نقد ومقالات

التصوير كرغبة في التلاشي أو الخلود/ وداد نبي

أُوثق من خلال التصوير وجه الحياة المزيف. فالإضاءة الملونة والشديدة تخفي تحتها الخدوش، أو الجراح. ليست هنالك أخطاء وعيوب وفوضى، فقط صور توحي بحياة مثقلة بآلاف الغرامات من السعادة. تحبس الحقيقة نفسها داخل شبكية عيني، تمنع الكاميرا من الوصول إلى الجزء المعتم والقبيح المخزن في ذاكرتي، مثل صور الطفولة غير السعيدة، الحرب، القصف وانقطاع الكهرباء، لون الدم القاتم على الإسمنت في منتصف الشوارع، الجثث المرمية على جانب المعابر، الوجوه البائسة لمتشردي برلين، طوابير الهاربين العالقين على الحدود، النظرات العنصرية في القطارات. أبحث من خلال التصوير الفوتوغرافي عن العلاج، عن شفاء عتم ذاكرتي وقبحها، من خلال الصور الملونة الجميلة، الموحية بالسعادة، واكتمال المعنى، من دون أي ثقل للحقيقة، وربما هذا ما يركز عليه التصوير في القرن الواحد والعشرين، من خلال كاميرات الهواتف الذكية، التركيز على الجانب الزائف من الحياة، الجانب المتخيل والمشتهى. ملايين النساء الجميلات من دون عيوب في الوجه، أو البشرة، بيوت مضيئة، مرتبة وكأنها لوحة، مئات البرامج التي تخفي عيوب الصورة وتجعلها مثالية قبل أن تذهب في طريقها إلى النشر.

حولتنا الكاميرات الحديثة إلى كائنات مزيفة، تخاف من صورتها الأصلية. لدينا رعب مشاهدة صورة نكون فيها عفويين، طبيعيين، بعيوبنا الجمالية والنفسية. وهنا يكمن رعب التصوير، تجميل الوهم على حساب الواقع، تزييف كل شيء، حتى لون السماء وحقيقتنا.

ضاع هاتفي الشهر الماضي، رغم توتري بسبب ضياع كل بياناتي البنكية، والشخصية، والأرقام والمسودات، إلا إنني شعرت نوعًا ما براحة غريبة. لقد تخلصت من 7500 صورة محفوظة في هاتفي، صور لحياتي، بيتي، أصدقائي، عائلتي، للنزهات في الطبيعة الساحرة، لكل القراءات والفعاليات التي شاركت فيها، كل ذلك تبخر مع الهاتف، اختفت حياتي الجديدة فجأة، وبطريقة ما كنت مدينة للص، لأنه خلصني من ثقل تلك الصور. وبمجرد شرائي لهاتف جديد، ألغيت الذاكرة الاحتياطية. لقد تخلصت من الماضي بكبسة زر. فرؤيتي للصور الجميلة التي في هاتفي كانت تسبب لي قلقًا، من كونها لا تشبه الواقع، لا مكان فيها للعتم الذي ينمو كالفطر السام في زوايا بيتي، ذاكرتي، كتابتي، وكوابيسي. صور مضيئة للغاية، مبهرة، لكنها ليست حقيقتي، بل صور تصلح كمادة إعلانية عن السعادة.

التصوير استحوذ بشكل كامل على المرء وخصوصيته، فاليوم أشاهد على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لأصدقاء مع قبور أحبتهم، صورًا مع موتى حديثين، سيلفي على أسرة المشافي، إلتقط صورة لنفسك حتى وأنت على مشارف الموت، المرض…. يجب توثيق كل شيء.

منذ شهور، أرسلت لنا خالتي المقيمة في سورية عبر تطبيق الواتس أب مجموعة كبيرة من الصور العائلية القديمة، تلك الصور التي قرّرت أمي لحظة هروبنا من حلب عام 2013 حملها معها مع الوثائق الرسمية التي تخصنا، حين كان القصف شديدًا.

بقيت تلك الصور لمدة أشهر معدودة في بيتنا في ريف كوباني، حتى هاجم تنظيم الدولة الإسلامية قريتنا. حينها، تعرّض المنزل ومحتوياته للتخريب والفوضى، وبعد رحيل التنظيم أوصت أمي خالتي أن تذهب لزيارة البيت وتحضر معها الأشياء الثمينة المتبقية، وكان من بينها صورنا العائلية الناجية.

وأنا أنظر اليوم إلى الصور، أتساءل: ما الذي يجعل الصور بهذه الأهمية لدينا نحن البشر، سواء كنا هاربين وناجين من حروب، أم مستقرين؟

لوهلة، شعرت أن في إمكان أي شخص غريب، بمجرّد رؤيته لصورنا العائلية، تعريتنا، ليرى بؤسنا العائلي، والقسوة والجراح غير الملتئمة. شعرت أنها أقدر من الكتابة على نكء الجراح القديمة. تقول سوزان سانتاغ في كتابها حول الفوتوغراف: “حين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص، وحين ينتابنا الحنين نطلق الصور”.

