تأثير سيناريوهات الحلّ السياسي في إعادة بناء سورية
ملخص تنفيذي
منذ سنوات عدة، تحكم سورية خريطةُ نفوذٍ دولية وإقليمية، تتقاسمها الدول الأربع المسيطرة على الأرض السورية، سواء أكانت تلك السيطرة مباشرة أم بواسطة ميليشياتها أو مجموعاتها المسلحة، وهي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، إضافة إلى الجزء الأكبر الذي تسيطر عليه قوات النظام، بالتداخل مع ميليشيات حليفيه الروسي والإيراني.
في هذه الأثناء، ما يزال التعاون الروسي – التركي الحذرُ صامدًا، حيث تستقوي الدولتان، كلٌّ منهما بالأخرى، في مواجهة النفوذ الأميركي. وفي الوقت الذي تستفيد فيه تركيا من الخلافات الأميركية – الروسية، لتحقيق مزيد من المكاسب في الشمال السوري، تبقى إيران الطرف الأضعف في أي حل نهائي، بالرغم من التسهيلات العديدة التي يقدمها لها النظام، لعلمه بأنها الدولة الأكثر إصرارًا على الحفاظ عليه بكل أركانه.
المستجد الأهم هذا العام، حول الشأن السوري، هو تطبيق قانون قيصر، وظهور مفاعيله في تفاقم الصعوبات المعيشية في الداخل، ومقتل قاسم سليماني قائد “لواء القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وإعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف انتهاء المعارك في إدلب، بعد عقد اتفاقات مع تركيا.
في كل الأحوال، لن تكون ثمة عملية بناء شاملة، من دون انتقال سياسي حقيقي متوافق عليه، دوليًا وإقليميًا وسوريًا، كسيناريو مرغوب فيه، انتقال يُنهي حكم الأسد ويستبدله بنظام ديمقراطي تعددي، ويخرج عن طريق الأمم المتحدة، بالفصل السابع على الأرجح؛ فيكون ملزمًا لكل الدول المنخرطة في الصراع السوري لضمان تطبيقه. لكن ثمة سيناريو غير مرغوب فيه، يمكن أن تؤسس عليه عملية بناء جزئية وغير شاملة، وهو يتضمن عملية انتقال سياسية تحافظ على النظام، وتُجري تغييرات شكلية عليه، تتمثل في مشاركة المعارضة في الحكم، ويتوافق ذلك مع الحلول المطروحة من قبل روسيا وأطراف مؤتمر أستانة، الأمر الذي لا يتوافق مع إعادة البناء والتمهيد لعودة اللاجئين على نطاق واسع، وسيكون غالبًا في الضد من رغبة الولايات المتحدة الأميركية.
يتوقف نجاح الحلّ السياسي الملائم على الدعم الذي ستقدّمه الأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي، ممثلًا بالدول الفاعلة الرئيسة، بينما تساعد قناعة السوريين، بالحلّ والعمل على إنجازه، في طيّ صفحة الماضي الأليمة، والاتفاق على الإجراءات التي تعزز قدرة الحل المأمول على الحياة، ومنها بناء المؤسسات السياسية وإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية، ومعرفة مصير المعتقلين والمفقودين، وتنظيم القضاء، وسنّ القوانين الانتخابية، وتطبيق العدالة الانتقالية، وترسيخ الحريات العامة، وتعزيز دور الإعلام، وغيرها. ولا يفي الحل غير المرغوب فيه بكل هذه الاستحقاقات.
