سياسة

خلفيات عودة طالبان إلى حكم أفغانستان وتداعياتها -مقالات مختارة-

———————–

خلفيات عودة طالبان إلى حكم أفغانستان وتداعياتها

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مع سقوط العاصمة الأفغانية، كابول، يوم 15 آب/ أغسطس 2021، تعود حركة طالبان إلى حكم البلاد بعد عشرين عامًا من إطاحة الولايات المتحدة الأميركية لها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2001 بسبب استضافتها تنظيم القاعدة الذي تبنى هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، ورفض الحركة إغلاق معسكراته وتسليم قادته. وتتعرّض إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لانتقادات شديدة؛ بسبب طريقة إدارتها عملية الانسحاب من أفغانستان (التي تقرّرت بموجب اتفاقية الانسحاب الموقعة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب) في ظل مخاوف من تداعيات عودة “طالبان” إلى الحكم وإمكانية تحولها، مرّة أخرى، إلى بؤرة استقطاب لتيارات متشدّدة تستهدف الولايات المتحدة ودولًا أخرى في المنطقة. وخلافًا لما يروّج بعضهم، لم يكن قرار الانسحاب الأميركي نتيجة هزيمةٍ عسكرية، بل تمثّل  بفشل سياسي. وهذا لا يعني أن الاحتلال الأميركي  نجح عسكريًا، فقد فشل في القضاء على القدرات العسكرية ل”طالبان: التي صمدت وقاتلت عشرين عامًا، وأظهرها الانسحاب الأميركي بمظهر المنتصر عسكريًا. وكانت نتائج الفشل السياسي وخيمة، فقد كانت واشنطن قادرة على الحفاظ على حكومة الرئيس أشرف غني بعدد قليل نسبيًا من الجنود الأميركيين وحلفائهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو). كان هذا قرارًا سياسيًا – اقتصاديًا بوقف التورّط في أفغانستان. وقد جسّد هذا القرار اعترافًا بفشل سياسي آخر في سياسات ما سُمّي “بناء الأمة” أو “بناء الدولة” بواسطة قوة احتلال.

خلفيات عودة طالبان

في عام 2018، خلص تقييم استخباراتي أميركي سرّي، تم تسريبه في وقت سابق من عام 2021، إلى أن انسحابًا سريعًا قد يؤدّي إلى حربٍ أهلية، وعودة “طالبان” إلى السلطة، إلا أن إدارة الرئيس ترامب أصرّت على التفاوض مع “طالبان” والانسحاب على نحو تحصل فيه الولايات المتحدة على ضمانات بعدم استضافة أفغانستان أي “تنظيم إرهابي” مستقبلًا. أما إدارة بايدن فقد رأت أن ثمّة تحدّيات أكبر تواجه الولايات المتحدة، فضلًا عن تقديرها أن قوات الجيش الأفغاني قادرة على التصدّي ل”طالبان”، لفترة قد تصل إلى عامين، ما يسمح بالوصول إلى تسوية مع “طالبان”. ولم تتوقف التحذيرات الاستخبارية عند حدود تكرار سيناريو سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على أجزاء واسعة من العراق وسورية، صيف عام 2014، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد انسحبت من العراق عام 2011، بل تجاوزتها إلى احتمال تكرار سيناريو سقوط سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، عام 1975، أمام زحف قوات فيتنام الشمالية، بعد أن تخلّت الولايات المتحدة عن الحرب، وعن حلفائها الجنوبيين، وانسحبت منها، مع الفرق أن الولايات المتحدة لم تتكبّد هذا النوع من الخسائر في أفغانستان، وقد بدا أخيرا أن “طالبان” قرّرت عدم مواجهة القوات الأميركية، والاكتفاء بمحاربة قوات الحكومة.

رفض الرئيس بايدن في مقابلة صحافية في تموز/ يوليو 2021 عقد مقارنة بين سايغون وما قد يحدث في كابول في حال انسحاب القوات الأميركية، مشدّدًا على أن “طالبان ليست جيش فيتنام الشمالية”. وذهب إلى أبعد من ذلك، حينما قال إنه “لا يرجّح سقوط كابول بيد طالبان”. لكن التطوّرات أظهرت عكس توقعاته تمامًا، لمّا اضطر إلى إرسال 3000 جندي أميركي لإجلاء موظفي السفارة الأميركية، اعتبارًا من 12 آب/ أغسطس 2021، حين بدأت قوات “طالبان” تضيق الخناق على العاصمة، وارتفع العدد بعد يومين فقط إلى 5000 جندي. وقد أعاد مشهد طائرات الهليكوبتر الأميركية، وهي تنقل موظفي سفارتها إلى المطار في كابول بالفعل، ذكريات سايغون، ما اعتبر فشلًا كبيرًا.

لكن إدارة بايدن لا تتحمّل وحدها المسؤولية عن الفشل في أفغانستان، والذي لم يكن إلا تعبيرًا متأخرًا عن حتميةٍ كان الجميع يعلم أنها آتية. ووفق وثائق حكومية أميركية سرّية، كشفت عنها صحيفة واشنطن بوست، عام 2019، بعنوان “الأوراق الأفغانية”، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ جورج بوش الابن، مرورًا بإدارتَي باراك أوباما وترامب، توصلت إلى استنتاج أنه من غير الممكن القضاء على تنظيم طالبان. وكانت القيادتان السياسية والعسكرية الأميركيتان تدركان، علاوة على ذلك، فداحة الفساد والضعف الذي تعانيه الحكومة في كابول. ومع ذلك، تجاهلت إدارة ترامب هذه المعطيات؛ تفاديًا للاعتراف بالفشل في ما يسمّى بناء الدولة. لقد نمت في ظل الوصاية الأميركية نخب سياسية أفغانية وفئات طفيلية تعتمد على الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي، ومتنازعة فيما بينها، ولم تكن قادرةً على أن تضرب جذورًا لها أو لمؤسسات الدولة في المجتمع الأفغاني، ولا سيما في الأطراف.

ومنذ عام 2006، كان واضحًا لإدارة الرئيس جورج بوش الابن أن الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح، لكنها قرّرت مع ذلك تجاهل التحذيرات والاستمرار في إشاعة أجواء إيجابية عن تطورات المعارك على الأرض. وحينما جاء أوباما، حوّل تركيزه بعد سحب قواته من العراق نحو أفغانستان، في محاولةٍ جديدة لإلحاق هزيمة ب”طالبان”، فرفع عدد القوات الأميركية هناك من 36 ألف جندي إلى 83 ألف جندي، إضافة إلى 32 ألفًا آخرين من قوات “الناتو”، فضلًا عن آلاف المتعاقدين المدنيين الذين يقدّمون استشارات وخدمات عسكرية. ومع ذلك، لم تغير الزيادة الكبيرة في عدد القوات القتالية المعطيات على الأرض، وهو ما اضطر أوباما إلى الإعلان، نهاية عام 2014، عن تخفيض عدد القوات الأميركية إلى حوالى تسعة آلاف وبقائها، نظريًا، في مهمات “غير قتالية”. وكان وجود هذا العدد (أقل منه في الواقع) كافيًا للحفاظ على الحكومة وجيشها في مواجهة “طالبان” طوال عهد ترامب. ولم تتقدّم الأخيرة إلا بعد انسحاب هذه الآلاف التسعة من الأميركيين. وفي ولاياتٍ عديدة، بما في ذلك العاصمة، انهارت القوات النظامية من دون قتال، نتيجة انسحاب القوات الأميركية.

وعلى الرغم من أن ترامب جاء بوعود لإنهاء أكثر الحروب الأميركية تكلفة وأطولها زمنًا، فإنه قام، عام 2017، بتخويل القيادة العسكرية الأميركية في أفغانستان بزيادة عدد القوات، إذا رأت حاجة إلى ذلك، فضلًا عن إعطاء إدارته الضوء الأخضر لشنّ حملة قصف جوي مكثف بأقوى قنابل غير نووية موجودة في الترسانة الأميركية، ولا سيما بعد ظهور قوى تنسب نفسها إلى تنظيم داعش في أفغانستان. لكن الجهود العسكرية الأميركية فشلت مرة أخرى في إحداث تغيير جوهري على الأرض، ما دفعه عام 2018 إلى البحث عن سلام مع “طالبان”. وبالفعل بدأت إدارته التفاوض مع “طالبان” في العاصمة القطرية، الدوحة، وانتهت بتوقيع اتفاقية سلام معها نصّت على انسحاب أميركي كامل ينتهي مطلع أيار/ مايو 2021، في مقابل أن تقطع الحركة علاقاتها مع القاعدة و”الجماعات الإرهابية الأخرى”. وكانت “طالبان” تسيطر عند توقيع اتفاق الدوحة على ما يقرب من نصف مساحة البلاد.

ومع تولي بايدن الرئاسة مطلع عام 2021، أشار إلى التزامه باتفاق إدارة سلفه مع “طالبان”. وفي نيسان/ أبريل 2021، أعلن أن القوات الأميركية البالغ عددها حينها 3500 جندي، وقوات “الناتو”، والتي كانت تعدّ 7000 جندي، ستبدأ بالانسحاب من أفغانستان مطلع شهر أيار/ مايو 2021، بدل أن ينتهي الانسحاب في ذلك التاريخ، بحسب الاتفاق الأصلي، على أن تتم انسحابها قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2021. وفي 8 تموز/ يوليو قرّب بايدن موعد انسحاب القوات الأميركية إلى نهاية آب/ أغسطس 2021، وأكّد أن إدارته تعكف على وضع خطط لمنع تنظيم القاعدة والتنظيمات الأخرى من تعزيز وجودها في أفغانستان، بما في ذلك نقل القيادة المركزية الوسطى الأميركية، التي تقع أفغانستان ضمن نطاق عملها، بعض قواتها إلى باكستان أو طاجيكستان لتوفير قدرة على الرد السريع في حال بروز أي تهديدٍ في أفغانستان. لكن التقدّم السريع لقوات “طالبان” وانهيار القوات الأفغانية الحكومية (من دون مقاومة في غالبية الحالات) فاجأ واشنطن، وكشف عن فشل استخباراتي كبير.

فشل استخباراتي وفساد حكومي

استند قرار الانسحاب من أفغانستان إلى اعتقاد إدارة بايدن وأجهزتها الأمنية والعسكرية أن القوات الأفغانية قادرةٌ على صد هجمات “طالبان”، خصوصًا على العاصمة. وكان مستشارو الرئيس عبّروا عن ثقتهم بأن “طالبان” لن تتمكّن من السيطرة على أيٍّ من عواصم أقاليم أفغانستان الـ 34 قبل خريف 2021 على أقل تقدير. وحتى 13 آب/ أغسطس 2021، أي قبل يوم من محاصرة “طالبان” كابول ودخولها، كان الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، يؤكد أن العاصمة غير مهدّدة. من جهة ثانية، لم يكن، كما يبدو، لدى الوكالات الاستخبارية الأميركية معلومات كافية عن قدرات “طالبان” وعتادها وأعداد مقاتليها وخططها. والأهم عدم إدراكها مدى اتكالية النظام النفسية والمادية على الوجود الأميركي، إلى درجة الانهيار المعنوي للجيش مع خروج الأميركيين. كما برز غياب التنسيق الكامل مع قوات الحكومة الأفغانية، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى، في تموز/ يوليو 2021، حين غادرت القوات الأميركية قاعدة باغرام، شمالي كابول وقطعت الكهرباء عنها، من دون أن تُخطر القائد الأفغاني للقاعدة، والذي لم يكتشف رحيلهم إلا بعد ساعتين من ذلك.

وأدّى الفساد المنتشر في أوساط القوات الحكومية دورًا أيضًا في الوصول إلى هذه النتيجة. نظريًا، كان ميزان القوى يميل بقوةٍ إلى صالح الجيش الأفغاني الذي يفوق عدد أفراده أعداد مقاتلي “طالبان” بحوالي أربعة أضعاف، كما أنه يمتلك أسلحة أكثر تقدمًا، ولديه قوة جوية، وإن كانت محدودة، فضلًا عن التدريب والتمويل والموارد التي أتاحتها له واشنطن. وهذا ما كان يعوّل عليه الرئيس بايدن، وأشار إليه في خطابه في تموز/ يوليو 2021 لمّا برّر قراره الانسحاب من أفغانستان، من أن الولايات المتحدة وحلفاءها درّبوا وسلحوا مئات الآلاف من الأفغان، منهم أكثر من 300 ألف جندي ورجل أمن في مواجهة 75 ألف مقاتل من “طالبان”. والواقع أن عددًا كبيرًا من هؤلاء الجنود لم يكن موجودًا إلا على الورق؛ ما أدّى إلى انتشار ما تسمّى ظاهرة “الجنود الأشباح” أو “الفضائيين”، إذ يميل بعض المسؤولين الفاسدين إلى المبالغة في أرقام المنتسبين إلى قطعاتهم العسكرية للسطو على رواتبهم ومخصصاتهم. ورغم أن الولايات المتحدة انفقت نحو 83 مليار دولار على تدريب الجيش الأفغاني وتسليحه، فإنها لم تستطع أن تزرع إرادة القتال بين أفراده؛ إذ ظلت المعنويات منخفضة بسبب الفساد وسوء الإدارة في أوساط الحكومة الأفغانية وقياداتها العسكرية، فالآلاف من أفراد الشرطة الأفغانية مثلًا لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عناصر الجيش. وينسحب الأمر ذاته على نقص الطعام والمخصّصات الأخرى. وساهم نشر قوات الجيش والشرطة في مناطق بعيدة عن المناطق التي ينحدرون منها في إشاعة شعورٍ بعدم الارتياح وضعف الانتماء لديهم. ومع خروج الأميركيين وتقدم “طالبان”، هرب كثيرون منهم إلى مناطق سكناهم للدفاع عن عوائلهم. ولم يكن كثيرون منهم متحمسين للدفاع عن حكومة أشرف غني التي يرونها ضعيفة وفاسدة؛ فراحوا يتركون أسلحتهم ويفرّون بمجرّد ظهور طلائع قوات “طالبان”. عانت القوات الحكومية أيضًا مشكلات مرتبطة بقدرتها على تشغيل الأسلحة التي تمتلكها. وقد ظهر ذلك بوضوح أكبر في سلاح الجو. إذ لم تستطع القوات الأفغانية تشغيل الطائرات التي تمتلكها بعد سحب المتعاقدين المدنيين. في المقابل، تبيّن أن لدى “طالبان” قدرات عسكرية أكبر مما قدّرها الأميركيون، وقد تعزّزت هذه القدرات بسبب ما غنمته الحركة من الأسلحة الأميركية المتطوّرة.

تداعيات عودة طالبان

سيكون لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وسقوط حكومة كابول وعودة “طالبان” تداعيات محلية وإقليمية ودولية كبيرة، أهمها:

1. تراجع الثقة بالولايات المتحدة وصدقيتها بين حلفائها في المنطقة والعالم؛ فالطريقة التي تخلت بها واشنطن عن حلفائها في أفغانستان توحي بأنها باتت تميل إلى التخفّف من أي التزامٍ يمكن أن يمثل عائقًا لتوجهها نحو التركيز على التحديات والتهديدات الاستراتيجية التي تواجهها، مثل صعود الصين.

2. احتمال أن تؤدّي عودة “طالبان” إلى حكم أفغانستان إلى بث الروح في التنظيمات الجهادية المتشدّدة التي تلقت ضربة كبيرة بعد هزيمة تنظيم داعش في العراق وسورية، باعتبار أن ما حصل يُعدّ نصرًا كبيرًا للحركة ومناصريها.

3. احتمال تراجع المكتسبات التي حققتها المرأة الأفغانية خلال العقدين الماضيين، بما في ذلك حق الفتيات الصغيرات في التعليم، وفرض نظام حكم متشدد.

4. نشوء فراغ في أفغانستان يذكي روح التنافس بين القوى الإقليمية والدولية؛ ما قد يحول أفغانستان إلى ساحة صراع جديد. ولا يستبعد حصول صراعات على خلفية إثنية وغيرها بعد الصدمة الأخيرة.

خلاصة

مع عودة حركة طالبان إلى الحكم، تقف أفغانستان أمام مرحلة جديدة عنوانها الرئيس عدم اليقين. وعلى الرغم من أن الحركة تبدو مهتمة بتهدئة المخاوف المحلية والدولية حيال إمكانية تبنّيها نهجًا متشدّدًا في الحكم، والحصول على اعتراف دولي، فإن الكثير سوف يعتمد على ما تفعله بعد استعادتها السلطة. ومن الواضح أن تركيز الحركة منصبٌّ في هذه المرحلة على تجنّب تكرار ما حصل معها خلال فترة حكمها الأولى بين عامي 1996-2001 عندما أدّى خطابها وسياساتها المتشدّدة إلى عزلها وعدم الاعتراف بها. وتتبنّى “طالبان” منذ سيطرتها على كابول خطابًا سياسيًا معتدلا تأمل أن تنجح من خلاله في إقناع المجتمع الدولي بقبولها، وربما حتى تقديم مساعدات اقتصادية لتحقيق الاستقرار في بلادٍ دمرتها الحرب. ولم يكن اعتراف باكستان بحكم طالبان مفاجئًا بالطبع، ولكن الصين التي تحارب ما تسميه “التطرّف الإسلامي”، وفتحت معسكرات اعتقال للإيغور من مواطنيها، تتجّه هي الأخرى، على ما يبدو، إلى الاعتراف بطالبان؛ فهي ترى أمرًا واحدًا وهو التراجع الأميركي. وهذا هو أيضًا حال روسيا التي لا تخفي سعادتها، ولكنها تفضّل الانتظار ومتابعة سياسات طالبان؛ إذ لديها نفوذها في الجمهوريات الآسيوية. أما الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، فما زال في إمكانهم عزل الحركة، ومنع حصول قبول واسع لها على الساحة الدولية. وربما هذا ما دعا “طالبان” إلى تبنّي خطاب “معتدل” حتى الآن، يشمل احترام التعدّدية السياسية والحريات الأساسية للأفغان، وهذا ما سيكون محلّ اختبار ومراقبة خلال الفترة المقبلة لتبيان كيفية التعامل الدولي مع الواقع الجديد في أفغانستان.

دلالات

————————-

هل أخطأت أميركا؟/ أكرم البني

أصبح السؤال على كل لسان، بعد التقدم السريع لقوات «طالبان» واستيلائها على العاصمة كابل، وتواتر انتقادات سياسيين وإعلاميين غربيين، لقرار واشنطن الانسحاب من أفغانستان… هل كان القرار خاطئاً؟ أم اقتصر الخطأ، كما يشاع، على المبالغة بقدرة القوات الحكومية في الحفاظ على السلطة؟ واستدراكاً، هل أخطأت واشنطن بقرار اجتياح أفغانستان واحتلالها عشرين عاماً، لإبعاد خطر الإرهاب عن أراضيها؟ ثم هل يبدو البيت الأبيض غير نادم فعلاً، كما أعلن الرئيس الأميركي، على قرار الانسحاب، أم ثمة ما يؤنب الضمير بعد ترك الحالمين بغدٍ أفضل من أبناء الشعب الأفغاني تحت رحمة «طالبان» وحكمها؟ وهل يكفي لتعويض النساء الأفغانيات القول إن صوت واشنطن سيبقى عالياً ضد انتهاكات حقوق المرأة والإنسان في أفغانستان؟

ثمة من يأبى الاعتراف بأخطاء قد ترتكبها قيادة البيت الأبيض تحدوه المبالغة بقدرة وذكاء النخبة الأميركية على اتخاذ القرارات السليمة ربطاً بتنوع أجهزة استخباراتها وبما تمتلكه من كفاءات علمية وتكنولوجية ومراكز أبحاث ودراسات تدقق وتتفحص كل معلومة أمنية وسياسية واقتصادية، وهناك من يرفض إدراج ما تقوم به الإدارة الأميركية أو تتخذه من قرارات في خانة الخطأ والصواب، بل يقرنها بلغة المصالح ويعتبرها إجراءات ضرورية، ما دامت تفضي في نهاية المطاف إلى تمكين أسباب استمرار الهيمنة الأميركية، حتى لو تم ذلك على حساب مصالح بعض المجتمعات ومستقبلها، بينما ثمة من تأسره الرؤية التآمرية ويذهب إلى القول بأن أميركا إنما تراهن اليوم على انسحابها من أفغانستان لخلق فخ سياسي جديد في طريق الصين وروسيا وإيران، متطلعة لإشغالهم وإرهاقهم عبر تحويل جنوب آسيا وشرقها إلى منطقة ملتهبة ومتوترة، بعد عودة «طالبان» إلى الحكم.

في المقابل، يذهب الكثيرون إلى الإقرار بوجود أخطاء ارتكبتها وترتكبها واشنطن في سياق الصراع الدولي على السيطرة والنفوذ، ودليلهم الاعترافات الصريحة لزعماء ومسؤولين في الإدارات الأميركية المتعاقبة بهذه الأخطاء.

فها هم قادة أميركيون أقروا بعد تفجيرات سبتمبر (أيلول) 2001 بأنهم كانوا، وطيلة عقود، ينتهجون سياسة خاطئة ومشينة جوهرها دعم أنظمة فاسدة، ومساندة ديكتاتوريات عسكرية موالية لهم على حساب تطلعات الشعوب وحقوقها في الحرية والعيش الكريم، وكان التعويض بخطة لنشر الديمقراطية حملت عنوان الشرق الأوسط الكبير، تتوجت بمراجعة انتقدت فيها واشنطن بعض اندفاعاتها الأنانية لتأمين مصالحها، ونجم عنها تكريس واقع مرير في بعض المجتمعات، ووصل النقد مثلاً، إلى تقديم اعتذار صريح من الرئيس أوباما عن الدور الأميركي الداعم لشاه إيران في إسقاط حكومة مصدق عام 1953.

وهم مسؤولون أميركيون وجدوا في الدعم المفتوح لجماعات «القاعدة» وإحياء ظاهرة «الجهاديين الإسلامويين»، خياراً مجدياً لهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ومنع توسيع نفوذه جنوباً، مثلما وجدوا أن خطأهم كان في الاستهتار بهذه الجماعات، وعدم التحسب من دورها المستقبلي، حين انقلب السحر على الساحر، وفجعت الولايات المتحدة بتفجيرات مرعبة في عقر دارها، ترتب عليها مغامرتان عسكريتان لاحتلال أفغانستان والعراق كلفتاها آلاف الأرواح البشرية وخسائر مادية فادحة، علاوة على الأعباء المضافة جراء التدابير الاحترازية ضد الإرهاب لضمان أمنها وتأمين مصالحها في العالم.

وأيضاً هم قادة عسكريون وسياسيون أميركيون من جاهروا بارتكاب خطأ كبير بغزو العراق، وتالياً بما تبعه من قرارات خاطئة، كحل الدولة والجيش العراقيين وتكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية في بناء السلطة وإدارة البلاد، الأمر الذي ساهم في تسعير الصراع المذهبي وحفز قوى التطرف الإسلاموي، وأجبر واشنطن على ترتيب انسحاب من العراق بدا كالهروب من سفينة توشك على الغرق. وهم أنفسهم من اعترفوا بأن تلك الأخطاء ساهمت في تعزيز النفوذ الإيراني على أهم مفاصل نظام بغداد، وإجهاض حلم العراقيين بالتغيير وبناء مجتمع المواطنة الديمقراطي.

ثم ألم يعلن بعض الزعماء الأميركيين بأن الاتفاقية النووية مع إيران كانت مطباً وفخاً، وأنها لم تمنع إيران للحظة من السير خطوات خفية نحو تخصيب الوقود النووي، كما لم تعقها، بل على العكس، مكنتها من التمدد وتوسيع تدخلاتها في شؤون المنطقة؟

وأيضاً، ألم يعترف تباعاً، عدد من السياسيين الأميركيين المهتمين بالشأن السوري، بارتكابهم خطأ جسيماً لعدم اكتراثهم بتفاقم حدة الصراع هناك حتى اكتظ، بعد سنوات، بكل أساليب العنف والفتك وبجماعات التطرف والإرهاب وبصور مفزعة عن الخراب وأعداد الضحايا والمعتقلين والمشردين؟

وهل غريباً أن تشهد، قريباً، الساحة السياسية والإعلامية الأميركية، مزيداً من الاعتراضات على قرار الانسحاب من أفغانستان، ربطاً بالمخاطر المترتبة على الاستقرار والأمن العالميين، بعد تسلم «طالبان» السلطة؟

تلك الأمثلة الصارخة عن اعترافات الإدارة الأميركية بما ارتكبته من أخطاء، تثير الشكوك والتساؤلات حول سبب فشل القوة الأكثر امتلاكاً للكفاءات والنفوذ، في رسم سياسات ناجعة، هل هو ضعف الإحاطة بالوقائع والتطورات المحتملة، وتالياً العجز عن تظهير صورة دقيقة للواقع؟ أم لعله الغرور الإمبراطوري المستهتر بمصائر مجتمعات الغير، كما بادعاءاته عن نصرة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم لعل تلك الأخطاء والمطبات، ناجمة عن الخلافات المزمنة بين مراكز قوى أميركية تتفاوت حساباتها ومصالحها، كما تتباين فيما تمتلكه من معطيات ومعلومات وفي طرائق إدارتها للمصالح الأميركية.

والحال، إذا بقيت لغة المصالح الجافة والطمع البغيض في قطف ما طاب لها من ثمار النفوذ والاستئثار هاجساً للسياسة الأميركية فلن تخلص الشعوب الضعيفة مما تعتقده أخطاء ترتكب بحقها، ولن يفاجئنا أن تتخذ واشنطن مواقف مؤلمة تبدو أشبه بالخيانة لمصالح هذه الشعوب وحقوقها، إن وجدت في ذلك وسيلة لتعزيز هيمنتها ولمقارعة نفوذ خصومها، أو ربما لتخفيف التكلفة والحمل عن كاهلها.

والمفارقة، أن تأثير ما ترتكبه النخبة الأميركية من أخطاء في سياستها الخارجية يبقى محدوداً على الولايات المتحدة نفسها التي تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من تخفيف الأضرار الحاصلة وإبقائها في الحدود الدنيا، لكنه يترك آثاراً خطيرة ومدمرة على المجتمعات الصغيرة والضعيفة التي غالباً ما تدفع لقاء ذلك أثماناً باهظة من حيوات أبنائها ومستقبلهم.

الشرق الأوسط

——————————-

السوريون بين «المحتل» و«الحليف»… وفوز «طالبان»/ إبراهيم حميدي

سوريا بين أكثر الدول تأثراً بما يحصل في أفغانستان، سواء لجهة الانسحاب الأميركي أو سرعة سيطرة «طالبان»، باعتبار أن كثيراً من الدول والأطراف الخارجية منخرطة في البلدين. لذلك، ليس مفاجئاً أن تكون الأطراف السورية متابعة للنكسات والانتصارات في الجغرافيا الأخرى لمعرفة مدى تأثيرها على وضعها المحلي في النزاع السوري و«الاحتلالات» الكثيرة. لكن اللافت أن كل طرف محلي يستند إلى «حليفه الخارجي» في الصراع السوري على أمل إخراج «المحتل الآخر».

مع تسارع التطورات في كابل، كانت دمشق منقسمة بين الفرح والترقب. هناك «ارتياح» عبّر عنه مسؤولون من الانسحاب الأميركي وانعكاساته على حلفائهم السوريين. كان بينهم وزير الإعلام الأسبق والقيادي في حزب «البعث» الحاكم مهدي دخل الله، لدى قوله، إن الولايات المتحدة من سايغون الفيتنامية في 1975 إلى كابل الأفغانية في 2021 هناك «درس واحد، أن أميركا تتخلى عن عملائها بكل بساطة، من دون رحمة أو شفقة»، وأضاف أنه على «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن «تلمس رأسها».

الوصفة التي قدّمها دخل الله إلى «قسد» هي «المقاومة، لأنها أفضل من التوقيع والاستسلام والمساومة». ذات الاقتراح، الذي أشار إليه الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم الشهر الماضي لدى حديثه عن «المقاومة الشعبية» لإخراج الأميركيين، إضافة إلى رفض المسؤولين السوريين في دمشق الدخول في مفاوضات سياسية مع «قسد» تخص مستقبل منطقة شرق الفرات و«الإدارة الذاتية» واكتفاء الحكومة السورية بتفاهمات إدارية وخدمية ومقايضات اقتصادية في شمال شرقي البلاد.

كلام الرئيس جو بايدن أنه غير معني بـ«بناء الأمم»، أي «تغيير الأنظمة»، بعد فشلها في تجربة عقدين من الزمن في أفغانستان، تطرب المعنيين في دمشق، لكن الحديث عن الاستمرار في قتال «داعش» مؤشر إلى عدم خروج سريع من شرق البلاد، ما يترك المطالبة بـ«خروج الاحتلال الأميركي» مقيماً في الخطاب الرسمي، مع تجاهل للوجود الروسي والإيراني. في دمشق، يعتبرونه «شرعياً جاء بناء على طلب الحكومة السورية». لكن هذا ليس رأي الأطراف الأخرى المعارضة في سوريا التي تعتبره «احتلالاً تجب مقاومته»، إذ إن «المجلس الإسلامي السوري» الذي يمثل مظلة سياسية لفصائل مقاتلة، أصدر بياناً بـ«تهنئة للشعب الأفغاني بطرد المحتل» تضمنت «مباركة لانتصار الشعب ممثلاً بـ(طالبان) على المستعمر وأعوانه». بالنسبة إلى هذا «المجلس» المقيم في إسطنبول، فإن «مدرسة التاريخ ناطقة وشاهدة… من أن المستعمر لا بد من رحيله مهما طال الزمن». وقال: «نأمل أن ينعم السوريون بالأمن والأمان في بلادهم بعد تطهيرها من رجس المحتل الإيراني والروسي وعملائهما».