لكن ماذا لو كنا هاربين من الخوف والحنين، ألن تشكل الصور عبئًا على حاضرنا ومستقبلنا كما هي عبء على ماضينا؟

تختلف آلية التعاطي مع التصوير من فرد إلى آخر، حسب الثقافة التي شكلته، والبيئة التي تحيط به. منذ مدة كنت أشاهد صور الأصدقاء الألمان الذين أتابعهم على صفحة انستغرام. جزء كبيرة من هذه الصور كنت أعتبرها في البداية غير جميلة، بل صادمة وقبيحة، صور أعمدة حديدية، كتل إسمنتية، ملامح غير واضحة، هذه الصور كانت تثير استغرابي، كيف لا يتمكن هؤلاء الأشخاص من التقاط كل هذا الجمال الموجود في الطبيعة الألمانية، أو مدنها؟ بينما أنا وكثيرون غيري من السوريين أول ما يتبادر لنا تصويره هو جمال الطبيعة المحيطة بنا. الزهور المنتشرة في كل شارع، البحيرات والأبنية الساحرة، هذه الصور التي تبدو بطريقة ما (كيتش) بالنسبة للآخرين.

لكن مع مرور الوقت بدأت أدرك أن اعتياد العين على الجمال يفقده بعضًا من مؤثراته الحسية، فتبحث العين عن الشيء غير المكرّر في الصورة، أو المشهد.

حتى لو كان المشهد مجرّد كتل إسمنتية. فالطبيعة والزهور والأشجار، كما هي صور اللاجئين اليوم، أصبحت مكرسة في الرؤية البصرية في هذه البلاد. حين نصور نحن نبحث عن الفريد، غير المكرّر بمشاهداتنا اليومية، ولذا ما هو جميل بالنسبة لي سيختلف عما هو جميل بالنسبة لغيري.

ما أعتقد أن كل الثقافات والشعوب تتشارك فيه بخصوص التصوير هو أن الصور لديها القدرة على كشف الجزء الحميمي لدينا، فحين أدخل دائرة حكومية ألمانية تفوح منها روائح البيروقراطية والروتين، وتستقبلني الوجوه الجامدة للموظفين، أشعر بالاكتئاب والتردد، وما إن أرى على طاولاتهم صور أطفالهم المبتسمين، أو عائلاتهم، أشعر ببعض الأمان والدفء، إذ تمنحني الصورة تلقائيًا إحساسًا بأن هذا الموظف ليس آلة، إنما هو إنسان مثلي، ولديه عاطفة وأطفال، ولابد أنه يمر في مشاكل كما أمرُّ أنا فيها، ويملك قدرًا من التعاطف والفهم لمشكلاتنا الإنسانية على هذه الأرض. بفضل الصورة، يصبح واقع الموظف أمامي هامشيًا، بينما يصبح ما داخل الصوة مركزيًا، وكأن التصوير منح الحياة الهامشية عنوانًا وحدثًا مركزيًا أكثر من الواقع في ذاته، وبذلك يتحول الهامش إلى المركز، سواء في دائرة حكومية ألمانية، أو في بيت مهجور في سورية.

حين وصلت إلى ألمانيا، وصلتني بعد سنتين، صورة لي بعمر 6 شهور، مغمضة العينين في حضن جدتي التي ترتدي الملابس الفولكلورية الكردية، أبدو في الصورة كأنني ما زلت أسبح في رحم أمي، كأنني لم أختبر الأهوال التي عشتها، وكأن الحياة لم تبدأ بعد، فطبعتها ووضعتها في إطار على طاولة الكتابة في غرفتي. وكلما شعرت بثقل الذاكرة والحياة، أسمِّر نظري في الصورة، داخل الإطار المحدّد في حضن جدتي التي أحبها، وهناك أعود إلى الشعور بالأمان، أعبر الواقع والحاضر، وأعود إلى الماضي، كأنني جنين لم يولد بعد، ولم يعرف ما هي القسوة، وكل ذلك بفضل صورة، أو عملية التصوير.

وأنا في طريقي إلى العمل، أو للتنزهِ، رفقة شريكي، غالبًا ما أمسكُ هاتفي المحمول وألتقطُ صورًا عشوائية مختلفة للحدائق والشوارع، لزهورٍ تتفتح لتوها، لمالك حزين ينتظر الريح المناسبة للطيران، لطفل يلعب ويتعثر، للعبته التي أضاعها في منتصف الطريق، لامرأة تحمل مظلة بانتظار أحد ما..

كل تلك الصور تدفعني إلى التفكير أيضًا أن أكثر الأشياء دهشة وجمالًا تكمنُ في الظل، الظل لا الضوء. قد يكون الضوء مبهرًا وشديدًا، لكنهُ في اللحظة ذاتها التي يُظهر فيها الشيء، يقتلُ بعضًا منه، يقتلُ الجوهري فيه.

كأننا تحت الضوء نصبح غير أنفسنا، نمثلُ أدوارًا ليست لنا، نضع أقنعة، ونتحول إلى مهرجين في سيركٍ، أو حفل. غالبًا ما أستطيع التعرف على نفسي بوضوح حين أكون خلف الكاميرا لا أمامها.

حين ألتقط الصور للآخرين، لظلالهم، لما تبقّى منهم بعد النهارات الطويلة، حيثُ لا أكون أنا في الصورة، بل الآخر الذي يرتسمُ في ظلهِ الجزء الأكثر صدقًا مني، حيث يصبح التصوير كأداة أرشفة للحياة والذكريات، لحفظ الأموات في ألبومات عائلية، أو تحنيطهم كما فعل الفراعنة بموتاهم. ولربما كان التحنيط أول عملية تصوير فوتوغرافية استطاعت حفظ ملامح البشر في لحظة خالدة لآلاف السنوات.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى