الناس

هل ألغينا منهج «الثقافة القومية»؟/ حسام جزماتي

في عام 2013 استقر مفهوم «المناطق المحررة» في سوريا وبدا أنها لن تعود أبداً إلى سيطرة النظام. وفي الوقت نفسه تبلورت مؤسسات المعارضة بشكل غادرت معه لحظتها السياسية التأسيسية إلى استحقاقات إدارية وخدمية عدة.

وكانت قضية التعليم من أبرز هذه الهموم التنفيذية، مع خروج مئات آلاف الأطفال واليافعين عن المنظومة التربوية الحكومية وضرورة إيجاد بديل يضمن المحافظة على أكبر عدد منهم على قيد التعليم. وحتى قبل إنشاء «الحكومة السورية المؤقتة»، التي تضم وزارة للتربية؛ بدأت جهات مرتبطة بالمعارضة الرسمية، ومنظمات تعليمية خاصة، بالاهتمام بهذا الملف الذي طرح أعباء ثقيلة تبدأ بترميم المدارس المتضررة ولا تنتهي باختيار المناهج المقررة.

في هذا السياق الأخير شهدت سوريا، خلال العقد الماضي، تجارب مشوِّشة بسبب شدة تنوعها، ولا سيما مع تمكن طرفين كبيرين، يعتنقان أيديولوجيتين متباينتين، من فرض وجودهما على مساحات واسعة من الأراضي، وفرض بناهما ورؤاهما التعليمية. وهما «الدولة الإسلامية في العراق والشام» من جهة، و«الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا» من جهة أخرى نقيضة. وقد عمدت هاتان السلطتان، كلٌّ في سياقه الخاص بطبيعة الحال، إلى اختيارات انقلابية في المناهج المقررة على الطلاب. أما المدارس العاملة في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة فقد راعت أن لا تسرف في تغيير الكتب المعتمدة لدى «الدولة السورية»، والصادرة عن وزارة التربية في حكومة النظام بدمشق، باستثناء بعض الحذف الذي طال، طبعاً، دروساً تمجّد حكم الأسد في بعض كتب التاريخ والأدب العربي، وإلغاء كامل لمادة «التربية الوطنية» أو «القومية» المشبعة بخطاب السلطة.

    من الغريب أن نلاحظ الأثر الذي تركته هذه المقررات البائسة في تشكيل «الوعي» السياسي لعموم السوريين ونظرتهم إلى بلدهم وإقليمهم والعالم

والحق أن سلسلة كتب هذا المقرر، التي رافقت السوريين منذ مرحلة التعليم الأساسي فالثانوي فسنوات التعليم الجامعي الأولى، كانت كريهة، عسيرة على الفهم، صعبة الحفظ، تبدو أشبه بخطابات التوجيه السياسي في الجيش، مكتوبة بمضمون مستمد من أفكار حزب البعث الحاكم وبأسلوب لا يعنى بأي جاذبية. كانت هذه الكتب، وما زالت حيث تُدرّس في مناطق النظام، محط سخرية الطلاب السرية، وإهمال المدرّسين الذين كانوا يستكملون بها ساعات «نصابهم» المقرر، إلى جانب مهام إدارية يتولونها أو تدريس مواد أخرى تستحق هذا الوصف.

ومن هنا فإنه من الغريب أن نلاحظ الأثر الذي تركته هذه المقررات البائسة في تشكيل «الوعي» السياسي لعموم السوريين ونظرتهم إلى بلدهم وإقليمهم والعالم.

يستحق الأمر دراسة مفصلة لهذه الكتب و«تطورها»، السلحفاتي والشكلي، مع كل تحديث للمناهج؛ لكن استعراض أفكارها العامة سهل على كل السوريين الذين رزحوا تحت وطأتها، وسمعوها، بصيغ مختلفة، في الخطابات والإعلام الرسمي. كما أن رصد دورها في تشكيل الخطاب السياسي لعموم السوريين يوصل إلى نتائج مثيرة وغير متوقعة، بالنظر إلى استخفافهم العام بهذه المناهج ومصادرها ومصدريها، ونظرتهم إليها كمواد دعائية كاذبة مفروضة.

بالتدريج، وبالتزامن مع انتقال الحكم من حافظ الأسد إلى ابنه «الشاب»، جمعت هذه المناهج بين الاستعلاء السوري «الوطني» وبين التطلعات «القومية». وهو سياق يمكن تلمسه بسهولة في تنفج الذات السورية الجماعية، ودعاوى التفوق -شبه العرقي- التي تشغل حيزاً ملحوظاً من خطاب المظلومية اللاجئ الراهن، ومن الشكوى من تآمر «العالم» على الثورة وتجاهله آلام السوريين. ومن جهة أخرى من الحرب التي شنّها هذا «العالم» نفسه على سوريا في خطاب النظام، الذي لم يرضَ شعوره بالعظمة بوصفها بأقل من أنها «كونية». وعلى كل حال، يرجع الأمر في الحالين إلى «الموقع الاستراتيجي» للبلد، وإرثها التاريخي، وإشعاعها الحضاري…

تالياً للمركزية القُطرية تأتي حلقة أخرى من تفوق مشرقي يأبى أن يتخلى عن كرسيه القديم لغنى مغاربي أو لتقدم خليجي. ورغم أن هؤلاء يشكلون «الإخوة العرب» الذين يُراد الاجتماع معهم في حلم وحدة ما، فإن دورهم المطلوب، الآن ودوماً، هو التضامن مع السوريين و«دعمهم»، وإلا فتلقي الشتائم من الأخ الفريد المخذول. والذي لا يقبل أن ينافسه على تصدر المظلومية سوى الشقيق الفلسطيني الحنظلي. والحق أن مركزية هذه القضية هو من أبرز ما استمر مع السوريين من كتب مقرر «القومية» المحذوف.

وفي سياق «المركزية»، وهي كلمة تبعث الاعتداد لدى معظم السوريين، فإن كل تجارب التفكك أو الحكم المحلي في السنوات العشر الأخيرة لم تطور وعياً جاداً يتقبل اللامركزية إلا عند شريحة النُخَب. في حين ظل السياق العام للتفكير في أمر الدولة منسجماً مع طابعها الشمولي أياً كان، مصراً على حكمها المركزي، معززاً لنسيجها الموحد، يميل إلى مستبدها العادل، يطمس التمايز الثقافي للجماعات والأفراد.

ورغم أن لفظ «سورية» مؤنث إلا أنها ذكر متحول متجهم. وهو لا يكره الاختلاف داخل بيته فقط بل في جواره. ولذلك فهو يضيق ذرعاً بشقيقه الأصغر «لبنان» الذي يحمل، للمفارقة، اسم ذكر وطبائع أنثى. ولذلك كان مما ورثه أغلب السوريين من سياسة نظامهم، وكتبه الدعائية، عدم احترام عميق لاستقلال لبنان، واستخفاف بسياساته، ونفور من تعدده، وإشهار «البوط العسكري» في وجهه كلما فار دم القبيلة.

    يمكن أن نلاحظ أنه إذا كان النظام جزءاً من اليسار الرسمي لعالم اليوم، فإن الجمهور الأشعث الأغبر للمعارضة المسلحة يبدو وكأنه من يساره الثوري

وللاختلاف بين سوريا ولبنان بعد متجذر تتصل خطوطه بانقسام عالمي أكبر بين اليمين واليسار. فرغم أن السوريين تواطؤوا بسهولة مع حزبهم الحاكم على إسقاط «الاشتراكية» عملياً من حياتهم وقراراته، مع بقائها كأحد أهدافه المعلنة في الشعارات، إلا أنهم ظلوا شعباً معادياً للغرب ومنتمياً إلى يسار العالم. يبدو هذا جلياً للغاية في حال جمهور النظام الآن، حليفاً وجودياً لمعسكر الرفض من روسيا والصين إلى إيران. ومن جهة أخرى لا يبدو شارع الثورة أقل تشككاً في الغرب ونواياه. وذلك بعد مدة قصيرة من التعويل الذي تحول بسرعة إلى عويل تحت وطأة الماكينة الحربية الوحشية للنظام وحلفائه وسط «تخاذل» الغرب. وبهذا المعنى يمكن أن نلاحظ أنه إذا كان النظام جزءاً من اليسار الرسمي لعالم اليوم، فإن الجمهور الأشعث الأغبر للمعارضة المسلحة يبدو وكأنه من يساره الثوري.

من المستغرب فعلاً أن تستطيع كتب مدرسية ركيكة، وخطابات رتيبة في الإعلام الحكومي المنبوذ، وعدة جرائد رسمية هامشية؛ أن تؤثر إلى هذه الدرجة. لكن يبدو أن فكرتنا عن أثر تكرار الخطاب نفسه تقريباً، لعشرات السنين، تستهين بفعالية «غسيل الدماغ» الذي يتسرب إلى داخل الرأس حتى لو أصم المرء عقله. ويظل البحث عن عوامل أخرى أعمق مفتوحاً وجديراً بالتفكير.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى