعسّف والاسـتئثار بالـسلطة يـدفع نحـو هجـرة العقـول والمفكـرين إلى الخـارج مـن جهـة، ويدفـع المـواطنين نحو الإرهاب والعنـف وشـيوع حالـة مـن اللامبـالاة والفوضـى، مـن جهـة أخـرى.
المواطن الحر، الذي يمتلك الذات الواعية للذات وللآخر في الوقت نفسه، هو الحامل الاجتماعي والسياسي الرئيس في عملية الانتقال، من دولة الاستبداد والبنى التقليدية ما قبل الحداثة إلى دولة الحداثة والمواطنة؛ إذ تُعدّ الحريات الفردية المعيار الرئيس في الانتساب إلى قيم الحداثة والديمقراطية.
المواطن الحر هو الحامل الرئيس للعقد الاجتماعي، وهو من يقوم ببناء الدولة الديمقراطية ومؤسساتها، لأنه حامل الصوت الانتخابي الحرّ، كعنصر حاسم في العملية الانتخابية الديمقراطية، ولأنه الموضوع الرئيس لحقوق الإنسان، ذلك أن الحقوق الاجتماعية والسياسية متعلقة بالكرامة الشخصية للمواطن، كذات واعية لذاته وللآخر. فمن خلال وعي المواطن لذاته يشعر بالحرية وضرورة امتلاكها وممارستها، وفي وعيه للآخر يشعر بحرية الآخر وحقه بالاختلاف عنه.
الاستبداد ليس مجرد سياسة نظام استبدادي فقط، بل ثقافة مجتمعية متكاملة من خلال توفر بنيات اجتماعية سياسية مستبدة، لولا وجودها التاريخي لما استطاع هذا النظام الأسدي أن يستمر في استبداده أكثر من عقود خمسة، عمد فيها إلى تهميش وتحطيم الروابط المكونة لهوية المواطن السوري الفردية الحرة، أي تحطيم المواطن السوري ككائن بشري.
لذلك، جاءت ردة فعل النظام السوري الوحشية تجاه الثورة 2011 التي تمحورت حول مطلب رئيس بالحرية والكرامة، المطلب الذي لو أنجز وتحقق، لكان من أهم المنجزات السياسية للسوريين منذ الاستقلال حتى اليوم، الحرية التي كان توجهها الرئيس التحرر من الأيديولوجيات الشمولية الاستبدادية كافة، سواء أكانت قومية أم يسارية أم إسلامية… الخ، التي تتضمن مقولات مطلقة لكل زمان ومكان وهي زائفة في الواقع المعاش.
إنجاز الحريات الفردية يعني أيضًا التحرر من ثقافة الاستبداد والإكراه، لدى بعض المعارضة السورية التي تشبه ثقافة النظام الاستبدادي في الممارسة على أرض الواقع، في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، والتي تمارس الاستبداد في الأنساق المجتمعية كافة، وتتخفى وراء مقولات حقّ يُراد بها باطل “أولوية إسقاط النظام”، ومحاربة الإرهاب و(داعش) وغيرها من مقولات ديماغوجية لا تنطلي على المواطنين الأحرار. التي ما تزال في صراعاتها مع بعضها البعض تدوس على حرية وكرامة المواطنين السوريين بأقدامها.
أخيرًا، لن تُبنى سورية، كدولة ديمقراطية حداثوية، إلا إذا أنجزت الحريات الفردية من قبل مواطنين أحرار قادرين على إزالة كل المعوقات التي تعترض السوريين في المضيّ في مشروع بناء الوطن الديمقراطي الحداثي، إذ لا حرية لوطن دون أفراد يعون ذاتهم وذات الآخرين، يكونون مواطنين أحرارًا بكل ما تعني الكلمة. وكان المفهوم الشائع، عبر التاريخ، أن وجـود الفـرد سـابق علـى وجـود الدولـة والـسلطة السياسية، وبناء على ذلك؛ تكون مهمة السلطة السياسية صون الحريـات الفرديـة وحمايتها، وسورية بأمس الحاجة إلى قوى وتيارات سياسية اجتماعية تحمل برامج إجرائية، جوهرها الحريات وحقوق الإنسان كافة، وأولها الحريات الفردية، التي تنتج بدورها المواطن السوري الحرّ الذي يمتلك الذات الواعية لنفسه وللآخر، ويرفض الخنوع والطاعة المطلقة للنظام الأسدي الاستبدادي ولقوى الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرته الأمنية والعسكرية، ويمتلك الوعي والشجاعة والسمو الأخلاقي في أدواره المهنية والشخصية، في عملية بناء سورية، دولة القانون والمواطنة، وفي عملية صون القضايا الوطنية السورية كافة.
مركز حرمون
——————————–
الاستعصاء السورى… إلى متى؟/ سمير العيطة
تتفق معظم آراء المراقبين أن الوضع السورى سيبقى على حاله لسنوات قادمة. بلدٌ منقسم إلى 3 مناطق نفوذ، لكلٍ منها آليات الهيمنة المحلية الخاصة بها وقواها العسكرية وداعميها الخارجيين. بل 5 مناطق أو أكثر إذا ما أخذنا بالاعتبار أن السلطة فى سوريا ما زالت لا تسيطر على حوران والجنوب، وأن مناطق «هيئة تحرير الشام» لها وضع خاص ضمن السيطرة التركية، دون أن ننسى أن «داعش» ما زالت ذات نفوذ، وأن إيران باتت لها منطقة هيمنة مباشرة، هى أيضا. حربٌ خافتة ومستمرة على خطوط تماس بين مناطق التشرذم هذه، تمنع لعبة الأمم من «التصعيد» وانتصار فريقٍ على آخر أو أن يكون، أو أن يراد أن يكون، هناك حل عسكرى أو سياسى.
وتتم الإشارة أن هذا الوضع يبقى «أفضل» إنسانيا من الحرب الأهلية المفتوحة والحرب بالوكالة التى كانت تؤدى إلى مئات الضحايا يوميا. ثم أن الموت البطىء من الجوع أو وباء الكورونا ما زالا يضربان. لكن بالمقابل، تبرز تساؤلات عما يُمكن أن يقوض هذه الاستمرارية، أثورة جياع؟ أم انفجار اجتماعى فى لبنان يتبع انهياره الاقتصادى، وما سيكون له بالطبع تداعيات على اللاجئين/ات هناك وبالتالى على الأوضاع فى سوريا؟ أو انهيار آليات الهيمنة المحلية فى إحدى المناطق لما يأخذ إلى أبعد من التشنج الذى نشأ فى «الهويات» والأفكار السائدة فى كل منها؟ فكل آليات الهيمنة المحلية أو المناطقية هشة، وكذلك هيمنة الدولة المركزية أو الإدارة الذاتية.
•••
اقتصاديا باتت كل مناطق النفوذ تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات الدولية وعلى تحويلات المغتربين، التى وصل مبلغها الإجمالى إلى ما بين ثلث ونصف الناتج المحلى. لكن إلى متى يُمكن أن تبقى المساعدات الدولية على مستوياتها الحالية، رغم أنها أقل مما كان يُنفَق دوليا على الحرب بالوكالة وأن اعتمادها على المساعدات البينية (أى توزيع المواد المعيشية) بدل المساعدات المالية لسنوات طويلة ــ بهدف عدم رفد الاقتصاد السورى والمصرف المركزى مباشرة بالعملة الصعبة ــ وما بات جزءا من استراتيجية شبكات أمراء الحرب وعائقا أمام تنشيط الاقتصاد المحلى والتشغيل. وماذا أيضا عن استمرار مستويات تحويلات المغتربين فى ظروف هشاشة الاقتصادات الدولية، والخليجية خاصة، فى زمن وباء الكوفيد 19؟
أما الإنتاج المحلى فلا شىء يدل على إمكانية تفعيله بجدية. لا انهيار أسعار الصرف يشجع على التصدير المُعاق واقعيا بفعل الإجراءات الأحادية الجانب. ولا «المرونة» الاقتصادية النسبية التى كانت قائمة بين مناطق النفوذ قابلة للاستمرار فى ظل بحث حثيث من سلطات الهيمنة لزيادة إيراداتها لتغطية نفقاتها المتزايدة ودعم بعض السلع الأساسية أو لفصل تدهور أسعار الصرف فى سوريا عن التدهور الأسرع فى لبنان. ولا زراعة وصناعة دون آليات داعمة من مؤسسات «دولة»، تحميها من تسلط أمراء الحرب.
لا يقل الوضع الاجتماعى هشاشة. لقد أنتجت الحرب تركزا كبيرا فى الثروة بيد قلة وغيبت الطبقة الوسطى. وأُفرغِتَ الأرياف بحيث باتت الأغلبية القصوى من السكان تقطن مدنا، بما فيها تلك الجديدة الخاصة بالنازحين/ات. وجاءت موجة شباب حديثة لم يعرف أبناؤها سوى الحرب ومآسيه وانهيار التعليم وصعوبة التنقل والانعزال فى آليات فكرية متباينة، ولا رابط بينهم وبين أولئك الذين انتفضوا منذ عشر سنين طلبا للحرية ولأفقٍ جديد. إنهم يخرجون فى «تظاهرات» للاحتفاء فقط بحدٍ أدنى فى ظل غياب أى أفق، سوى الرغبة فى الهجرة بأى ثمن. أما الذين هاجروا فلهم همومهم فى التأقلم والعمل والعيش فى المجتمعات التى لجؤوا إليها، مهما كان حماس بعضهم لمساعدة من بقى فى البلاد.
سياسيا، لا تُبدى السلطة القائمة فى دمشق استعدادا لأية تنازلات. وهى تعيد ترتيب أوضاعها لزيادة التسلط فى المناطق التى تهيمن عليها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، احتفاء بـ«انتصارها»، وترى أن مخاطرها ستزيد إذا ما منحت أية مزايا للمصالحة مع المناطق الأخرى. فى المقابل، فقدت «قوات سوريا الديموقراطية» والإدارة الذاتية عمليا إمكانية خلق «كيان مستقل» على الأرض ولكنها ما زالت تملك نسبيا موارد أفضل بحيث يُمكن لها أن تلعب وقتا طويلا لصالحها لترسيخ واقعا ما يوما ما. أما مناطق «الفصائل»، فعدا الفوضى القائمة فيها رغم الهيمنة التركية، عدا إدلب الواسعة التى «تنظمها» «هيئة تحرير الشام» نوعا ما، لم تعُد مناطق «معارضة» بشكلٍ فعلى. إذ لا تحمل مشروع حوكمةٍ سياسية منفصلة عن أمراء حربها، لا للأرض ولا للمواطنات والمواطنين الذين يقيمون فى ظلها، ولا، والأهم: لكل سوريا.
•••
لا معنى فى هذا السياق لخطابات «توحيد المعارضة» بعد كل ما عانته محاولات التوحيد السابقة. بل ربما تنتظر السياسة فى سوريا فرزا جديدا فى الفكر والممارسة وفى جميع المناطق، بين من يريد سوريا واحدة ومن لا يريد، ومن يقبل بهيمنة أمراء الحرب، مهما كانوا، ومن لا يقبل، وبين من يتخطى الطائفية المذهبية أو الإثنية ومن لا يريد تخطيها، وبين من يدين ممارسات التسلط وأمراء الحرب والقمع فى منطقة تواجده قبل المناطق الأخرى، من طرف، وأولئك الذين لا يوجهون الأصابع سوى إلى تعديات الطرف الآخر، وكذلك بين من يدينون كل أطراف التدخل الخارجى فى سوريا أو بين أولئك الذين لا يدينون سوى أطرافٍ بعينها مستعينين بالأطراف الأخرى. والقائمة طويلة بين من عينه وقلبه على سوريا وأهلها وبين ذلك الذى يريد أن ينتقم أو يهيمن. وطالما طال مجىء هذا الفرز وترسخه فى مشروعٍ سياسى يتجاوز الكيانات الموهومة… ترسخت الشرذمة لفترةٍ أطول.
لا يخص هذا الفرز المدنيين وحدهم، بل وأيضا وخاصة العسكريين والمقاتلين، بين من هم «حماة الديار»، كل الديار، وبين المحاربين لحساب أمراء حرب أو قوى خارجية أو من أجل مجرد الاسترزاق.
هذا الفرز ومهمة الخروج من الاستعصاء هما مسئولية السوريين وحدهم، وعيا بمخاطر استمرار الشرذمة لسنين وبتلك التى يُمكن أن تنتُج عن التغيرات القادمة بفعل التردى الداخلى والأزمات المجاورة. ووعيا أيضا أن لا مانع للقوى الخارجية فى استمرار الوضع الحالى طويلا، كلٌ منها بوسائلها ولأسبابها ولخدمة مصالحها.
كلفة استمرار الاستعصاء السورى بالنسبة لجميع هذه القوى الخارجية ضعيفة نسبيا مقارنة مع ما استثمرته تلك القوى منذ 10 سنوات. باختصار، كلفة الاستعصاء باهظة، بل باهظة جدا، على الشعب السورى… وعلى الشعب السورى وحده.
سمير العيطة
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
الشروق
——————————-
التغيير السياسي في سوريا بوصفه… “أسطورة”/ صهيب الأحمد
أجيال لا تغريها وظيفة الدولة، أو مسدس على الوسط، أجيال خارجة نسبياً عن عباءات الدين والسياسة، ولن يناسبها بالضرورة المستقبل الذي تحيكه السلطة القائمة لهذه البلد.
حين وصلت إلى دمشق بقصد الدراسة أواخر عام 2012، كانت المدينة على صفيح ساخن: تظاهرات، اعتقالات، خطف، عمليات عسكرية، قصف جوي، وفيات بالمئات يومياً، عصابات التشبيح في كل شارع، طرق مقطوعة، لا ترفع جوالك إلى مستوى صدرك بما يشبه التصوير، حواجز الانتظار الأبدي…. إلخ. كنت قد وجدت لنفسي سريراً حديدياً في السكن الجامعي على اوتستراد المزة الذي يمسي مهجوراً بعد الساعة التاسعة مساءً مثله مثل باب شرقي أو أي مكان آخر في دمشق خلال تلك الفترة. تتالت الأحداث السياسية عاماً تلو الآخر، وتزايد معها اهتمامي بالعثور على شابات وشبان يهتمون بالشأن العام بأي شكل ممكن ضمن معطيات كل مرحلة.
أواخر عام 2013، فئة لا بأس بها من الشباب قررت تجاهل الواقع، قولاً وفعلاً، واختارت البحث عن سعادتها الشخصية هنا وهناك، بحجة أنك ذرة لا تقدم ولا تؤخر، والتي أسميتها تجاوزاً الفئة (ع) من العدمية، بينما انقسمت فئة المعنيين بالحدث السياسي القائم بين مؤيد للنظام ومعارض له، ولكوني فرداً من المجموعة الثانية، كنت على دراية بالتقسيمات الحاصلة داخلها، فهناك الفئة (م) اختصاراً للعمل التنظيمي المسلح، والفئة (س)؛ فئة العمل التنظيمي السياسي السلمي، والفئة (ك)؛ فئة المشاركة بكل شيء دون التقيد بتنظيم محدد. اتسمت تلك المرحلة بتخاطر الأعين عند سماع الكلمات المفتاحية، ومن لا يتبجح بتشبيحه للسلطة، فغالباً ما يندرج في إحدى الفئات السابقة برجحان جلي وواضح للفئة (ك).
العام 2014 يحمل المزيد من الذعر لفئات الشباب بمختلف أنواعها، إلا أن الشوارع والأماكن الترفيهية بدأت بالانتعاش ليلاً، مشيرة إلى ازدياد أعداد الفئة (ع) (العدميين). انحسر التبجح بالتشبيح على الحواجز والمؤسسات العسكرية فقط، واضعاً تخاطر الأعين بخطر المخبرين وكاتبي التقارير. غابت المظاهرات بأماكن سيطرة السلطة في دمشق، كذلك غابت معها المجموعة (م)، التي ذهبت إلى مناطق سيطرة سلاح المعارضة. التحق شباب المجموعة (س) بالتشكيلات السياسية المعارضة كل بما يناسبه، في حين أن الجزء الأكبر من المجموعة (ك) وجدوا لأنفسهم مكاناً وسط منظمات المجتمع المدني غير المرخصة التي اكتسحت خلال سنة عمل واحدة دمشق وريفها بأعداد وتمويلات هائلة.
التدخل الروسي ينقذ السلطة من الانهيار العسكري أمام المجموعات الإسلامية المسلحة في أواخر عام 2015، التبجح بالتشبيح يعود قليلاً إلى الشارع، الفئة (ع) تتوسع، الفئة (م) تفقد رشدها وتبدأ بتخوين الفئة (س) التي بدأت بالتمزق بعد أن كان جزء غير قليل منها يراهن على تدخل خارجي يسقط النظام، لا العكس. جزء كبير من الفئة (ك) الملتحق بعمل منظمات المجتمع المدني يبدأ بالسفر إلى الخارج تاركاً مكانه لمن ينسحب من الفئة (س).
أواخر عام 2016، لا وجود للفئة (م) بعد الآن في دمشق، والفئة (س) تستنزف كوادرها ولا تستطيع استقطاب كوادر جديدة، الفئة (ك) غير موجودة إلا بشق العمل المدني وقد أصبحت ورشاته الخارجية باباً لتقديم اللجوء، ولم يعد الفرق واضحاً بين من يريد العمل عبر المنظمات بشكل فعلي، ومن يريد استغلالها للسفر، الفئة (ع) انشطرت إلى فئات.
أواخر 2019، مضت سنتان على انسحابي من الفئة (س)، ومحاولاتي المختلفة لاختراق الأفق المغلق للعمل السياسي. سبعة أجيال من الشباب على الأقل، يجلس قسم كبير منهم في دمشق متخفياً من الخدمة العسكرية الإلزامية من دون عمل أو نشاط أو مستقبل واضح، وقسم كبير آخر أصبح في دول اللجوء أو يخطط ليصبح كذلك، والباقون مجبرون على البقاء بحكم الواقع، يعدون الأيام من دون هدف، وقلة قليلة لا تستحق الذكر ما زالت تقامر بالعمل السياسي والمدني.
منتصف 2021، أجيال جديدة في قلب دمشق، لا تعنيها الاصطفافات السياسية، بخاصة الراديكالية منها، تبينت النفاق السياسي للسلطة والمعارضة وابتعدت منه لتقارب الأحداث الراهنة من زوايا مختلفة، تتحدث بالإجماع عن الأوضاع المعيشية السيئة وفقدان فرص العمل، تغرق صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بصور وشهادات تنتقد كوارث مؤسساتها التعليمية، تتلقى الأحداث ببرود أعصاب وتتعامل مع المستجدات من دون خوف، جزء كبير منها يعمل على أهدافه الخاصة، بسمة فردانية واضحة، بعدما التهمت الأهداف الجمعية الأجيال التي سبقتها ورمتها دون رحمة.
أجيال لا تغريها وظيفة الدولة، أو مسدس على الوسط، أجيال خارجة نسبياً عن عباءات الدين والسياسة، ولن يناسبها بالضرورة المستقبل الذي تحيكه السلطة القائمة لهذه البلد.
اليوم، أطرح على نفسي السؤال الذي كان يشغلني منذ وصولي إلى دمشق قبل تسعة أعوام: هل ما زالت فرص العمل السياسي في دمشق قائمة؟ أم أن فكرة التغيير السياسي باتت مجرد “أسطورة” أخرى، قفز فوقها الشباب بحكم الواقع وفقدان الأمل؟
درج
———————————
كيف يفكّر الأسد اليوم؟/ رضوان زيادة
هناك حقلٌ ممتعٌ في العلوم السياسية، يقوم على المدرسة السلوكية في حقل السياسة. تفترض هذه المدرسة أن المؤسسات السياسية في الدول التسلطية أو الدكتاتورية هي في غاية الهشاشة والضعف، ولذلك لا تعمل بشكل مؤسسي. والهدف من هياكل المؤسسات الموجودة السيطرة أكثر من أن تعمل من أجل تحقيق أهدافها السياسية المناطة بها، فالبرلمان لا يعمل بوصفه صوت المواطنين، ووسيلةً لتحويل الغضب الشعبي إلى داخل قبة البرلمان، كما في الديمقراطيات. بالعكس، للبرلمان في الدول التسلطية وظيفة وحيدة، منح المزايا للموالين، عبر منحهم مقاعد للبرستيج الاجتماعي وراتبا تعويضيا إذا كانوا في حاجة له بالنسبة لبعضهم. وهكذا ينطبق القول على المؤسسات الأخرى، كالقضائية والتنفيذية.
إذا كانت هذه المدرسة السلوكية تفيد في دراسة الأنظمة السياسية للدكتاتوريات، فإن الطريقة الوحيدة هي دراسة السلوك الشخصي والنفسي للدكتاتور بوصفه الدولة ذاتها، كما قال لويس الخامس عشر قديما “أنا الدولة والدولة هي أنا”. ولذلك بدأت الكتابات والدراسات تكثر في التحليل النفسي والسلوكي للدكتاتوريين بشكل خاص، إذ ربما نستطيع، مع هذا التحليل، معرفة أو على الأقل توقع ردة فعل هذا الدكتاتور أو الدولة تجاه بعض أزمات السياسة الخارجية. ولذلك تعتمد وزارة الخارجية الأميركية على سبيل المثال على محللين من هذه المدرسة السلوكية في قراءة ردّات فعل زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، فليس من المهم قراءة البيانات الحكومية بقدر ما هو مهم التركيز على تحليل السلوك الشخصي للزعيم الذي سيحكم حتما ردّة فعل الدولة في سلوكها التصويتي أو العدائي أو حتى خلال الحرب.
في السياق نفسه، من الأهمية بمكان تتبع السلوك الشخصي لبشار الأسد، حتى يمكن توقع ردّة فعله تجاه الأزمات المستقبلية التي تعتري نظامه الذي يخضع لعقوبات أميركية وأوروبية، وفي الوقت نفسه، يواجه تجاهلا أو إهمالا عربيا ودوليا. في الحقيقة، المخزن الرئيسي لهذه المعلومات مصدران رئيسيان: الأول “الإيميلات” (الرسائل) المسرّبة من خلية الأزمة. تُظهر “الإيميلات” التي كان يرسلها إلى زوجته وحماه ومستشارته الإعلامية لونا الشبل، وغيرهم من المقرّبين، دوما شخصا متردّداً، لا قدرة له على اتخاذ قرار حاسم. وفي الوقت نفسه، تظهره شخصا يعرف تماما ما يدور حوله، لكنه يريد طرقا من أجل التحايل على الحقيقة والواقع. وربما هذا ما يفسر دوما اتهام الزعماء الذين قابلوه له بالكذب دوما. وهذا ما يظهر أيضا في الكذب، أحيانا الغبي منه، أمام الكاميرا، عندما يجري مقابلة مع صحافي أجنبي لا يتردّد في سؤاله أسئلة محرجة، فيضطر للكذب في الإجابة عنها.
يكرّر الأسد تقريبا الكلمات نفسها في هذه المقابلات، ويعيد العبارات نفسها منذ بداية الانتفاضة في مارس/ آذار 2011، وكأنه يعيش في عالمه الخاص الذي نسجه من خياله، أنه قادر على العودة بسورية إلى ما كانت عليه قبل مارس 2001. وبالمناسبة، هذا ما نصحته به زوجته في إحدى رسائل البريد الإلكتروني، أن يكرّر العبارات نفسها، فهي ربما ترسخ في الإعلام الغربي بوصفها “حقائق”.
المصدر الثاني للمعلومات عن الحالة النفسية والسلوكية للأسد مقابلة الأشخاص الذين التقوا معه وقابلوه في فتراتٍ مختلفة، حيث يتأكد هنا وصفه شخصية تتلاعب بالكلمات، يغيّرها خوف أن تُحسب عليه، ثم ينقلب عليها فيتهم بالكذب، وهذا طبعا فرق كبير بين شخصيته وشخصية والده حافظ الأسد الذي كان يدرك وزن الكلمة بالنسبة لرئيس الدولة، وكان أكثر ثقةً بنفسه. أما بشار الأسد، كما كشف عبد الحليم خدام الذي كان نائبه ست سنوات، أنه يغير رأيه مع لقاء آخر شخص يلتقيه. ليست لديه القدرة على تمحيص الآراء، واتخاذ الأفضل منها. وإذا ما اجتمعت كل هذه الصفات مع الرغبة في التدمير وصفات والده الأسد الأب في العناد والصلافة والقسوة، فإنها تفسّر تماما ما وصل إليه الشعب السوري اليوم من تدمير وتشريد من دون أن يرفّ للأسد جفن.
قد يكون حال الأسد وكلماته نموذجيا لأي دكتاتور. رأينا ذلك من قبل مع هتلر، صدّام حسين، وميلوسيفيتش، وغيرهم ممن يعتقدون أنهم سيكونون قادرين على كسب الحرب، حتى وهم يعيشون في مخابئهم السرية. ويكشف تاريخ معظم الطغاة عن ممارسات شبيهة لما يقوم به الأسد اليوم، فهو يعيش في فقاعته الخاصة به. وهذا النوع من الطغاة يصبح أكثر خطورةً مع الوقت. وفي الوقت نفسه، تصبح قضية إزالته أو القضاء عليه أقل أولويةً لأن كلفتها أكثر ارتفاعا.
ربما نحتاج مصادر أخرى للمعلومات، لتحليل شخصية الأسد بدقة أكبر. لكن المؤكد أننا أمام شخصية مهزوزة، وعنيفة في آن. تفتقد للثقة، لكنها سادية في التعامل مع من تعتبره خصما، ربما تحصل هذه الصفات من والده، لكن صفة الكذب التي امتاز بها تبدو حصرية خاصة به.
العربي الجديد
———————————-
نيكولاوس فان دام: هذه رؤيتي للطريقة الأفضــل للتعامــل مــع الصـراع السـوري
قال الكاتب نيكولاوس فان دام، إنه تم تعريف أكثر من 50 نوعًا من جرائم الحرب في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كلّ هذه الجرائم الخمسين ارتكبها مقاتلون مختلفون خلال الحرب في سوريا. بعض الأمثلة على الأعمال المحظورة تشمل: القتل والتعذيب؛ أخذ الرهائن، استخدام الأسلحة الكيماوية؛ النهب، أي شكل من أشكال العنف الجنسي؛ تجنيد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا؛ وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين والأبنية المدنية، مثل المدارس والمساجد والمستشفيات أو الآثار التاريخية.
وأوضح فان دام، خلال محاضرة ألقاها في مجلس شؤون العالم للصحراء في كاليفورنيا بتاريخ 8 حزيران الماضي، ان «التعمد» نقطة مهمة ، وهذا يعني أنه إذا تم تنفيذ نفس العمل عن غير قصد فقد لا يكون جريمة حرب. على سبيل المثال، إذا تم قصف مدينة مأهولة، يمكن للمرء أن يفترض أن احتمال قتل المدنيين سيكون مرتفعًا. قد يجادل المفجرون بأنهم «لم يعرفوا» أنهم سيقتلون المدنيين، ولكن من الناحية الواقعية، «كان ينبغي عليهم أن يعرفوا ذلك». لذلك، فإن أي حرب تحدث داخل المدن المأهولة سيكون لها على الأرجح آثار جانبية يمكن تعريفها على أنها جرائم حرب. على سبيل المثال، المعارك العسكرية التي دارت في الصحاري غير المأهولة، مثل معركة العلمين المعروفة في الحرب العالمية الثانية، لم تسفر عن مثل هذه الأضرار الجانبية. ومع ذلك، فإن قصف المراكز الحضرية في سوريا، مثل حلب أو الرقة، تسبب حتماً في سقوط العديد من الضحايا المدنيين.
وقال الكاتب فان دام، الذي كان سفيراً لهولندا لدى العراق ومصر وتركيا وأذربيجان وألمانيا أوندونيسيا ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا، ان من الواضح أن أخطاء كثيرة حدثت في الثورة السورية. لم تفشل فقط في تحقيق أهدافها المعلنة، ولكن عدد القتلى والجرحى كان هائلاً. نزح ما يقرب من نصف السكان السوريين من منازلهم وفرّ نصف أولئك من البلاد. كان الدمار هائلاً في كل جزء من البلاد. كان من المحتم أن تؤدي مساعي المعارضة لإسقاط النظام السوري إلى أعمال عنف دموية، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار عند توجيه اللوم.
من اللافت للنظر أن جرائم الحرب يتم التغاضي عنها في بعض الأحيان، وهذا يتوقف على البلد أو الزعيم الذي ارتكبها، حيث تميل بعض الحكومات إلى غض الطرف عن جرائم الحرب عندما ترتكبها الدول الصديقة. لكن عندما تقصف الحكومات المعادية خصومها وتتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين، فإن الأمور تغدو مختلفة. حتى داخل البلد نفسه، فإن القلق بشأن الخسائر في صفوف المدنيين يعتمد على موعد تنفيذها وهوية من نفذها.
في كتابه، من بيروت إلى القدس، الذي نُشر عام 1989، قال الصحفي الأمريكي توماس فريدمان إن مذبحة حماة يمكن تبريرها لأنه يجب أن يُنظر إليها على أنها «رد فعل طبيعي لشخصية سياسية تطمح الى التحديث في دولة قومية جديدة نسبيًا».
وأوضح فريدمان أن الرئيس حافظ الأسد، والد بشار، كان يحاول درء العناصر الرجعية التي تهدف إلى تقويض كل ما حققه على طريق بناء سوريا لتكون جمهورية علمانية في القرن العشرين. لهذا السبب أيضًا، لو أن شخصاً ما قد تمكن من إجراء استطلاع موضوعي للرأي في سوريا بعد مذبحة حماة، فمن المحتمل أن تعامل الأسد مع التمرد كان سيحظى بموافقة كبيرة، حتى بين العديد من المسلمين. ربما قالوا:»شهر حماة أفضل من أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية مثل لبنان».
يرفض العديد من المعارضين السوريين اليوم وصف انتفاضة حماة عام 1982 بأنها «معركة»، لأنهم يعتبرونها مجزرة من طرف واحد بحق الأبرياء. وبالفعل، فإن العديد من المدنيين الذين قُتلوا في قمع الانتفاضة لا علاقة لهم بها. من ناحية أخرى، كان الإخوان المسلمون مسلحين بما يكفي لمقاومة الجيش السوري لمدة شهر تقريبًا. والإخوان المسلمون هم من بدأوا الثورة بنية إسقاط النظام. كان ذلك هدفاً غير واقعي تمامًا.
بعد أربعة عقود، يحكم العديد من الغربيين على سوريا بشكل مختلف تمامًا. هذه المرة، أدينت المجزرة التي تماثل تلك التي وقعت في حماة بحزم. أحد أوجه التشابه بين انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982 وانتفاضة 2011، هو أن قوى المعارضة في كلتا الحالتين أرادت الإطاحة بنظام الأسد لكنها لم تتمكن من ذلك. الفرق الرئيسي بين الاثنتين هو أنه في عام 2011 لم تكن الانتفاضة السورية محصورة في مدينة واحدة أو مجموعة سياسية واحدة. اذ سرعان ما انتشرت في كل منطقة من مناطق البلاد، واتسع نطاق قوى المعارضة. كانت بعض الاحتجاجات سلمية في البداية، والبعض الآخر لم يكن كذلك.
يمكن تلخيص رؤيتي للطريقة الأفضل للتعامل مع الصراع السوري على النحو التالي:
1. أنا بشكل عام ضد التدخل العسكري في دول لا تشكل خطرا على الدول الأجنبية التي تريد التدخل عسكريا. على سبيل المثال، النظام السوري لم يهدد الدول التي تدخلت فيه عسكريًا. كما أن نظام الرئيس العراقي صدام حسين لم يشكل تهديدًا للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى اللتين احتلتا البلاد في عام 2003. والسبب الرئيسي لمعارضتي مثل هذه التدخلات هو أنها تتسبب دائمًا في المزيد من الضحايا، والمزيد من عدم الاستقرار، والمزيد من الدمار الواسع النطاق، وأعداد أكبر من اللاجئين. في الشرق الأوسط، هناك أمثلة كثيرة تثبت أن التدخلات تسبب ضررًا أكبر. فما على المرء إلا النظر إلى الحروب في إيران والعراق والكويت ولبنان وليبيا وسوريا. نتج عن الإطاحة الأمريكية البريطانية بنظام الرئيس صدام حسين فراغا في السلطة مكَّن القاعدة والدولة الإسلامية من الصعود. كما أنها زادت بشكل كبير من النفوذ الإقليمي لإيران. إن العواقب غير المقصودة للتدخل كثيرة، وعادة ما تؤدي إلى المزيد من الموت والدمار. ومع ذلك، هناك نوع ثانٍ من التدخل العسكري: الرد على غزو دولة أخرى واحتلالها لدولة ما. وخير مثال على هذا النوع من التدخل هو طرد الجيش العراقي من الكويت عام 1991، عملية عاصفة الصحراء. كانت هذه عملية ناجحة. أنهت احتلالا أجنبيا وحررت الكويت.
2. إذا تم التدخل العسكري تحت رعاية مبدأ الأمم المتحدة لمسؤولية الحماية، فلا ينبغي للأطراف المتدخلة مغادرة البلاد بمجرد تغيير النظام، كما حدث على سبيل المثال بعد مقتل الزعيم الليبي القذافي. في مثل هذه الحالة، يجب أن تبقى القوات المتدخلة حتى يتحقق وضع جديد أفضل. ولأن قلة من الدول مستعدة لاحتلال شعوب أخرى لعقود، كما رأينا في العراق وليبيا، كان من الأفضل لو أنها لم تتدخل على الإطلاق.
3. إذا كانت التدخلات العسكرية الأجنبية تهدف إلى تغيير النظام السياسي للدول المحتلة، فإن النتيجة ستعتمد على وجهات نظر المحتل. لكن الديمقراطية والحرية السياسية لا يمكن فرضهما بالقوة العسكرية. حتى أن فرض ما يسمى «بالحرية» عسكريا يبدو متناقضا. علاوة على ذلك، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن التدخلات العسكرية مدفوعة فقط بالمثل العليا، مثل إحلال الديمقراطية، دون أن تلعب الحسابات الاستراتيجية دورًا مهمًا.
4. في حالة سوريا، كان من الأفضل عدم التدخل على الإطلاق. لولا التدخل العسكري الأجنبي، لكان النظام على الأرجح سيضيق الخناق على قوى المعارضة بنفس القسوة التي مارسها. لكن عدد الضحايا سيكون أقل بكثير. ربما قُتل ما بين 10 آلاف إلى 50 ألف سوري بدلاً من 500 ألف. ومن المؤكد أن عدد اللاجئين سيكون أقل، وكان من الممكن أن تنجو البلاد من مثل هذا الدمار الواسع النطاق. كان من الأفضل أن يبقى نظام الأسد في السلطة مع سقوط 10.000-50.000 قتيل، بدلاً من أن يخوض أكثر من عشر سنوات من الحرب مع سقوط أكثر من 500.000 قتيل، والبلاد في حالة خراب، و10 ملايين لاجئ، وما زال الأسد في السلطة. يجب دائمًا أن يكون العدد المتوقع للضحايا جزءًا مهمًا من المعادلة.
5. بالعودة إلى كلمات توماس فريدمان، التي نقلتها آنفاً: «شهر حماة أفضل من أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية مثل لبنان». يجب أن تقرأ هذه الكلمات عند تطبيقها على سوريا الحالية كما يلي: «عام من الصراع الدموي الشديد أفضل من عشر سنوات من الحرب الدامية مع عدم وجود حل سياسي في الأفق». كلما طال الصراع، زادت صعوبة رؤية المخرج أو الحل. فالحلول التي كانت عمليةً بعد عام من اندلاع الثورة السورية، لم تعد عمليةً فيما بعد. مع تصاعد حدة العنف وتفاقم الدمار في المجتمع السوري، تضاءلت فرص وقف الحرب.
6. قد يقول قائل إن كل هذا ما كان يجب السماح بحدوثه أبدًا، لكن معظم الدول الأجنبية تدخلت بفتور. نعم، أرسلت بعض الدول أسلحة عسكرية بمليارات الدولارات، لكنها لم ترسل كميات كافية ومتطورة لمساعدة المعارضة على الانتصار. من خلال الاكتفاء بدعم المعارضة معنويًا، دون تسليحها على النحو اللازم، فإن الدول التي وقفت إلى جانب الثوار السوريين دفعتهم فعليًا إلى حتفهم. وبمجرد أن تعرض نظام الأسد لتهديد جدي في عام 2015، تدخلت روسيا وإيران. كان ينبغي توقع تدخلهما. فمن السذاجة عدم توقع قيام روسيا وإيران بالدفاع عن الأسد أو مواجهة طموحات الولايات المتحدة وبعض دول المنطقة. لقد أرادت روسيا وإيران ببساطة إنقاذ أهم حليف لهما في الشرق الأوسط. ومن المفارقات أن التدخل الغربي في سوريا أسفر عن تعزيز موقف كل من روسيا وإيران في المنطقة.
7. قد يأتي أخطر تهديد للنظام السوري من انقلاب ينفذه عناصر من جيش النظام السوري. لكن احتمالات وقوع مثل هذا التهديد تضاءلت بشكل كبير على مدى نصف القرن الماضي منذ تولى حافظ الأسد السلطة في عام 1970. وخلال هذه الفترة، قام النظام بحماية نفسه بنجاح من الانقلابات، من خلال تعيين الأشخاص الأكثر ولاءً في المواقع والوحدات العسكرية الحساسة.
8. أنا شخصياً كنت أفضل استمرار الحوار مع النظام السوري حول كيفية إنهاء النزاع، رغم أن آفاق هذا الحوار كانت سيئة للغاية منذ البداية. لكن فشل الحوار يظل أفضل من فشل الحرب.
في الختام، وكما يقول المثل القديم: لا تبدأ حربًا إلا إذا كنت قادراً على الفوز بها. هذا ينطبق بشكل خاصّ على الحرب التي تنطوي على مخاطر عالية لسفك الدماء على نطاق واسع، كما كان متوقعًا في الحالة السورية. إن الجانب الذي فشل في تحقيق أهدافه- مهما كانت مثالية وإيجابية – يتحمل مسؤولية النتائج الدموية، تمامًا مثل الجانب الذي أحبط الثورة. في النهاية، المهم هو النتائج لا ما يسمى بالنوايا الحسنة التي أدت إلى تلك النتائج. كان ينبغي حساب تكاليف الهزيمة جيداً قبل الانخراط عسكريًا في الصراع، لا سيما مع احتمال وقوع الآلاف من جرائم الحرب. إن قول هذا أسهل من فعله بالطبع.
اندلعت الثورة السورية إلى حد كبير بشكل عفوي نتيجة لما يسمى بالربيع العربي. أدت التطورات في تونس ومصر وليبيا إلى سقوط قادتها بسرعة، مما تسبب في نشوة بين العديد من السوريين ودفع أعضاء المعارضة إلى إساءة تقدير فرص النجاح. على الرغم من أن قادة المعارضة كانوا يدركون بأسى افتقارهم للتنظيم وخطة للنجاح، إلا أنهم كرهوا أن تفلت فرصة الثورة من بين أيديهم. تبين أن حماسهم غير منطقي. علاوة على ذلك، سرعان ما تحدد مصير جماعات المعارضة السورية من قبل الدول الأجنبية، وتحولت الحرب الأهلية السورية إلى حرب بالوكالة.
لو أرادت القوى الخارجية مساعدة المعارضة السورية حقًا، لكان عليها أن تفعل ذلك بقناعة كاملة دون فتور. كان على الدول التي تدخلت في الصراع أن تتحمل المسؤولية الكاملة عن النتائج. لكنها لم تفعل، وكان من المتوقع أنها لن تفعل. وبالتالي، يجب الاستنتاج أن جميع الأطراف الرئيسية في الحرب السورية مسؤولة عن جرائم حرب، بعضها بالوكالة، وبعضها بشكل مباشر، وبعضها أكثر من البعض الآخر. في سوريا على وجه التحديد، يعد ارتكاب جرائم الحرب مسؤولية مشتركة.
———————————-
عن ضياع السوريين وتقطع أملهم في استعادة قرارهم/ برهان غليون
يشكو السوريون جميعا من محنة إخراجهم كليا من دائرة القرار، واستبعادهم حتى من أدنى المداولات التي تناقش مصيرهم. وفي المقابل، لم يعرف السوريون حالةً من الضياع السياسي والوطني، في الحكم وفي المعارضة، كالتي يشهدونها اليوم. والجميع يبحث عن إبرة الحل في كومةٍ من القش. يسعى بعضهم لاهثا إلى إحياء ذاكرة شخصياتٍ كان لها أثر في حياة السوريين في النظام أو المعارضة، أو الرهان على أشخاص موهوبين من المفكرين والفنانين الذين يملكون بعض الرأسمال الرمزي الذي يُحتمل أن يبعث الثقة عند الأطراف المعنية، المحلية والدولية. وبعض ثالث يسعى إلى إنشاء تنظيماتٍ وجمعياتٍ ومنصّاتٍ ومجموعاتٍ سياسيةٍ ومدنيةٍ يمكن أن تحمل همّ القضية الوطنية أو تدافع عنها. وأكثر فأكثر، تتواتر الدعوات إلى توحيد القوى وعقد مؤتمرات وطنية، لعلها تنجح في إنتاج محاور سوري مقنع وذي صدقية لدى الأوساط الدبلوماسية وأعضاء المجتمع الدولي غير المهتم بمستقبل المنطقة.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الأسد إلى إعادة تأهيل حكمه بنفسه، كما لو أن شيئا لم يكن، يسعى شبابٌ متحمّسون من أبناء سورية الناجحين والمبدعين دائما إلى تكثيف الجهود لفضح سيل الانتهاكات الذي لا يتوقف لحقوق الإنسان، أو تشكيل مجموعات ضغط لحثّ الرأي العام الدولي والبرلمانات الديمقراطية، والكونغرس الأميركي خصوصا، على عدم القبول بتأهيل نظام الأسد، وإذا أمكن، مساعدة السوريين على تغيير قواعد اللعبة السياسية في سورية بأكملها.
وفي تركيا، يجتهد معارضون إسلاميون وعلمانيون، كي يُبقوا جذوة الاعتراف بمنظمات المعارضة التي أكل عليها الدهر وشرب حيةً وقابلةً للاستعمال ولو مرّة واحدة، ولا يوفرون جهدا في العمل على تحصين أنفسهم من أي منافسةٍ محتملة، وتجنيب صفوفهم أي اختراقاتٍ قد تهدّد مؤسساتهم أو تحرفها عن وظيفتها الرئيسية، كأهراماتٍ تحتفظ بهيئاتهم سليمةً في انتظار يوم البعث، حتى لا تضيع على نفس أحد منهم أي دقيقة من عهد النشور.
وفي الداخل، حيث يرى الناس سكارى، يسعى كل فرد إلى خلاصه على قدر ما تعينه عليه مواهبه وقدراته وأخلاقه الفطرية، فمنهم من يرقص من الخوف، ليضمن أسباب بقائه، ومنهم من يسعى إلى الهرب بنفسه والاختفاء عن العين، ومنهم من يريق ماء وجهه من أجل تسيير أموره مع السلطة الجائرة أو تدبّر شؤونه المعيشية أو تجنب سوط العنف والإذلال الذي تسوم به سلطات الأمر الواقع ومليشياتها سكان المناطق، وفي داخلها مناطق، داخلها هي ذاتها مناطق نفوذ أصغر إلى ما لا نهاية. كل فريقٍ مشغولٌ بردّ القهر عنه أو قهر الفريق الآخر وإخضاعه وافتراسه، إذا أمكن. وفي أثناء ذلك، صارت قضية كل فرد أو فصيل نفسَه وبقاءه، واختفت أو كادت من النقاش القضية الرئيسية.
كل فريقٍ مشغولٌ بردّ القهر عنه أو قهر الفريق الآخر وإخضاعه وافتراسه، إذا أمكن
من هنا، صار من الضروري للخروج من الدوران في الحلقة المفرغة إعادة تعريف هذه القضية: هل هي إسقاط الأسد، أو دفع الظلم عن السنة، أو حماية العلويين والأقليات من ظلم محتمل، أو إصلاح الإسلام وتحريره من السياسة والشعوذة القرسطية، أو نشر العلمانية وإقناع الجمهور الشعبي بها ضد الطائفية، أو إعادة اختراع الولاءات الوطنية بدل الولاءات الأهلية والعضوية المتنامية، أو معارضة مشروع انفراد حزب الاتحاد الديمقراطي بحكم المنطقة شمال الفرات وشرقه أو بالعكس طرده منها، أو طرد الاحتلال الأجنبي، أو إيجاد حلفاء خارجيين، أو الحدّ من تغوّل الإيرانيين، أم التعاون لإقناع الروس على تقديم وصفة أفضل لإصلاح النظام، أو التمرّد على كل شيء، أم تعميق اليأس والكراهية بين السوريين؟
جميع هذه القضايا أو الأهداف موجودةٌ ضمن ما نسميه اليوم أزمة المعارضة، بل معسكر الثورة السورية المتفاقمة. وهي التي تفسّر استمرار انقسام السوريين وضياع قرارهم الجماعي. وحتى لو كانت معظم هذه القضايا التي نشأت من الأزمة المديدة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، ولا يوجد ما يحول دون التفاهم عليها بين السوريين، إلا أن طرحها الشللي أو الجزئي بالانفصال عن القضية الأم يفاقم من الأزمة، ولا يفتح أي طريق للحل. فمن دون ربطها الصحيح بهذه القضية لن يكون من الممكن وضع أجندة سياسية تجمع من حولها أفرقاء لهم مصالح وأولويات مختلفة، لكنّ أيا منهم لا يستطيع أن يحققها، طالما بقيت في تعارض مع أولويات أفرقاء آخرين. وهذا ما يجعلنا نتخبّط منذ سنوات طويلة في مستنقع من المشاعر والشعارات والأوهام المتبادلة الذي صنعناه بأنفسنا، لكننا لا نتقدّم خطوة واحدة على طريق الحل، ولا يتقدّم أي فريق في الاقتراب من أهدافه وتحقيق أجندته الخاصة. وبدل أن تتراكم جهودنا لتحقيق الهدف المشترك الذي غيبته الأولويات الخاصة تهدر جهود الجميع. وبدل أن نقترب من تجسيد حلمنا بوطن يحضن الجميع، وينهي حكم القهر والتعسف والتمييز بين الأفراد والجماعات، نبتعد عنه كل يوم أكثر.
يراهن أكثرنا على فكرةٍ لا سند لها تقول إن استمرار الأوضاع كما هي عليه سوف يقود إلى الانهيار، وإن هذا الانهيار ليس من مصلحة أحد
ماذا تفيد، على سبيل المثال، جهودنا في صنع اللوبي السوري الأميركي إذا لم يكن هناك قيادة سورية تحظى بالصدقية، وتراكم لصالحها وصالح القضية الكبرى هذه الجهود المادية والسياسية، الفردية والجمعية؟ وماذا يقدّم الدفاع عن السنة، أو الاعتراف بمظلومية الأقليات، إذا لم تكن هناك رؤية وإرادة للعيش المشترك، ولإعادة توحيد المجتمع والشعب؟ وماذا يفيد الاعتراض على الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو الإدارة الذاتية “بالإكراه” إذا لم يكن هناك في الأفق بديل وطني يحل محلها ويتجاوزها، ويقدّم للسكان من كرد وعرب حلا آخر غير الاستسلام والقبول بسلطة الأمر الواقع؟ ولماذا الخوض في مقاومة وطنية ضد الاحتلالات العسكرية الأجنبية إذا كان البديل القائم سلطة المليشيات الخاصة، وكان الاحتماء بقوى الاحتلال هو أمل الناس جميعا، موالين ومعارضين، في تجنّب مزيد من بطش هذه المليشيات، ومنها مليشيا الأسد، وانتقامها وتنكيلها بالصغار والكبار؟ ولماذا نريد للجمهور والشعب السوري أن يتجرأ على الاعتراض أو الاحتجاج على الأسد، ويرفض التسليم بالأمر الواقع، إذا لم يكن هناك خيار وطني، واضح ومقنع، بل أي خيار وطني محتمل؟ ولماذا سيتبرع الروس والإيرانيون بتقديم تنازلاتٍ للسوريين، أو مراعاة كرامتهم وحقوقهم ومصالحهم، إذا كان بإمكانهم أن يحصُدوا حصة الأسد بمجرد إبقائهم على حكم الضبع الكاسر في سورية؟ ولماذا يدخلون في تنافسٍ فيما بينهم إذا كان بإمكانهم تقاسم الحصص والنفوذ والاستفراد بجميع الموارد والحقوق والمصالح مع الأسد وبمباركته وتعاونه؟ ولماذا نتوقع من الأمم المتحدة أو بايدن والإدارة الأميركية أن يرأفوا بحالنا إذا كنا نحن أنفسنا لا نرأف بحال شعبنا، ولسنا مستعدّين لتقديم أي تنازلاتٍ فيما بيننا للحفاظ على وطنٍ يكاد يفلت من بين أصابعنا ويخرج من جسدنا؟
يراهن أكثرنا على فكرةٍ لا سند لها تقول إن استمرار الأوضاع كما هي عليه سوف يقود إلى الانهيار، وإن هذا الانهيار ليس من مصلحة أحد. ولكن من قال إن الانهيار لم يحصل، وإنه يتعارض مع مصالح الروس والإيرانيين والمليشيات وأمراء الحرب السوريين أنفسهم الذين يتمنّى كل واحد منهم أن يهرب بحصّته ويشيّد مزرعته السورية الخاصة، على حسب ما يملكه من قوة وشره؟ ومن قال إنه ليس بإمكان الدول الغربية والعربية التي يمكن أن ينعكس عليها انهيار البلاد سلبيا ليست قادرةً على فرض حصار على سورية، ووضعها ضمن صندوق، وإغلاقه على شعبها، بالتعاون مع قوى الأمر الواقع، الأجنبية والمحلية، وإشغاله بعضه ببعض إلى أجل غير مسمّى؟ أليس هذا ما يحصل الآن؟ ألا تعيش سورية اليوم حالة انهيار اقتصادي وسياسي، مع تحول الدولة إلى عصاباتٍ تتحكّم فيها عصابة دولية أكبر عابرة للحدود، وأن هذا الانهيار هو الذي يعزّز موقع الإيرانيين والروس ويتيح لهم توسيع قواعد وجودهم في سورية، وتحصين مكتسباتهم وإيجاد مستعمراتٍ داخليةٍ حقيقيةٍ داخل البلاد، بصرف النظر عن الفوضى المحيطة بها؟
(2) الحلقة المفقودة: العودة إلى القضية الجامعة
من دون العودة إلى القضية الأم، والانطلاق منها، لن يكون من الممكن التوفيق بين المطالب والتطلعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، المتباينة والمتناقضة، ولا تجاوز الخلافات الراهنة، ولا بالتالي بناء أجندة سورية ووضع سلم الأولويات الذي يضبط ممارستنا السياسية الجماعية وينظمها. ومن دون ذلك، لا يمكن بناء خطة سياسية، ولا وضع استراتيجية، ولا تأمين القوى التي يحتاجها تحقيق أي مشروع سياسي وطني، أي واحد، ولا إنجاز المهام الكثيرة التي لا بد منها للوصول إلى الهدف المنشود. بغير ذلك، سوف نظل كما نحن اليوم: قوى متنافسة ومتنازعة تتخبّط وتتضارب، وتحيّد بعضها بعضا، أشداء على أنفسنا ورحماء على أعدائنا.
جوهر المسألة السورية تتلخّص في حرمان السوريين منذ بداية القرن الماضي من حقهم في تقرير مصيرهم
ما هي هذه القضية التي جمعتنا في ثورةٍ شاملةٍ مثلما فرّقنا نسيانها أو الابتعاد عنها، والتي تملك وحدها إمكانية التأليف بيننا وتوحيد أجنداتنا والتوفيق بين قضايانا العديدة الخاصة؟ إنها تلك التي تؤسّس لمعنى المصلحة العامة التي لا تنبع من جمع المصالح الخاصة المتفرّقة، وإنما من خلق الشروط التي لا يمكن من دونها تحقيق أي منها أو بعث الأمل في تحقيقها. إنها إقامة نظام الحرية الذي يعيد السلطة إلى الشعب، ويضمن المساواة بين الجميع من دون أي تمييز بين الأفراد من أي نوع. فهذه الحرية السياسية والمساواة القانونية والأخلاقية هي في عصرنا الشرط الأول للسلام والاستقرار والتعاون والتضامن والازدهار، بمقدار ما تشكّل أس العدالة الاجتماعية ومصدر الكرامة لجميع الناس. وكل القضايا الأخرى، الرئيسية والثانوية، من إسقاط النظام، والقضاء على سلطات الأمر الواقع وإمارات وأمراء الحرب من عرب وكرد وتركمان وغيرهم، ووقف عمليات التغيير الديمغرافي والديني، وطرد الاحتلال، وإطلاق عملية الإعمار والتنمية الاقتصادية، لا تأخذ معناها وقيمتها، ولا يمكن تحقيقها، من دون وضعها ضمن إطار هذه القضية الأكبر والغاية الأسمى، وإخضاعها لأولوياتها. وأي فصلٍ لهذه القضايا التي تشكّل مصلحة كبرى، بعضها أو جميعها، للشعب السوري ككل، ولبعض جماعاته وأقوامه، عن هذه القضية الأساس يفقدها شرعيتها، وينذر بحرفها عن غاياتها ومطلوبها، ويحوّلها إلى عقبةٍ أمام تحقيق قضية الانتقال إلى الديمقراطية، والسيادة الشعبية التي هي حقه الكامل في اختيار من يمثلونه وفي مراقبتهم ومحاسبتهم.
وهذا هو أيضا جوهر المسألة السورية التي تتلخّص في حرمان السوريين منذ بداية القرن الماضي من حقهم في تقرير مصيرهم، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة، ودعمها خارجيا، ودعم نظم ديكتاتورية عقيمة، من أجل تأكيد هذا الحرمان، ومنع قيام دولةٍ تحظى بالحد الأدنى من الاستقرار والأمن والسلام، راعيةً لشعبها وقابلة للحياة. ومن بين هذه الوقائع تأسيس الدول الطائفية والقبلية والإثنية، وأبرزها دولة يهودية تحولت إلى بؤرة توتر والتهاب لا حلّ لها، فلا تعكس فكرة إنشاء هذه الدول/ الدويلات أي اهتمام فعلي بحقوق الأقليات، بمقدار ما تهدف إلى منع إقامة دولة أمة حقيقية قادرة على بناء الحرية والسلام والأمن والازدهار لسكانها في هذه المنطقة الحسّاسة.
لم تكن الثورة الشعبية سوى المركب الجديد الذي اتحدت فيه إرادة الشعب، وأصبحت الضامن المباشر والطبيعي والعفوي للانسجام والتوافق بين المصالح العامة والخاصة
ولم تكن الثورة الشعبية سوى المركب الجديد الذي اتحدت فيه إرادة الشعب، وأصبحت الضامن المباشر والطبيعي والعفوي للانسجام والتوافق بين المصالح العامة والخاصة، والمحفّز على التضامن والتعاون وتجاوز الحساسيات والاختلافات الدينية والطائفية والنعرات القبلية والقومية والأحقاد الطبقية الاجتماعية والانقسامات بين مجتمعات الأرياف والمدن والجبال والسهول والبوادي. وما كان للحرب التي شنّت على الشعب الموحد في ثورته هدف آخر سوى فرط عقده، ودفع من نجا منه إلى التقاط ما تبقّى من شظايا المركب الواحد، للهرب بأنفسهم من الكارثة. وبمقدار ما أصبح التشبث بهذه المراكب الشظايا مبعث الأمل بالخلاص الفردي أو الفئوي قضى على الأمل بالخلاص الجماعي، وبالنظام البديل المنشود الذي يجسّد هذا الخلاص.
لم تحرّك مركب الثورة أي من المطالب التي نتبارى اليوم في تفريعها، ووضعها في مواجهة بعضها بعضا، وتقسيم القوى والمجتمعات لإيجاد أولويات خاصة بكل فريق على حدة، وبلورة أجندات وجداول عمل مستقلة تعكس الدفاع عن مصالح لا يمكن ضمانها، طالما لم تنجح في الالتقاء مع مصالح الجماعات الأخرى. ما حرّكه كان بالعكس تجاوز هذه المطالب الخاصة والتركيز المشترك على المطلب الأول الذي يفتح الطريق لحلها، وهو ببساطة الاعتراف بحق الشعب وحده في تقرير مصيره ونزع الوصاية عنه من أي نوع كان، سياسية أو دينية أو عسكرية أو أجنبية.
هذه هي الأجندة التي وحّدت الشعب، وأشعلت الثورة أو مكّنتها من الاشتعال والاستمرار. وفي السياسة، ليست هناك هويات أو ولاءات ثابتة، وإنما أجندات/ مشاريع تعكس مصالح خاصة بفريق أو تعبر عن تقاطع مصالح جماعات مختلفة، لا يستمر ولاؤها وترابط مصائرها إلا بمقدار ما يبدو المشروع الجامع كفيلا بتحقيق هذه الأجندات الخاصة، أو ضامنا لتحقيقها عاجلا أو آجلا. وبالعكس، حالما تظهر استحالة تحقيقها ينفرط عقد الولاء، مهما كانت اعتقادات أفرادها ومجموعاتها وقراباتهم الروحية والأنثروبولوجية والبيولوجية. الأسرة ذاتها تفقد مبرّر وجودها إذا انحرف أعضاؤها عن غاية وجودها واستخدموها لأغراضٍ ليست أغراضها ومصالح لا ترتبط بما يبرّر وجودها.
لن ننجح في تحقيق أي أجندة خاصة، إذا استمرّ كل فريق منا يراهن على إقصاء الفريق الآخر أو تجاهل مصالحه وحقوقه
وليست الأمة بالمعنى السياسي الحديث للكلمة، وليس بمعنى أمة العقيدة الواحدة الدينية أو الثقافية، سوى إحدى هذه الأجندات أو مشاريع العمل التي يتصدّر قائمة أهدافها تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لأعضائها جميعا. وكل الفلسفة السياسية الحديثة قائمة على التفكير والتأمل في الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف أو السبل الأفضل لتحقيقها، فالأمة هي صفة الشعب عندما يصبح مالكا زمام أمره بيده، ومسيطرا على قراره ومصيره، ويحظى بالسيادة على الدولة التي تدير شؤونه، وبالاعتراف به مصدر السلطات ومرجعها. ومن هذه السيادة والاعتراف بملكية الشعب وحق كل فرد في المشاركة في تقرير مصير المجتمع ككل، تولد المواطنة، وعليها تتأسّس الديمقراطية نظام حكم ونظرية في السياسة ومنبع أخلاق الحرية في مقابل أخلاق العبودية والولاءات الشخصية. لذلك لا تولد أمةٌ من إضافة جماعات لبعضها بعضا، وإنما من جبر المبادئ والقيم والسيادة.
(3) لن تولد من اغتيال الثورة الشعبية أي حقوق أو حريات، فردية أو عامة
من هنا، أصبح من الصحيح جدا القول إن الديمقراطية تشكل اليوم جوهر المسألة الوطنية، وإن العمل من أجل الديمقراطية يتطابق مع تعزيز السيادة الوطنية، ويشكل غيابها تأهيل الديكتاتورية والاستبداد، وهذا واضحٌ كالشمس، مع الخيانة الوطنية والتواطؤ مع الاحتلالات الأجنبية والتفريط في سيادة الدولة والشعب، فالالتزام بمبادئ الديمقراطية هو المعيار لصلاح المشاريع السياسية الخاصة، حزبية كانت أو مناطقية أو قوموية أو دينية.
لن نستطيع بناء مشروع وطني، ولا إنتاج قوى سياسية حية، متضامنة وقادرة على التحرّك على الساحة الداخلية والخارجية بصدقية، ما لم نوحّد الأجندات المتباينة والمتنازعة الراهنة التي تسيطر على الساحة السورية السياسية، في إطار أجندة جامعة توحد القوى، وتنسق بينها، وتحدّد الأولويات، وتصوغ الخطط المطلوبة لإنجازها، أي أيضا من دون أن نعمل معا.
ولن ننجح في ذلك، ما لم نجعل من بناء سورية ديمقراطية واحدة غايتنا، ومن الكرامة والحرية والندّية والمساواة القيم التي تجمعنا. فهذا هو الفكر الذي يجعل مشاريعنا ومصالحنا الخاصة تتسق وتتناغم مع بعضها، ويصبح تحقيقها جزءا من تحقيق المصلحة العامة، أي أيضا عاملا مشاركا في صنع جماعة وطنية وأمة ناجزة.
لن يعوّض الأفراد والجماعات التي هضمت حقوقهم في العقود الطويلة الماضية، سوى بناء دولة الحرية لعموم السوريين
في المقابل، لن ننجح في تحقيق أي أجندة خاصة، إذا استمرّ كل فريق منا يراهن على إقصاء الفريق الآخر أو تجاهل مصالحه وحقوقه، ولن يكون هناك أي إمكانية لوضع أجندة عامة، ولا أمل في إقامة أي سلطةٍ ديمقراطية. إن إعطاء الأولوية للدفاع عن حقوق خاصة على حساب الحقوق العامة لا يحقق أي هدف، ولا يحقّق مطلب الهوية، ولا يضمن أي تنمية إنسانية، فما بالك بضمان الحريات والحقوق والمساواة للجميع؟ إنه يقود إلى تكريس الاستبداد وتفاقم الانقسام وتعدّد نقاط النزاع، ويحول المنطقة إلى جغرافية طاردة لسكانها وغير صالحة للحياة. فقط من خلال تحرير الحياة السياسية والمدنية، وإقامة سلطة ديمقراطية، نحرّر النساء والرجال، والأقليات والأكثريات، والكرد والعرب والتركمان والآشوريين والسريان وغيرهم. ونخلق شروط التنمية الإنسانية التي تلبي مطالب الأفراد الأكثر حاجةً للكرامة، وتطلعات الجماعات الدينية والقومية للهوية، من دون المغامرة بتفجير مزيد من النزاعات التي تقضي على أي إنجاز، وتضع حياة أفرادها أنفسهم، في خطر دائم.
ولن يعوّض الأفراد والجماعات التي هضمت حقوقهم في العقود الطويلة الماضية، سوى بناء دولة الحرية لعموم السوريين. وفي المقابل، لن يؤدي تفكيك سورية أو إضعافها لصالح أجندات خاصة، طائفية أو مذهبية أو قومية أو مناطقية، إلا إلى مزيد من الفوضى والاضطراب وحرمان جميع أبنائها، أقلياتٍ وأكثريات، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة، علويين ودروز، مرشديين وإسماعيليين، من أي أملٍ في تحقيق تطلعاتهم المشروعة للعمل المنتج والمشاركة السياسية والعدالة والسلام والسعادة والكرامة.
هل يشكل تنوع سورية وجمهورها عقبة أمام وحدتها وتكامل مناطقها وإقامة سلطةٍ ديمقراطيةٍ تساوي بين جميع أبنائها؟ بالعكس، إن وحدة سورية ودمقرطتها مهمة وضرورية، بالضبط بسبب تنوع ثقافاتها وتعدّد تيارات الضغط والتأثيرات الخارجية: الثقافية والسياسية والاستراتيجية الواقعة عليها، فمن دون هذه الوحدة سيكون أسهل على الطامعين فيها التسلّط على أشلائها واستتباعها، ويزيد من شهوتهم لابتلاعها قطعة قطعة.
ولا توجد وسيلةٌ لتحقيق هذه الوحدة وضمان بقائها إلا بالديمقراطية الجامعة. في المقابل، لن يحلّ تقسيمها أيا من المشكلات التي تكمن في جذور أزمتها وانهيار كيانها، ولن ينتج، بأي اسم ووراء أية يافطةٍ جاء، دولا بديلة، ولكنه يعيد مجتمعاتها إلى ما قبل الدولة والسياسة، ويعمّم سلطات الأمر الواقع ونماذج إمارات الحرب والولاءات الشخصية والقبلية، ويجعل الصراعات، ومعها التدخلات الخارجية، خبزها اليومي، ومصدر مأساتها الدائمة. إنه يلغي سورية من دون أن يقدّم أي بديل أو يحل أي دولة مكانها، حتى بالمعنى البسيط للدولة، أي الاحتكار الشرعي للعنف والقدرة على إقامة سلطة القانون.
البديل الحتمي لغياب سورية ديمقراطية هو سورية مسرح الحروب الأهلية، المتقاطعة مع الحروب والنزاعات الإقليمية والدولية
وبالمثل، لن يكون هناك عدالة لأحد مع القبول بالظلم لآخر، ولا حرية لأي فرد إذا ساد الاستعباد أقرانه، ولا ازدهار وتنمية لمنطقةٍ إذا بقيت الأخرى خرابا، ولا حكم قانون في أي بقعةٍ ما دام الولاء لمليشيات سلطة الأمر الواقع عملةً رائجة، ولا سيادة أو قرار مستقل في أرضٍ انتزع من شعبها الحق في القرار والسيادة، فإما أن يعيش الجميع أحرارا متساوين، متمتعين بكامل حقوقهم، معا، أو يغرقون جميعا في الفوضى والخراب، كما هو حالهم الآن في بلدان المليشيات “الولائية” السائبة. مع العلم أن خطر انحسار حكم الدولة ونظامها هذا لا يهدّد مجتمعات المشرق وحدها، ولكنه يتمدّد على مساحاتٍ واسعةٍ من المعمورة، ويهدّد استقرار المنظومة العالمية التي تكاد ازدواجية المعايير وتجاهل مصالح الشعوب الضعيفة والاستهتار بمصيرها تدفع بها إلى دورة من العنف التاريخي التي لن يكون من السهل الخروج منها ولا إدارتها.
لم يكن القول “إما أن تكون سورية ديمقراطية أو لا تكون” صادقا في أي وقت، مثلما أصبح عليه بعد عقد من الثورة المضادّة الوحشية. ولا تكون ديمقراطية إذا تفرّقت أشلاء وشيعا وإمارات وسلطات أمر واقع، وإنما عندما تنجح في لمّ أطرافها وتجميع قواها وتوحيد مناطقها وتعميم قيم التضامن بين أبنائها وتحسين شروط معيشة جميع سكانها. والبديل الحتمي لغياب سورية ديمقراطية هو سورية مسرح الحروب الأهلية، المتقاطعة مع الحروب والنزاعات الإقليمية والدولية، والتي تغذّي بعضها بعضا، وتتحور وتزيد خصوبة باقترانها وتلاقحها وترابط مفاعيلها.
العربي الجديد
————————————
الحروب الناقصة في سورية/ معقل عدي
في سورية اليوم ثلاثة مشاريع حروب لم تكتمل, وتشكل الهدنة الراهنة فرصة لكل مشروع من تلك المشاريع لتعزيز قوته بانتظار ساعة الصفر, وفي حين يبيع السياسيون الكلام المنمق حول استقرار تلك الهدنة واستثمار ذلك الاستقرار لإيجاد حلول توافقية, فإن الواقع يقول عكس ذلك على طول الخط.
أول تلك المشاريع هو مشروع النظام لاستعادة ادلب وما حولها, فاستعادتها عسكريا يعني تكريس الانتصار العسكري وإرسال رسالة للقوى الدولية أن الوقت قد حان للاعتراف بالحقائق العسكرية على الأرض وأن النظام السوري وحده هو من خرج منتصرا من المعركة, ورسالة لتركيا للتفاوض حول انسحابها الكامل مقابل ضمان حدودها الجنوبية مع سورية, وللولايات المتحدة أيضا للتفاوض حول انسحابها من شرق سورية مقابل ضمانات بما يشبه الحكم الذاتي للأكراد.
توقف مشروع حرب ادلب بسبب التدخل العسكري التركي والذي أعطي ضوءا أخضر من الإدارة الأمريكية السابقة ضمن حدوده الحالية ليس من أجل إرضاء تركيا فقط ولكن لتأخير دور المواجهة التالية مع قوات “قسد” ريثما يتم إمدادها بالأسلحة وبناء قوة عسكرية لها قادرة على الدفاع عن المنطقة التي احتلتها من سورية.
سوف يستغل النظام وحليفاه الروسي والإيراني أي مناسبة تسمح بفتح جبهة ادلب ويعلم جيدا أن الوقت لايعمل لصالحه في مشروعه العسكري الذي توقف حتى الآن.
ثاني تلك المشاريع الحربية هو المشروع التركي بخلق حزام بعمق لايقل عن ثلاثين كيلومتر كما تم الإعلان عنه يمتد من الحدود العراقية حتى أقصى الغرب في الحدود مع تركيا.
وكما هو واضح فقد توقف ذلك المشروع قبل أن يكتمل بفعل التدخل الروسي والضغوط الأمريكية أيضا لمنع انهيار القوى الكردية والإطباق عليها ودفعها نحو البادية السورية.
وكما هو حال مشروع النظام, فالمشروع الحربي التركي ينتظر الفرصة المناسبة ليستكمل أهدافه, وهو يعلم أنه غير قادر على الوقوف طويلا في منتصف الطريق, فعدم استكمال هدفه يفتح الباب مع الوقت للمطالبة بسحب القوات التركية وهو طلب يمكن أن يلقى دعما غربيا لاحبا بالنظام السوري ولكن للضغط على النظام السياسي التركي ودفعه نحو الوراء.
ثالث المشاريع الحربية الناقصة هو مشروع “قسد” التي تسيطر اليوم على ثلث الأراضي السورية وأهم مصادر الثروة الزراعية والنفطية والمائية, فحتى اليوم يعيش ذلك المشروع في حضن الدعم الأمريكي, لكن استمرار ذلك الدعم أمر مشكوك فيه في ظل الانسحابات الاستراتيجية الأمريكية من المنطقة.
وأوضح مؤشر لمستقبل الوجود العسكري في المنطقة هو الانسحاب الذي تم من أفغانستان, والقادم بعد وقت ليس ببعيد من العراق, ولاشك أن انسحاب أمريكا من العراق وإغلاق القواعد والمطارات العسكرية الأمريكية فيه يعني أن الخطوة التالية ستكون الانسحاب من سورية أيضا. فليس هناك أي منطق في الانسحاب من العراق بعد كل الجهد الذي بذل في احتلاله وبناء القواعد العسكرية الضخمة فيه والبقاء في شرق سورية ضمن بيئة ليست مهيأة لقبول ذلك الوجود الذي لايمكن وصفه سوى بالاحتلال.
انسحاب القوات الأمريكية من شرق سورية يعني وضع “قسد” بين فكي الكماشة بين الجيش التركي والقوى العسكرية للنظام السوري وحلفائه خاصة إيران التي تعتبر وجود كيان عسكري كردي شرق سورية تهديدا مباشرا ليس لمصالحها في سورية فقط ولكن لإيران ذاتها التي يسكنها قرابة سبعة مليون كردي.
والأمل الوحيد لقسد أن يستطيع حلفاؤها الغربيون دفع تركيا بعيدا عنها نحو الشمال إلى الحدود الرسمية مع سورية, وأن لايتفرغ النظام السوري وحلفاؤه لمواجهتها وانتزاع ثروات سورية وكنوزها من بين أيديها ثانية.
صحيح أن قسد اليوم في وضع دفاعي, لكنها تتحين أيضا أي فرصة سانحة لاستعادة الأراضي التي تم انتزاعها من سيطرتها في العمليات العسكرية التركية (درع الفرات وغصن الزيتون) ومشروعها الذي يقف في منتصف الطريق مازال مهددا بصورة مؤكدة.
————————————
الثورة السورية وسؤال “التدخل الخارجي”/ عبدالله أمين الحلاق
قد يبدو طرح هذا الموضوع ساذجاً جداً، تبعاً لأحوال سوريا اليوم، وتبعاً لكونها بلداً مفتوحاً ليس على مجرد التدخلات فقط، بل على الوجود العسكري المباشر والفعلي لأكثر من دولة فيها، من شمالها إلى جنوبها.
غير أن الوجود العسكري لقوّات هذه الدولة أو تلك، يرسخ الإشكالية ويحفّز على التفكير المركّب، بدل الركون إلى الأجوبة السهلة والبسيطة لمسائل بالغة التعقيد، ومن بين تلك المسائل الموقع التاريخي لسؤال “الخارج” في “فكر” وأدبيات وخطابات المعارضة.
تبلورَ سؤال التدخل العسكري بوضوح، وانتظم السجال حوله في صفوف المعارضة السورية منذ احتلال العراق عام 2003، وما طفا على السطح يومها من احتمالات لتدخّل عسكري مشابه في سوريا. وكان التفكير في هذه القضية ينوس بين تأييد مطلق لتدخل عسكري كامل يطيح ببشار الأسد ونظامه، على غرار ما حصل ضد صدام حسين، وبين رافض له بالمطلق، تحت راية “الوطن” و”معاداة الإمبريالية”، في مزايدة معارِضة واضحة على النظام “الوطني!”. لا يختصر هذان الموقفان كل المواقف حينذاك، وحتى اليوم، لكنهما مثالان واضحان على نمط من التفكير في “الثقافة السياسية” السورية، كان وما يزال مستمراً، بدرجات متفاوتة، حتى اليوم.
فإذا كان التدخل العسكري الأميركي- البريطاني وإطاحته بنظام صدام، هو الذي فجّر المجتمع العراقي، المفخخ أصلاً، في مواجهة بعضه بعضا، فإن هذا لم يتوفر في الحالة السورية. ويمكن القول إن حكم البعث في البلدين الجارين قد كبتَ كل التناقضات ومنعها من التعبير عن نفسها، وعزّزها ولعبَ عليها، بدلاً من تذليلها في مؤسسات دستورية لم توجد أصلاً. هكذا، كان أيُ حدث كبير يزعزع أياً من النظامين، من الداخل أو من الخارج، كفيلاً بإنتاج نفس الحالة.
الثورة السورية كانت فعلاً داخلياً صرفاً، وهي رفعت الغطاء بدورها عن المجتمع السوري الذي عبّر عن نفسه أخيراً، وعن تطلعاته وآماله، وأيضاً عن موروثه وثقافاته بسلبها وإيجابها، كما رفعت الغطاء عن النظام وشعاراته التي فعلت بالسوريين ما فعلته. وهي أظهرت أيضاً دور العامل الثقافي والديني التاريخي، وكيفية تحوله إلى “دينامو” مستمر للحروب بين أبناء البلد الواحد في بلد لم يقوَ وترسخ فيه “الدولة” بالمعنى الحديث، ولم يخضع لما خضعت له بلدان كثيرة في العالم.
انكسر “تابو” رفض التدخل الخارجي، بدرجة كبيرة، مع إيغال النظام السوري في القتل وفي ارتكاب الإبادات طوال عشر سنوات، وبدا أن النخب السياسية والثقافية السورية، في معظمها، تعيش “مرحلة انتقالية” فيما خص التفكير في هذه المسألة، وخصوصاً النخب الآتية من إيديولوجيات القرن العشرين ومراحله وصراعاته وسجالاته. إلى ذلك، لم يبقَ الأمر نخبوياً صرفاً، فأسماء أيام الجمعة التي كانت تطالب بالتدخل وبالحظر الجوي في بدايات الثورة، وما يكتب وينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة من كتابات تتناول ما تراه “تخاذلاً للمجتمع الدولي” و”مؤامرة غربية ضد الثورة السورية”، ثم الحراك السياسي المعارض في التواصل مع عواصم القرار في الغرب (بصرف النظر عن تقييم أداء المعارضة على هذا الصعيد).. كل ذلك جعل “التابو” التاريخي يتحطم، ومَـرْكزَ الغرب في وعي السوريين، خصوصاً أن حلفاء الأسد المباشرين كانوا وما يزالون “شرقاً”، إن جاز التعبير والوصف.
غير أن هذا التبدل في أحوال وأنماط التفكير في السياسة والثقافة السوريتَين، بفعل الثورة، يحمل إشارة قوية إلى الدور الذي لعبته الأخيرة في خلخلة العديد من اليقينيات السياسية (وثمة ممانعون ناقدون أو معارضون لأنظمة الممانعة، بالمناسبة)، لكنه، في الآن نفسه، يحيل التعامل مع “الخارج” أو “الغرب” إلى حالة إجرائية تقنية، يتم توسّلها والرهان عليها بهدف تنفيذ “مهمة مطلوبة من هذا الغرب” هي “تحريرنا”، من دون التخلي عن معاداته بالمطلق على أرضية إيديولوجية، قومية أحياناً، ويسارية أرثوذكسية أحياناً اخرى، وإسلامية في أحايين أكثر.
وكان الدكتور غسان سلامة قد لاحظ ذات مرة، في التسعينيات، في زمن حصار العراق ثم العمل العسكري الغربي ضد نظام ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا، أن “المشكلة الراهنة للشعوب مع “الاستعمار” هي أنه لا يتدخل، بعدما كانت المشكلة معه قبلاً أنه يتدخّل”. وغني عن القول، انطلاقاً من كلام سلامة، أن الألم السوري كان كفيلاً بدفن الشعارات الرنانة التي كان معارضون سوريون يرددونها قبل الثورة وبعدها، من مثل “نار الداخل ولا جنة الخارج” وغير ذلك. فلن يكون التدخل العسكري الخارجي ضد النظام، لو أنه حصل، جنّة بالطبع، إلا أن المعيار هنا هو الجحيم الأسدي وليست “مواقف الرجل الأبيض من الشرق” على ما تقول تلك العبارة الممانِعة الشهيرة.
انتهت احتمالات التدخل العسكري الغربي ضد الأسد على كل حال، بعكس ما حصل ضد أنظمة غيره في العالم، لكن تبقى أوراق الضغط السياسي عليه اليوم، ممثلة بالموقف الأميركي والأوروبي الرافض إعادة تأهيله أو الاعتراف به، وإعادة إعماره. في هذا ما ينقل الموضوع إلى الملعبَين الأوروبي والأميركي، منعاً لتحول النقد أعلاه إلى “جلدٍ للذات” فقط. فبعيداً عن عبارات “التخاذل” و”الخذلان” و”المؤامرة” و”خيانة الثورة من قبل العالم” وغير ذلك مما تحفل به الكتابات السورية اليوم وسابقاً، يبقى صحيحاً أن عدم التدخل الغربي، كائناً ما كان شكل هذا التدخل، يطرح أسئلة نظام العلاقات الدولية اليوم، ومسائل حقوق الإنسان والديمقراطية من باب تراجع كونيتها المفترضة، وتراجع “العالم” عن “وعود” كثيرة سابقة رافقت التغيرات الكبرى فيه، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى 11 أيلول واحتلال العراق، ثم الثورات العربية، وهو ما يمكن الاستفاضة فيه مطولاً، وكُتب عنه كثير منذ سنوات وحتى اليوم بطبيعة الحال، أضف أن السوريين ليسوا الضحايا الوحيدين لكل ذلك على مستوى العالم، تاريخياً واليوم، مع تفاوت في “التجارب” بالطبع..
خلاصة القول إن الانزياحات الكبرى التي شهدتها سوريا، ديموغرافياً وترابياً وسياسياً وعسكرياً، رافقتها انزياحات كبرى في التفكير، كما رافقها قطع نسبي مع موروث سياسي وثقافي مديد في العلاقة مع العالم والانخراط فيه، وخصوصاً عبر كثير من اللاجئين المقيمين في الغرب وبعض الدارسين في جامعاته ومعاهده من هؤلاء، وهو ما قد يثمر نمطاً جديداً في التفكير والممارسة بعد زمن قد يطول، كما هي العادة..
تلفزيون سوريا
————————————–
==========================