تحدد مفردات الحل السياسي الملائم المتفق عليه، في نهاية المرحلة الانتقالية، طبيعة عملية إعادة البناء التي ستكون سورية بأمس الحاجة إليها، حيث إنها تحتاج إلى توجيه وحشد كل الطاقات والإمكانات في هذا المسعى الوطني الكبير. ومن أهم هذه المفردات، اكتمال بناء مؤسسات نظام الحكم، واختيار نوعه: نظام برلماني أو رئاسي أو ما بين بين. يتلو ذلك انطلاق مشاريع البناء الشاملة، وتوفير مستلزماتها البشرية والمادية، ومن ضمن ذلك توفير مصادر التمويل. ويحتاج ذلك إلى دور أساسي تقوم به أجهزة الدولة الإدارية والأمنية الوطنية، من حيث تنسيقُ الأعمال ووضع الخطط ومكافحة الفساد وتنفيذ برامج الرعاية الاجتماعية والموازنة بين الخطط المركزية والإدارة المحلية الضرورية، لتحقيق مصالح السكان وتخفيف أعبائهم. ولا يقدم الحل السياسي غير الملائم مثل هذه الحلول الهادفة إلى تغيير طبيعة الحكم في سورية وانطلاق عملية البناء في نهاية المطاف.
وتعدّ مسألة عودة اللاجئين المقيمين في دول الجوار من أولويات مرحلة الانتقال السياسية للحلّ السياسي الملائم/ المرغوب فيه، بخاصة القاطنين في مخيمات اللجوء، ويتوقع عودة نسبة من اللاجئين في الدول الأوروبية، منهم بعض الكوادر المهاجرة التي اغتنت بالخبرات.
ويُعدّ اتباع سياسة تعليمية جديدة من أهمّ الخطوات الإستراتيجية في عملية إعادة البناء، بحيث تشمل التشجيعَ على التفكير والبحث العلميين، بعيدًا عن طريقة التلقين، وأن تتضمن مناهج التعليم ما يساعد في أنسنة العلاقات الاجتماعية وقبول الرأي المختلف. ويستدعي الأمر إيلاء شؤون المرأة أهمية خاصة، وتمكينها وحمايتها حقوقيًا بالدرجة الأولى، من خلال تشريعات منصفة ومساواة مع الرجل على الصعد كافة، لما لذلك من أهمية خاصة لنهضة سورية من جديد. وستكون مثل هذه الإجراءات شكلية في الحل السياسي غير الملائم/ غير المرغوب فيه.
على الصعيد الداخلي، تساعد التشريعات القانونية الملائمة وبناء منظومة أمنية وطنية فعالة، في حماية أنشطة وفعاليات عملية إعادة البناء التي تتلو سيناريو الحل السياسي الملائم، بينما من الأفضل أن تقوم السياسة الخارجية على قاعدة الحياد والتعامل مع الدول الأخرى على أساس المصالح، بهدف الاستفادة من الخبرات والمساعدات. يتعلق ذلك أيضًا بتنظيم الوجود الأجنبي في سورية وقوننته وتحديد مدته، ليخضع للاحتياجات الأمنية الوطنية ويسهم في حماية عملية إعادة البناء. ولن يكون من السهولة بمكان اتباع سياسة حياد وطنية مستقلة وفاعلة، في حال تطبيق سيناريو للحل السياسي يعتمد على توافق أطراف مؤتمر أستانة.
وسيكون التأثير الدولي مهمًا في عملية إعادة البناء التالية للحلّ السياسي المرغوب فيه، وفي مقدمته التأثير الأميركي، وبالرغم من أن مساهمة الولايات المتحدة قد تكون محدودة في عملية إعادة بناء سورية، فإن الدور السياسي الأميركي سيبقى مهمًا على صعيد المنطقة التي يُعاد تشكيلها سياسيًا على نحو ثابت، ولو بوتيرة بطيئة وبخطواتٍ متعثرة. ومن المرجح أن يستمر التأثير الروسي في مرحلة إعادة البناء، إذ سيكون الحفاظ على المكاسب الإستراتيجية والاقتصادية الهدف الأهم لروسيا، وهذا ما لا يمكن أن يحدث من دون موافقة وضمانة الشريك الأميركي. وسيكون تأثير الاتحاد الأوروبي ودول الخليج والأمم المتحدة فاعلًا في التمويل وتقديم الخبرات وتنسيق الجهود.
وعلى الصعيد الإقليمي، ثمة مسألة لا يمكن التنبؤ بجوابها: هل ستستمر السياسة التركية الحالية في المستقبل، وهي تقوم على التدخل في أكثر من ملف إقليمي، أم أنها ستعود إلى سياسة التعاون الاقتصادي، وفقًا لتوجهات حزب “العدالة والتنمية”، في بداية القرن الحالي، أي سياسة “صفر مشاكل” مع دول الجوار، على أن هذه العودة مستبعدة في المنظور السياسي الحالي.
وسيتوقف التأثير الإيراني في سورية المستقبل على دور هذا البلد في الحل السياسي؛ هل ستعمل على عرقلته أو أنها ستتعاون لإنجازه من أجل الحفاظ على مصالحها ومكتسباتها والاستثمار في إعادة البناء، ومدى ما ستذهب إليه سياسة الولايات المتحدة في عهد الرئيس المنتخب، جو بايدن، في التفاهم مع إيران وربما العودة إلى الاتفاق النووي معها. ويُعتقد بأن الدور العربي سيكون إيجابيًا في مرحلة إعادة البناء، سواء من حيث التمويل الخليجي أو الدور المصري في توفير الأمن لسورية، في المرحلة الانتقالية.
مقدمة
يستمر الركود الحاصل في مسار الحل السياسي للمسألة السورية، من جراء تشابك مصالح الدول المتدخلة، وعجزها عن التوصل إلى صيغة توافقية تمهد لخروج سورية من مأساة باتت الأزمة/ الكارثة الأكثر تعقيدًا على مستوى العالم في الوقت الحالي. ينعكس تعقيد الحالة السورية وإزمانها على تعقّد سيناريوهات الحل السياسي، كمحصلة متحولة للمصالح والعلاقات الإقليمية والدولية، مع استمرار غياب الفاعل الوطني السوري، وعلى إعادة البناء المرتبطة بالحل السياسي الملائم، الذي يتوقف عليه تأمين الدعم، متعدد الجوانب، للنهوض بمشاريع عملية إعادة البناء هذه، باهظة الكلفة وبالغة الصعوبة.
يهدد الصراع في سورية، في حال عدم استيعابه، بالانتقال إلى مرحلة تصعب السيطرة عليها، وقد ينعكس ذلك سلبًا على التحالفات والعلاقات البينية للدول المتدخلة في الشأن السوري. يفترض أن يدفع ذلك هذه الدول، بخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، إلى العمل على تفعيل مجريات الحل المتعثر، وأساسه القرار الأممي 2254 لعام 2015، وقد استقرت مساحات النفوذ الخاصة بهذه الدول، وبوسع ممثليها الجلوس على طاولة المفاوضات، كمرحلة أولى يتمكن السوريون بعدها من إعادة تنظيم أنفسهم للعب الدور المنوط بهم في ما يتعلق بمستقبل بلدهم.
تنطلق هذه الدراسة من فكرة العلاقة الجدلية، بين حلّ سياسي قابل للحياة وبين المباشرة في عملية بناء شاملة ومستدامة، فتقوم على تتبع وتحليل مختلف المواقف الدولية والإقليمية للأطراف المنخرطة في الشأن السوري، وانعكاس تنافسها وتوافقها على سيناريو الحل السياسي المرتقب، ومن ثم أثر هذا الحل على إعادة عمليات البناء الشاملة التي ستتلوه، والظروف التي ستحيط بها وعوامل نجاحها والعوائق التي قد تعترضها، فضلًا عن استشراف طبيعة المواقف الدولية والإقليمية في مرحلة إعادة البناء وأثرها في تسريع أو إعاقة هذه العملية. وبغياب سيناريو الحل هذا، ثمة سيناريو آخر غير مرغوب فيه، ويتمثل بإجراء نوع من المحاصصة وإعادة إنتاج النظام الحالي مع ما سيختزنه ذلك من انفجارات وأزمات جديدة، فضلًا عن استحالة إعادة البناء المرتبطة بالتغيير السياسي الديمقراطي الشامل.
مركز حرمون
قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل
تحميل الموضوع