كما أن «هيئة تحرير الشام»، التي تسيطر على معظم إدلب في شمال غربي سوريا، بعثت من «شام الرباط» إلى أفغانستان «مباركة لإخواننا (الطالبان) وأهلنا في أفغانستان على هذا الفتح المبين، سائلين المولى أن يمن على الثورة السورية بنصر مؤزر، تحرر به الأرض (…) ويسود العدل في ظل شريعة الرحمن». وذهبت إلى حد الحديث عن «استلهام» تلك التجربة في سوريا لـ«التمسك بخيار المقاومة والجهاد وصولاً لنيل الحرية والكرامة المتمثلة بإسقاط النظام» السوري.

وإلى جانب الترحيب الخطابي لـ«تحرير الشام» بـ«الظفر»، وزّع قياديون وعناصر ومدنيون في إدلب الحلويات ورفعوا المبارك. وازدحمت منصات مغلقة للتواصل الاجتماعي بحوارات حول الإفادة من التجربة الأفغانية. وكتب قيادي: «التطورات في أفغانستان تتشابه مع ما يعيشه الشعب السوري الذي يطالب بحريته من ظلم النظام، وحلفائه المحتلين كروسيا وإيران». وقال آخر: «ما بعد تحرير أفغانستان ليس كما قبله، و(طالبان) قررت إعادة رسم سياسة العالم من جديد». ومن هنا، قد يطرح سؤال كبير حول موقف قياديين أجانب انشقوا عن «تحرير الشام» وآخرين قريبين من «داعش» أو «القاعدة» من التطورات الأخيرة، خصوصاً أن بعضهم جاء من أفغانستان إلى «أرض الشام» قبل سنوات، وما إذا كانوا يفكرون بالعودة إلى «أرض الجهاد» هناك؟ المحتفلون بـ«النصر الطالباني» في أوساط المعارضة لم يشيروا إلى تركيا، كما هو الحال مع المسؤولين في دمشق الذين تجاهلوا طهران وموسكو. غير أن الانسحاب الأميركي، ذكر معارضين آخرين بتخلي أميركا السريع عنهم لدى توقيع اتفاق في جنوب سوريا تضمن إلغاء برنامج سري لتدريب «الجيش الحر». كما ذكّر قادة «قسد» بقرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب المفاجئ من جيب شرق الفرات وفتح الباب للتوغل التركي.

بالفعل قد تكون «قسد» بين أكثر الفرقاء الذين ينظرون بقلق إلى سرعة الانسحاب الأميركي ومنعكساته عليهم؛ خصوصاً إذا أُلحق بقرار الرئيس جو بايدن إنهاء «العمليات القتالية» في العراق نهاية العام. صحيح أن قول بايدن إنه متمسك بمحاربة «داعش» يطمئن الأكراد، لكن تجربتهم في خريف 2019 لا تزال حاضرة في الذاكرة وتدق بقوة على باب القامشلي حالياً، إذ إنه بمجرد انسحاب القوات الأميركية انطلق سباق عنيف على وراثتها شرق الفرات، فتوغلت تركيا وفصائلها وتقدمت روسيا وشرطتها وانتشرت إيران وميليشياتها وعادت القوات السورية إلى الحدود، ما دفع قادة من «قسد» للركض إلى دمشق بحثاً عن تسوية إنقاذية.

الشرق الأوسط

———————————

أبعد من كوابيس طالبان: أفغانستان الأخرى المعقدة/ صبحي حديدي

لعلّ بعض معطيات التاريخ والجغرافيا تنفع في تمثيل مشهد أفغانستان الراهن على نحو تفاعلي، يربط الماضي بالحاضر وقد يؤشر على المستقبل في كثير أو قليل، كما يسبغ على الشبكات الجيو – سياسية المرتبطة بالبلد سلسلة أبعاد جدلية منبثقة، على وجه التحديد، من صلة التاريخ الأفغاني بالجغرافيا الأفغانية؛ بعيداً، في كلّ حال، عن التبسيط الراهن أو القديم المتجدد حول عودة الطالبان وما يُطرح فيها أو بسببها من فرضيات تنميطية مسبقة الصنع، حول الإسلام السياسي أو الجهادي أو الأصولي. الأكثر سهولة والأيسر افتراضاً، والأقرب إلى الخمول التحليلي بالطبع، إلقاء البلد في قبضة الملا برادر على غرار ما كانت عليه أيام الملا عمر خلال سنوات 1996 وحتى اندحار الحركة في سنة 2001؛ وبالتالي استعادة المقولات ذاتها حول ما سيُستأنف من نهج طالباني بشأن الحريات العامة وحقوق المرأة والتربية والثقافة وتطبيق شريعة متشددة والانغلاق الداخلي والإقليمي والدولي. الأكثر مشقة، ولكن المطلوب والحيوي والواجب، هو وضع الطالبان في بدايات العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين وليس في أواسط العقد الأخير من القرن العشرين؛ وقد يكون أفضل، وأنفع أيضاً، وضع الماضي على محكّ متغيرات الحاضر، وليس ردّها إلى ثوابت الماضي الساكنة المجمدة.

ولعلّ من الخير الابتداء من حقيقة أنّ البلد يحتل موقعاً ستراتيجياً مميزاً بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارّة الهندية، ويجاور الجمهوريات الإسلامية السوفييتية سابقاً، فضلاً عن الصين وإيران وتركيا والباكستان. لم يكن غريباً، والحال هذه، أن تصبح أفغانستان واحدة من مسارح ما عُرف في القرن التاسع عشر باسم «اللعبة الكبرى» بين التاج البريطاني وقياصرة روسيا، وأن تُخاض ثلاث حروب أنغلو ـ أفغانية على سبيل منع الدبّ الروسي (حسب الرطانة السائدة يومذاك) من الوصول جنوباً إلى مياه الخليج الدافئة والمحيط الهندي.

جغرافياً، تتراوح أفغانستان بين سلسلة جبال شاهقة في الشمال الشرقي، وصحارى مترامية على طول الحدود الغربية؛ وهذا عامل جوهري وضع تضاريس أفغانستان في رأس المعضلات التي واجهها أيّ غازٍ للبلد. وحين اجتاح الإسكندر الأكبر البلد من جهة الغرب، عام 331-326 قبل المسيح، واجه المشكلات الستراتيجية ذاتها، مع فارق تقنيات الحروب وعدّتها وأساليبها، التي واجهها الجيش الأحمر في ثمانينيات القرن المنصرم. كذلك فإنّ الطرق الحديثة التي شُقّت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين إنما تقتفي مسار الوديان وتحاذي سفوح السلاسل الجبلية الكبرى، وبالتالي لم يكن مدهشاً أنّ الطريق الرئيسي الواصل بين حيرات وقندهار يتبع المسار ذاته الذي طرقه الإسكندر الأكبر.

لهذا فإنّ غزاة أفغانستان لا يملكون سوى التخلي عن الجبال لصالح أهل البلد، وأبناء القبائل اعتادوا العيش في الأعالي، والمحاربون منهم خبروا فنون القتال الجبلي ومزاياه؛ وهذا بعض السبب، الجوهري مع ذلك، في أنّ الطالبان انسحبت من المدن إلى الجبال وقاتلت من هناك وأوجعت جيوش القوّة العظمى والحلف الأطلسي، ولم تكن في حاجة حتى إلى كرّ وفرّ أمام الجيش الحكومي حين هبطت مؤخراً إلى السهول والصحارى والبلدات والمدن. وهو، أساساً، السبب في أنّ جميع حكّام أفغانستان عجزوا عن إخضاع قبائل الجبال، أو تفادوا ذلك عملياً، وأنّ مختلف الإمبراطوريات الأفغانية التي عرفها تاريخ البلد نشأت في سهول الجنوب والغرب، وأرخت العنان لأبناء القبائل حيثما تواجدوا، فترسخت الاستقطابات القَبَلية والعشائرية سواء في نطاق المجموعات المحلية أو المجتمع الأفغاني على نطاق أوسع.

وأبعد من أي استقطابات مقبلة حول الشريعة، أو حول الانقسامات المذهبية بين سنّة وشيعة، سوف يضطرّ طالبان 2021 إلى مجابهة السيرورة الشائكة ذاتها التي جابهها طالبان 1995، ولكن بوتيرة أشدّ وعورة ومشقة هده المرّة: سيرورة اتحاد القبائل ضدّ الغازي الخارجي، ثمّ انحلالها من جديد إلى مجموعات محلية ذات مصالح متضاربة على خطوط شاقولية تبدأ من الأسرة، فالعشيرة، فالقبيلة؛ حيث تتقاطع في هذه المستويات الثلاثة حقوق وواجبات شتى، اجتماعية وسياسية ومذهبية. ولا تتضح تعقيدات هذه السيرورة، من الاتحاد فالانقسام فالاتحاد النسبي، إلا إذا استعاد المرء حقيقة انتماء 55 في المئة من السكان إلى الباشتون، مقابل 30 في المئة إلى الطاجيك؛ وصولاً إلى فسيفساء أفغانية مؤلفة من الأوزبيك والبلوش والهزاري والإيمق والتهكان والنورستان والقرغيز والكازاخ والعرب. هذا التفتّت الإثني يعمّقه تنوّع لغوي زاخر: معظم الباشتون يتكلمون الـ»باشتو» ومعظم القبائل الأخرى تعتمد لغة الـ»داري» الأقرب إلى تنويع أفغاني للفارسية وبضع لهجات تركية. وبينما تضرب التمايزات القلبية بجذورها في عمق الاستقطابات الإثنية، يظلّ الدين عامل توحيد عامّ: 90 في المئة من السكان يعتنقون الإسلام، ويتوزعون بنسبة 80 في المئة للسنّة، والباقي للشيعة المتركزين في قبائل الهزاري.

السياسة، في مستوى الأحزاب الأفغانية، اقتصرت تقليدياً على الطبقة الوسطى المدينية بصفة عامة، ولم تحظَ إلا باهتمام محدود من فئات الأغلبية الريفية وسكان الجبال. العام 1978 شهد نقلة نوعية مع تحوّل بعض هذه الأحزاب إلى حواضن لأنساق التدخل الخارجي العسكري والاستخباراتي والمالي، فصارت بمثابة أقنية لإنعاش «الصناعة الجهادية» التي تولت المخابرات المركزية تأسيسها برعاية مباشرة من مستشار الأمن القومي الأمريكي زبغنيو برجنسكي. ومع ذاك فقد عجزت هذه الأحزاب، على شاكلة فصائل «المجاهدين» في واقع الأمر، عن قطف ثمار التنظيم العسكري والمعونات المالية والتسليحية التي انهالت عليها؛ فظلت، استطراداً، أسيرة الانتماءات القبلية والتصارعات المحلية والتمسك بالهويات الإثنية. وهذه خلاصة سوف تستعيد القسط الأعظم من زخمها مع انتصار الطالبان، وثمة الكثير الذي سوف يتكفل باستيلاد تناقضاتها مع الحركة، أو بين بعضها.

ما هو جدير أيضاً بالتدقيق، بغية التصويب أساساً، هو التنميطات المسبقة الشائعة حول الهويات الإيديولوجية لتلك الأحزاب، وما تردد مراراً في دراسات غربية وأمريكية حول التيارات الإسلامية تحديداً؛ لجهة انقسامها إلى «أصولية» أو «راديكالية» أو «تقليدية» أو «معتدلة». وكان الباحث الأفغاني المتميز شاه محمد طرزي قد أثبت أنّ هذه التقسيمات تبسيطية وخاطئة ومضللة، إذْ لا توجد خلافات عقائدية كبرى بين تلك المجموعات، فالإسلام عندهم شرعة حياة لا تسري على العلاقات الروحية والاجتماعية فحسب، بل هي دليل شرعي لسياسة الدولة حتى في المسائل المتصلة بالتخطيط والإنماء الاقتصادي وتطوير نظام اجتماعي وتربوي وثقافي… وهذه، يصحّ التذكير، ليست ميادين اتفاق واتحاد وائتلاف فقط، بل هي كذلك حقول اختلاف وتنازع وتضاد، وليس للاعتبارات الفقهية التأويلية وحدها، بل على وجه التحديد لأنّ «شرعة الحياة» هذه يصعب أن تتخذ صفة المنظومة المتسقة الآمنة الثابتة؛ وما سيدفع التيارات الإسلامية إلى احتمال الالتفاف حول الطالبان، ينطوي في الآن ذاته على عناصر أخرى سوف تدفعهم إلى انشقاق عنهم ونزاع وصراع.

أفغانستان الأخرى هي هذه الشبكات التاريخية والجغرافية التي إنْ كانت تستمدّ بعض دروسها من الماضي فإنها ليست منفصلة عن، أو هي خارج، ديناميات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وقبائلية وإثنية ولغوية معقدة ومتشابكة. ومن التسرّع، فضلاً عن الخطأ المنهجي الفادح والخمول التحليلي، أخذ البلد على محمل واحد وأحادي هو كابوس الطالبان في تنميطاته المستعادة ماضوياً فقط، وكأنّ التاريخ في هذا البلد لم يتحرّك قيد أنملة؛ أو كأنّ جدل البلد الوحيد هو مقولات مثل استسلام الجيش الحكومي أمام زحف الطالبان، أو ذاك الذي اختزلته دراما «التعربش» بالطائرات المغادرة من مطار كابل، أو حتى نبش شخصية مثل حامد كرزاي لاح إلى حين أنه أقرب إلى عظام رميم…

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

——————————-

موت البرامج السياسية/ راتب شعبو

هناك ملمح عالمي يجمع بين الاندياح الطالباني في أفغانستان عقب الانسحاب الأميركي، وبين هجوم النظام السوري على درعا البلد ومحاصرتها، هذا الملمح هو تراجع قيمة السياسة والفكر السياسي، لصالح قيمة واحدة هي القوة المجردة، أو هو، بكلام آخر، موت البرامج السياسية في العالم غير الديمقراطي.

تقادَم أو اندثر التصور الذي يربط بين القوة السياسية والفكرة السياسية، بمعنى أنه لم يعد ثمة مكانة أساسية للصواب السياسي أو للبرامج الحزبية، ولا للدعاوة والتحريض وما إلى ذلك، في حيازة القوة السياسية. لم تعد البرامج المناسبة وسيلة الحزب إلى تحصيل القوة الجماهيرية. انتفت اليوم، في العالم غير الديمقراطي، العلاقة بين صواب الطرح السياسي وملاءمته لحاجات المجتمع، وبين القوة الجماهيرية لصاحب الطرح، فلم يعد الصواب السياسي يستجر القوة الجماهيرية، كما ساد الاعتقاد طويلًا. الثقافة أيضًا غير مستثناة من هذا التحوّل. القوة لا تكترث كثيرًا بالتوافق مع الثقافة السائدة في المجتمع المستهدف. ليست الثقافة الإسلامية -مثلًا- هي التفسير الكافي لقوة الجماعات الإسلامية التي تسيطر على المشهد السياسي.

في السنوات التي سيطرت فيها طالبان على أفغانستان (1996 – 2001)، عرضت نموذجًا كارثيًا من الحكم، ارتكبت مجازر بحق مدنيين، منعت فنون الرسم والتصوير والموسيقى والسينما، حرمت النساء من الدراسة، ومن العمل، وصار على المرأة، كي تخرج إلى مكان عام، أن تلبس البرقع، وأن يرافقها ذكر قريب، تحت طائلة الجَلد أو الإعدام، وقامت طالبان بإبادة ثقافية شملت تماثيل يعود تاريخها إلى أكثر من 1500 سنة، ومارست تمييزًا سلبيًا ضدّ الأقليات العرقية والدينية.. إلخ، وها هي اليوم، مع ذلك، تتقدم كالنار في الهشيم، في مقابل قوات الحكومة المنتخبة التي تمثل، على فسادها، صلة أفضل بالعصر. على الأقل هناك نساء أفغانيات، في ظل الحكومة غير الطالبانية، وصلن إلى البرلمان، وتمكنّ، مثلًا، من الظفر بتسجيل اسم الأم على بطاقة الهوية، الأمر الذي ترفضه طالبان على أنه “مشروع غربي”.

الذي يفسّر هذا التقدم العاصف لحركة طالبان هو قوتها القتالية. السؤال إذن: من أين تنبع القوة القتالية؟ ولماذا ينهار الجيش الأفغاني بمعداته الحديثة وتنظيمه الحديث، والذي يقال إن أميركا أنفقت على إنشائه وتدريبه أكثر من 83 مليار دولار؟ (ربما لو أن أميركا أنفقت هذا المبلغ الهائل على البنية التحتية في أفغانستان وعلى التنمية الاقتصادية فيها، لكان ذلك أنفع في صدّ طالبان، بحسب أحد التعليقات الذكية على هذا الخبر).

قوة طالبان ليست مستمدة فقط من بنيتها التنظيمية، ومن توفرها على موارد وعلى علاقات دعم خارجية.. إلخ، بل مستمدة أساسًا من العصبية الدينية والقومية التي تشد أفراد التنظيم، أي إنها قوة مستمدة من كل شيء سوى الأفكار السياسية وملاءمتها للمجتمع الأفغاني. العصبية في عالم اليوم تحيل الأفكار إلى الهامش، لأن الأفكار لا تولد العصبيات التي تولدها الهويات الانتمائية، ولا سيما الدين والقومية. لذلك تموت الأفكار السياسية حين تحيا العصبيات.

الشيء الوحيد الذي كان يقف في وجه طالبان هو “القوة” الأميركية. أمام كلتا القوتين، لا تشغل قناعات الناس ووعيهم دورًا مؤثرًا. حين تخرج هذه القوة، تتقدم القوة الأخرى، وكأن موضوع القوتين (الشعب الأفغاني) بلا أي حضور أو وزن. لا نشر الوعي “الطالباني” الإسلامي وقف في وجه القوة الأميركية، ولا نشر الوعي الأميركي العلماني يقف في وجه تقدم طالبان.

وجدنا الحال نفسه في سورية. لم تتقدم أي جهة في الصراع بسبب أفكارها السياسية، على العكس من ذلك، القوى التي تقدّمت هي القوى التي تعبد القوة ولا تقيم وزنًا للفكر السياسي. لم يثبت نظام عائلة الأسد، لأنه يمثل قيمة سياسية ما، أو لأنه يلبّي تطلعات معينة للشعب السوري، بل لأنه قادر على البقاء بالقوة المستمدة، على الطريقة الطالبانية، من الاستثمار في العصبية، وتقاطع هذا الاستثمار مع مصالح حلفاء داعمين وقادرين على الدعم. كلام الكثيرين من مسايري النظام عن الحفاظ على الدولة مثلًا، هو مجرد غلاف لا يكاد يستر التبعية للقوة والالتحاق بالقوي، تمامًا كالحديث عن الحرية في جهة مسايري الإسلاميين الذين يواجهون قوات “الدولة”. لبّ الموضوع بعيد بالكامل عن الفكرة السياسية، وكامن في العصبية التي هي بالتعريف مضادة للفكر.

لن يقودك الفكر السياسي، مهما كان متقدمًا أو ملائمًا، إلى أن تحوز قوةً متماسكةً، فلحيازة مثل هذه القوة، تحتاج إلى أن تحرّض عصبية ما وتستثمر فيها. ومعلوم، في هذا الزمن، أن من ينفق قوة ناجمة عن عصبية انتمائية، مهما تكن، فإنه لا يشتري فكرًا ولا حرية ولا خيرًا للناس، بل يشتري سلطة تقمع الفكر وتصادر الحرية وتنكب حياة الناس.

النتيجة التي تتجلى دائمًا، لمن يتأمل في العالم غير الديمقراطي، هي أنه ليس الفكر السياسي المناسب هو ما يستجر القوة الجماهيرية، بل القوة القتالية، بالأحرى، هي ما تستجرّ فكرًا سياسيًا تلفيقيًا يناسبها.

على سبيل المثال، في ما يخص الوضع الحالي في درعا التي لا يستطيع نظام الأسد أن يرميها بتهمة انفصالية أو تهمة تطرف ديني، ويحاصرها ويحشد لاقتحامها من دون أن يكون في جعبته السياسية سوى القمع والتجويع والانتقامات، يمكن لأحد أن يقول إن من الطبيعي لقوات هذا النظام أن تهاجم درعا البلد، لأنه من غير الطبيعي أن تبقى مناطق من سورية خارجة عن سيطرة الدولة. صاحب هذا القول يمرر تبعيته “الفكرية” للقوة، تحت ستار كثيف توفره مفردة “الدولة”. لا يجد صاحب هذا القول ما يدعو إلى التأمل في ما أصبحت عليه هذه الدولة في علاقتها مع “الشعب”، أو ما يدفع إلى التفكير في أنّ الناس المحاصرين والمعرضين للهجوم لا يطالبون، في الواقع، إلا بدولة، على أن تحمل حدودًا ولو دُنيا من مفهوم الدولة، وليس دولة يقتصر مفهومها على القسر، وتنحط علاقتها بالمحكومين إلى حدود الاستعباد والانتقام.

في غياب العلاقات الديمقراطية؛ تصبح الكلمة العليا للقوّة، ولا تتوفر القوة سوى عند من يستثمر في عصبيات هي بطبيعتها غير سياسية ومنافية للديمقراطية. هكذا تدخل أطراف قوية “عصبياتية” إلى ميدان الصراع السياسي، وتسيطر عليه وتفسده، فتجعله صراعًا سياسيًا (صراع على السلطة) ولا سياسيًا (يتغذى من عصبيات أكثر مما يتغذى من تفضيلات سياسية للشرائح الاجتماعية)، في الوقت نفسه.

مركز حرمون

—————————-

لماذا تتقدّم الجماعات وتتقهقر الجيوش؟/ حازم صاغية

جيش الجماعات، من طوائف وعشائر وإثنيّات، يغلب دائماً جيش الدولة. هذه الحقيقة نعثر اليوم على آخر تعابيرها وأجلاها في أفغانستان التي سبقت أن قدّمت مشهدين مماثلين عامي 1992 و1996. فبرغم التدريب الأميركيّ ومعه التسليح والتمويل، وهو ما لم يتوقّف منذ عشرين سنة متواصلة، باشرت «طالبان» تقدّمها العسكريّ وقضمها الأراضي بمجرّد الإعلان عن انسحاب الأميركيّين والناتو: اليوم تحتلّ «طالبان» هذه الولاية. غداً تحتلّ تلك. العاصمة كابُل تنتظر دورها.

تقدّم «طالبان» لا يوقفه شيء. لا توقفه آلام السكّان المتزايدة، لا سيّما النساء والأطفال، ممّا يلازم ذاك التقدّم. لا يوقفه خوف السكّان ونزوح عشرات آلافهم إلاّ بقدر ما يوقفه خوف العالم من ذاك التنظيم الكهفيّ وتنديده به.

السبب الكبير أنّ جيش الجماعة هو جيش جماعة، لكنّ جيش الدولة ليس جيش دولة. الشيء الوحيد الذي يبقى من هذا الأخير هو الفولكلور الذي يحاط به: الرموز والإشارات والتمجيد وإبداء التعلّق به وغناء الأغاني له. هذا كلّه لا يقدّم ولا يؤخّر في ساحات المعارك. اللبنانيّون، مثلاً لا حصراً، يعرفون كثيراً هذه الحقيقة، حتّى أنّهم يعلنون ضرورة «حماية جيشنا» الذي يُفترض به أن يكون هو حاميهم.

بيد أنّ مشكلة الجيش الوطنيّ الذي لا يصير جيش دولة، هي من مشكلة الدولة نفسها بوصفها لا تصير دولة، ولهذا السبب فإنّها لا تنجح في إغراء مواطنيها بولاء لها يتعدّى الولاء للجماعة. ففضلاً عن الفساد، والضعف الاقتصاديّ الذي يحدّ من القدرة على تقديم الخدمات للسكّان، تُبنى الدولة على الأسس الزبائنيّة التي تستلهم علاقات الجماعة وتقلّدها. إذاً: فلنذهب إلى الأصيل والحميم الذي هو «أهلنا»، بدل الوكيل غير الموثوق، الذي هو، فوق ذلك، غامض ومجهول يقيم بعيداً في العاصمة. إنّ الولاء للدولة والوطن، والحال هذه، يغدو مجرّد ولاء لغريب كثيراً ما يكون عاجزاً ومتعجرفاً وأنانيّاً!

لقد سبق أن رأينا شيئاً من هذا في العراق عام 2014، حين استولت «داعش»، بحركة صاعقة، على مدينة الموصل. حينذاك انهار الجيش بسرعة، وتولّت مهمّةَ التصدّي ميليشياتٌ محلّيّة، إمّا طائفيّة كـ «الحشد الشعبيّ» أو إثنيّة كـ «البيشمركة» الكرديّة، ومعها دول أجنبيّة كالولايات المتّحدة وإيران.

في سوريّا، لم يستطع الجيش الوطنيّ أن يدافع عن نظامه. دول كإيران وروسيا، وميليشيات سوريّة ولبنانيّة وعراقيّة وأفغانيّة تولّت المهمّة. الجيش نفسه استولت عليه النزعة الميليشيويّة وتحكّمت بطرق اشتغاله في قتل شعبه.

أمّا لبنان فعريق في انقسام الجيش الوطنيّ كلّما انقسمت الطوائف واحتربت. الجنود، في هذه الحال، يستحوذون على أسلحتهم ويحملونها معهم إلى طوائفهم. بعد اجتياح 1982، وفيما جيش الدولة عاجز ومنقسم، استعان لبنان الرسميّ بالقوّات المتعدّدة الجنسيّة، الأميركيّة والفرنسيّة والبريطانيّة والإيطاليّة، كي تُخرجه من فوضاه الأهليّة. تلك القوّات عجزت وخرجت، هي نفسها، من لبنان.

ضبّاط الجيش اللبنانيّ المتقاعدون، الذين تستضيفهم محطّات التلفزيون، يوصلون المفاجأة إلى ذروتها: ذاك أنّ عشرات السنين التي قضوها في المؤّسّسة العسكريّة، وسمعوا خلالها خطبة بعد أخرى عن الوحدة الوطنيّة، وربّما حاضروا هم أنفسهم في الولاء للجيش والوطن، لم تردعهم عن الالتحاق بميليشيا طائفتهم وعن ترداد محفوظاتها السقيمة.

وعجز الجيش الوطنيّ قياساً بالجماعة أقوى ما يكون حيث الجماعة قويّة كجماعة، والدولة وجيشها ضعيفان كدولة وجيش. أزمنة الحروب الأهليّة أو الاستعداد لحرب أهليّة هي الأزمنة النموذجيّة لتظهير تلك المعادلة. في الحرب اليوغوسلافيّة، أوائل التسعينيّات، كان من أوّل الأحداث التي جدّتْ تمرّد القوّات الكرواتيّة على «جمهوريّة يوغوسلافيا الاتّحاديّة الاشتراكيّة» وجيشها المسمّى «الجيش الشعبيّ اليوغوسلافيّ» ذي القيادة الصربيّة. وحتّى الأمس القريب، وفيما كانت أديس أبابا تتحدّث عن سيطرتها على مدينة ميكلي، عاصمة إقليم تيغراي، كانت أنباء التيغريّين تتحدّث عن احتمال انقسام الجيش الإثيوبيّ على أسس عرقيّة، وعن انشقاق أبناء تيغراي وانضمامهم إلى قوّات إقليمهم. أبعد من هذا، أنّه من أصل 140 حرباً أهليّة شهدها العالم بين 1945 و1999، فإنّ 18 في المائة منها فحسب انتهت إلى تسوية سلميّة. لكنْ رغم التسويات تلك، فإنّ بعض النزاعات لم تنجُ كلّيّاً من احتمال تجدّد العنف، إمّا لأنّ الجماعة الأكبر والأشدّ إمساكاً بجهاز الدولة تتراجع عمّا وعدت به عند توقيع التسوية، أو لأنّ الجماعة الأضعف والأصغر فكّرت في نقض التسوية آملةً بالحصول، عبر العنف، على شروط أفضل.

لقد ظهر، قبل عقود، من يتحدّث عن أمم «في طور النشوء». وبعد عقود، بتنا في حاجة إلى أصوات شجاعة تقول إنّ تلك الأمم لم تنشأ، وإنّ أوضاع جيوشها المنهارة أوضح مرايا ذاك العجز. لكنّ هذا آخر ما نحبّ أن نعترف به، ليس فقط لأنّ وحدة الأوطان وقوّة الجيوش مُعزّزان بكثير من القصائد والأغاني، بل أيضاً لأنّ الإقرار بتلك الحقيقة يضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال وجوديّ، أمام غابة لا نملك حيالها سوى العراء. وشعوبٌ كثيرة، نحن منها، لا تعتصم اليوم، وهي في قلب الغابة، إلاّ بعراء ينتظره فم التنّين.

الشرق الأوسط

——————————–

بشار الأسد في أفغانستان!/ عمر قدور

لنتخيّلْ وفق السيناريو الأفغاني بشار الأسد مكان أشرف غني الذي قيل أنه استقل طائرة إلى طاجيكستان قبل ساعات من دخول مقاتلي طالبان إليها. ليكون بشار الأسد في موقع أشرف غني ينبغي أن تعلن موسكو سحب قواتها وإغلاق قواعدها في سوريا، بالتنسيق مع طهران التي تعلن أيضاً سحب قواتها وميليشياتها. وربما، ضمن التنسيق الروسي-الإسرائيلي، يُترك لوزير إسرائيلي إعلان النهاية، كأن يصرح للإذاعة بأنه يرى حكم الأسد منتهياً خلال ثلاثة شهور.

إثر تصريح الوزير الإسرائيلي ستتسارع الأحداث على نحو لم يكن متوقعاً من قبل، فتشهد أجهزة المخابرات وقطعات الجيش عمليات فرار لعناصرها وضباطها، وضمن حالة من الفوضى تُفتح أبواب الزنازين أمام المعتقلين وتُحرق سجلات شديدة الأهمية. من كل أماكن سيطرة الأسد ستشهد الطرق الذاهبة إلى الساحل ازدحاماً غير مسبوق، فأنصاره والذين عملوا معه سيسعون إلى البحر على أمل العثور على قارب نجاة لهم. لا مطارات في بلد محطم أصلاً، كي تقلّ الطائرات أولئك الهاربين من ماضيهم، وليس ضمن اهتمامات موسكو أو طهران إنقاذ عشرات الألوف من المتعاملين معهم، وحتى طائرة بشار قد يُعثر لها على وجهة خارج هاتين العاصمتين.

ليس هناك طالبان في سوريا، فلا النصرة ولا شقيقاتها في موضع المقارنة، لذا من المرجح أن تشهد البلاد حالة من الفوضى. لكن سيناريو الفوضى لن يثير رعب “المجتمع الدولي” كما كان يحدث من قبل، بل يمكن الاستدلال مثلاً بالصومال التي تُركت سابقاً في حال من الفوضى والاقتتال، ولم تتسبب فوضاها بأي أذى للسلم الدولي. بل يمكن إعادة الاستدلال بالفوضى التي أعقبت سقوط صدام حسين والتي طالما جرى التخويف من حدوثها في سوريا، للقول أن التدخل الأمريكي فيها كان خاطئاً وكان من الأفضل تركها للعراقيين أنفسهم، لأن خسائرها لن تفوق خسائر التدخل.  

قبل أن يواجهنا واحد من شديدي النباهة بأن هذه أوهام يستحيل تحققها؛ بالطبع لن يحدث ذلك لأن موسكو وطهران لن تنسحبا طوعاً من أي مكان. بل أتتهما الفرصة الذهبية مع الانسحاب الأمريكي لتقول كل منهما أنها لا تتخلى عن حلفائها على نحو ما تفعل واشنطن. وإذا كانت واشنطن، عبر ثلاث إدارات متعاقبة من الديموقراطيين والجمهوريين، قد أعلنت سياسة واضحة في ما يخص الانسحاب العسكري، والإقلاع تالياً عن فكرة التدخل العسكري، فإن موسكو وطهران في طليعة القوى التي تؤمن بالتدخل العسكري لمدّ نفوذهما، وتريان فرصة سانحة في الانسحاب الأمريكي، حتى لو أودت تدخلاتهما باقتصاديهما المنهكين أصلاً.

نظرياً، يقدّم الأفغاني أشرف غني “الذي أصبح رئيساً سابقاً” درساً عن السقوط لكل القيادات التي تحكم بلدانها بإرادة خارجية لا بإرادة السكان، إذا تجنبنا استخدام كلمة شعوب لما قد تحمله من شبهة التماسك الاجتماعي. لكن، وعلى نفس درجة عدم تحقق السيناريو الأفغاني في سوريا، لن يكون هناك درس مستفاد من سقوط أشرف غني، بل على العكس سيلتجئ حكام مثل بشار وغيره أكثر من قبل إلى الحماة الخارجيين تجنباً لسقوط محتوم فيما لو تُرك بلا دعم منهم. الأمر لا يتعلق فقط ببشار الذي ارتكب من الجرائم ما يحرق كل مراكبه خلفه، بل هكذا هو الحال بالنسبة لطغاة على شاكلته، ومثله هو الذي كان يرى نفسه استثناء مع بدء ثورات الربيع العربي.

ولا نخطئ إذا رأينا بشار الأسد في أفغانستان، إنما واضعاً نفسه في الجانب الآخر، جانب طالبان، بمعنى أنه ينتصر بانتصارها. أيضاً، نظرياً يقوّض قبول “المجتمع الدولي” بطالبان مفاضلة الأسد الأثيرة بينه وبين التطرف الإسلامي، فها هو التطرف الإسلامي السني يحظى بالاعتراف، كما حظي به قبل أربعة عقود نظيره الشيعي. إلا أن فسحة من الأمل تنكشف أمامه، بما أن العالم الذي شيطنَ طالباً تراجع عن شيطنته لها، لذا قد تكون عملية إعادة تدويره أسهل من قبله. هو، في المدى المنظور، احتمال أرجح من تصور حكم الإسلاميين في الشرق الأوسط الكبير.

في معرض تبرير الانسحاب، قالها أكثر من مسؤول أمريكي مواربة أو مباشرة أن بلاده لن تضحي من أجل حقوق الإنسان في مكان آخر، مع الإيحاء بأن تلك الأمكنة ميؤوس منها والعلة فيها، لا في السياسات الأمريكية القادرة على الانتصار عسكرياً ثم تبديد النصر بإدارة مدنية فاشلة. صدور هذه التصريحات عن إدارة ديموقراطية يكسبها صدقية واستدامة، لأن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان عالمياً كانت دائماً تحضر إلى الواجهة مع حكم الديموقراطيين، لذا يبدو كأن هناك استراتيجية أمريكية لن تتغير مع تبدل الحزب الحاكم، مفادها التخلي علناً عن أي ملمح “أخلاقي” في السياسة ولو كان استخدامه براغماتياً، وترك المناطق المتصحرة استراتيجياً لبؤس أحوالها أو للطامعين في التورط فيها.

في واحد من معاني الانسحاب، تصوّر الإدارة الأمريكية انسحاب مقاتليها من أفغانستان والعراق كأنه مغادرة لكوكب الأرض كما كان منذ خروج المارد الأمريكي إلى العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وهدف المغادرة التفرغ لتقوية أمريكا ومواجهة الصعود الصيني، وهي مواجهة لا تنتمي إلى ماضي الحروب الباردة والساخنة. هذا من شأنه أن يقطع الطريق على مطالبات معهودة، يناشد أصحابها واشنطن التدخل هنا أو هناك، بما تملكه من قدرات هي الأقوى وأحياناً بما تتكفل به هيبتها فحسب.

إن مجرد التأكد من أن أمريكا لن تصل إلى التدخل العسكري، ما لم يُمس أمنها القومي مباشرة، سيكون مصدر ابتهاج لأولئك الذين يحكمون بالقوة، وللذين يسعون إلى مد نفوذهم بالقوة. البعض منهم سارع إلى إعلان هزيمة أمريكا ونهاية عصرها، ومصادر موجات الابتهاج “من الصين إلى روسيا إلى إيران.. ووكلائها المحليين” تشي بنوايا أصحابها الذين سيثبتون سريعاً أن غياب أمريكا ليس أرحم من حضورها. في المقدمة من الشماتة يُشبّه الانسحاب الأمريكي بالانسحاب المذل من فيتنام، ولعل الأقرب إلى الواقع تشبيهه بهروب شاه إيران واحتجاز الرهائن الأمريكيين أنذاك، وما ألمّ بعموم المنطقة بعد انتصار الملالي. المقاربة الأخيرة تتوقف عند وجه الشبه بين بايدن وجيمي كارتر، فلا تضمر توقعاً بعودة أمريكية قريبة مع ريغان جديد.   

المدن

————————————

أعراض الشيخوخة الأميركية/ أسامة أبو ارشيد

كتب الكثير، وقيل أكثر، عن الخروج المذل للولايات المتحدة من أفغانستان بعد احتلال عسكري دام عشرين عاماً. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، كان أصرّ، غير مرّة، أن انسحاب قوات بلاده من العاصمة الأفغانية، كابول، لن يكون فوضوياً ومخزياً كالذي جرى في عاصمة فيتنام الجنوبية، سايغون، أمام زحف قوات فيتنام الشمالية عام 1975، إلا أن مشاهد يوم الأحد الماضي، وحركة طالبان تُحكم سيطرتها على العاصمة، أعادت إنتاج مسلسل الخزي ذاك. وستبقى صور الطائرات المروحية التي كانت تجلي موظفي السفارة الأميركية إلى مطار كابول، والفوضى في المطار الذي تؤمنه القوات الأميركية، شاخصةً إلى عقود طويلة مقبلة، مذكّرة بأن الولايات المتحدة، وإنْ كانت تملك كثيراً من أسباب القوة والعظمة، إلا أنها في المحصلة ليست إلهاً، وهي تخضع للقوانين والنواميس الكونية ذاتها، ومن ذلك أن غرور القوة قد يُعمي البصر والبصيرة، ويبطل أي تخطيطٍ محكم، ويسقط الاستراتيجيات المدروسة والموضوعة.

تعلم واشنطن، منذ عام 2005، أنها كانت تخسر الحرب في أفغانستان، أي منذ أيام إدارة جورج بوش الابن التي غزت ذلك البلد عام 2001. وبقيت هذه القناعة توثّق في التقارير الأميركية السرّية منذ ذلك الحين، وحتى تمَّ الكشف عنها في صحيفة واشنطن بوست أواخر عام 2019، تحت عنوان “الأوراق الأفغانية”. لكن أياً من الإدارات المتعاقبة منذ بوش، مروراً بإدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، امتلكت الجرأة على الاعتراف بالهزيمة. بايدن امتلك جرأة تحدّي المؤسسة العسكرية، وأصرّ على إنفاذ قراره بالانسحاب من أفغانستان.

من الناحية الإطارية البحتة، كان منطق بايدن سليماً. لا يوجد شيءٌ يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لتغيير المعطيات على الأرض. وضعت واشنطن وحلفاؤها عشرات الآلاف من الجنود على الأرض في أفغانستان، واستخدموا أعتى أنواع الأسلحة، ومع ذلك لم يتمكّنوا من سحق “طالبان” وكسر شوكتها. كانت تلك القوات تحتل المدن والولايات الأفغانية في النهار، وتسترجعها “طالبان” في الليل. ذلك أمر طبيعي، فـ”طالبان”، اختلفت مع فكرها ونهجها السياسي أم اتفقت معهما، نتاج أفغاني طبيعي، وليس مستجلباً، كالقوات الأجنبية. درّبت واشنطن، وحلف شمال الأطلسي، مئات الآلاف من الجنود ورجال الأمن الأفغانيين وسلّحاهم، ومع ذلك لم يكونوا قادرين على التصدّي لمقاتلي “طالبان” بأسلحتهم البدائية.

فارق بين قوة تؤمن بانتمائها لأرض وقضية، حتى وإن قاربها كثيرون على أنها “رجعية”، وقوة استنبتها محتل أجنبي، وتشرف عليها حكومةٌ يستشري فيها الفساد. من كان لديه شك في ذلك فلينظر كيف انهار الجيش الأفغاني أمام زحف “طالبان”، من دون قتال في أغلب الأحيان، وكيف كان جنوده يلقون أسلحتهم ويفرّون من أرض المعارك. هؤلاء لا يشعرون بالانتماء لهَمٍّ وطني يكون لديهم الاستعداد للتضحيةٍ في سبيله، فهم قد تمَ إعدادهم لكي يكونوا قوة “وكيلة”. وعندما أعلن “السيد” قراره بالانسحاب وتركهم لمصيرهم المحتوم، سارعوا إلى شراء حياتهم وأمنهم وسلامتهم. لماذا يتوقع أحد من الجنود الأفغان أن يكونوا أكثر ملكيةً من قادتهم وزعمائهم الذين أطلقوا لأرجلهم الريح وولّوا هاربين خارج الحدود؟

كان بايدن يقول “إننا قادرون على تأخير الانهيار ولكننا غير قادرين على منعه إذا لم يكن لدى الأفغان الذين تدعمهم واشنطن العزيمة للقتال”. وهو كان واضحاً أنه لا يمكن لأميركا أن تبقى تستنزف قوتها وإمكاناتها في حروبٍ هامشيةٍ لا متناهية، في حين تتابع الصين وروسيا ذلك بغبطة وسرور. لكن بايدن وعد أيضاً بأن يكون الانسحاب “منظّماً وآمناً” وهو ما لم يحدث. صحيحٌ أن التقارير الاستخباراتية كانت تتوقع معركة كابول في فترة ما بين شهر وثلاثة أشهر بعد الانسحاب الأميركي، إلا أن هذا لا يعفي إدارة بايدن من تحمّل مسؤولية مشاهد الانسحاب المخزية، وضعف التخطيط له وسوء هذا التخطيط.

الأهم من كل ما سبق أن ما جرى في أفغانستان أعاد إطلاق ذلك النقاش الذي تتردّد أصداؤه، لا في أميركا فحسب، بل في أرجاء العالم: هل تعيش الولايات المتحدة في طور التراجع والانحدار؟ كان لافتاً احتفاء وسائل إعلام صينية رسمية بمشاهد الفوضى الأميركية في كابول، إلى حد أن تعلق إحداها، مستهزئة، إن انتقال السلطة في العاصمة الأفغانية إلى أيدي “طالبان” كان أكثر سلاسة وهدوءاً من انتقال السلطة من ترامب إلى بايدن، في إشارة إلى فوضى وعنف اقتحام الكونغرس من أنصار ترامب مطلع العام الجاري. ليس هذا فحسب، إذ دعت وسائل الإعلام هذه، والتي لا تنطق إلا بما تريده السلطة، تايوان إلى أخذ العبرة من تخلّي واشنطن عن وكلائها في أفغانستان. يحدث هذا في الوقت الذي بدأت فيه أصوات الأوروبيين تتعالى لتطوير خططهم وقدراتهم الذاتية لضمان أمنهم القومي، خصوصاً أمام روسيا، سواء في حالة وجود الولايات المتحدة أم غيابها. حتى إسرائيل تشهد النقاش نفسه اليوم، وما إذا كان يمكن الركون إلى الوعود والالتزام الأميركي بأمنها.

لا ينبغي أن نتوهم هنا أن الولايات المتحدة فقدت قوتها وقدراتها. على العكس، ما زالت هي القوة العالمية الأولى، اقتصادياً وعسكرياً، وإنْ كانت دول، مثل الصين، تقلص الفارق بشكل متسارع. إذن، المشكلة ليست في الإمكانات، بقدر ما أنها ترجع، إلى حد كبير، إلى حالة التخبّط السياسي والانقسام المجتمعي الأميركي المتزايد. في العقدين الأخيرين، كل شيء في أميركا مسيّس بطريقة فظّة لا تراعي، في أحيانٍ كثيرة، مصالح البلاد. يكفي أن ندلل هنا كيف خرج ترامب داعياً إلى استقالة بايدن مجللاً بـ”العار”، بسبب ما جرى في كابول. المفارقة، إدارة ترامب هي من فاوضت حركة طالبان على الانسحاب ووقعت معها الاتفاق عام 2020. يَتَبِعُ أغلب الجمهوريون خطى ترامب، ويضغطون لتسجيل نقاط ضد بايدن والديمقراطيين تمهيداً لمعركة الانتخابات النصفية العام المقبل. هكذا، تتحوّل مسألة متعلقة بالكرامة الوطنية والعظمة الأميركية خنجراً لتمزيق المصالح الاستراتيجية العليا. ليس ذلك فحسب. مثلاً، منذ شهر يوليو/ تموز الماضي، انتكس الوضع الوبائي في الولايات المتحدة من جديد بعد أشهر من التحسّن الملحوظ جرّاء لقاحات كورونا. عناد ولايات جمهورية، كتكساس وفلوريدا، وتسيس اللقاحات وكمامات الوجه وأدلجتهما، من أجل مصالح حزبية وانتخابية ضيقة، ينذر بانهيار اقتصادي أميركي من جديد. يحدُث هذا، في حين تمضي الصين في تعافيها الاقتصادي، بعد ضبطها الوضع الوبائي داخل حدودها، ومن ثمَّ لا عجب أن عير مسؤولون صينيون الأميركيين بالعطب الذي تعاني منه ديمقراطيتهم.

باختصار، ما جرى في أفغانستان ما هو إلا تعبير آخر عن تآكل العزيمة الأميركية. يعود ذلك جزئياً إلى تسييس المصالح الكبرى للدولة، وإخضاعها لمنطق المناكفات الحزبية والحسابات الانتخابية، وما يضيفه ذلك إلى الانقسام المجتمعي. تعاني الولايات المتحدة اليوم من عجز في القدرة على تطوير رؤية ومشروع طموحين لمكانتها العالمية، وكذلك من غياب طراز من القيادات التاريخية في الحزبين الحاكمين. إنها دورة الزمان التي خضعت لها إمبراطوريات سابقة، وتسبّبت في شيخوختها ثمَّ انهيارها. وإذا لم تتمكّن واشنطن من تدارك أخطائها وإصلاحها، ومن ذلك لجم مغامراتها العسكرية الاختيارية، فإنها قطعاً لن تكون استثناءً في سياق السنن الكونية ونواميسها.

العربي الجديد

———————————-

من سايغون الى كابول..لا ثقة بواشنطن/ لوري كينغ

لم تكن هناك من طريقة مُرضية لمغادرة الولايات المتحدة أفغانستان. فبعد قصف “تورا بورا”، وتآكل تنظيم القاعدة في عام 2002، لم يعد هناك من سبب لوجود القوات الأميركية في البلاد.

قبل عقدين من الزمن، لم نشهد على سفر الأفغان إلى مركز التجارة العالمي، أو مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ولم يحدث أن تواجد مقاتلو طالبان أبداً في الولايات المتحدة للتدرّب على كيفية التحليق بالطائرات التجارية.. باستثناء إسقاطها. الأفغان لم يكونوا متورطين بأحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001. وكما نعلم الآن، أمضى أسامة بن لادن سنواته خارج أفغانستان، أي في باكستان، الحليفة المفترضة للولايات المتحدة في “الحرب على الإرهاب” الكارثية التي أودت بحياة مئات الآلاف، وكلّفت تريليونات الدولارات على مدى 20 عاماً.

مع سيطرة طالبان بشكل سريع على المناطق والولايات، وهروب القوات الأميركية، أحكمت الحركة قبضتها على العاصمة الافغانية كابل مرة أخرى في 11 أيلول/سبتمبر 2021، تماماً كما كانت في 11 أيلول/سبتمبر 2001. وبعد السيطرة السريعة للحركة، انتشرت صور ساخرة لمغادرة القوات الأميركية على عجل من مدينة سايغون الفيتنامية قبل خمسين 50 عاماً إلى جانب صور لأفغان يائسين يحاولون الصعود على متن طائرة أميركية تغادر مطار كابل هذا الأسبوع.

“‏ Déjà vu”.. الزمن يعيد نفسه.. خسرت أميركا حرباً أخرى أدت إلى تراجع هيمنتها العالمية، وسط تكرار السؤال التالي: “هل نتعلم دروسنا يوماً ما؟” على ما يبدو، لا.

لا تخاض الحرب في ساحة المعركة فقط، بل عبر كسب الشعبية التي من شأنها أن تكون المفتاح الرئيس لاستكمالها. في عالمنا المشهود له بانتشار الصور والمقاطع المصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إن الدرس الرئيسي الذي يمكن للعالم أن يستخلصه من أحداث هذا الأسبوع هو “لا ثقة أبداً بالولايات المتحدة”. الأمر الأكثر إثارة للقلق بشأن هزيمة القوات العسكرية الأميركية المفاجئة والقوات العسكرية والأمنية المحلية المُدربة من قبل واشنطن، أمام طالبان، هو حقيقة أن الولايات المتحدة ستتخلى على الأرجح عن آلاف الأفغان، ليواجهوا مصيرهم تحت رحمة طالبان.

دافع الرئيس الأميركي جو بايدن الاثنين، عن قرار انسحاب قواته من أفغانستان، وقال: “القرار تأخر جداً”، مضيفاً أن البقاء لمدة أسبوع أو شهر أو عام آخر لن يُحدث فرقاً، مشيراً إلى أن خطة الانسحاب كانت سيئة لوجستياً، وأن “المشروع الأميركي في أفغانستان كان محكوماً بالفشل منذ بدايته في عام 2001”. سيُسجل تورط الولايات المتحدة في تلك البلاد لمدة 20 عاماً في التاريخ تحت عنوان مخاطر “الزحف في المهمات”، فباستثناء توجيه ضربة قاضية لقيادة تنظيم القاعدة في أعقاب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، لم تكن هناك خطة أو رؤية موحدة للقوات الأميركية في أفغانستان، عوضاً عن أن الإدارة الاميركية خفضت من تركيزها هناك بعد عامين فقط، عندما ارتكبت واشنطن في ظل رئاسة جورج بوش الابن ونائبه آنذاك ديك تشيني، الخطأ الأكبر والأكثر فتكاً بغزو العراق لأسباب خادعة.

قُتل جيل كامل من الجنود الأميركيين، فيما فقدَ عدد كبير أطرافهم وآخرون أصيبوا بالجنون، في خوض حرب عقيمة على الإرهاب في ساحتين مختلفتين من المعارك. تناوب عشرات الآلاف من جنود الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي داخل وخارج أفغانستان لمدة عقدين من الزمن، توفي منهم الآلاف ويعاني آلاف آخرون من اضطراب ما بعد الصدمة، والذي تفاقم بعدما إدركوا أنهم حاربوا وعانوا مقابل لا شيء، بينما كان تجار الأسلحة والمتعاقدون العسكريون يجنون مليارات الدولارات، في المقابل، كان القادة الأفغان الفاسدون يتمتعون بالرفاهية والحياة الفاخرة.

لم يتم إنجاز أي شيء على الإطلاق في أفغانستان خلال عشرين عاماً، كما تزعزعت مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى. انتهت حقبة الاتحاد السوفييتي بسبب غزو أفغانستان غير الحكيم في عام 1979. وفيما يعلق المحللون والمعلقون السياسيون فشل واشنطن في أفغانستان على الرئيس جو بايدن، فإنه قد فعل ببساطة ما كان ينبغي أن يفعله أسلافه قبل سنوات. لكن دونالد ترامب حثّ دبلوماسييه على التفاوض مع طالبان في الدوحة على حساب الحكومة الأفغانية التي كانت تتبع تعليمات الولايات المتحدة في كابل، وذلك قبل عام من خروجه من البيت الأبيض. أراد ترامب خروج جميع القوات الأميركية من أفغانستان بتاريخ الأول من أيار/مايو 2021. من المعروف أن خطة ترامب ستعيد طالبان إلى السلطة، وعلى أي شخص يتخيل غير ذلك ألا يتقدم للخدمة في وكالات الاستخبارات الأميركية.

تمديد موعد مغادرة القوات الأميركية من أفغانستان لمدة ثلاثة أشهر كانت فرصة لإدارة بايدن للتخطيط بشكل أفضل لهذا الخروج، كما كان ينبغي مساعدة الأفغان الذين عملوا مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كمترجمين فوريين وخبراء في إزالة الألغام ومعلمين وصحافيين وموظفين في المنظمات غير الحكومية. هذا الفشل يقع فقط على عاتق البيت الأبيض في ظل إدارة بايدن، على الرغم من اعتراضات وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن على ذلك.

هنا في الولايات المتحدة، تتناول التغطيات الإخبارية المعنية بمتابعة مغادرة القوات الأميركية من أفغانستان، حالة الصدمة الشديدة بسبب العودة السريعة لطالبان، والرعب على مصير النساء الأفغانيات، والاشمئزاز من معاملة الأفغان في مطار كابول، حتى أن الصحافيين اليساريين انتقدوا بايدن بسبب رحيله المتسرع والفوضوي وتخليه عن حلفاء الولايات المتحدة من الأفغان. لكن بايدن كانت محقاً عندما قال إنه لم يكن هناك من خيار آخر. كان من الممكن أن يكون هناك خيار آخر إذا اتخذ بوش وتشيني ودونالد رامسفيلد خيارات أخرى قبل عشرين عاماً. لكن للأسف، يمكننا أن نرى أن الماضي يعيد نفسه، فيما لا يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء لإصلاح أخطائنا.

في الوقت الحالي، يجب مراقبة كيف ستتبلور أحداث الأسبوع الماضي في أفغانستان داخل السياسة الداخلية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الأميركية تعرب عن تخوف من أن سيطرة طالبان على البلاد قد تشير إلى تكرار هجمات 11 أيلول/سبتمبر، إلا أن التهديد الإرهابي الفعلي للولايات المتحدة يأتي من مصادر محلية: اليمين المتطرف الأبيض المؤيد لدونالد ترامب، ووسائل الإعلام اليمينية المتطرفة “المضللة”.

ستشكل طالبان بالتأكيد تهديداً مباشراً للأفغان الذين يفضلون الدولة العلمانية والحكم الديمقراطي الذي يضمن حقوق المرأة وحرية التعبير والتعليم للجميع، علماً أن الولايات المتحدة لم تفِ بوعودها حول هذه الميزات على مدار العقدين الماضيين.

إن التنبؤ بالتداعيات الإقليمية للتراجع الأميركي في باكستان وإيران والصين سيكون أكثر صعوبة. والسؤال الأهم: بعد عشرين عاماً، هل سنشاهد القوة العظمى العالمية الصاعدة حالياً أي الصين، وهي تسقط في أفغانستان، مكررةً تجارب الإسكندر الأكبر، والإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفييتي، والآن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، اللذين يتعثران ويسقطان في ذلك البلد الجبلي؟ سيكون مشاهدة هذا المسار مرة أخرى مأساوياً، لكنه ليس مفاجئاً.

المدن

—————————

أفغانستان:الدولة الاسلامية الثانية..بعد إيران/ ساطع نور الدين

النهايات السعيدة ليست من صنع السينما وحدها. ثمة نهاية سعيدة لا شك فيها سُجلت في أفغانستان في الايام الماضية، وأسدلت الستار على فصل دامٍ من تاريخ ذلك البلد الفقير وشعبه المعذب الذي قاتل وصمد وفاوض، طوال عشرين عاماً حتى نال الحرية والاستقلال، من دون قيد أو شرط.

وما يزيد من أهمية هذه النهاية السعيدة، أنها توجت بهزيمة منكرة لأميركا، يمكن ان تكون حاسمة في الحؤول دون إقدام الاميركيين على مغامرة عسكرية جديدة، في أي من دول العالم الثالث، أو على الاقل التفكير مطولاً قبل اللجوء الى الخيار العسكري، الذي دفع الشعب الافغاني ثمنه باهظاً جداً، من دون أن تكون له يدُ او علمٌ حتى بهجمات 11 ايلول سبتمبر 2001، على نيويورك وواشنطن.

الاحتلال الاميركي الذي دام عشرين عاماً ما كان له أي مبرر في الاصل. لم يكن يفترض ان تخاض حرب تقليدية بواسطة الجيش الاقوى في العالم مع تنظيم ارهابي مكون من مئات من المسلحين. الرغبة بالانتقام من هجمات 11 أيلول، دفعت الاميركيين الى ذلك الاستعراض الدموي للقوة والهيبة، الذي كشف تفاصيله الاولى الكاتب الصحافي الاميركي بوب ودورد في كتبه الوثائقية الثلاثة حول الحربين الافغانية والعراقية، عندما كان النقاش يدور داخل الادارة الاميركية برئاسة جورج بوش الابن، حول القرار بشن حملة الغارات الجوية الاميركية المدمرة على الاراضي والجبال الصخرية الافغانية لملاحقة تنظيم القاعدة.. بدلا من توجيه ضربات موجعة الى حواضر المسلمين ومعالمهم مثل مكة والقاهرة ودمشق وبغداد، حسبما اقترح وزير الدفاع الاميركي يومها دونالد رامسفيلد المتوفى حديثاً.

وحسب هذه السردية الاميركية، يبدو الثمن الذي دفعه الافغان طوال السنوات العشرين الماضية، كأنه فدية عن بقية المسلمين والعرب. وما عاناه الشعب العراقي مثلاً جراء إحتلال اميركي دام أقل من نصف هذه المدة، لا يقارن بذاك الثمن الافغاني. فضلا عن ان الحصيلة الافغانية النهائية للتحرر من الاجتياح الاميركي تبدو الآن بالذات، أفضل بكثير من النهاية العراقية الحالية التي لا يمكن ان توصف بأنها سعيدة.

في افغانستان اليوم، دولة تبنى من جديد، هي، بالمناسبة، الدولة الثانية التي تقيمها حركة طالبان، بعد دولة أولى أقيمت في العام 1996 على أنقاض دولة “المجاهدين الافغان” في أعقاب طرد السوفيات، ولم تعمر سوى خمس سنوات. دور أميركا في قيام الدولتين لا نقاش فيه. ولا جدال في الفوارق الهائلة بين الظروف الطارئة التي حكمت التجربة الاولى، وتلك التي تبنى على أساسها التجربة الراهنة.. بإستثناء قاسم مشترك واحد ربما هو جو التفاهم والوئام البارز اليوم بين الاميركيين وبين طالبان، الذي يشي بإنتقال سلس، هادىء، سلمي للسلطة في كابل، على ما تشهد وقائع الايام الماضية.

ومثلما يجدر الاستنتاج أن الخروج الاميركي الاخير من افغانستان هو دليل نضج ووعي وواقعية، يجوز القول ان حركة طالبان عبرت، حتى الآن على الاقل، عن قدر مماثل من الوعي والنضج والواقعية. وهكذا خيب الجانبان آمال الكثيرين من المراهنين على ان يكون التحرير لحظة وداع وفراق ونزاع، فإذا هي لحظة لقاء وتفاوض وتفاهم، يشمل حتى أدق التفاصيل الخاصة مثلاً بإخلاء العاصمة كابل من الاجانب والراغبين بالفرار، من دون أي حادث خطير يذكر، في ما يبدو أنه تنفيذ حرفي لاتفاقات الدوحة بين الجانبين.

ربما من السابق لاوانه، القول ان اميركا التي تزيح عن كاهلها العبء الافغاني الثقيل، تساهم بشكل مدروس في قيام دولة اسلامية في افغانستان، تحتكم للشرع الاسلامي، وتكون الدولة الثانية من نوعها بعد إيران. ومن المبكر الجزم في طبيعة الشريعة الاسلامية التي ستحتكم اليها طالبان، بعدما وجهت إشارات أولى تفيد بأنها لم تعد تخاف من المرأة، ولا من التعددية القومية والمذهبية كما من قبل، ولم تعد تخشى الاجنبي وترفض وجوده بالمطلق على أرض أفغانستان.

لعله مؤشر الزهو بالنصر، وهو مؤشر مؤقت بطبيعة الحال. لكن المؤكد ان الدولة الاسلامية، وليس الامارة الاسلامية التي ستعلنها طالبان، ستكون مختلفة كليا عن تلك التي أقامتها في تسعينات القرن الماضي. الارجح أنها ستكون أقرب الى النموذج الايراني، الذي يعتمد مرجعاً دينياً مطلقاً، يقيم حوله مجالس ومؤسسات مانعة لتحويل السلطة الى حكم جمهوري عصري. وهذا الشكل من الحكم الطالباني المتجدد في افغانستان يمكن ان يكون نقلة تاريخية كبرى من سلطة مجمع القبائل والعشائر والقوميات والمذاهب( لويا جيرغا) الى تجربة دولة تسير على خطى الدول القائمة في غالبية البلدان الاسلامية والعربية.

لكن تلك الدولة الطالبانية المرتقبة بحذر شديد، وتحفظ أشد، لن تكون بلا أثر. يمكن لأفغانستان، بعد فترة إنتقالية قصيرة، أن تتحول الى قبلة للاسلاميين من مختلف أنحاء العالم، ففيها يلتقي الباكستاني والهندي والصيني والسوري والمصري والسعودي والعراقي.. ويتناقشون في شؤون الامة الاسلامية ، وينتظمون في هيئات وجبهات ومنظمات تخطط لمواجهة التنظيمات الاسلامية الاشد تطرفاً، مثل تنظيم داعش الحاضر بقوة في أفغانستان والرافض علناً لكل ما تمثله طالبان، والذي يمكن ان يكون سبباً في تقويض تلك التجربة من الداخل الافغاني، وإعادة تلك البلاد البائسة الى سابق عهدها بالدم والدمار، وإعادة الحركة نفسها الى سيرتها الاولى التي لم تكن على ما تدعيه اليوم من إعتدالٍ وتسامح. 

حتى الآن، النهاية سعيدة. لكن الثقة باميركا تعادل الثقة بطالبان. وهما الآن قيد الإختبار: هل تصبح افغانستان دولة اسلامية عادية، أم تتحول الى فوهة بركان يرمي حِممه مجدداً في مختلف الاتجاهات؟       

المدن

—————————

أفغانستان تحت احتلال “طالبان”… هل تنجح الحركة في الحكم هذه المرّة؟/ هلا نهاد نصرالدين

الكارثة الحقيقيّة اليوم سقطت على كاهل كلّ سكّان أفغانستان الذين ظنّوا في العقدين الماضيين أنّ بطش “طالبان” انتهى إلى غير عودة، ليُفاجأوا بين ليلة وضحاها بأنّهم أعيدوا إلى قبضتها.

20 سنة من النفوذ الأميركي على الأراضي الأفغانيّة، 20 سنة من العمل الدؤوب مع الأفغان لـ”تطوير البلاد والسير بها نحو التقدّم”، 20 سنة من حياة الأفغان ذهبت هباءً، إذ وجدوا أنفسهم اليوم متروكين لمصيرهم بين يدي “حركة طالبان”.

تفاعلت الساحة الدوليّة مع هذه الفاجعة الصادمة ومع استغاثات نساء أفغانستان وانتشرت فيديوات لأفغان يحاولون الهرب بشتّى السبل، فسقط عدد منهم من الطائرات التي حاولوا التشبّث بها.

صعقتني المشاهد فعدت بذاكرتي الى كتاب قرأته عن أفغانستان، وصف فيه الروائي الأميركي- الأفغاني خالد الحسيني مشهديّة مؤثّرة في روايته الشهيرة “عدّاء الطائرة الورقيّة” (The Kite Runner)، على لسان إحدى شخصيّات الرواية، “عندما دخلت “طالبان” وطردت التحالف الأفغاني من كابول، رقصت في ذلك الشارع، وصدّقني، لم أكن وحدي. كان الناس يحتفلون… يحيون عناصر “طالبان” في الشوارع ويتسلقون دباباتهم ويلتقطون الصور معهم. لقد سئم الناس القتال المستمر وتعبوا من الصواريخ وطلقات الرصاص والانفجارات… لذلك، عندما جاء عناصر”طالبان”، كانوا أبطالاً. السلام أخيراً. نعم، الأمل شيء غريب. السلام أخيراً”.

أفغانستان عام 2001

وتابع “أتذكر عودتي إلى المنزل في تلك الليلة حيث وجدت حسن في المطبخ يستمع إلى الراديو. كانت نظرته قلقة. فسألته ما الخطب، فهزّ رأسه قائلاً “الله يعين الهزارة الآن”. “انتهت الحرب يا حسن… سيكون هناك سلام إن شاء الله وسعادة وهدوء. لا مزيد من الصواريخ، لا مزيد من القتل، لا مزيد من الجنازات! لكن حسن أطفأ الراديو وذهب إلى الفراش… بعد عامين، أي في عام 1998، ذبحوا الهزارة في مزار الشريف”.

أمّا اليوم فأحد لم يحتفل باحتلال “طالبان”! دبّ ذعر في نفوس الناس الذين فضّل كثر منهم الموت على العيش تحت حكم الحركة المتطرّفة. المفارقة اليوم أنّ الأفغان يعرفون حقّ المعرفة من هي “طالبان” وحقيقة المأساة التي ستحلّ بهم.

ولعودة “طالبان” السريعة و”غير المتوقّعة”، كما وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن، دلالات أو سيناريوات محتملة عدة أبرزها أنّ القوى الدوليّة تركت الساحة الأفغانية لـ”طالبان” في سياق اتفاقيات تحت الطاولة، خصوصاً أنّ التغطيات الإعلاميّة الأجنبيّة تشير إلى تقارير أمنيّة سابقة عن هشاشة الوضع في أفغانستان في هذه المرحلة، وأنّ حركة “طالبان” كانت تستعد طيلة العشرين عاماً لهذه الفرصة الذهبية مباشرة عقب انسحاب قوّات الولايات المتّحدة الأميركيّة.

لكن قد يطرح البعض سؤالاً: لماذا كلّ هذا الاهتمام المفاجئ بأفغانستان التي لطالما كانت دولة منسيّة في الإعلام وأذهان الناس؟! الجواب ببساطة: إنّها اللعنة حلّت على أفغانستان وقد تمهّد للعنات متلاحقة من أكثر من جهة. فمن ناحية، عودة جماعة متطرّفة عنيفة إلى الحكم يعيد إنعاش الجماعات المتطرّفة الأخرى على رأسها “القاعدة”، ومن ناحية أخرى، وضعت  خطوة الانسحاب الوعود الأميركيّة على محكّ انعدام الثقة.

لكن الكارثة الحقيقيّة اليوم سقطت على كاهل كلّ سكّان أفغانستان الذين ظنّوا في العقدين الماضيين أنّ بطش “طالبان” انتهى إلى غير عودة، ليُفاجأوا بين ليلة وضحاها بأنّهم أعيدوا إلى قبضتها.

من هي حركة “طالبان”؟

وُلدت حركة “طالبان” من رحم المدارس الدينيّة في باكستان في بداية التسعينات. وتعود كلمة “طالبان” في الأصل إلى كلمة “طلاب” في لغة الباشتو. كانت هذه المدارس تتبع العقيدة الديوبندية والوهابية التابعة للإسلام السني والتي كانت تمولها بشكل أساسي المملكة العربية السعودية وبعض الأثرياء. كانت هذه المدارس تديرها “جماعة العلماء الإسلامية” (JUI)، وهي حزب باكستاني ديني تميّز بتفسيراته الأصولية للإسلام، ومعارضته الاجتهاد، وقمعه أي دور فعّال للمرأة خارج المنزل.

ومكّن، وجود قيادة الحركة في باكستان، التنظيم من تجنيد عدد كبير من الأفراد وتدريبهم وترسيخ الفكر المتطرف عندهم بعدما “أقام نظاماً على أساس الفقه الإسلامي الحنفي المتأثر بالتقاليد البشتونية”.

ويعتبر مقال بحثي للباحث توماس فرير بعنوان: “التأثيرات التي شكلت أيديولوجية طالبان” (2012) أنّ “طالبان حطمت تقاليد ديوباندي في التعلم والإصلاح من خلال إضعافها بالتأثيرات الوهابية، بجمودها، وعدم قبولها مفهوم الشكّ إلا كخطيئة واعتبار الجدل أكثر من مجرد بدعة”.

فبعد الانقلاب الذي نفذه “الحزب الديموقراطي الشعبي الماركسي” في أفغانستان (PDPA) عام 1978، والذي قُتل خلاله داود خان، حاكم أفغانستان في ذلك الوقت، تدخّل الاتحاد السوفياتي وغزا أفغانستان  في 24 كانون الأوّل/ ديسمبر 1979 لتعزيز حكم الشيوعيين غير المستقرّ آنذاك. أدى ذلك إلى اندلاع حرب استمرت 10 سنوات بين القوات الروسية والمجاهدين أو الجهاديين. في ذلك الوقت، قدّمت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربيّة السعودية ودول أخرى للجنود الأفغان والجهاديين مساعدات عسكرية ومالية لدعمهم في حربهم. عام 1989 مباشرة بعد تولي ميخائيل جورباتشوف السلطة، أعلن السوفيات هزيمتهم في أفغانستان وانسحبوا  من البلاد.

فحقّقت “حركة طالبان” أول انتصار كبير لها عبر السيطرة على قندهار عام 1994. بعد ذلك أسّست “طالبان” إمارة أفغانستان الإسلامية على أساس التفسير الصارم للشريعة الإسلامية، والشكل الاستبدادي للحكم، وقمع النساء، إضافة إلى انتهاكات لحقوق الإنسان معترف بها دولياً. بعد عام واحد من إنشاء الإمارة، سيطرت “طالبان” بقيادة الملا عمر على نحو ثلثي البلاد مع باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التي اعترفت بشرعية حكومتها. واعتمدت “طالبان” على أموال من دول إسلامية بخاصة باكستان والسعودية وقطر. إضافة إلى ذلك، استفادت “طالبان” من أصحاب الملايين المتطرفين الذين لجأوا إلى أراضيها كأسامة بن لادن الذي موّل الجماعة الحاكمة المتمردة مقابل لجوئه في أفغانستان. وقُدّر عدد مقاتلي الحركة في السنوات الماضية بحوالى 60 ألف مقاتل.

 نجح الجهاديون في هزيمة مستعمري أفغانستان. لكن الحركة لم تكن جيدة في فن السلام كما نجحت في فن الحرب: لقد فشلت في إقامة دولة مستقرة ذات مؤسسات جيدة قادرة على منح مواطنيها حقوقهم واحتياجاتهم الأساسية.

ظلّت حركة “طالبان” في الحكم من 1996 حتى عام 2001 عندما أطاحت القوات الأميركية بنظام الحركة، عقب الهجمات على مركز التجارة العالمي (World Trade (Center في 11 أيلول/ سبتمبر 2001. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت “طالبان” على حركات التمرّد لزعزعة استقرار أفغانستان وتوجيه الاتهام إلى النظام المدعوم من الولايات المتحدة الأميركيّة والرئيس الأفغاني أشرف غني الذي فرّ من البلاد راهناً، قبيل دخول حركة “طالبان” إلى العاصمة “كابول” واحتلالها.

وإضافة إلى قضايا المرأة وحقوق الإنسان، يظهر تطرّف “طالبان” جليّاً في تعاطيها مع شيعة الهزارة. استهدفت “طالبان” عمداً أقلية الهزارة بسبب اعتقاد الديوبندي بأن الشيعة ليسوا مسلمين، ما أسفر عن قتل عشرات الآلاف منهم. أمّا في لبنان، فهناك من يهلّل لعودة “طالبان” إلى الحكم باعتبار أنّهم “على المذهب الحنفي ولا يكفرون أحداً ويحترمون المذهب الشيعي ويصدرون بياناً سنوياً للعزاء في عاشوراء، قاتلوا الأميركيين وداعش لسنوات طويلة بدعم من إيران، حالياً لديهم تغيير فكري كبير في الخطاب والفقه الشرعي يتجه بشكل كبير نحو التسامح والاعتدال”، متناسين المذابح بحقّ الهزارة.

وبعكس الحديث عن التغيّر الكبير المزعوم في فكر “طالبان”، بحسب دراسة للباحث مايكل سامبل بعنوان “الهيكل البلاغي والأيديولوجي والتنظيمي لحركة طالبان” الصادرة عام 2014، “لا يزال خطاب طالبان يتناول مواضيع تراكمت عبر مختلف المراحل ولا يظهر أي مؤشر على أن الحركة أعادت صوغ رسالتها حتى الآن. وأولويّاتها الأربع الرئيسية هي: السيادة الوطنية، القوة العسكرية، قدسية جهاد طالبان، سلطة إمارة طالبان الإسلامية”. هذا فضلاً عن “طاعة الأمير” التامّة.

فمن الواضح أنّ لا تغيير يُذكر حتى الآن طرأ على فكر “طالبان” في العقدين الماضيين في مقابل تطوّر وتقدّم هائل للشعب الأفغاني في قضايا التعليم وحقوق الإنسان وخصوصاً حقوق المرأة. فهل ستتّبع “طالبان” طريقة حكمها التقليديّة التي انهارت في المرّة الأولى، وسرعان ما قد تنهار مجدّداً في ظلّ الرفض الشعبي القاطع لها، أم أنّ الحركة استغلّت الأعوام المنصرمة لبلورة استراتيجيّة جديدة أكثر تواؤماً، إلى حدٍّ ما، مع متطلّبات الدولة والعصر؟ ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ حكمها هذه المرّة سيعيد أفغانستان عقوداً إلى الوراء ويعيق تقدّمها ويخلّف مآسي جديدة لن يتخطّاها الشعب الأفغاني بسهولة.

درج

—————————–

العالم في ظل “طالبان”… 20 عاماً إلى الوراء/ حازم الأمين

أكملت طالبان العشرون عاماً من الغياب في الأرياف والجبال الأفغانية، وعادت كما غادرت، وان بقدر أكبر من البراغماتية التي لن يطول أمدها.

 وضعتنا الوقائع اللبنانية الرهيبة خارج العالم. فها نحن نشيح انتباهنا عن واقعة بحجم عودة “حركة طالبان” إلى خريطة جنوب آسيا، بعد عشرين عاماً على واقعة 11 أيلول/ سبتمبر. ونحن على أبواب الذكرى العشرين لتلك المأساة. بعد عشرين عاماً قررت الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب من أفغانستان، من دون أن تخلف السنوات العشرين أثراً يذكر على ذلك البلد، والدليل أن تدفق الحركة الديوبندية التي ولدت في المدارس الدينية في باكستان، على المدن والولايات الأفغانية لم يتطلب أكثر من أسبوع واحد!

نحن فعلاً أمام حدث بحجم العالم، وستكون له ارتدادات لن تستثنينا في بلادنا الصغيرة والبعيدة عن مسرح العودة الدراماتيكية لتلك الحركة الباشتونية. ذاك أن البلد الثاني الذي قصده جورج دبليو بوش بعد إسقاطه سلطة الحركة في كابول عام 2001، كان العراق عام 2003، والعراق ليس بعيداً منا، وهو بدوره يشهد تحفزاً أميركياً للمغادرة، ومن غير الواضح حتى الآن ماذا سيخلف الانسحاب من العراق، ذاك أن النفوذ الإيراني هناك هو قرين النفوذ الأميركي، على رغم ما ينطوي عليه تجاور النفوذين من عدم انسجام. الانسحاب الأميركي من العراق، في حال حصل، سيضع الإيرانيين أمام استحقاق مواجهات مباشرة لم يسبق أن أبلى فيها الإيرانيون بلاء حسناً، على نحو ما حصل عام 2014، عندما تدفقت جيوش  “داعش” على مدن عراقية كانت تحت سلطة الجيش القريب من طهران. ولم يهزم”داعش” إلا بغطاء كثيف من المارينز.

لكن ارتدادات الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وعودة “حركة طالبان” إلى كابول لا تقتصر على الاحتمالات العراقية، ذاك أننا الآن أمام مشهد إقليمي مختلف تماماً عن ذاك الذي رسمته واقعة احتلال الأميركيين عاصمتين وبلدين آسيويين، أي بغداد وكابول. والمسارعة إلى استنتاج أن طهران ستكون المستفيد، على نحو ما يشيع حلفاؤها، ليس أمراً محسوماً. فطالبان، وإن عادت على نحو مختلف عن الذي اندحرت فيه عام 2001، إلا أنها حركة سنية في خريطة الانقسام المذهبي الحاد، وعودتها ستمثل حالة استقطاب لطالما شعرت البيئات السنية بالحاجة إليها في ظل الصعود الشيعي الذي يطغى على المنطقة، ولن تطول الهدنة بين الحركة الديوبندية ودولة ولاية الفقيه، ليس على الحدود بين أفغانستان وإيران، انما أيضاً في مناطق التماس المذهبي الأخرى أيضاً.

نعم إنها عشرون عاماً إلى الوراء، ففي اللحظة التي أعلن فيها سقوط كابول بيد الحركة نهار الأحد (14 آب/ أغسطس 2021) استيقظت كل رموز الزمن الطالباني. رُفع صوت الأذان في القصر الرئاسي الأفغاني، وعاد فوراً الثوب الباشتوني ليحل مكان القيافة الرسمية التي كان حميد كارزاي، الرئيس الأفغاني الأول في زمن جمهورية ما بعد طالبان، قد أدخله إلى قصور الحكم، واختير الرجل على أساسه كأحد أكثر الرجال وسامة في العالم، وأطل تيسير علوني على قناة “الجزيرة” مبتسماً، على رغم ما رسمته سنوات الغياب على وجهه من علامات الأسى.

يمهد انقلاب المشهد بين ليلة وضحاها لتأمل من نوع آخر. فالعشرون عاماً من غياب طالبان كانت أرست مشهداً مختلفاً للعلاقات بين الدول. قطر مثلاً عادت لتتصدر المشهد الخليجي، وهي إذ لعبت أدواراً في تسويق طالبان، فأدت المهمة مع واشنطن من جهة ومع طهران من جهة أخرى، ستستثمر موقعها المستجد في النزاعات الخليجية البينية، وتحديداً مع الإمارات العربية المتحدة، ومن غير الواضح حتى الآن موقع السعودية على هذا الصعيد، فالأخيرة من جهة تتولى السلطة فيها مواجهة مع التيارات الدينية المحافظة في الداخل التي لطالما ربطتها علاقات مع طالبان، ومن جهة أخرى تُجري خطوات مصالحة مع قطر بعيداً من مصالح حليفتها أبو ظبي.

عودة طالبان لن تبقي اليمن بعيداً من ارتداداتها، فلطالما كان الأخير أرضاً خصبة لاستثمارات “القاعدة”، وإذا كانت التسويات التي مهدت لعودة طالبان قد أملت على الحركة شروطاً تمنعها من استضافة التنظيم الذي نفذ عملية  11 أيلول، فإن “طالبان العميقة” ستجد صيغ استضافة من نوع آخر. لن تبث “الجزيرة” أشرطة فيديو لأيمن الظواهري، لكن الرجل سيشعر بأن الخطر على حياته في مناطق العشائر على الحدود بين باكستان وأفغانستان قد تراجع. ثم إن استيقاظ “القاعدة” في المناطق غير الخاضعة لنفوذ طالبان، مثل اليمن والعراق وسوريا وربما لبنان، في ظل ضعف حكومات هذه الدول والانقسام المذهبي الحاد فيها، صار في ظل عودة طالبان أمراً وارداً، وهذا أيضاً قد يدفع إلى إعادة النظر بالشروط الدولية التي فرضت على طالبان ورعتها الدوحة.

أكملت طالبان العشرون عاماً من الغياب في الأرياف والجبال الأفغانية، وعادت كما غادرت، وان بقدر أكبر من البراغماتية التي لن يطول أمدها. عشرون عاماً شهدت حروباً وتحولات هائلة، علينا أن نمحوها من أعمارنا. فكاتب هذه السطور دخل إلى كابول فور هزيمة الحركة، وإلى بغداد فور سقوطها بيد الأميركيين، وزار أفغانستان والعراق في فترة احتلالهما، وشهد ما رافق هذين الاحتلالين من حروب على ضفافهما، في سوريا وفي اليمن وفي لبنان أيضاً، وعليه أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فقد قررت واشنطن أن تطوي هذه الصفحة! علينا أن نلغي 20 عاماً من أعمارنا، هذا ما قرره السيد جو بايدن. 

درج

——————————

مشهد مطار كابول: أميركا خائنة/ حازم الأمين

الصورة من مطار كابول درس كبير لنا، لكنها صورة أميركا مثلما هي صورة الأفغان المرتعدين خوفاً والمستعدين للتعلق بجناح الطائرة. صورة أميركا التي تقول إن قيمها تسبق احتلالها، وإذ بها تبيع الأفغان لطالبان.

سيبقى المشهد المذهل لهروب آلاف الأفغان إلى مطار كابول وتأبطهم بالطائرة  الأميركية الأخيرة المغادرة بعد تسليم المدينة لـ”طالبان”، في ذاكرتنا لسنوات طويلة. إنها ساعة التخلي وقد حانت، وقال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه يتحمل تبعات القرار بمفرده! جاء الأميركيون قبل 20 عاماً، أطاحوا بطالبان واحتلوا أفغانستان، وأسسوا جمهورية على مقاس احتلالهم، وها هم اليوم يغادرون وهم يدركون أن كل شيء سيعود إلى سابق عهده، وأن عشرين عاماً من الاحتلال يمكن تجاوزها من دون أن يرتب ذلك عليهم مسؤوليات حيال القاعدة الاجتماعية والسكانية التي أقاموا احتلالهم بين ظهرانيها.

لا بأس، فالرئيس يتحمل مسؤولية الخطوة! لكن ماذا ترتب هذه المسؤولية عليه. الصورة من مطار كابول درس كبير لنا، لكنها صورة أميركا مثلما هي صورة الأفغان المرتعدين خوفاً والمستعدين للتعلق بجناح الطائرة. صورة أميركا التي تقول إن قيمها تسبق احتلالها، وإذ بها تبيع الأفغان لطالبان. الانسحاب ليس تتويجاً لهزيمة اعترف الرئيس بأنها أُلحقت بقواته، على نحو ما حصل في فيتنام مثلاً، الانسحاب هنا هو نوع من الخيانة التي ترتكبها أميركا كلها، وهي ليست خيانة للطبقة السياسية التي أنشأتها، ذاك أن الأخيرة غادرت كابول حاملة الثروات التي راكمتها خلال السنوات العشرين التي حكمت خلالها، وبعضها بقي بعدما أجرى تسويات مع الحركة، بل هي خيانة لكل من صدق أميركا وباشر حياة تشبه ما بشرت واشنطن الأفغان به.

مئات الآلاف من أهل كابول تعرضوا للخيانة، وأقلعت الطائرة بعدما خلفتهم وراءها. مفاوضات الدوحة لم تشمل البحث في مستقبل هؤلاء الأيتام والفقراء ممن راحوا يركضون نحو المطار في ذلك اليوم الرهيب. فالضغينة التي تكنها الحركة لخصومها سبق أن اختبرت في كابول تحديداً، ولكن في عموم أفغانستان. هل تدرك يا سيد جو بايدن معنى أن تعيد امرأة ارتداء البرقع بعدما صدقتكم وخلعته على مدى عقدين؟ هل فكرت بمستقبل جماعة الهزارة (الشيعة) أم أنك تركتهم للمفاوضات بين نظامي الملالي في طهران وكابول؟ وماذا عن آلاف الأفغان من الذين انخرطوا في أسلاك الدولة الفاسدة التي أنشأتها أميركا في ذلك الثغر الجغرافي الذي اسمه أفغانستان؟ أن تقول أنك تتحمل مسؤولية القرار يعني أن تجيب عن هذه الأسئلة، فأميركا تطرح نفسها بوصفها مركز العالم، وأن تنكفئ عن هذه المهمة في لحظة تخل كالتي شهدتها كابول، فهذا يرتب عليها تسليم مفاتيح العالم لمن يصلح للمهمة. أما أن يبقى بايدن رئيساً للعالم، وأن يخذل فقراء لا يتجاوز عددهم مئات الآلاف ممن صدقوا أن أميركا أقوى من طالبان، فهذا يجعل منه رئيساً وغداً على نحو ما أن رؤساءنا أوغاد.

من الواضح أن ترتيبات حصلت قبل الاحتلال السهل الذي أقدمت عليه طالبان للعاصمة الأفغانية. الترتيبات شملت ضمانات للأميركيين بعدم استضافة “القاعدة” مرة أخرى، وتعهدات لطهران بألا تكون كابول قاعدة عداوة للجمهورية الإسلامية، وربما شملت الترتيبات تسويات مع القوميات غير البشتونية، من الأوزبك والطاجيك، لكن الأكيد أن أحداً لم يفكر بهؤلاء الهاربين إلى مطار كابول، وأحداً لم يفكر بنصف الأفغان من النساء، ولم تكن مناهج التعليم مثلاً جزءاً من المفاوضات التي رعتها قطر لعودة “حركة طالبان”. من مناهج التعليم هذه ولد إرهابيو 11 أيلول/ سبتمبر يا سيد بايدن، وأنت إذ أنقذت عدداً قليلاً من جنودك عندما قررت الانسحاب، فإنك عرضت مئات الآلاف من الأفغان لمصائر رهيبة عليك أن تتأمل فيها عندما شاهدت صور الهاربين إلى المطار والمتحلقين حول الطائرة المغادرة.

بماذا شعر سيد البيت الأبيض عندما عرضت له المشاهد من مطار كابول؟ لقد خذلتهم يا فخامة الرئيس. لقد خذلتهم أميركا! 

درج

—————————————

كيف ستحكم «طالبان» تبعاً للمؤشرات الأولية/ آشلي جاكسون

رغم كل الاتهامات والتصريحات المتبادلة حول كيفية سيطرة حركة طالبان على أفغانستان بهذه السرعة، تبقى هناك حقيقة صعبة يجب وضعها في الحسبان: لقد أمضت طالبان سنوات في الاستعداد لانسحاب الولايات المتحدة في نهاية المطاف. ورغم التعزيزات العسكرية العديدة والضربات الجوية التي لا هوادة فيها ومقتل الآلاف على جميع الأطراف، لم يتمكن أحد من وقف هذه الحركة. وعاماً تلو آخر، حقق مقاتلو طالبان مكاسب، وذلك بنجاحهم من خلال الإكراه والاستحواذ على إخضاع قطاعات كبيرة من السكان تحت مظلة حكمهم وأقاموا دولة ظل. واستغلت حركة طالبان الغضب إزاء انتهاكات القوات الأجنبية وفساد الحكومة الأفغانية لكسب التأييد في قرية بعد أخرى.

السؤال الآن: ما نوع الحكومة التي ستفرضها حركة طالبان؟ وماذا سيعني ذلك بالنسبة للأفغان؟

إلى حد ما، يعرف العالم بالفعل كيف ستجري الأمور، نظراً لأن طالبان كانت تسيطر بالفعل بشكل أساسي على أجزاء من أفغانستان منذ سنوات. ومع ذلك، فمن الأسهل بكثير الاستيلاء على الأرض في إطار حركة تمرد عن تولي مقاليد الحكم بها. وقد كان هذا أحد أكثر الدروس إيلاماً لطالبان في التسعينات، عندما اكتسحت طريقها نحو السلطة سريعاً، لكن أداءها كما رأى العالم جاء كارثياً على مستوى الحكم. وعليه، فنحن لا نعرف حتى الآن كيف تنوي طالبان حكم الأمة ككل.

الملاحظ أن جهود إدارة طالبان بدائية وممتدة على مساحة شاسعة الاتساع، كما أن هناك اختلافات صارخة بين المناطق الشديدة المحافظة التي ظلت لفترة طويلة تحت نفوذ طالبان والمناطق الحضرية الأكثر تقدمية نسبياً والتي سيطرت عليها الحركة في الفترة الأخيرة. وثمة مؤشرات قليلة للغاية حول قدرة طالبان لحكم المدن – أو البلد ككل – بمفردها. إضافة لذلك، فإن المشهد الاجتماعي الأفغاني أشد تعقيداً عن التقسيم البسيط بين مناطق حضرية وريفية، لكن منذ عام 2001، استفاد سكان المدن بشكل عام أكثر من الأمن والمساعدات والفرص التي وفرها التدخل الدولي. كما تحركت النساء بحرية نسبية وعملن والتحقن بالمدارس، واختلفت الأعراف الاجتماعية بشكل كبير عن عقلية طالبان.

في المناطق التي سيطرت عليها طالبان على امتداد فترة طويلة، تفرض المحاكم نسختها الخاصة من من مفهوم الحركة للشريعة الإسلامية. كما عينت ولاية الظل التابعة لطالبان مسؤولين لمراقبة المدارس وتنظيم العيادات التي تديرها المنظمات غير الحكومية. ومع ذلك، يظل أسلوب الإدارة الذي تتبعه الحركة طفيلياً إلى حد كبير، وغالباً ما تسعى طالبان لنسب الفضل إلى نفسها عما يقدمه آخرون. أما الخدمات العامة، فتعتمد بشكل كبير على برامج المساعدات والمساعدات الخارجية، خاصة أن المنح تمثل حوالي 80 في المائة من الإنفاق العام لأفغانستان. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن كليهما سينخفض بسرعة في ظل أي حكومة تتبع طالبان.

من جانبي، قضيت الكثير من مسيرتي المهنية في أفغانستان. وخلال تلك الفترة، أجريت مقابلات مع العشرات من مقاتلي طالبان ومئات الأفغان الذين يعيشون تحت سيطرتهم. ومن بين مئات الأفغان الذين قابلتهم في مناطق سيطرة طالبان على مر السنين، قلة هم من أعربوا عن تفضيلهم لطالبان. ويستغل معظم الناس طاعتهم لطالبان للتخفيف من معاناتهم. بل إن البعض منهم أقنع المتمردين بالتصرف على غرار نمط الحكومة المسؤولة الذي تقول الحركة إنها ترغب في أن تصبح عليه. وتبعاً لمدى براعة السكان المحليين في المساومة ومدى الضغط الذي حشدوه، اختلفت سياسات طالبان – على سبيل المثال – حول ما إذا كان بإمكان الفتيات الالتحاق بالمدارس الابتدائية من مكان إلى آخر.

حتى إن بعض عناصر طالبان المحلية قد سعوا في الأشهر الأخيرة إلى طمأنة السكان وإدارة المؤسسات الحكومية حتى يستمروا في العمل. وفي بعض المدن، مثل قندوز، ظهرت تقارير عن محاولة مسؤولي طالبان إقناع موظفي الخدمة المدنية بالعودة إلى العمل. وفي مناطق أخرى، كما هو الحال في أجزاء من مقاطعة غزنة، تواترت تقارير حول مواجهة طالبان لأي شخص مرتبط بالحكومة أو قوات الأمن وتدميرهم لممتلكات.

الواضح أن حركة طالبان تواجه على نطاق واسع خيار إما فرض الحصار والسعي للانتقام وتدمير بقايا تدخل ما بعد عام 2001 أو استيعاب ما في وسعها وعقد صفقات مع هؤلاء الأشخاص والفصائل الذين يمكن إقناعهم بالتعاون. وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان أعضاء طالبان أنفسهم يعرفون ما يريدون هنا. وإدراكاً من جانبها لأن العالم يراقبها، تبدو القيادة السياسية للحركة حريصة على مواجهة الصحافة السلبية وتجنب التحول إلى دولة منبوذة، كما كان الحال في التسعينات.

في هذا الصدد، أكد المتحدث باسم طالبان، سهيل شاهين، في تصريحات لـ«بي بي سي»، الأحد: «نحن خدام الشعب وهذا البلد. نطمئن الناس في أفغانستان، ولا سيما في مدينة كابل، أن ممتلكاتهم وحياتهم آمنة. لن يكون هناك انتقام من أحد». بعد سقوط كابل، حث الملا عبد الغني بردار، في رسالة بالفيديو، مقاتلي طالبان على إظهار «التواضع».

ومع ذلك، ربما لا يتفق قادة طالبان العسكريون ومقاتلوها على الأرض مع هذا التوجه. وبينما أعلنت طالبان الآن أنها لن تنتقم من أولئك المرتبطين بالحكومة السابقة، تواترت بالفعل تقارير حول تصفية حسابات وتنفيذ هجمات وجرائم حرب محتملة. جدير بالذكر في هذا الصدد أن قوات طالبان في الغالب من الشباب غير المتعلم وغير المهيأ للحياة بعد الحرب. وخلال إحدى المقابلات، أخبرني شخص يدعى ظاهر، وهو طالب جامعي في فارياب: «إن معظم أفراد طالبان هنا يبلغون من العمر 18 أو 20 عاماً، والشيء الوحيد الذي يعرفونه عن الحكومة هو كيفية تصفية الأشخاص الذين يعملون لحسابها».

واليوم، أعرب الكثير من الأفغان الذين تحدثت معهم داخل المدن عن خشيتهم من وقوع الأسوأ، متذكرين كيف كانت الحياة في ظل حكم طالبان قبل عام 2001. ويمكن القول في هذا السياق إن المناطق الحضرية عانت أكثر عن غيرها، لأنها كانت تمثل خطراً أخلاقياً وفساداً من وجهة نظر طالبان.

ومن المعتقد أن أحد الاختبارات الحقيقية أمام طالبان الآن ما إذا كان بإمكانهم أن يحكموا – وأن يحكموا بالتعاون مع – أولئك الذين يختلفون معهم جذرياً. ويقدم التاريخ الحديث درساً قيماً يؤكد أن التسويات السياسية الإقصائية لا تصمد على أرض الواقع. والواضح أن أفغانستان دولة كبيرة للغاية ومتنوعة، وسبق أن زرعت السياسة الإقصائية الصراع مراراً وتكراراً. وقد حدث ذلك عام 2001، عندما جرى استبعاد طالبان من اتفاقية بون، التي أعادت تشكيل الدولة الأفغانية بعد الغزو الأميركي، مثلما سبق وحدث في التسعينات، عندما رفضت طالبان استيعاب خصومها.

وعليه، فإن أفضل ما يمكن أن نأمله أن تكون حكومة طالبان الجديدة أكثر براغماتية عن السابقة، وأن تدرك أن المساعدة والاعتراف الدوليين ضروريان لبقائها. إلا أنه بغض النظر عن الطريقة التي تقرر بها طالبان الحكم، سيتعين على الدول الغربية إيجاد طريقة للتعامل معها في قضايا مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان والقضايا الإنسانية. ومن شأن قطع العلاقة الآن محو أي نفوذ خلفته الولايات المتحدة ودول أخرى وراءها وترك الأفغان في مواجهة أسوأ مصير على الإطلاق.

* خدمة «نيويورك تايمز»

الشرق الأوسط

—————————

من بيروت إلى كابل/ حازم الأمين

طالبان المشرق العربي على بعد خطوات قليلة من دولنا ومجتمعاتنا، ذاك أن لكل دولة فاشلة وفاسدة ومستبدة طالبانها، ودولنا تجمع هذه الأمجاد من أطرافها، وهي إذ تستبد وتعيث فساداً، تغذي طالبانها الخاصة، وتؤسس لانقضاض يشبه ذاك الذي أقدمت عليه طالبان أفغانستان قبل أيام.

والحال أن المشهد الأفغاني جرى استقباله في مشرقنا البائس على نحو لا يقل بؤساً عن ذلك الذي يستبد بنا. فجأة تحولت طالبان إلى حركة تحرر من الاحتلال. الانسحاب الأميركي مثل لشرائح مشرقية واسعة ومتنوعة انتصاراً على الاحتلال، وتصويباً لواقع “امبريالي”، وإعادة حقٍ لأصحابه. وتغذى هذا الوعي البائس من مرارات متفاوتة. إسلاميون سوريون رأوا فيه انتصاراً و”عودة لراية الإسلام ولإمارة قد تكون انطلاقاً نحو الخلافة”، وممانعون شيعة لبنانيون رأوا فيه هزيمة لأميركا وإسرائيل، وعراقيون من طرفي الانقسام المذهبي احتفلوا بالحدث كل لأسبابه، علماً أن دافع كل طرفٍ للاحتفال هو بحد ذاته جزءاً من الحرب الأهلية الدائرة في ذلك البلد.

لكن بلاداً في هذا المشرق أقل اضطراباً أصابتها حمى حب طالبان، فإسلاميو الأردن انتشوا وتنفسوا بعض الصعداء، والأرجح أن الحدث خاطب حماس في غزة.

لكن كل هذا يبقى في مجال الانفعال بحدث ليس قريباً منا، والأهم بالنسبة إلينا ما يمثله المشهد الأفغاني من درس مرتبط بأحوال هذا الإقليم، ذاك أننا مخيرون في دولنا بين مجرم ومجرم، وبين مستبد وفاسد، وبين بعثي وطالباني، والفروق بين هذه الخيارات تغذي انقسامات أهلية ومذهبية تجعل من الاختيار فعلاً عدمياً لا يمكن الإقدام عليه من قبل غير المنغمسين بانحيازات لا مكان فيها للأخلاق ولقيم العدالة والتقدم. فأن تغادر سوريا خير لك من أن تختار بين بشار الأسد وأبو محمد الجولاني، والخيارات في العراق هي بين “داعش” والحشد الشعبي، أما في لبنان فنحن لسنا مخيرين حتى الآن، ولم يَلُح بديلاً عن أمين عام حزب الله حسن نصرالله.

أميركا قررت الانسحاب من أفغانستان، وبدأت تمهد لانسحاب موازِ من العراق. بالنسبة إلينا هذا انسحاب من الزمن الذي حددت واشنطن وجهته لنا منذ نحو 20 عاماً. زمن انخرطنا فيه جميعنا. خصوم أميركا قبل حلفائها كانوا جزءاً من هذا الزمن. أي زمن ما بعد 11 سبتمبر 2001، الخصوم انخرطوا في حرب عليه والحلفاء انغمسوا بما رتبه من حقائق. لكن هل يمكن العودة إلى ما قبل الـ2001؟ هل يمكن العودة إلى خريطة النفوذ في ذلك الزمن؟ العراق من دون صدام حسين، وسوريا بلد مدمر ومنكوب، ولبنان من دون رفيق الحريري ومن دون مهمته ووظيفته!

ثمة استحالات لا يمكن أن تتيح هذه العودة. وإذا كان المشهد الأفغاني، على رغم ما تمثله عودة طالبان من مآسِ، قد أتاح العودة وفق معادلة لم ترسم بعد صيغة واضحة، فإن معادلها المشرقي مستحيلاً. انسحاب أميركا من العراق لن يعني سوى تقسيماً لذلك البلد، وهو تقسيم ستسبقه حرب أهلية هائلة، وشعور بشار الأسد أنه طليق اليدين مع حليفيه الروسي والإيراني سيضاعف المآسي في ذلك البلد، وفي لبنان لن يكون من خيار أمام الخصوم المذهبيين والأهليين سوى التمثل بسلاح الخصم المذهبي.

القرار الأميركي بالانسحاب ينطوي على هذا القدر من عدم الاكتراث لما خلفته سنوات الحرب، لا بل أنه قد يصيب مصالح الأمة الأميركية بأضرار سبق أن اختبرها الغرب عندما راوده قبل سنوات قليلة وهم تركنا لمصائرنا، فنجم عن ذلك ولادة “داعش” وطوفانه في العالم. فالغرب بعلاقته بمجتمعاته غير مكتفٍ بنفسه. القيم والأسواق والثروات والعلاقات التبادلية، كلها تملي تورطاً بأمراض بعضنا بعضاً، مثلما أملت ازدهاراً وتشاركاً في القيم وفي الطموحات.

لم يعد ممكناً أن تقول أميركا إنها غير معنية بما يصيبنا، فهو سيصيبها، لا بل هو أصابها أكثر من مرة، وما عزز من هذا الاحتمال هو قرار القدوم إلى الشرق، واحتلال أفغانستان والعراق. و”تصويب الخطأ”، على نحو ما أوحى به خطاب جو بايدن، لا يكمن في أن تخلف أميركا خلفها مزيداً من الحروب، بل في مراجعة التجربة في أفغانستان وفي العراق، انما أيضاً في سوريا وفي لبنان.

وإذا كان لدى أفغانستان احتمال واحد يعقب الانسحاب هو طالبان، وهو احتمال محسوب بمأساويته، فإن الاحتمالات الطالبانية المشرقية مفتوحة على مآسٍ وعلى تزخيم هائل للحروب والانقسامات، و”حركات التحرر الوطني” في اقليمنا تتحفز للانقضاض على بعضها بعضاً، وثقافة الحروب في بلادنا لا تحتمل رئيساً يغادر البلاد “حقناً للدماء” على نحو ما فعل الرئيس الأفغاني أشرف غني.

الحرة

———————–

طالبان” أهانت الغرب فهل مات جنودنا في حرب عبثية؟/ فنسنت كيبل

تعزز أزمة أفغانستان سردية مفادها دخول أميركا وحلفائها في مرحلة انهيار نهائي ما يرفع درجة الخطورة في أرجاء العالم

شكل التحدث مع أعضاء “رابطة المحاربين البريطانيين” في مناسبة “أحد التذكر”، واحداً من أكثر واجباتي أهمية وصعوبة على امتداد السنوات التي قضيتها نائباً عن دائرة “تويكنهام” الانتخابية. إذ مثل تكريم ضحايا الحروب مهمتي الرئيسة في تلك المناسبة، كسياسي لم يخدم إطلاقاً في القوات المسلحة لكنه صوت لمصلحة خوض أعمال عسكرية عدة. ولقد تحدثت هناك من أجل طمأنة الناجين وأحفاد الضحايا بأن تضحياتهم لم تذهب سدىً.

وبعد ما أعلنت المملكة المتحدة في 2006 التزامها مواصلة المساهمة في القوة العاملة في أفغانستان تحت قيادة حلف الناتو، تكررت الإشارة في إطار إحياء “أحد التذكر”، إلى الجنود البريطانيين الذين لقوا مصرعهم في أفغانستان والآلاف الذين أصيبوا بجروح فيها. ولطالما جاء بعض أولئك الجنود الذين عانوا من جروح جسدية ونفسية في أفغانستان، إلى مكتبي في الدائرة الانتخابية بغرض إجراء استشارات.

وفي ذلك الإطار، اشتملت كلماتي السطحية إلى حد ما، على أفكار من قبيل أن تلك الحرب جاءت مبررة قانونياً، خلافاً للتدخل في العراق، وقد شنت بالاشتراك مع عدد كبير من حلفائنا. وذكرت تكراراً أن الحرب في أفغانستان عادلة أيضاً، إضافة إلى كونها ضرورية بسبب استضافة حركة “طالبان” إرهابيي تنظيم “القاعدة” وكذلك وحشية تفسيرها الحرفي للإسلام، خصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع النساء.

عند التفكير في الأمر الآن، أرى أنه ربما توجب علي أيضاً أن أورد أفكاري الخاصة التي اعتبرت أن [مشاركتنا في تلك الحرب] لا تنم عن حكمة. تذكرت أنني درست الحوادث التي جرت في 1841 حين أبيد رتل بريطاني مؤلف من 16 ألف شخص، بينهم 4500 جندي، على يد جماعة تعتبر نسخة القرن التاسع عشر من “طالبان” حاضراً. لقد توجب علينا، نحن والأميركيين والروس، أن نتعلم من دروس الماضي.

لا أدعي أنني أعرف أفغانستان. لقد تجولت في أنحاء تلك البلاد كطالب، قبل ما يزيد على 50 عاماً، حينما نعمت بفترة سلام نسبي في ظل نظام ملكي، بينما تنافس الأميركيون والروس مع بعضهم بعضاً لكسب مزيد من النفوذ، ومدوا طرقات في طرفي البلاد. وما زلت أحتفظ باثنتين من الذكريات الباقية معي على الدوام. تتمثل الأولى في مدى إعجابي بجمال مسجد في “هرات” والتأثير المنوم الذي تركه عليّ الأذان في أوقاته المنتظمة، فيما جلست أقرأ وأفكر في ظلال المسجد الواقية أثناء تعافي أصدقائي في فندق قريب من حالة زحار [إسهال وحرارة بسبب أحد الطفيليات المعوية] عارضة أصيبوا بها.

تتجسد الذكرى الثانية في عيون الرجال (إذ إن وجوه النساء كانت تختفي تحت البرقع). وفي أماكن أخرى في المنطقة، يتعامل الناس معك من خلال تعابير توحي بالصداقة، أو العداء، أو اللامبالاة أو الفضول. في المقابل، يتطلع الأفغان إليك كأنهم لا يشاهدونك أبداً، أو يتظاهرون بعدم رؤيتك. لم نكن نحن الأجانب بالنسبة لهم موضع ترحيب أو أهمية تزيد كثيراً عن الذباب الطنان. ولقد رأيت التعبير نفسه في عيون المقاتلين الذين أجريت مقابلات معهم هذا الأسبوع فيما كانوا يتباهون ببنادقهم في البلدات التي استولوا عليها. هل يدل ذلك التعبير على اللامبالاة أو الاحتقار؟

ثمة قليل من الشك في حجم الإذلال الذي لحق بالولايات المتحدة وبنا، من خلال الانهيار السريع للقوات المسلحة الأفغانية التي قدمنا لها السلاح ودربناها من أجل مواجهة وضع محتمل كهذا، وأيضاً بسبب التداعي السريع لنظام جاء نتاج عقدين من بناء المؤسسات الديمقراطية. لا شيء يرمز إلى خواء البنى التي أوجدناها هناك، أكثر من النزوح السريع للرئيس والوزراء والنواب أثناء زحف “طالبان” على العاصمة كابول.

ثمة فكرة قد تنبه المرء إلى حقائق خطيرة، مفادها أن هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان أسهمت في انهياره. واستطاع نظام نجيب الله الشيوعي البغيض الذي دعمه السوفيات أن يبقى بضع سنوات من خلال القسوة والمكر، عقب رحيل “الجيش الأحمر” السوفياتي. وخلافاً لذلك، لقد تداعى نظام “الديمقراطية الليبرالية” على الطريقة الغربية في غضون أيام.

هل يوجد أي وميض ضوء، مهما تناهى في الصغر؟ قيل لنا إن هناك حركة “طالبان جديدة وأنها أكثر حداثة، ليس بالضبط بمعنى أن أفرادها يتبنون الثقافة الغربية ويرتدون بزات رسمية، بل إنهم مقاتلون قادرون على إصدار بيانات صحافية والجلوس حول طاولة مباحثات. وتفيد تقارير أولية بأنه سيسمح للبنات بالذهاب إلى المدارس حتى وصولهن سن البلوغ. ويبقى ذلك مطمئناً للوهلة الأولى، إلى أن تبدأ في التفكير في آلاف الشابات اللاتي طردن فعلاً من الجامعات والمدارس الثانوية كي يتفرغن للزواج (القسري) ولأداء واجباتهن المنزلية.

واستطراداً، لم تتضح تداعيات تلك الكارثة حتى الآن، لكن يمكن تلمسها من خلال الذعر والفوضى كأنها صورة عليها مسحة ضبابية. هناك في أفغانستان أشخاص وضعوا ثقتهم في القيم والمؤسسات الغربية، وقد تركوا الآن لمصيرهم هناك. لقد “خدعوا”، كما ذكر روري ستيورات ]الوزير السابق[ (باعتباره واحداً من الغربيين القلائل الذين يتعاطفون بشكل حقيقي مع تلك البلاد).

إضافة إلى ذلك، هناك الأثر الذي ستحدثه الكارثة على السياسة الأميركية أيضاً. ليس من شك في أن ترمب مهد الطريق لانسحاب الولايات المتحدة، لكن على غرار عدد من تجاوزاته وارتكاباته الأخرى التي لا تعد ولا تحصى، سينسى دوره أو يصفح عنه، من قبل ناخبيه. وسيتحمل الرئيس جو بايدن المسؤولية كلها.

في ذلك الصدد، يرى منظمو استطلاعات الرأي أن الناخبين الأميركيين ليسوا مهتمين بتلك البلاد البعيدة التي لا يكادون يعرفون شيئاً عنها سوى أنها مقبرة للقوات الأميركية. إلا أنني أظن أن تلك الواقعة المعيبة سيكون لها تأثير واسع على آراء الناخبين بشأن الرئيس. لقد باتت مصداقية تلك الإدارة [بايدن] أثراً بعد عين. وسيصبح تمرير التشريعات أكثر صعوبة مما مضى. وسيكتسب جناح اليمين الصاعد، المستوحى من ترمب، قسطاً من الزخم والانتعاش بسبب فشل أول وكبير للديمقراطيين بعد تسلمهم الحكم. ولا يمكن لتلك التطورات أن تشكل أخباراً جيدة بالنسبة إلى أميركا والعالم كله.

في تلك الأثناء، ستتعزز السردية المسموعة في بكين وأماكن أخرى عن أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، في حالة انهيار نهائي. هنالك الأزمة المالية، وترمب، والـ”بريكست”، والآن، ذلك الإخفاق العسكري والسياسي والتخلي عن الحلفاء. قد تميل الحكومات غير الصديقة إلى تجريب حظها في بعض حملات من شأنها أن تسلط الضوء بشكل أكبر على الضعف الأميركي في الخليج أو بحر البلطيق أو أوكرانيا أو بحر الصين الجنوبي. وبعد ذلك سيشعر الأميركيون برغبة في المبالغة برد الفعل بهدف إثبات أنهم لم يفقدوا الطاقة والحماس كحال من يتداعى فعلاً. ولذا، سيصبح العالم برمته مكاناً أكثر خطورة مما مضى.

ولا ننسى أن هناك جماعات إرهابية. ولقد عاد الرجال الذين خططوا لهدم البرجين التوأم في 11/9، أو على الأقل رجع الذين استطاعوا منهم البقاء على قيد الحياة طيلة عقدين مختبئين في كهوف أفغانستان أو في ملاذ ما في الحدود الشمالية الغربية مع باكستان. وبعد ما تمكن أولئك الرجال من ترسيخ نفوذهم، وكذلك نفوذ منافستهم “داعش”، في منطقة الساحل في أفريقيا وأيضاً في سوريا، شرعوا في العودة كي يرسوا قاعدة آمنة في بلاد يستطيعون التحصن فيها بشكل شبه كامل. ولا تشكل تلك المعطيات أخباراً حسنة بالنسبة إلينا أو إلى دول في المنطقة كالهند والصين وإندونيسيا وباكستان والفيليبين، صارعت الإرهاب الإسلامي بدرجات متفاوتة من النجاح والقسوة.

في سياق متصل، سيكون هناك لاجئون حتماً. هل سيكون عددهم مئات الآلاف؟ أم ملايين؟ يمكن أن يتحول التدفق المحدود الحالي إلى فيضان قريباً، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار باكستان وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى القريبة كطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان. وكذلك ستفيض بهم تلك الدول وسيتدفقون على تركيا التي أوضحت أنها لا تريدهم، وبالتالي ستحولهم إلى أوروبا الغربية التي سيدخلونها حيثما يستطيعون اجتياز الأسوار التي تحيط بدولها.

وحين يصل أولئك اللاجئون إلى ميناء “كاليه” في فرنسا، ستحاول عائلات على متن زوارق صغيرة خرق الحصار الذي فرضته [وزيرة الداخلية بيرتي] باتيل، كي تتمكن [العائلات] من الوصول إلى شواطئ المملكة المتحدة فتلتحق بأقرباء وأصدقاء ممن حصلوا على حق اللجوء.

في المحصلة، تلوح في الأفق معضلة أخلاقية محيرة أيضاً. هل سنسمح لأولئك الناس أن يأتوا ويعيشوا هنا كي ينجوا بأرواحهم، تماماً على غرار ما فعلنا حين أرسلنا قواتنا كي تموت من أجل حمايتهم في وطنهم؟

إذا حاكمنا المسألة على أساس رفض الحكومة إصدار تأشيرات دخول لمصلحة موظفي “المجلس البريطاني” [في أفغانستان] بعد أن باتوا معرضين للخطر بشدة، سنخلص إلى أن البوصلة الأخلاقية للحكومة موجهة بصرامة في الوجهة التي يرضى عنها الناخبون المحافظون الذين تقول لنا شركة “يوغوف” لاستطلاعات الرأي إنهم يعتبرون “الهجرة” التحدي الأكبر للبلاد.

وتفيد شائعات بوجود تصميم لدى الوزراء لمصلحة البقاء في أفغانستان حتى بعد رحيل الأميركيين عنها. وربما يعود هذا التصميم المفترض إلى الاعتبارات السياسية من النوع الآنف الذكر، أو إلى الإحراج المحض لكون مئات الجنود البريطانيين قد أرسلوا كي يموتوا في أفغانستان، ومع ذلك لم يلبث “العدو” أن عاد وهيمن على البلاد كلها في غضون أيام من مغادرة القوات الأميركية. هل يمكن أن نبقى هناك إلى جانب أصدقائنا الفرنسيين؟ لعلهم [أولئك الوزراء] قد نسوا أزمة السويس [فشل تدخل عسكري بريطاني وفرنسي في حل مشكلة قناة السويس سنة 1956]، أو ربما غابت الـ”بريكست” عن بالهم؟

بالنتيجة، ثمة حقيقة كريهة تتجسد في أن “بريطانيا العالمية” تفعل ما يطلب منا الأميركيون فعله، لا أكثر ولا أقل. ومع صدور التعليمات [الأميركية] هذا الأسبوع لنا، بـ”الركض”، يحز في القلب شعور مأساوي لا يغتفر بأن أولئك الذين خدموا وماتوا على امتداد العقدين الأخيرين، قد فعلوا ذلك كله عبثاً.

—————————————–

ميليشيا “فاطميون” من سوريا إلى أفغانستان/ هدى رؤوف

يطرح دائماً سيناريو تشكيل إيران لميليشيات مسلحة على أسس طائفية ودمجها في النظام السياسي لبلد ما، السؤال حول تداعيات خلق كثير من الفواعل حاملي السلاح، لا سيما في ظل دول تتنازعها الصراعات الإثنية والطائفية والعرقية. ومن ثم، فهل تكون أفغانستان مرشحة لسيناريو تعزيز العنف والانقسام العرقي بعد صعود حركة “طالبان” السنية، التي اشتبكت في معارك مع الشيعة الهزارة المدعومين من إيران.

ما هو مصير فيلق “فاطميون” بعد عودته من سوريا؟ وما تأثير ذلك في الوضع الجديد في أفغانستان؟

الهزارة، هم ثالث أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان ويمثلون ما بين 10 إلى 15 في المئة من سكان البلاد، ذات الغالبية السنية، وهم من الشيعة وعانوا من الاضطهاد لقرون. قُتل الكثير منهم في ظل حكم “طالبان”، وفي الأعوام الأخيرة على يد تنظيم “داعش” في خراسان. دفع الفقر واليأس وانعدام الأمن في أفغانستان عدداً كبيراً من الهزارة للفرار إلى إيران، وهي الأسباب ذاتها التي دفعت شبابهم للانضمام إلى صفوف “فاطميون” في سوريا.

وفي ظل سيطرة “طالبان” على أفغانستان أخيراً، تعاملت إيران ببراغماتية مع التطورات السياسية بعد الانسحاب الأميركي، وقررت عدم معارضة الحركة معترفة بتقدّمها. وهي بهذه الخطوة تضع الهزارة الشيعة، الذين كانوا في الخطوط الأمامية للقتال ضد “طالبان” في قلب الصفقة مع الحركة، التي ستقتضي عدم التعرض لهم.

أهمية الشيعة الهزارة تجلّت في الأعوام الأخيرة التي زادت فيها عسكرة السياسة الخارجية الإيرانية، مستندة إلى العامل الأيديولوجي الذي تعتمد طهران عليه في نسج وتكوين شبكات من الوكلاء الإقليميين. وشُكّل لواء “فاطميون” من اللاجئين الأفغان الشيعة في إيران ومن أعضاء أقلية الهزارة الشيعية داخل أفغانستان.

ومنذ عام تقريباً، عرض وزير الخارجية الإيراني المنتهية ولايته محمد جواد ظريف على الحكومة الأفغانية استخدام لواء “فاطميون” لمحاربة تنظيم “داعش” في خراسان، واصفاً إياهم بأنهم “أفضل القوات” لمحاربته. وقال إن طهران مستعدة لمساعدة الحكومة الأفغانية في إعادة تجميع هذه القوات تحت قيادة الجيش الوطني لمكافحة الإرهاب، مؤكداً أن بلاده جاهزة لدعم “فاطميون” تحت قيادة الحكومة الأفغانية.

وحينها لم تكُن تصريحات ظريف تعني الحكومة الأفغانية فحسب، لكنها  تستهدف أيضاً “طالبان” والولايات المتحدة في حال تهديد مصالحها في أفغانستان.

الآن وبعد سيطرة “طالبان” على أفغانستان، ربما لن تتمكّن إيران من إقناعها بدمج “فاطميون” في القوات الأمنية الحكومية. بالتالي، فإن السيناريو العراقي القاضي بتشكيل ميليشيات شيعية ودمجها في النظام السياسي، على غرار لواء كتائب “حزب الله” وقوات الحشد الشعبي لن يتحقق مجدداً، لا سيما أن “طالبان” تدرك أهمية لواء “فاطميون” كحركة مقاتلة شكّلها الحرس الثوري الإيراني، واحتمال انتهاجها العنف داخل أفغانستان في ظل أي مواجهة مع الأقلية الشيعية.

إن توظيف “فاطميون” في سوريا ثم أفغانستان يعكس الأهداف الجيوسياسية لإيران، التي تعود إلى أعوام طويلة من توظيف وتسليح وتدريب ونشر الميليشيات الشيعية في مناطق الصراع المختلفة، بما في ذلك لبنان وسوريا والعراق واليمن.

وبعد أن تم تعزيز سيطرة نظام بشار الأسد على السلطة وانحسار الصراع السوري، عادت هذه الميليشيات إلى إيران وأفغانستان. ومع ذلك، ربما لا يكون استخدام “فاطميون” انتهى، بحيث يمكن لطهران الآن الاستفادة منه في دول الخليج مثل البحرين واليمن، إضافة إلى أفغانستان.

ولئن كان فيلق “فاطميون” ناشطاً جداً في أفغانستان ونفوذه يتوسع في المناطق الشيعية، فإن لذلك تداعيات خطيرة على الصراع في البلاد، في توليده بعداً طائفياً جديداً، يمكن أن يصبح تهديداً لكل المنطقة، ويعمّق مشاركة الدول والميليشيات السنية والشيعية.

ففي ظل عودة الآلاف من لواء “فاطميون” إلى أفغانستان وأي تسوية سياسية تحصل في سوريا تتضمن إخراج الميليشيات الإيرانية منها، وبعد تدرّبهم على حمل السلاح طوال عشرة أعوام في الميدان السوري، والصدام في وقت لاحق مع “طالبان”، فإن الصراع الطائفي والعرقي سيؤجج في أفغانستان، ومن الممكن أن يؤدي إلى أن تصبح منطقة حرب بين السنّة والشيعة، مما يجذب القوات والميليشيات المدعومة من إيران.

——————————

كيف ترى روسيا فوضى أفغانستان؟/ كفاية أولير  

تراقب موسكو احتمال امتداد عدم الاستقرار إلى دول الاتحاد السوفياتي السابق حيث تحتفظ بقواعد عسكرية (رويترز)

قال مسؤول بوزارة الخارجية الروسية، الإثنين، إن روسيا تعتزم إجلاء جزء من موظفي سفارتها في كابول، عقب استيلاء “طالبان” السريع على العاصمة الأفغانية.

وفي المقابل أجلت القوات الأميركية موظفي سفارتها وأجانب آخرين الأحد، مع دخول قوات الجماعة المتمردة كابول وانهيار الحكومة الأفغانية.

ولقي ما لا يقل عن ثلاثة أشخاص مصرعهم في الفوضى التي اندلعت في مطار كابول الأحد، حيث حاول آلاف الأفغان الفرار من المدينة بحسب صحيفة “ذا موسكو تايمز”.

اجتماع مرتقب

وصرح مسؤول وزارة الخارجية والمبعوث الرئاسي إلى أفغانستان زامير كابولوف لراديو “إيكو موسكفي”، بأن سفير روسيا في كابول دميتري غيرنوف يعتزم الاجتماع مع أعضاء “طالبان” الثلاثاء لمناقشة الإجراءات الأمنية للدبلوماسيين الروس الذين ما زالوا في مناصبهم.

وقال كابولوف، “لدينا سفارة كبيرة نسبياً في أفغانستان يبلغ عدد أفرادها نحو 100 شخص، وسيجري إرسال بعض موظفينا في إجازة أو إجلاؤهم بطريقة أخرى حتى لا نخلق كثيراً من الوجود في أفغانستان”. وأضاف كابولوف أن الجماعة المسلحة “أقامت بالفعل محيطاً حول السفارة الروسية”.

ويأتي تصريح كابولوف الأخير بعد يوم من إعلانه أن روسيا ليس لديها خطط لإخلاء سفارتها في كابول، وأن موسكو ستقرر الاعتراف بحكومة “طالبان” الجديدة “على أساس سلوك السلطات الجديدة”، وقال “سنرى بعناية مدى المسؤولية التي يحكمون بها البلاد في المستقبل القريب، وبناء على النتائج فإن القيادة الروسية ستتوصل إلى النتائج الضرورية”.

في غضون ذلك انتقدت متحدثة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الولايات المتحدة لعدم إجلاء المواطنين الأفغان، على الرغم من إدانة واشنطن المتكررة انتهاكات حقوق الإنسان.

وكتبت زاخاروفا عبر قناتها على “تيليغرام”، “إن الولايات المتحدة تطبع عادة بيانات عن قضايا حقوق الإنسان الفردية على مدار الساعة، حتى من دون أخذهم استراحة غداء (متهكمة). الأفغان يقتحمون الطائرات ويطلبون من واشنطن التي قدمت تأكيدات لتحالفهم لسنوات عدة ليس للمساعدة، لكن من أجل الخلاص”.

وكانت روسيا سعت خلال السنوات الأخيرة إلى التواصل مع “طالبان”، واستضافت ممثلين عن الحركة في موسكو مرات عدة آخرها الشهر الماضي بحسب “ذا موسكو تايمز”.

وتراقب موسكو احتمال امتداد عدم الاستقرار إلى دول الاتحاد السوفياتي السابق المجاورة في آسيا الوسطى، حيث تحتفظ بقواعد عسكرية هناك.

وقالت المستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية إلينا سوبونينا خلال اتصال هاتفي من روسيا مع “اندبندنت عربية”، إن موسكو “تراقب بحذر شديد المشهد السياسي المتحول في أفغانستان”، مؤكدة أن بلادها “ستبقى في حال تريث”، وهذا يعني أن روسيا مستعدة للتعامل مع حركة “طالبان”، “إذا كان سلوكها مقبولاً وحضرياً، ولم تنفذ إعدامات أو عمليات انتقامية”.

تعزيزات أمنية حدودية

وعن القلق الروسي من تصدير حركة “طالبان” للراديكالية إلى دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وامتلاك روسيا قواعد عسكرية في دولها السابقة قالت سوبونينا، “القاعدة العسكرية الروسية موجودة في دولة طاجيكستان المجاورة حدودياً لأفغانستان، وموسكو ساعدت طاجيكستان ودولاً أخرى في تعزيز إمكاناتها الدفاعية، بخاصة معدات وعمليات المراقبة على الحدود حتى لا يعبر الأفغان أو تحدث عمليات تهريب عبر الحدود الجبلية الوعرة والدروب الضيقة بسهولة، وبالتالي فروسيا ما زالت تراهن على تعامل دبلوماسي مع حركة طالبان ولاعبين آخرين، لكن في الوقت نفسه نقوم بمناورات عسكرية مشتركة مع طاجيكستان”.

وحول ما إذا كانت روسيا وطاجيكستان ستحشدان عسكرياً على الحدود الطاجيكية تحسباً لأية مفاجأة من “طالبان”، أضافت المستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية أنه “تحسباً لأية مفاجأة هناك القاعدة الروسية العسكرية هناك، لكن حتى الآن التوقعات القائمة تقول إن حركة طالبان ستبقى داخل الحدود الأفغانية، وروسيا لا تريد أن تتدخل في الداخل الأفغاني”.

ومنذ اليوم الأول لاجتياح “طالبان” مدناً أفغانية قالت موسكو إنها تقبل “أهون الشرين”، أي أن سيطرة “طالبان” على البلاد يمكن تتجرعها خلافاً لسيطرة تنظيم القاعدة الذي رابط في أفغانستان سنوات طويلة، وخاض حروباً شرسة هناك، وعما إن كانت روسيا بالفعل قد قبلت بواقع سيطرت حركة طالبان على سدة الحكم في أفغانستان تشرح سوبونينا، “طالبان لا تزال على القائمة السوداء الروسية، وفي حال غيرت من سلوكها المتشدد فقد تفكر روسيا مع الآخرين بالاعتراف بها، لكن الاعتراف حالياً مستبعد حتى تكشف الحركة عن نواياها ونهجها في إدارة البلاد، وكيف ستكون طبيعة علاقاتها مع دول الجوار”.

انسحاب مُخجل

ووصفت سوبونينا الانسحاب الأميركي والغربي من أفغانستان بـ “المخجل”، قائلة إن “الرئيس الأميركي جو بايدن وضع أهدافاً أنانية سياسية واقتصادية، واليوم هو ماض في تحقيق هذه الأهداف في السياق الأميركي، لكن الانسحاب السريع الذي حدث في أفغانستان كان مخيفاً ومخجلاً ومبكياً”.

وتابعت، “لا نستبعد بروز كثير من المشكلات الجديدة لأن الراديكاليين يفهمون الانسحاب الأميركي الغربي على أنه ضعف ونوع من الانتصار بالنسبة إليهم، وقد يشكل ذلك مستقبلاً خطراً حتى على العمق الغربي

 اندبندنت عربية

————————–

مخاوف كردية في العراق من تكرار سيناريو أفغانستان/ باسم فرنسيس

تجددت المخاوف على الصعيدين السياسي والشعبي في إقليم كردستان العراق من “خذلان أميركي” آخر للأكراد على غرار تداعيات الانسحاب من أفغانستان، في ظل تشابه للأوجه بين الملفين، وسط دعوات إلى تعزيز سلطة مؤسسات الدولة والقضاء على الفساد.

وانهارت قوات الحكومة الأفغانية في وقت سابق من الشهر الحالي بوتيرة سريعة أمام مسلحي حركة طالبان، التي ختمتها قبل أيام بالسيطرة على العاصمة كابول، بعد انسحاب الجيش الأميركي بعد احتلال دام نحو 20 عاماً.

هذه التطورات أثارت سجالات حامية في الوسط الكردي الذي ينظر في كثير من المواقف بعين الشك تجاه مواقف الإدارة الأميركية المتهمة بالتخلي “عن حلفائها الأكراد” من العراقيين في ثلاثة شواهد تاريخية، منذ انهيار الثورة الكردية عام 1975، مروراً بأحداث فشل انتفاضة الأكراد على نظام صدام حسين عام 1991، ونزوح نحو مليوني شخص نحو تركيا وإيران، وآخرها انسحاب قوات البيشمركة من مناطق واسعة أمام اجتياح تنظيم “داعش” محافظة نينوى ومناطق أخرى من البلاد.

وعلى الرغم من أن بعضهم يرى اختلافاً جوهرياً بين الملفين العراقي والأفغاني في ما يتعلق بالمصالح الأميركية، فإن سياسيين ومراقبين يتوجسون من أوجه التشابه ونقاط الخلل المشتركة المتمثلة في غياب عقيدة وطنية في إطار جيش موحد، وتعدد الفصائل المسلحة المنقسمة وفق عقائد قومية وطائفية وفساد ينخر في جسد الدولة، مما أفقد الجندي والمواطن عقيدته الوطنية في الدفاع عن نظام متهالك، وهي إحدى نقاط الخلل التي تخشى تداعياتها قوى وساسة أكراد على مستقبل التجربة الكردية أيضاً.

الموقع الجيوسياسي

النائب في برلمان الإقليم الكردي القيادي في حزب “الاتحاد الإسلامي الكردستاني” أبو بكر هلدني لم يخف تلك الهواجس قائلاً “أوضاعنا تشترك في نقاط عدة مع حال أفغانستان، إذ إن واشنطن فشلت في العراق كما في الإقليم، ولم تستطع إقامة حكومة شفافة وديمقراطية حقيقية يمكن اعتبارها دولة المواطنة، وكل الأموال الطائلة التي أنفقتها لم ينتج منها جيش وطني بعيد من التدخلات الحزبية، ناهيك عن الفساد المستشري في حكومتي بغداد وأربيل وغياب مؤسسات مستقلة”.

واستدرك، “لكن الاختلاف يكمن في الموقع الجيوسياسي للعراق تجاورنا دولة لها دور مؤثر في إدارة سياسة المنطقة، إلى جانب أمن إسرائيل الذي هو من أولويات اهتمامات واشنطن، كما أن البلد غني بالثروات الطبيعية خصوصا النفط، وعلى الرغم من أن الأميركيين سينسحبون مع الإبقاء على مهمات تدريب القوات، لكن نأمل بأن تتعظ الحكومتان العراقية والكردية من التجربة الأفغانية تجنباً لوقوع كارثة مماثلة”.

وأشار هلدني إلى أن واشنطن “خذلت الكرد ثلاث مرات، وليس ببعيد أن تخذلنا للمرة الرابعة، فهي تنتهج مبدأ ليس هناك صداقة دائمة بل مصالح قائمة”، مشدداً على أنه “على الرغم من المسؤولية الملقاة على الأميركيين فإن المسؤولية الأكبر تقع على حكوماتنا إذا ما فشلت في تأسيس دولة ذات سيادة حقيقة ذات مؤسسات رصينة، لأن القوى السياسية الآنية فقدت شرعيتها الجماهيرية إلى حد بعيد، لاستغلالها ثروات البلاد من أجل مصالحها الحزبية الضيقة، وهي وفق المصطلح القانوني آيلة للسقوط لكن في سيناريو مختلف”.

هذه المخاوف استحوذت على فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، وناقش مواطنون عبر “فيسبوك” سؤالاً طرحه أحد المستخدمين للموقع، “ما الذي يمنع غداً أو بعد غد بأن يخرج بايدن أو نائبه ليعلن الانسحاب بذريعة أنهم ليسوا مستعدين لحمايتنا إلى ما لا نهاية، بعد أن صرفوا المليارات لتوحيد قوات البيشمركة، وجعلها منظومة عسكرية محصنة، لكن الحزبين الكرديين لم يستغلا الدعم بالشكل الأمثل”.

سلطة فاسدة وميليشيات

وكتب رئيس كتلة “جماعة العدل” في برلمان الإقليم عبدالستار مجيد متسائلاً “ما الذي سينفعنا فأميركا ستنسحب عاجلاً أم آجلاً، وأوضاعنا تتشابه مع أفغانستان، والبلدان يتشاركان في وجود سلطة فاسدة وميليشيات تابعة لأشخاص وأحزاب”. وأردف، “لنحو 20 عاماً أنفقت واشنطن 88 بليون دولار لتشكيل الجيش الأفغاني لكنه لم يقاوم شهراً”.

ويتفق المحلل في الشؤون الكردية سامان نوح مع هلدني على عدم استبعاد تكرار سيناريو أفغانستان بصيغة أخرى، “إذ على الرغم من أن العراق أكثر تماسكاً مؤسساتياً، فإن هناك ميليشيات وإن كانت مدرجة رسمياً ضمن المنظومة العسكرية تتبنى فكراً عقائدياً، وأهدافها لا تتفق دائماً مع الجيش، خصوصاً في مسألة احتمال انحيازها إلى فئة بعينها تحت ظرف ما”.

وفي شأن أوجه التشابه قال، “لدينا الفساد المتغلغل وهو أخطر ما يهدد الدولة، ولا يسمح بنشوء مؤسسات وطنية وقوية، ناهيك بسلبيات نظام المحاصصة الطائفي القائم هنا فإننا يصعب أن نجد من يدافع عن النظام ككل، بل يتبع إلى طرف محدد وهنا تحدث الانهيارات”.

وفي المقابل يستبعد سياسيون موالون للحزبين الكرديين الحاكمين في الإقليم من قدرة ميليشيات شيعية أو مسلحي تنظيم “داعش” على اقتحام الإقليم على الطريقة “الطالبانية”، انطلاقاً من مبدأ أن حركة طالبان هي جزء من النسيج الاجتماعي والعشائري والأسري للشعب الأفغاني، بينما التنظيم والميليشيات العراقية لا تملك أدوات للبقاء طويلاً في الإقليم.

وكشف زكري موسا، مستشار رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، عن أن “ما جرى في أفغانستان حدث معنا في صيغة وظرف مختلفين، مرة عندما هاجم داعش كردستان في غياب أميركي عام 2014، وهجوم الحشد الشعبي لاقتحام الإقليم أمام أنظار القوات الأميركية عام 2017، وفي الحالتين نجحت قواتنا في صد الهجومين”.

تأثير محدود

وفي هذا الجانب أكد نوح أن “الوجود الأميركي في العراق محدود من حيث العدد، وتأثيره محدود أيضاً، لكنه فاعل في كردستان، فهو يتخطى ليكون فاعلاً سياسياً واقتصادياً، وهو أشبه كمظلة حماية، وأي انسحاب سيخلق انهيارات، خصوصاً في توازن المعادلة السياسية عراقياً، وسيكون من اليسر أن تهدد جماعات مسلحة بأي هوية كانت تجربة الإقليم التي تعاني فساداً عميقاً، وهذا ما جرى في 2014 عندما انهارت قوات البيشمركة أمام اجتياح داعش قبل أن تتدخل أميركا وطهران لإيقاف التنظيم عن مشارف أربيل”.

ويتمتع الإقليم الكردي بكيان شبه مستقل عن الدولة العراقية منذ 1991، إلا أن وحدات قواته المعروفة باسم قوات “البيشمركة” ما زالت تعاني انقساماً وفق انتماءات حزبية، خصوصاً بين الحزبين الرئيسيين الحاكمين، الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الذي كان يتزعمه الراحل جلال طالباني، على الرغم من صدور قرارات تشريعية ووجود وزارة للبيشمركة، والدعم المقدم منذ سنوات ضمن مبادرة من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

ورأى المحلل عارف قورباني أن مخاوف وتداعيات الانسحاب الأميركي ستقع على الإقليم حصراً، معللاً ذلك إلى “اختلاف المشهد مع أفغانستان” مع وجود ميليشيات شيعية تدعمها إيران وتتبع للقوى الرئيسة الحاكمة في بغداد، وتطالب بالانسحاب الأميركي عكس حركة طالبان التي جاءت من خارج نظام الحكم.

يذكر أن القوات العراقية تساندها قوات “الحشد الشعبي” الشيعية خاضت أواخر 2017 قتالاً ضد القوات الكردية، وتمكنت من استعادة مناطق شاسعة تعرف باسم “المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد”، عقب تنظيم الأكراد استفتاءً عاماً للانفصال عن العراق.

اندبندنت عربية

—————————–

لا تصدقوا طالبان/ داليا زيادة

ما زال العالم يحاول أن يفيق من أثر صدمة صعود طالبان السهل والسريع إلى قمة السلطة في أفغانستان، بين عشية وضحاها، في يوم ١٥ أغسطس. من المفارقات، أن نقل السلطة بين الرئيسين الأمريكيين ترامب وبايدن، في يناير، في أمريكا أم الديمقراطية، كان أكثر تعقيداً من انتقال السلطة الذي شهدته أفغانستان من الرئيس المدعوم من الولايات المتحدة، أشرف غني، إلى تنظيم طالبان المتطرّف. لقد كانت الطريقة التي انسحبت بها القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو من أفغانستان، بشكل ساده الهرولة والفوضوى، بعد عشرين عاماً من البقاء في البلاد، سبباً رئيساً في الاستسلام السريع للجيش والحكومة الأفغانية، بهذا الشكل المذل.

من المؤلم مثلاً أن تعرف أنّ الجيش الأفغاني، الذي استسلم في مواجهة طالبان مؤخراً، كان أكبر حجماً وأكثر قوة من بعض الجيوش الأوروبية في حلف الناتو. لا ينكر أحد أن الأمريكيين قد عملوا بكد على تدريب الجيش الأفغاني بشكل جيد وتجهيزه بمعدات متقدمة، لكن عندما قررت أمريكا الانسحاب ومغادرة البلاد، لم تكلف نفسها عناء التنسيق مع الجيش أو الحكومة الأفغانية. بدلاً من ذلك، تخاطبت أمريكا مع حركة طالبان، ووقعت اتفاقاً معها، ومنحوهم فرصة عام كامل لتجهيز أنفسهم للحظة المغادرة. في تلك الأثناء، ظل الشعب الأفغاني والحكومة والجيش الرسمي للدولة غير عليم بتفاصيل ما يجري، وفي لحظة وجدوا أنفسهم وحيدين تماماً وعارين تماماً من حليفهم الأمريكي أمام مسلحي طالبان، لهذا استسلموا.

إن المشاهد المأساوية، في مطار كابول، لمواطنين أفغان يتعلقون بعجلات وأجنحة الطائرات الحربية الأمريكية على أمل الهروب من جحيم طالبان، هي لمحة صغيرة من الألم والبؤس الذي من المتوقع أن يعاني منه الشعب الأفغاني على يد طالبان في الفترة القادمة، خاصة الفئات الهشّة، مثل النساء والأطفال. على الرغم من ذلك، ما يزال المجتمع الدولي وكبار القادة السياسيين، في غرب العالم وشرقه، يدورون حول أسئلة ساذجة بشأن طالبان وما إذا كانت قد تخلّت عن عقيدتها الإرهابية لتمارس السياسة المنفتحة على العالم. وكأن هؤلاء السياسيين لم يبلغوا من العمر ما يكفي أو لديهم خبرة كافية ليتذكروا الفظائع التي ارتكبتها حركة طالبان، في الماضي، ليس فقط داخل أفغانستان ولكن أيضاً في جميع أنحاء العالم، تحت راية ما يدعون أنه الشريعة الإسلامية. في الحقيقة، ما تزال الذكرى الأليمة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك حية في قلوبنا وعقولنا حتى اليوم.

من بين كل التصريحات المزعجة التي أدلى بها قادة العالم، مثل الاتحاد الأوروبي واليونيسيف، حول تفاؤلهم تجاه حكم طالبان في أفغانستان، برز تصريح واحد بشكل خاص، في مقابلة مع قناة سكاي نيوز، وصف رئيس أركان الجيش البريطاني، نيك كارتر، مقاتلي طالبان بأنهم “أبناء قبائل ريفية” ودعا العالم إلى التحلي بالصبر تجاههم ومنحهم الفرصة لإثبات أنهم “أكثر عقلانية” من طالبان القديمة. المزعج في هذا التصريح، هو أنه من الصعب تخيل أن قائداً عسكرياً، يتمتع بخبرة وذكاء كارتر، يمكن يكون قد صدق الأكاذيب التي تنشرها حركة طالبان حالياً حول انفتاحها على إشراك النساء في الحياة العامة والعفو عن الأفغان الذين دعموا قوات الناتو والولايات المتحدة أثناء وجودهم في أفغانستان.

إن الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة والناتو من أفغانستان، بطريقة مكّنت طالبان من الاستيلاء على السلطة، هو خط قد يتجاوزه العالم في المستقبل، إلا أن إصرار قادة المجتمع الدولي على إضفاء الشرعية على طالبان وإجبار الرأي العام العالمي على ابتلاع أكاذيبهم حول دعم حقوق الإنسان وحقوق المرأة وعدم العودة إلى ممارسة الإرهاب ضد الدول الأخرى، خاصة في الغرب، هو خطيئة كبرى، سيدفع الأبرياء، في جميع أنحاء العالم، ثمنها غالياً.

هناك حقيقة لا يغفلها أحد مفادها أن حركة طالبان هي تنظيم إسلامي متطرّف، تحت يده معدات عسكرية أمريكية متطورة، في بلد شاسع من حيث المساحة وليس فيه حكومة أو جيش.

لهذا يجب ألا نثق في طالبان أو نصدقهم عندما يدّعون بوجوههم الغابرة أنّهم قد تغيروا أو أصبحوا منفتحين. طالبان اليوم أكثر وحشية وخطورة من طالبان التسعينيات. فقط انتظر حتى تتاح لهم الفرصة لإظهار وجههم الحقيقي. إن إرهاب وقتل المدنيين الأبرياء على أساس الهوية الدينية، وإهانة النساء، واغتصاب الأطفال في زواج القاصرات، وما شابه ذلك من الفظائع اللاإنسانية، ليست سوى جزءاً صغيراً من العقيدة الدينية والسياسية التي تتبناها طالبان، ولن يتخلوا عنها أبداً، مهما ادّعوا عكس ذلك.. لا تصدقوا طالبان.

——————————

=====================

تحديث 21 آب 2021

———————–

دروس الهزيمة الأميركية في أفغانستان/ حسن نافعة

لم يكن المشهد الذي تابعه العالم من مطار كابول يوم الأحد الماضي مثيرا للدهشة فقط، وإنما كان باعثا أيضا على أشد أنواع الحيرة التي يلفها الغموض، فبينما كانت قوات حركة طالبان، المصنفة إرهابيا على القوائم الأميركية، تتجه مرفوعة الرأس، بزهو المنتصر، نحو أبواب العاصمة الأفغانية، بعد نجاحها في السيطرة على معظم المدن الرئيسية الأخرى، كانت القوات الأميركية، والتي جاءت إلى هذا المكان أصلا لتسقط “طالبان” وتمحوها من الوجود، تهرول مسرعةً نحو طائراتها العسكرية المصطفّة في المطار، استعدادا للعودة منكّسة الرأس إلى واشنطن، في الوقت الذي كان فيه آلاف المواطنين الأفغان، من المتعاونين مع الاحتلال الأميركي أو من الخائفين من عودة “طالبان” إلى مقاعد الحكم، أو خليط من هذين الصنفين معا، يتدافعون للحاق بطائراتٍ تتهيأ للإقلاع. وحين لا يجدون فيها موطئا لقدم كانوا لا يتردّدون في الاختباء تحت أجنحتها، أو يهرولون للإمساك بإحدى عجلاتها قبل أن تنطلق في الجو! ولأنه مشهدٌ لم يكن يوحي إطلاقا أننا إزاء عمليةٍ منظمةٍ لانسحابٍ متفقٍ عليه سلفا، بل الأحرى إزاء حالة من الارتباك التام والفوضى الشاملة، فقد تولد لدى المشاهد إحساسٌ قويٌّ بأن الولايات المتحدة لا تنسحب من أفغانستان باختيارها وإرادتها الحرة، وإنما تفرّ منه مضطرة ومرغمة، بعد أن أيقنت أنها ستخسر حربها ضد “طالبان” لا محالة، حتى لو قرّرت البقاء في أفغانستان ألف عام أخرى… جملة من الملاحظات يستدعيها هذا المشهد الباعث على الحيرة والملفوف بالغموض!:

الأولى: تتعلّق بملابسات الغزو الأميركي لأفغانستان وأسبابه وأهدافه المعلنة والخفية: فعلينا أن نتذكّر، ونحن نتابع ما يجري اليوم في أفغانستان أن هذا الغزو بدأ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2001، أي بعد أسابيع قليلة من أحداث “11 سبتمبر” التي جرى خلالها تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك، وقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص. السبب المعلن لهذا الغزو رفض حركة طالبان التي كانت تتولى السلطة في أفغانستان منذ العام 1996 تسليم زعيم تنظيم القاعدة المتهم بتدبير “11 سبتمبر”، أسامة بن لادن، وكان يتخذ من أفغانستان مقرّا له. لذا، يمكن القول إن غزو أفغانستان كان يعدّ، من المنظور الأميركي، مجرد مرحلة أولى في “حربٍ كونيةٍ على الإرهاب”، تقودها الولايات المتحدة، وكان ينبغي أن تشارك فيها دول العالم كافة. وقد استطاعت القوات الغازية هزيمة “طالبان” بسهولة خلال أيام معدودة، ثم شرعت سلطة الاحتلال الأميركي على الفور في إقامة نظام سياسي أفغاني جديد، كانت تأمل أن يكون أكثر ديمقراطية وأقل قابلية لتفريخ الإرهاب. لذا يمكن القول إن الأهداف المعلنة للغزو تمحورت حول إسقاط حركة طالبان وتدميرها واستئصال جذورها، من ناحية، وإعادة بناء الدولة الأفغانية على أسس جديدة، من ناحية أخرى. غير أن تطوّر الأحداث أثبت أنه كانت لدى الإدارة الأميركية القائمة آنذاك، بقيادة جورج دبليو بوش الابن، أجندة خفية تسعى إلى تمكين الولايات المتحدة من إحكام هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، وتحويل القرن الواحد والعشرين إلى قرن أميركي خالص، ما دفعها إلى العمل على استغلال أحداث “11 سبتمبر” وتوظيفها لخدمة مشروع اليمين الأميركي الجديد، بدليل أنه ما إن نجحت في إزاحة “طالبان” حتى حوّلت وجهتها نحو العراق، وقامت بغزوه وإسقاط نظامه الذي لم تكن له أي صلة بالإرهاب. ومن المفارقات أن عام 2003، والذي جرى خلاله غزو العراق، كان العام الذي تمكّنت فيه حركة طالبان من إعادة تنظيم صفوفها، وبدأت تخوض حرب عصابات ضد الاحتلال الأميركي في أفغانستان.

الثانية: تتعلق بمسار هذه الحرب ونتائجها، فقد أنفقت الولايات المتحدة، خلال فترة احتلالها أفغانستان، والذي استمر عشرين عاما متواصلة، أكثر من تريليون (ألف مليار) دولار، وخسرت أكثر من 2400 قتيل، بخلاف حوالي 27000 جريح. أما الجانب الأفغاني فقد خسر ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص بين قتيل وجريح. ولم يتمكّن النظام الذي أقامته الولايات المتحدة ليحل محل نظام “طالبان” من السيطرة على كامل الأراضي الأفغانية في أي وقت، على الرغم من امتلاكه جيشا قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل، ومسلح بأحدث أنواع الأسلحة. ومن المفارقات أن هذا الجيش الضخم لم يتمكّن من الصمود أمام حركة طالبان، والتي لم يتجاوز تعداد مقاتليها 75000 مقاتل.. صحيحٌ أن الولايات المتحدة كانت، ولأسباب داخلية في المقام الأول، قد قرّرت، منذ سنوات، أن تنسحب من أفغانستان، وقامت بالفعل بتخفيض قواتها هناك أكثر من مرّة، إلا أنها ظلت تأمل أن يتمكّن النظام البديل الذي أقامته من البقاء والاستمرار، وهو ما لم يحدُث، فقد سقط هذا النظام الذي تصوّرت الولايات المتحدة أنه يقدّم نموذجا أرقى من نظام “طالبان”، وانهار في أول اختبار حقيقي، حتى من قبل أن تبدأ قوات “طالبان” في اقتحام العاصمة، بل وفرّ رئيسه إلى الخارج، حاملا معه أقصى ما يستطيع من الأموال المنهوبة!

الثالثة: تتعلق بالأسباب التي أدّت إلى تمكين حركة طالبان، ليس فقط من العودة إلى المشهد السياسي في أفغانستان، بل من الهيمنة عليه أيضا وبشكل منفرد. إذ يعتقد بعضهم أنه ما كان في وسع “طالبان” أن تنجح في السيطرة المنفردة على أفغانستان، على نحو ما تم، ما لم تكن قد تمكّنت من التوصل سلفا إلى صفقة مع الولايات المتحدة، تقبل “طالبان” بموجبها أن تتحوّل إلى أداةٍ يمكن للولايات المتحدة استخدامها للضغط على أعدائها، خصوصا إيران والصين وروسيا الاتحادية. ويستند هؤلاء إلى أن “طالبان” والولايات المتحدة دخلا في مفاوضاتٍ مباشرة استضافتها الدوحة، أسفرت عن اتفاق بينهما أبرم بالفعل في فبراير/ شباط 2020، وتضمّن بالفعل جدولا زمنيا محدّدا لإتمام الانسحاب الأميركي من أقغانستان. غير أنه لا توجد، في تقديري، شواهد على صحة هذه النظرة التآمرية. فمن ناحيةٍ، يُلاحظ أن الاتفاق لم ينفذ بالكامل، خصوصا وأنه تضمّن بنودا عديدة، توقف تنفيذها على توصل “طالبان” إلى اتفاق مسبق مع النظام الأفغاني الحاكم، خصوصا ما يتعلق منه بكيفية إدارة المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تعقب الانسحاب الأميركي، وهو ما لم يتم. على صعيد آخر، يخيّل إليّ أن الافتراض القائل إن حركة طالبان قابلة للتحوّل هكذا، وفي غمضة عين، من عدوٍّ يخوض حرب تحرير وطنية ضد الاحتلال الأميركي، إلى حليفٍ يمكن توظيفه رأس حربة تعمل لحساب الولايات المتحدة ضد إيران والصين وروسيا الاتحادية، هذا الافتراض ينتمي إلى حقل “البهلوانية السياسية” أكثر مما ينتمي إلى حقل “الواقعية أو البراغماتية السياسية”.

الرابعة: تتعلق بالانعكاسات المحتملة لما جرى في أفغانستان خلال الأسبوع الماضي على تطور الأوضاع في منطقتنا وفي العالم. وفي تقديري، يتلخص ما جرى في أن الولايات المتحدة أجبرت على الانسحاب من أفغانستان، ومن ثم أقرّت بهزيمتها عسكريا أمام “طالبان” على المستوى التكتيكي على الأقل، كي تتمكّن من وضع حد لعملية استزافٍ قد يؤدي استمرارها إلى إضعافها استراتيجيا على المدى الطويل. بعبارة أخرى، يمكن القول إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يأتي استجابةً لرؤية أشمل لإدارة الأزمات الدولية، تهدف إلى تقليص الاعتماد على أدوات القوة الخشنة، واستبدالها بأدوات القوة الناعمة والذكية، الأمر الذي يتطلب عدم زجّ قوات أميركية مقاتلة في الميدان إلا في حالات الضرورة القصوى ولفترات محدودة جدا، والاكتفاء بالاحتفاظ بقواعد عسكرية ثابتة في مناطق حيوية من العالم، بعيدا عن مناطق التوتر. لذا يتوقع أن يعقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان انسحاب تدريجي من مناطق أخرى، كالعراق وسورية، والاعتماد أكثر على القوى الإقليمية الحليفة، كإسرائيل وتركيا، في القيام بالمهام القتالية نيابة عنها عند الضرورة. أما بالنسبة للصراع المستقبلي مع قوى لديها طموحات كونية، كالصين وروسيا الاتحادية، لدى الولايات المتحدة من أدوات القوة الناعمة ما يمكّنها من مواجهة التحدّي، من دون اللجوء إلى الدخول في حروبٍ أو عمليات قتالية.

.. هل يمكن القول، استنادا إلى ما سبق من ملاحظات، إن الولايات المتحدة استخلصت الدروس الصحيحة من تجربة الحرب المريرة في أفغانسنان؟ ربما! لكن ما هي بالضبط هذه الدروس؟ أظن أنها تنحصر في ثلاثة: أن الحرب ليست هي الوسيلة الأفضل للتوصل إلى الأهداف المنشودة عند إدارة الأزمات الدولية. أن الإيمان بعدالة القضية التي نحارب من أجلها، والإصرار على مواصلة النضال مهما بلغت التضحيات، هما مفتاحا النصر في أي مواجهات دولية. أن الديمقراطية لا تُستورد ولا تُفرض من الخارج، وإنما يجب أن تنبع من داخل الشعوب نفسها، وأن تعكس آمالها وطموحاتها.

العربي الجديد،

—————————-

كيف أفرحت طالبان الأسد وخصومه معاً؟/ عمر قدور

ينقل إعلام الأسد فرَحَ حلفائه الروس والإيرانيين بالتطورات الأفغانية، وشماتتهم بالانسحاب الأمريكي أو بالطريقة التي حدث بها، ما يعكس ابتهاج الأسد بما حدث. في جهة الخصوم، أصدر المجلس الإسلامي السوري “بيان تهنئة للشعب الأفغاني بطرد المحتل”، مع تأكيد البيان على أن “مشاريع التحرير لا بد أن تعكس هوية الأمة وثقافتها”. في إدلب، حيث اليد الطولى لهيئة تحرير الشام “النصرة”، وُزِّعت الحلويات احتفالاً بالنصر، وأرسل الجولاني تهانيه لقادة طالبان. أما صمت ائتلاف المعارضة فتقابله نسبة كبيرة من المعارضين المحتفلين على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضهم من منطلق إسلامي وبعضهم مدفوع بعداء دائم لأمريكا، من دون استثناء الناقمين على أمريكا بسبب عدم نصرتها السوريين ضد الأسد.

يمكن القول أن المبتهجين نوعان، قسم فرِحٌ لأجل طالبان وما تمثله أيديولوجياً، وقسم فرحَ بما يراه هزيمة أمريكية، وأفرحته طالبان بسرعة تقدمها وسيطرتها على نحو يراه مُذِلاً للقوة الدولية الأعظم. من الطريف مثلاً أن يجتمع إعلام الأسد وبيان المجلس الإسلامي السوري “المعارض” على إبراز مصير “عملاء” أمريكا، أو عملاء المستعمر حسب وصف المجلس الإسلامي السوري الذي يعود للتأكيد على أن مصير أعوان المحتل الخزي والعار في الدنيا قبل الآخرة. وإذا كان ختام بيان المجلس يشير إلى الاحتلالين الروسي والإيراني في سوريا فإن إعلام الأسد يستغل المناسبة للتركيز على الاحتلال الأمريكي وكيفية تعامله مع عملائه، وللتصويب على قسد والإدارة الذاتية الكردية اللتين تحظيان بمظلة أمريكية.

إلى جوار ابتهاج الغالبية العربية “موالاة ومعارضة”، من المنطقي أن يشعر الأكراد بالقلق بسبب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، القلق من مبدأ الانسحاب وأيضاً من الطريقة عديمة الرحمة بالأفغان المحسوبين على واشنطن لسبب أو لآخر. القلق الكردي ليس جديداً، فقد أعلن ترامب من قبل عن نيته الانسحاب من سوريا، قبل أن يستقر على سياسة البقاء ضمن هدفين؛ التصدي لداعش والسيطرة على مواقع النفط، لا طمعاً في الأخيرة وإنما استكمالاً للعقوبات الأمريكية على الأسد. مجيء بايدن، رغم تعاطف أوساط الديموقراطيين مع الأكراد، أعاد القلق السابق مع سحب هدف السيطرة على مواقع النفط والإبقاء على التصدي لداعش كهدف وحيد للوجود الأمريكي، يُعزز من القلق أن إدارة بايدن لم تعلن حتى الآن أية خطة تتعلق بسوريا، ولم تعين مبعوثاً لها، على رغم العديد من المطالبات الداخلية بذلك ومنها مطالبات من الكونغرس ومجلس الشيوخ.

تصريح بايدن الأخير أن سوريا، بسبب داعش، تشكل خطراً على الولايات المتحدة أكثر من أفغانستان لا يبدد القلق أو الشكوك حول مصير تواجد قواته في سوريا. لقد أعلن ترامب يوماً أن القوات الأمريكية أنجزت مهمتها، ولم يعد داعش يشكل خطراً على بلاده، وعليه قرر يومَها سحب تلك القوات القليلة أصلاً. اليوم أو غداً، ليس هناك ما يمنع بايدن من فعل المثل، كأنْ يصرح بأن تهديد داعش انتهى، أو لم يعد له وجود في سوريا، ولم يعد من مبرر لبقاء قواته تالياً. بل إن المنطق يستوجب الوصول إلى هذه النتيجة، فإذا كانت القوات الأمريكية تنسحب من العراق “معقل داعش” فمن الأولى أن تنسحب من سوريا، ولا يتغير الاستنتاج إذا كان الانسحاب متصلاً بمغازلة طهران قبل أي اعتبار آخر.

موقف بشار وحلفائه وأنصاره من الوجود الأمريكي مفهوم، فهو يطمع في السيطرة على تلك المناطق في حال سحب المظلة الأمريكية، وتشتد الحاجة إلى ذلك مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها سلطة الأسد، ومع عدم قدرة حليفيه على مساعدته، أو عدم رغبتهما في دفع تكاليف إضافية جديدة. أبعد من ذلك، سيكون الانسحاب الأمريكي مبرراً نهائياً لتطالب موسكو وطهران بانسحاب باقي القوات الأجنبية من سوريا، والمقصود بها تلك التي لم تدخل بطلب من بشار الأسد “بوصفه السلطة الشرعية!”، أي القوات التركية.

ما هو غير مفهوم أو منضبط منطقياً موقفُ شريحة واسعة من المعارضين، يريد أصحابها انسحاباً أمريكياً؛ فقط على قاعدة العداء لقسد ومسد. البعض منهم يأمل في تحقق سيناريو وردي، تتقدم بموجبه القوات التركية لوراثة الوجود الأمريكي، أو لتتقاسم ذلك الإرث مع روسيا وطهران، فتزداد مساحة الأراضي التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة تركياً. هناك من أصحاب هذه الآمال من لديه أوهام إزاء القدرة التركية على مقارعة روسيا، أو أوهام حول وجود رغبة تركية في التصدي لروسيا. في الحالتين يتجاهل أصحاب الأوهام أن الحاجة الروسية لأنقرة مرتبطة إلى حد كبير بتقاسم النفوذ الحالي، أي بالوجود الأمريكي، وستتضاءل هذه الحاجة مع رحيل القوات الأمريكية وبروز إغواء السيطرة التامة “مع طهران” على الشأن السوري.

كلمة حسن نصرالله الأخيرة في ذكرى عاشوراء أكدت ما هو مؤكد لجهة تلهف محوره إلى مغادرة القوات الأمريكية سوريا، إذ طالبها بالمغادرة عطفاً على “هزيمتها” الأفغانية، وأنكر عليها أية مساهمة في هزيمة داعش، مدّعياً أن داعش هُزم بالجيشين العراقي والسوري وميليشيات “المقاومة”. قبله كان بشار الأسد في خطاب قسمه قد تحدث عن “مقاومة شعبية” ضد القوى التي يصنفها احتلالاً، وهو تلميح بقدرته على إثارة بعض المشاكل للقوات الأمريكية، واستغلال حساسية الرأي العام الأمريكي “المساند لمبدأ الانسحاب عموماً” تجاه مقتل أي جندي أمريكي.

يبقى الأهم أن المعارضة، وبخلاف بشار وحلفائه، لم تبلور خلال سنوات فهماً وموقفاً متقدماً من الوجود الأمريكي، فمطالباتها منصبة على رؤية للدور الأمريكي على هواها. وفق ما تريده المعارضة؛ على واشنطن زيادة الضغط على بشار، والتخلي عن قسد والإدارة الذاتية وتسليم مناطق سيطرتها للفصائل التي أصبحت جميعاً برعاية تركية، من دون طرح أي حافز منطقي يدفع واشنطن لتنفيذ هذه الأمنيات!

ما يثير الاستغراب أن الوجود الأمريكي، كما هو، لم يحظَ بنقاش جاد لبلورة موقف للمعارضة منه. جزء من نقمة المعارضين على أمريكا آت من غياب الواقعية في التعاطي مع الوجود الأمريكي، بينما لا تغيب تأثيرات الموقف التركي المتعلقة بالشأن الكردي أكثر من غيره. الحسابات ذاتها موجودةٌ مقلوبةً لدى الإدارة الذاتية ومن خلفها منظومة حزب العمال الكردستاني، فلا يرى أصحابها طريقاً ثالثاً في المفاضلة بين أنقرة والأسد، وكأن غايتها ترجيح العودة إلى الأسد التي يؤخرها الوجود الأمريكي.

لا تحتاج واشنطن ذريعة عندما تقرر الانسحاب من سوريا، إلا أن الذرائع متوفرة لها، وكما ألقت باللوم على حكام أفغانستان الذين انهاروا بلا مقاومة أمام طالبان فلدى المعارضة والإدارة الذاتية ما يكفي لإلقاء اللوم عليهما عندما يحين الوقت. عندئذ لن تتسع الفرحة لجميع المبتهجين اليوم، سيضحك الأسد وحلفاؤه مرة لانتهاء الكابوس الأمريكي ومرة من “نباهة” خصومه.

المدن

—————————–

طالبان جديدة؟/ حسام كنفاني

منذ الأسبوع الماضي، دخلت أفغانستان عهداً جديداً، قديماً نوعاً ما، مع استعادة حركة طالبان السيطرة على البلاد، بعد عشرين عاماً من إنهاء حكمها عن طريق الحملة العسكرية الأميركية التي أعقبت اعتداءات “11 سبتمبر”. لكن هل ما زالت “طالبان” على حالها قبل عشرين عاماً، أم أن هذه السنوات غيّرت الحركة ودفعتها إلى مزيد من البراغماتية في التعاطي مع مسائل الحكم؟ وخصوصاً أن تجربتها السابقة في السلطة بين عامي 1996 و2001 كانت حافلة بالفشل والحصار والعقوبات، وصولاً إلى استجرارها الاحتلال الأميركي بعد رفضها تسليم زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن.

المؤشّرات الأولى الظاهرة في التصريحات العلنية لمسؤولي حركة طالبان المصدّرين للتعاطي مع الإعلام، الغربي خصوصاً، توحي بأن هناك نسخة محدثة من الحركة الإسلامية، تضع في اعتباراتها العلاقات الدولية، السياسية والاقتصادية، وتأخذ في الحسبان القلق الغربي من السياسات الداخلية للحركة الإسلامية، والنظام الذي ستقيمه بعد انهيار ما كان من المفترض أن يكون “التنظيم المدني” للدولة الأفغانية الذي حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها بناءه على مدى عشرين عاماً، وفشلت.

وحرص المتحدّث باسم “طالبان”، ذبيح الله مجاهد، في أول مؤتمر صحافي لطالبان في كابول، على التأكيد على احترام حقوق المرأة وفق الشريعة الإسلامية. وقال: “ستكون المرأة نشطة للغاية في مجتمعنا”، وسيسمح لها بالعمل “في إطار قوانيننا الإسلامية”، ما يعني عملياً الالتزام بالزي الشرعي وفق رؤية الحركة، والتي تغيرت أيضاً بحسب التصريحات، إذ بات الحجاب كافياً لاعتباره زياً إسلامياً. هذا ما أوضحه المتحدث باسم المكتب السياسي للجماعة في الدوحة، سهيل شاهين، لشبكة سكاي نيوز البريطانية، حين قال إن “البرقع ليس الحجاب الوحيد الذي (يمكن) الالتزام به، فهناك أنواع مختلفة من الحجاب”. مثل هذه المواقف، والتي يمكن اعتبارها بسيطة إلى حد ما، توضح أن هناك تحولاً في موقف الحركة، والتي كانت لا ترى، خلال الفترة السابقة لحكمها في أفغانستان، وحتى في مناطق سيطرتها خلال محاربة القوات الأميركية والأفغانية، بديلاً عن البرقع كزي شرعي للنساء.

هذه المعطيات ليست وحدها التي تؤشّر إلى أن “طالبان” الحالية ليست تماماً كما تلك السابقة، فحتى التصريحات السياسية لمسؤولي الحركة توحي بأن التوجّه هو إلى الانفتاح على الغرب وعلى المحيط بشكل أساسي، وهي بدأت بإطلاق الإشارات التي تمهد لاعتراف الدول الغربية بحكمها على البلاد، فالنظرة إلى الدول الغربية لم تعد كما كانت في السابق، وخصوصاً لجهة “التكفير” الذي كان أحد مناهج تعامل الحركة في الداخل والخارج، بل باتت المصالح اليوم هي التي تحكم العلاقة المرتقبة بين “طالبان” ودول العالم. وعلى هذا الأساس، كان حديث المتحدّث باسم الحركة عن الرغبة بعلاقات “دبلوماسية وتجارية جيدة مع جميع الدول”.

مثل هذا التحول ليس وليد الساعة، بل بدأ منذ استشعرت “طالبان” اهتماماً غربياً، أميركياً بالأساس، في مهادنتها، والتمهيد لعودتها إلى السلطة بشكل من الأشكال، فكانت المفاوضات الأميركية الطالبانية التي استضافتها الدوحة، والتي أنتجت اتفاقاً في فبراير/ شباط من عام 2020، كان يمهد لإدماج “طالبان” في الحكومة الأفغانية، غير أن تحوّلات ميدانية لاحقة، لم يُعتقد أن الولايات المتحدة كانت بعيدة عنها، أدّت إلى المشهد النهائي لدخول مقاتلي الحركة إلى العاصمة كابول.

رغم الإشارات الطالبانية هذه، إلا أن الأيام القليلة الماضية ليست كافيةً للحكم على حقيقة التغيير الذي حدث في “طالبان”، وما إذا كانت البراغماتية السياسية ستنعكس فعلياً على الممارسات الميدانية، وهو ما تنتظره الدول الغربية لتقرير ما إذا كانت “طالبان” هذه جديدة فعليا، أم أنها نسخةٌ مموّهة عن تلك السابقة.

العربي الجديد،

————————-

أول قواعد السياسة؟ تجنّب غزو أفغانستان/ مالك التريكي

روى لي ناشط سياسي ليبي كان ينتمي، في الثمانينيات والتسعينيات، لإحدى الجماعات الإسلامية أنه قال لأسامة بن لادن في أحد لقاءاته معه في أفغانستان (قبل مدة من هجمات 11 سبتمبر 2001) إن أي عملية قد تخطط لتنفيذها ضد المصالح الغربية سوف تجر أعظم البلاء على الأبرياء من سكان أفغانستان لأن القوى الغربية تعرف أنك مختبئ هنا منذ أن طردت من السودان. لقد استجرت بالأفغان فأجاروك وقاموا نحوك بما تمليه أخوّة الدين وأعراف البدو من واجب النجدة والشهامة، فلا يعقل أن تكافئهم بتوريطهم في مخططات وعمليات سوف يكونون هم ضحيتها رغم أنه لا دخل لهم فيها، بل ولا علم لهم بها أصلا.

وهذا بالضبط ما حدث. إذ أن أمريكا لم تسع إلى الرد على هجمات 11 سبتمبر ردا محددا متناسبا مع العدوان وموجها إلى من أوعزوا به وخططوا له. وإنما اغتنمت الفرصة لمحاولة تحقيق غايات استراتيجية أبعد في آسيا الوسطى، وقد كانت آنذاك لمّا تستفق بعد من أوهام «البرهة الأحادية» التي خيلت لها، إلى حين، إمكان التفرد بالهيمنة على العالم كله. إذ لو كان الأمر يتعلق بالرد على هجمات 11 سبتمبر حصرا، لاقتصرت أمريكا على النشاط الاستخباري المؤدي إلى تحديد مخبأ بن لادن وأعوانه. وهذه عملية ما كانت تستدعي إلا الأناة، بدليل أن هذا ما تم بعد ذلك بعشرة أعوام، في مايو 2011. ويجدر التذكير أن بن لادن قتل آنذاك في جو من عدم الاكتراث الإسلامي والعالمي، نظرا إلى أن أسطورته قد سقطت قبل بذلك بكثير. أما سنوات الخوف والدمار العشرون، والـ241 ألف قتيل (علما أن فيهم 71 ألفا من المدنيين الأفغان الأبرياء) والـ2261 مليار دولار! (أكثر من ضعف الميزانية الاستثنائية التي أجازها الكونغرس أخيرا لتجديد البنية التحتية في كامل البلاد الأمريكية، والتي هي أضخم ميزانية منذ إصلاحات الرئيس ليندون جونسون الاجتماعية الكبرى في الستينيات) من النفقات التي ضاعت كلها بين سلاح وهدر وفساد، فتلك حرب لم يكن لها من معنى. كانت حربا بلا غاية. «لقد أزهقنا الأرواح من أجل كذبة» كما كتب الضابط الأمريكي السابق تيموثي كودو في نيويورك تايمز غداة دخول طالبان إلى كابول. كما كان كتب، عام 2015، كيف أن تجربة الحرب الغامضة الأهداف، كما عاشها في أفغانستان والعراق، تعلّم الجندي استسهال الضغط على الزناد فيصير القتل لديه عادة تنزع عنه صفة الإنسانية.

أما أهم حقيقة أثبتها الرجل، في رأيي، فليس قوله إن التضليل الرسمي والهزيمة العسكرية وسوء السياسة والتدبير قد تضافرت لتجلب على الأمة الأمريكية عارا سوف يبقى كصخرة ثقيلة تغلّ أعناق الجميع، وإنما اعترافه أنه: لولا كثرة المتطوعين منّا (للجندية) لما كان هنالك أحد لخوض هذه الحروب.

حقيقة بسيطة ينساها كثير من الغربيين ولا أفتأ أذكرها كلما رأيت على التلفزيون عائلة بريطانية أو أمريكية تبكي ابنا قتيلا في الحروب البعيدة. هؤلاء شباب ينعمون بالعيش في أوطان لا يحدق بها خطر خارجي وليست فيها خدمة عسكرية إلزامية؛ ورغم ذلك فإنهم يتركون أبوابا من الرزق لا تحصى ليلزموا أنفسهم بما لا يلزم ويجازفوا بالتطوع للجندية. لكأن الشاب وأهله لم يكونوا على علم بأن هذه «الوظيفة» الاختيارية ستجرّ على صاحبها احتمال القتل في معارك لا علاقة لها البتة بالدفاع عن الوطن.

ينضاف إلى كل هذا أن لقبائل أفغانستان خصوصية تكاد تكون «من المعلوم بالضرورة» لدى الرأي العام العالمي. ومن الأدلة على ذلك أن مجلة «بكين روندشاو» الصينية كتبت في 22 يناير 1980، بعد أقل من شهر من بدء الغزو السوفييتي، أن «إخضاع أفغانستان سهل سهولة استيلاء دب على خلية نحل. هذا ما ظنه الاتحاد السوفييتي (..) ولكنه لن يلبث أن يدرك أنه تعثّر في عش دبابير (..) ذلك أن التاريخ سوف يثبت أن المعتدين السوفييت قد دخلوا أفغانستان ليحفروا فيها قبورهم».

كما أن رسامي الكاريكاتور أبدعوا هذه الأيام في تصوير ما اشتهر به الأفغان من عادة، أو موهبة، دحر الغزاة. فقد هزموا كلتا القوتين العظميين: الاتحاد السوفييتي في القرن الـ20، والولايات المتحدة في القرن الـ21. أما في القرن 19، فكانوا قد هزموا الإمبراطورية البريطانية مرتين! لهذا قال رئيس الحكومة البريطاني الراحل هارولد ماكميلان، الذي كان رفيع الثقافة عارفا بكلاسيكيات الإغريق والرومان، إن للسياسة قواعد وأول قاعدة هي عدم غزو أفغانستان. وفي رواية أخرى أنه، بعد مرضه الذي أقعده، خاطب خلفه آلك دغلس-هوم ناصحا قبل أن يسلّمه الحكم: «يا بنيّ طالما تجنبت غزو أفغانستان، فستسير أمورك على ما يرام». نصيحة ثمينة أصاب من قال يا ليت جون ميجور تذكّر فأسداها لتوني بلير.

كاتب تونسي

القدس العربي

———————–

كيف تسقط من طائرة؟/ بيار عقيقي

في السياسة والتحليل، تستطيع أن تناقش قدر الإمكان، وقد تُخطئ وتُصيب، لكن في نهاية كل قصةٍ ستبقى صورتك التحليلية ناقصة، دائماً سيظلّ هناك تفصيلٌ لم تتمكّن من فهمه ولن تتمكّن من ذلك، مرتبط بالفعل البشري العفوي الذي يمزج بين الوعي والغريزة، ويُطيح كل مسار عقلاني أو واضح المعالم بالنسبة إليك، وفقاً لسير الأمور أو منهجية منطقية. في أفغانستان “مقبرة الإمبراطوريات”، لم تختلف الأمور عند دخول حركة طالبان العاصمة كابول يوم الأحد الماضي. في السياسة، أُثيرت تحليلات شتى، بشأن مسبّبات ذلك ومآله ومستقبل البلاد والحركة معاً، وصولاً إلى انعكاس سيطرة “طالبان” على طريق الحرير الصيني واستقرار آسيا الوسطى.

وسط هذا كلّه، تتجه أنظارك إلى مطار حامد كرزاي الدولي في كابول. استُعيد زخم الذاكرة بغية إجراء مقارنةٍ بين الطائرات الأميركية الهاربة من سايغون في فيتنام عام 1975 وأفغانستان. يُمكن دائماً خلال عقد المقارنات التفكير بمدى تقدم الإعلام وسهولة انتشاره. في سايغون، لم تكن الكاميرات كافيةً لنقل ما يحدُث، ولم يدرك العالم حقيقة ما يجري إلا بعد فترة، بل كان هناك نقصٌ إعلاميٌّ سيبقى حتى نهاية التاريخ. في كابول، كان الساعون إلى الهروب من أفغانستان، المتجمّعون في المطار، يحملون هواتفهم، ويصوّرون كل تفصيل في أثناء محاولتهم الفرار.

هنا، يتجلّى الرعب بكامل تفاصيله. أشخاصٌ يسعون، بكل ما في وسعهم، إلى ركوب الطائرات للفرار. يتعلقون بعجلات طائرة عسكرية أميركية، ثم يتهاوون من علٍ كمن فقد القدرة على التشبث بالطائرة وخرجت الأمور من تحت سيطرته. ربما، يُمكن للحظة ترك كل “الأمور الاستراتيجية” جانباً، وتصبّ تفكيرك على مشهد سقوط بشرٍ من السماء. سيُقال، على سبيل الشماتة أو قلة الإدراك، إن هؤلاء هم “عملاء أميركا من الأفغان”، غير أنك تُدرك، في قرارة نفسك، أن “العملاء” أو “المتعاونين” يتمّ الاهتمام بوضعهم، ودراسة توطينهم في دول عدة.

ما الذي يدفع شخصاً إلى تسلّق الطائرة للفرار من حكمٍ ما؟ ليس بالضرورة أن يكون الفرار مرتبطا بالحكم، فاللجوء الأفغاني معروفٌ منذ انقلاب محمد داود خان على الملك  ظاهر شاه عام 1973. الأسوأ أن فكرة “الذهاب إلى خارج البلاد لأنها لن تصطلح في المستقبل” تبقى الأكثر رواجاً في اللاوعي الجماعي بين مواطني أي دولةٍ تعاني من سطوة الفساد والهدر والتمييز على أسس طائفية وإثنية.

الآن، قد تبدو الفكرة أقرب إلى روايةٍ خيالية، لكنها في الواقع صورةٌ عن كل واحد منا: يستيقظ شاب أفغاني على وقع إعلان دخول حركة طالبان إلى كابول. يشاهد ويعيش حالة رعبٍ شاملة، أشبه بهستيريا جماهيرية مولودة من رحم عامل نفسي. لن يتمكّن هذا الشاب من التمييز. يراهم يهرعون إلى المطار، فيهرع معهم. لا يفكّر سوى بسلبيات حياته في أفغانستان. ومع كل مترٍ يعدوه، يزداد يقيناً بهذه السلبيات، وتكبر ثقته في اللحاق بطائرةٍ ما تستعدّ للإقلاع. لا يفكّر في جواز سفر أو تأشيرة سفر. يفكّر فقط في حجز مكانه هناك. يصل إلى المطار، ويفاجأ بوجود كثيرين مثله. يحاول استغلال سرعته، كقيمة ناجمة عن اصطفاء طبيعي. يهرول إلى إحدى الطائرات. يتمسّك بعجلتها. تبدأ الطائرة بالتحليق. يقول في نفسه: “لقد نجوت. قريباً سأكون في أميركا”. لم يتصوّر أن هناك في السماء سيختلف الوضع عن الأرض. تزداد الطائرة سرعة وصخباً. الهواء أكبر من أن يتمّ استيعابه. يبدأ الشاب بالانزلاق. لم تعد يداه قادرتين على التمسّك بالطائرة. يبدأ بالسقوط الحرّ، وفي أثناء ذلك يفكّر: “هل كان الأمر يستحق موتي؟”. قطعاً لم يكن سوى بشر يسعى إلى ما كان يعتقده “مستقبلاً أفضل”، بمجرّد صعوده إلى الطائرة. هذا الشاب هو كل فرد منا في بلادٍ عصيّةٍ على الإصلاح، وصورة عمّا يُمكن لامتزاج الوعي والغريزة أن يفعل.

العربي الجديد،

——————————

كن واقعياً/ د. ابتهال الخطيب

حين كتبت أتساءل إن كانت آلة الزمن قد أعادتنا إلى التسعينيات حيث الثورة الطالبانية، وحيث الخطاب الإسلامي غريب التشدد لتحريم التماثيل والفنون، وذلك بمناسبة عودة طالبان التي تزامنت مع تعليقات استنكارية غريبة من بعض السياسيين في الكويت، بسبب وجود تمثال في متجر أو بسبب دورة رقص في ناد صحي، أتت الردود من بعض المعلقين على تويتر لتتمنى في الواقع العودة للوراء، لربما لألف سنة للخلف، حيث التقوى الحقيقية والدين الإسلامي القويم.

وعلى حين أن كل ذي منطق يعلم أن العودة الطالبانية هي خطة سياسية لها أطراف كثيرة تستغل العقول الصغيرة، كما وأن كل ذي نباهة يعرف أن اعتراض نائب سلفي على دورة رقص في ناد صحي نسائي هنا أو على تمثال زينة في متجر هناك، إنما هي حركات سيطرة أيديولوجية لا علاقة لها بالورع ولا هدف لها في حماية الدين، إلا أن ما يغيب عن العقول وما يغيبها هو حقيقة تلك «النوستالجيا» لزمان لا يمكن العودة له، ومكان لا يمكن تحمل التواجد فيه.

وهذه النوستالجيا تبدو لي صادقة، أصحابها يتوقون فعلياً لزمان غير زمانهم ومكان غير مكانهم، إلا أنها نوستالجيا أو تمنيات لو تحققت لدمرت أصحابها. فحين يبدي البعض الرغبة في العودة ألف سنة للوراء للحياة في مجتمع أكثر تديناً، هم فعلياً لا يعرفون عن هذا الزمان أكثر مما يقرأون في بعض كتب التاريخ «الرومانسية» وتلك هي المنتشرة لدينا والتي تروج لفكرة ماض إسلامي «يوتوبي» مثالي كله انتصارات ومثاليات سلوكية. واقع الحال أن التاريخ الإسلامي استشكالي جداً منذ بدايته، فمنذ وفاة النبي والحروب السياسية والاغتيالات الممنهجة لم تتوقف، كما ولم تتوقف السيطرة الأيديولوجية والتهديد المرهب للحريات والعلوم، التي ذهب ضحية لها كتب ومخطوطات ثمينة أكلتها ألسنة النيران على مدى التاريخ الإسلامي. ماذا سيحدث لشخص من القرن الواحد والعشرين، حتى ولو أتى من أكثر الأيديولوجيات تطرفاً، لو أنه عاد لذلك الزمن؟ ماذا سيحدث له لو أنه إضافة إلى اكتشافه أن التاريخ المسطور مثالية، هو في الواقع تاريخ بشري مثله مثل غيره، مليء بالهزائم التي تفوق الانتصارات وبالخطايا والكوارث السلوكية التي تفوق الطيب الورع منها، أقول ماذا سيحدث لو أنه اكتشف أنه، إضافة لكل ما سبق، سيعيش كذلك في مجتمع بلا كهرباء أو مياه جارية أو وسائل نقل أو مواد ترفيهية أو اتصال إنترنتي؟

أما هذا التوق الذي يبديه البعض عندنا للمجتمع الطالباني، فهو يذكرني بهذا التوق للطرف الآخر للمجتمع الإيراني، الذي يتحمس البعض له على أنه المجتمع الشيعي المثالي. مضحك هذا التوق من الطرفين، وهو مضحك أكثر لأنه توق صادر من أهل الخليج، سنة وشيعة، تجاه مجتمعات لن يستطيعوا أن يحيوا فيها ولو للحظة. من خيرات واستقرار وأمان دول الخليج والحريات «النسبية جداً» فيها، هل يستطيع الخليجيون التخلي عن كل ذلك للحياة في أفغانستان الطالبانية أو إيران المرشدية؟ هل سيتمكن من ينظر بإعجاب للنموذج الطالباني في فرض حياة الدولة الدينية السنية أو للنموذج الإيراني في تقنين أساليب العيش الديني الشيعي، أن يحيا أحد هذين الأسلوبين مرفقين، فوق قسوتهما، بشظف العيش والحرمان؟

سهل أن تجلس في بيتك المكيف، في دولتك الآمنة، وعلى طاولة سفرتك المليئة بما لذ وطاب، لتكتب من خلال «آيفونك» المتصل إنترنتياً عبر الأقمار الصناعية الغربية، عن شوقك لزمان مر من ألف سنة أو لمكان متقلقل مهزوز بسبب محاولاته المستمرة أن يفرض ماضياً لا يمكن أن يعود، وسهل أن تتمنى قرناً ماضياً، أو منطقة ساخنة مجاورة؛ لكن هل تخيلت للحظة حياتك، واقعياً، فيهما؟

القدس العربي

——————–

أمريكا إلى أين بعد الانسحاب من أفغانستان؟/ د. فيصل القاسم

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يتمرغ فيها أنف أمريكا بالتراب في بلد غزته واحتلته ثم اضطرت للهروب منه بشكل مخز، فلواشنطن تاريخ طويل في المهانة، فقد هربت من قبل من فيتنام وشاهدنا كيف كان عملاؤها وجنودها يتهافتون على الصعود إلى الطائرات الهاربة من أرض الفيتكونغ. ورغم أنها استخدمت كل الأسلحة المحرمة دولياً لإخضاع الفيتناميين كالعنصر البرتقالي الذي لا يقل فتكاً عن السلاح النووي، إلا أن أمريكا هربت أخيراً بعد أن وصل عدد قتلاها في اليوم الواحد إلى تسعة وخمسين ألف قتيل في إحدى المرات. لكن هزيمتها المخزية في فيتنام لم تثنها عن مواصلة المغامرات الفاشلة، فذهبت إلى الصومال بحجة إحياء الأمل لدى الصوماليين، ولا أدري منذ متى كانت مهمة الغزاة والمحتلين إعطاء الأمل للبلدان التي يغزونها؟ لكنها أيضاً تعرضت للإهانة في الصومال، وقد شاهد العالم كيف قام الصوماليون بالتنكيل بطياريها وجرجرتهم في الشوارع في مشهد لن ينساه العالم. ثم كررت اللعبة ذاتها في العراق وأفغانستان، ولم تجن من أفغانستان سوى الخيبة وخسارة ترليونات الدولارات وآلاف القتلى وإعادة البلدان التي احتلتها إلى العصر الحجري. لكن مع كل تلك الهزائم التاريخية، ظلت أمريكا تمارس هوايتها في الغزو معتمدة على ترسانة عسكرية ليس لها مثيل في التاريخ واقتصاد أسطوري يعتمد على عملة تستطيع أن تطبع منها الترليونات من دون أي رصيد.

لكن الهروب الأمريكي من أفغانستان ليس كبقية الانسحابات من العراق والصومال وفيتنام، فهو يأتي في وقت تواجه فيه أمريكا ولأول مرة في تاريخها منافسة حقيقية من الصين وروسيا، فأمريكا أيام الهروب من فيتنام ليست أمريكا أيام الانسحاب من أفغانستان، فالوضع مختلف تماماً الآن، فديون أمريكا صارت مضرباً تاريخياً للمثل بسبب ضخامتها، واقتصادها ينازع، بينما تصعد الصين كالصاروخ، ولم يعد لدى أمريكا هم يؤرقها ليل نهار أكثر من هم التصدي للصعود الصيني الرهيب. لهذا فإن مشاهد انسحابها المهينة والمخزية من أفغانستان ليست كمشاهد الانسحاب من فيتنام ولا الصومال، بل إنها تركت أمريكا هذه المرة في وضع لا تحسد عليه أمام العالم أجمع باعتراف البيت الأبيض نفسه وباعتراف حلفاء واشنطن في الشرق والغرب.

وقد نال الهروب الأمريكي من أفغانستان فعلاً كثيراً من هيبة أمريكا ومكانتها، وخاصة لدى حلفائها. وقد ظهرت تغريدات غربية كثيرة تقارن بين الانسحاب السوفياتي والأمريكي من أفغانستان. وقد كتب أحدهم قائلاً: «هل تعلم أن الاتحاد السوفياتي انهار بعد سنتين من هزيمته في أفغانستان»؟ وفي ذلك طبعاً غمز من قناة أمريكا. ولعل أقوى تغريدة في هذا الخصوص لإعلامي هندي شهير قال فيها:» إذا شعرت ذات يوم بأنك فاشل ولا أمل فيك، فقط تذكر أن أمريكا انتخبت أربعة رؤساء، وأنفقت ترليونات الدولارات، وخسرت عشرات الألوف من جنودها، وبددت عشرين عاماً ودمرت بلداً وشعباً من أجل أن تستبدل حركة طالبان بحركة طالبان»؟

وقد اتضح من خطاب الرئيس الأمريكي بايدن بعد الانسحاب أن أمريكا على ما يبدو تعلمت الدرس أخيراً وبدأت تنكفئ على نفسها، خاصة عندما ذكر الرئيس أن الصين وروسيا سعيدتان جداً وهما ترانا نبدد أموالنا وجيشنا في حروب عبيثة.

لكن الانسحاب من أفغانستان يجب ألا يدفعنا إلى الظن بأن مصير أمريكا سيكون كمصير الاتحاد السوفياتي بعد انسحابه من أفغانستان، فشتان بين الحالتين، فالأخير كان على وشك الانهيار أصلاً قبل الغزو السوفياتي لأفغانستان، وقد كان الغزو المسمار الأخير في نعشه، بينما أمريكا رغم هزائمها وإخفاقاتها العسكرية، إلا أن ليس كل غزواتها كانت عديمة الجدوى، فالغزو الأمريكي للعراق أمّن الحماية لإسرائيل لعقود قادمة، كما أسس للخراب الذي يجتاح المنطقة العربية وسيعيد تركيبها لصالح أمريكا والغرب عموماً. ولا ننسى أن أمريكا مازالت تمتلك قوة ناعمة لا تنافسها فيها لا الصين ولا روسيا ولا كل العالم كالاقتصاد والإعلام والسينما والثقافة الشعبية ومواقع التواصل والفضاء الإلكتروني والمأكل والمشرب والأزياء، وهي قوة تحتل بها أمريكا العالم أجمع.

ومن المفارقات الكبرى أن فيتنام التي دحرت أمريكا عادت لتصبح أشبه بالمستعمرة الأمريكية عبر الاقتصاد، فقد تحولت فيتنام إلى واحدة من أكبر مراكز الصناعات الأمريكية، فهي تحتضن الكثير من الصناعات كصناعة الملابس والأحذية الرياضية الأمريكية وشركات المشروبات الشهيرة مثل كوكاكولا وبيبسي وغيرهما. بعبارة أخرى، فقد خرجت أمريكا من فيتنام من الشباك ثم عادت من الباب. وفعلت ذلك من قبل بعد الحرب الكورية. بعبارة أخرى، فإن قوة أمريكا الناعمة أقوى وأكثر فعالية بكثير من عنترياتها العسكرية الوحشية البائسة. وللتذكير، فإن الاستثمارات البريطانية في الهند بعد الاستعمار صارت أكبر بكثير من أيام الاستعمار البريطاني للهند.

قد يرى البعض أن أمريكا بعد أفغانستان ليست كما قبلها، وهذا صحيح، لكن من المبكر جداً كتابة نعوة الجبروت الأمريكي في العالم، فالهروب من أفغانستان، إذا كان هروباً أصلاً ولم يكن فخاً استراتيجياً للقوى المنافسة من خلال الجيل الرابع من الحروب، فهو أشبه بـ «طعجة» في سيارة فارهة يمكن إصلاحها، لكن عدد «الطعجات» العسكرية والاقتصادية التي أصابت السيارة صارت كثيرة جداً، وكلها مسجلة في سجل «ميكانيك» السيارة التي ستوضع ذات يوم في المتاحف، وإذا استمرت في مغامراتها الطائشة، يمكن أن تتحول إلى خُردة باعتراف المؤرخ الأمريكي الشهير بول كندي.

———————————

عن أسباب انضمام معارضين خليجيين إلى حكامهم للترحيب بطالبان/ ميسا العمودي

ما يمكن قوله عن انشقاق الأطراف الحقوقية الخليجية اليوم، هو أن الذكورية الملتحفة بغطاء ديني تظهر في المواقف القاطعة، مثل ما يحدث حالياً في أفغانستان وانعكاساته على منطقتنا…

تلك القصص التي سمعناها عن أهوال المعارك والحروب في طفولتنا، وكان يؤرقنا فيها ضياع الأطفال وسبي النساء، ما زالت عالقة في أذهاننا مع كل الانقلابات السياسية، بخاصة إذا ما كانت تحت بطش الميليشيات المتطرفة، وهذا تحديداً ما يخيفنا اليوم مع سقوط العاصمة الافغانية كابول تحت سطوة “طالبان”، الحركة التي تابعنا هول تطرفها قبل عقدين. لكن وكما يبدو، فإن مأساتنا في المنطقة قادت أفراداً من بيننا لقبول أسوأ الخيارات وتمجيدها، صارفين النظر عن الضرر الذي سيلحق بالفئات المهمشة هناك كالنساء ومستقبل الأطفال الأفغان والشيعة وجماعات كثيرة أخرى مهددة.

ما بلغناه في واقعنا العربي من تدهور اقتصادي وقمع، ليس هو السبب الوحيد لظهور هذه الأصوات الشاذة المتخبطة، بل إن هناك أفكاراً دينية متطرفة دفينة نشأ عليها جيل خلال تقلبات أفغانستان السياسية، عندما كانت حكومات عدة تروج لنصرة المسلمين هناك، فمن لم يذهب للقتال في أفغانستان تبرع بالمال لهم أو على الأقل استمع لمحاضرات دينية ما زالت ترسباتها في رأسه حتى وإن كان ابتعد جغرافيا منها.

لقد تابعنا أصوات نساء أفغانيات تحدّثن في مقاطع مسجلة وتغريدات، عن صدمتهن من المشهد والتطورات الأخيرة في أفغانستان بعد دخول “حركة طالبان” إلى العاصمة كابول، من دون أي مقاومة تذكر من القوات الأفغانية، فيما هرب الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى طاجكيستان، قبل أن ينتقل لاحقاً مع أسرته وأمواله إلى الإمارات. وقد عبّرت وزيرة التعليم الأفغانية رانجينا حميدي في أحد اللقاءات عن صدمتها الكبيرة من تصرف الرئيس، غير أن المشهد برمته لم يكن صادماً في أفغانستان فحسب، بل حتى بعيون العالم الذي تابع الأحداث المتسارعة وهو يحبس أنفاسه أمام المشاهد المفزعة لهلع مواطنين وتكدسهم في مطار كابول ومحاولاتهم الهرب بطائرات الإخلاء الأميركية. ومن جانب آخر أتت تصريحات أيدت وصول “طالبان” إلى حكم أفغانستان، على لسان نشطاء وحقوقيين عرب، لطالما عُرفوا بمعارضتهم سياسات دولهم التي يتهمونها بمنعهم من المشاركة السياسية أو أدنى مستويات الحرية. إنها صدمة في المشهد الحقوقي والسياسي بخاصة على مستوى الخليج، تحت حجة أن “طالبان” خيار محلي وإسلامي وقد تعلم قادتها الدرس وهم ليسوا “طالبان” الأمس، وهكذا أصبح الحاكم العربي والمحكوم المعترض والمعارض على رأي واحد ووفاق.

فتصريحات دول الخليج العربي التي خرجت متتالية، اتفقت الى حد كبير على قبولها خيار “طالبان”، مع التشديد على أهمية الحفاظ على الأمن والاستقرار. لكن الموقف يبدو أبعد من ذلك، فإذا ما صدقت التحليلات السياسية حول اقتراب الصين من تولي سطوة الأخ الأكبر على أفغانستان، فستصبح القوى العظمى الثلاث منذ الثمانينات قد تعاقبت على هذا البلد الواحدة تلو الأخرى، ما يدفعني لطرح سؤال، قد لا أجد إجابته في الوقت الراهن. هل يعني هذا كله أن الصين ستكون فعلاً القوة العظمى مثلما أشيع العام الماضي بعد تفشي وباء “كوفيد- 19″، وستسحب البساط سياسياً ومحورياً من تحت أقدام الولايات المتحدة؟ وهل الأخيرة سينتهي بها المطاف مثلما انتهى الاتحاد السوفياتي؟ وهل ستتجه إثر ذلك بوصلة دول الخليج صوب الصين؟

ما يمكن قوله عن انشقاق الأطراف الحقوقية الخليجية اليوم، هو أن الذكورية الملتحفة بغطاء ديني تظهر في المواقف القاطعة، مثل ما يحدث حالياً في أفغانستان وانعكاساته على منطقتنا، فعندما كنا كنساء نتابع أوضاع المرأة الافغانية وما تعرضت له خلال العقود الماضية، كان كثيرون يتشبعون آنذاك بأفكار السبايا والحور العين.

تراكمات الإحباط والتخبط السياسي أخرجت أفكاراً أنانية من جحورها، حتى بات “حقوقيون” من مؤيدي “طالبان”، لا ينفكون الآن عن التفكير في واقعهم وحده من دون أي اعتبار للواقع الأفغاني المؤلم.

نعم كامرأة وكإنسانة لا أريد أن أرى امرأة أخرى ترتدي ما لا تريده أو تحرم من أبسط حقوقها الإنسانية، أو تستبعد من المشاركة السياسية أو تستهدف وهي في طريقها إلى عملها أو مدرستها أو تنفَّذ فيها عقوبات فجة، تحت ذريعة دينية! لا أريد لأنني أعرف أنها الحلقة الأضعف، وسط النزاعات السياسية، بخاصة في بلد محافظ كأفغانستان، لم يعرف من الحياة سوى مرها حتى بقي مسرحاً للنزاعات الدولية.

درج

—————————-

لماذا لم يصدر عن الاخوان السوريين موقف من واقعة كابول؟/ سمير نشار

الصمت الذي يلف موقف الإخوان المسلمين مريب طبعا، فالجماعة في موقع لا تحسد عليه، فهي لا تستطيع تأييد حركة طالبان بشكل واضح وصريح لأن ذلك يعني تصنيفها إقليميا ودوليا وسوريا ضمن الجماعات المتشددة ايديولوجيا، ولا تستطيع ان تنتقد طالبان لأنها تنتمي الى نفس المظلة الايديولوجية …

عندما سألت أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين السوريين عن سبب صمت الجماعة، وعدم إصدارها بياناً حول انتصار حركة طالبان الاسلامية المتشددة في أفغانسان، قام بإرسال نسخة عن بيان المجلس الإسلامي السوري، ولسان حاله يقول: هذا موقفنا (موقف الجماعة) .

إذا قرأنا بيان المجلس الذي يشيد بموقف حركة طالبان، كونه موقفاً “إسلاميا وسطيا معتدلا” ويثمن القرارات الحكيمة التي اتخذتها طالبان ويصف الهاربين من حكم طالبان من الأفغان الذين عزموا على الهرب من الحكم الظلامي لـ”طالبان” والفرار الى المجهول، بانهم من “عملاء المحتل” .

لم يتساءل بيان المجلس عن سبب هروب عشرات الالاف من الأفغان، ولم تثر المشاهد المروعة التي رأيناها في مطار كابول تساؤلات لديه عن سبب عدم ثقة هؤلاء بوعود طالبان “الإصلاحية والمتسامحة مع الجميع” كما زعمت الحركة !!!، ولا رغبة هؤلاء بعدم البقاء تحت حكمهم، والافغان هم اصحاب تجربة سابقة مع حكم طالبان قبل الاحتلال وأثناءه.

يقول بيان المجلس الإسلامي السوري “المعارض”: “يأمل المجلس أن تسود روح الاعتدال والتسامح المتمثلة في وسطية الإسلام واقرار الحقوق التي كفلتها الشريعة بعيدا عن الغلو، وهذا بدا واضحا في موقف طالبان تجاه المرأة بالسماح لها بمغادرة المنزل دون محرم أو السماح لها بالعمل والتعليم بشرط أن تكون محجبةً” هذه قرارات اصلاحية بحسب المجلس الإسلامي ومن خلفه الإخوان المسلمون  .

هل دولة المواطنة التي تقوم على المساواة والحقوق والواجبات، التي طالبت بها ثورة الحرية والكرامة لكل السوريين، والتي يزعم كل من المجلس والإخوان المطالبة بها، تقوم أيضا على الشريعة الإسلامية السمحاء والمعتدلة والوسطية المشابهة لدولة طالبان !!! ام دولة الدستور والقانون الذي يقره المواطنون السوريون المتعددي الهويات الاثنية والطائفية والمذهبية، كون سورية دولة متعددة القوميات والاديان والمذاهب !!!.

الصمت الذي يلف موقف الإخوان المسلمين مريب طبعا، فالجماعة في موقع لا تحسد عليه، فهي لا تستطيع تأييد حركة طالبان بشكل واضح وصريح لأن ذلك يعني تصنيفها إقليميا ودوليا وسوريا ضمن الجماعات المتشددة ايديولوجيا، ولا تستطيع ان تنتقد طالبان لأنها تنتمي الى نفس المظلة الايديولوجية وبالتالي سوف تخسر الكثير من بيئتها الحاضنة وأنصارها.

جماعة الإخوان المسلمين لم تصدر بيانا واكتفت ببيان المجلس الإسلامي كمعبر عن موقفها!

موقف آخر ورد في بيان المجلس الإسلامي هو تجاهلهم للمحتل الأميركي في شمال شرقي سوريا، على رغم إشادتهم بدحره وهزيمته في أفغانستان كونه مستعمر وغاز!

السؤال هو هل هذا المستعمر والغازي في أفغانستان هو غيره في سوريا ؟ الم يذهب المحتل الأميركي إلى أفغانستان لقتال المتطرفين الإسلاميين في دولة طالبان !!! ألم يأتي الى سوريا ايضا لقتال نفس المتطرفين الإسلاميين، وتحديداً “داعش” و”النصرة”؟

لماذا تغافل المجلس الإسلامي عن ذكر المحتل الاميركي في سوريا وذكر فقط المحتلين الروس والايرانيين ؟

أما تجاهلهم للوجود التركي في سوريا فمفهوم ولا حاجة لتفسيره وشرحه نظراً لتماهي الاسلاميين بالجملة مع الموقف التركي وفي مقدمتهم جماعة الاخًوان المسلمين وبيانهم بخصوص عملية نبع السلام في شمال شرق سوريا يوضح ذلك، وبغض النظر عما يجري للسوريين من بعض الممارسات العنصرية .

جماعة الإخوان المسلمين لم تصدر بيانا واكتفت ببيان المجلس الإسلامي كمعبر عن موقفها!

ويبقى السؤال قائما رغم كل الاجتهادات، لماذا لم تصدر موقفا واضحا وصريحا من انتصار حركة طالبان الإسلامية المتشددة والمتطرفة؟

درج

——————————

بعد تطورات أفغانستان… هل ينجح بايدن في إغلاق معتقل غوانتانامو؟/ صفية مهدي

بشير المرولة، هو واحد من عشرات اليمنيين، الذين كانوا ذات يوم يمثلون ثالث أكبر الجنسيات عدداً في سجن غوانتانامو، بعد الأفغان والسعوديين. إذ بلغ عدد اليمنيين الذين اعتقلتهم الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 144 يمنياً، 90 في المئة منهم اعتقلوا عام 2002.

بينما تتوجه أنظار العالم نحو أفغانستان، التي تُطوى فيها أحداث بدأت منذ 21 عاماً، تراقب أسرة المعتقل اليمني بشير المرولة ومثلها عشرات أسر المعتقلين اليمنيين في سجن غوانتانامو سيئ السمعة، أو في سجون أخرى نقل إليها السحناء في السنوات الأخيرة، ما إذا كان الوقت قد حان، لطي معاناة طال أمدها، في ضوء المستجدات الأخيرة وإعلان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نيتها إغلاق المعتقل.

وبينما يتوزع ما تبقى من المعتقلين اليمنيين بين غوانتانامو وسجون دول أخرى نقلتهم إليها واشنطن، أبرزها في الإمارات العربية المتحدة، شهدت الأسابيع الماضية، تطوراً لافتاً، بإفراج أبوظبي عن 6 معتقلين لديها، من أصل 18 سجيناً يقول أهاليهم، إن مواصلة اعتقالهم تتم بصورة تعسفية.

ويكشف لـ”درج”، حسين المرولة، وهو شقيق المعتقل اليمني بشير المرولة، عن جانب من المعاناة التي واجهتها أسرته، فبعد 15 عاماً من تغييب بشير في سجن غوانتانامو، استبشر والده ووالدته بأنه بات طليقاً عندما نقلته الولايات المتحدة إلى الإمارات عام 2016، وشرعا بخطبة الفتاة التي كان من المقرر أن يتزوجها بمجرد عودته، لكن المفاجأة أن أبوظبي واصلت اعتقاله، وكأن شيئاً لم يتغير.

ويضيف أن والده ووالدته وبعد جهود مضنية، نجحا في زيارة الإمارات، لمدة شهر واحد، وسُمح لهما بخمسة لقاءات لا غير مع بشير بعد تغييب دام 16 عاماً، بظروف أمنية مشددة، وإلى اليوم، ما زال معتقلاً، دون توضيح الأسباب.

وتابع، “بشير تم اطلاقه ومن معه من اليمنيين لإعادة التأهيل النفسي والعلمي، فاحتضنتهم الإمارات كعمل إنساني”، كما هو حال سلطنة عُمان، والمملكة العربية السعودية وغانا والجبل الأسود، ومع ذلك “زجت الإمارات بالشباب في السجن. ونالوا منها أسوأ المعاملة”، في حين أن يمنيين آخرين أطلقت سراحهم القوات الأميركية وتسلمتهم عُمان، أصبحت لديهم “بيوت وتزوجوا”، ومنهم من أكمل دراسته.

معاناة طال أمدها

بشير المرولة، هو واحد من عشرات اليمنيين، الذين كانوا ذات يوم يمثلون ثالث أكبر الجنسيات عدداً في سجن غوانتانامو، بعد الأفغان والسعوديين. إذ بلغ عدد اليمنيين الذين اعتقلتهم الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 144 يمنياً، 90 في المئة منهم اعتقلوا عام 2002.

بين عامي 2004 و2017، تم الإفراج عن نحو ثلث المعتقلين، من دون أن تذكر المراجع بدقة وجهتهم بعدها. وبعد سنوات طويلة من المعاناة، بدأت الولايات المتحدة الإفراج عن دفعات جديدة، إذ نقلت 24 في المئة من المعتقلين بين عامي 2015 و2017 إلى سلطنة عُمان و16 في المئة نقلوا إلى الإمارات خلال عامي 2015 و2016، كما نُقل 7 في المئة إلى السعودية عام 2016. وتوزع الآخرون على كلٍ من غانا وإثيوبيا والرأس الأخضر وصربيا.

وبحسب البيانات التي عاد إليها “درج”، فإن 15 يمنياً، أي ما نسبته 13 في المئة من إجمالي المعتقلين، ما زالوا في غوانتانامو، في حين أن اثنين من المعتقلين تُوفيا داخل المعتقل الأشهر في العالم.

وعود بايدن والملف المؤرق

مع تولي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما السلطة مطلع عام 2009، أطلق وعوداً متكررة بإغلاق غوانتانامو، في ضوء ما خرج من فضائخ عن الانتهاكات. لكن الرئيس الذي استمر في منصبه ولايتين متتاليتين، غادر البيت الأبيض، من دون أن يكون قادراً على تنفيذ وعوده، ما اعتبر مؤشراً على حجم التعقيدات الأمنية والعسكرية.

ومع انتقال السلطة منذ شهور إلى رئيس جديد هو جو بايدن، أطلق الأخير وعوداً جديدة بإغلاق المعتقل، وهي الوعود التي قُوبلت بالتشكيك.

ويقول لـ”درج”، الصحافي المهتم بملف يمنيي غوانتانامو محمد الأحمدي، إن قضية اليمنيين في المعتقل،

من الملفات الحقوقية المؤرقة التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية، مشيراً إلى أن الحديث عن إغلاق المعتقل ليس وليد اللحظة وليس توجه إدارة جو بايدن فقط، فهذا التوجه بدأ من عهد أوباما، ولكن يبدو أنه قوبل بعراقيل.

ويضيف: “الولايات المتحدة الأميركية تعتقد أن الحكومة اليمنية ضعيفة وغير قادرة على إعداد برامج لإعادة تأهيل هؤلاء المعتقلين، وبالتالي لدمجهم في المجتمع، أتت فكرة استضافتهم لدى دول أخرى”.

مجموعات نُقلت وأخرى تنتظر

تتضمن المجموعات التي أفرجت عنها واشنطن ونقل أفرادها إلى دول مختلفة، العشرات ممن كانت اللجان المتخصصة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية- البنتاغون، أعلنت أنهم لم يعودوا يشكلون خطراً على مصالحها وبالتالي يمكن إطلاق سراحهم.

ويقول الأحمدي إن “حكومات عدة استقبلت مجموعات من معتقلي اليمن في غوانتانامو من بينها الإمارات وسلطنة عمان، والأخيرة نجحت في الوفاء بالتزاماتها تجاه المعتقلين ووفرت لهم ظروف حياة كريمة بخلاف دولة الإمارات التي لم تفِ بالتزاماتها تجاه 18 معتقلاً يمنياً، استقبلتهم بالاتفاق مع الحكومة الأميركية وحرمتهم حقوقهم ولم تلتزم باتفاقها مع الولايات المتحدة الأميركية بخصوصهم”.

أما من تبقى في المعتقل، فيشير الأحمد إلى أن نصفهم تقريباً يمنيون، بعضهم أقرت هذه اللجان بإطلاق سراحهم، لكن إلى الآن لا أحد يعرف إلى أين سيتوجهون، هل سينقلون إلى اليمن أم إلى دولة أخرى تستضيفهم، وهناك آخرون لا يزالون في نظر اللجان التابعة للبنتاغون يشكلون خطراً على الأمن القومي الأميركي”.

المعتقل كمشكلة…

يوضح المستشار القانوني والخبير الدولي في قضايا حقوق الإنسان جمال الجعبي، لـ”درج”، أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تواجه مشكلة في التعاطي مع معتقلي غوانتانامو.

ويضيف أنه أثناء الحملة الانتخابية لأوباما كان من ضمن الوعود إغلاق المعتقل ولكنه تراجع في الأسبوع الأول، تحت تأثير ملفات الحالة الأمنية التي تقدمها له المخابرات. وبدلاً من إغلاق المعتقل “قام بخطوات تخفيفية على السجناء كالسماح لهم بالاتصال بعائلاتهم، وتسريع المحاكمات. وواجه الرؤساء الأميركيون حوادث غريبة منها اتهام رجال دين مسلمين مكلفين من الإدارة الأميركية، بالتآمر مع السجناء”.

وبشأن الوضع القانوني للمعتقل، يقول الجعبي إن الأجهزة الاستخبارية والمؤسسة القضائية في الولايات المتحدة تواجه جدلاً أخلاقياً وقانونياً وقيمياً شديداً منذ يوم الاعتقال الأول، ومع ذلك، فإنه فيما تقر السلطات الأميركية بوجود معتقلين لا اتهامات محددة ضدهم، فإن “بعض من تم الإفراج عنهم شاركوا في استهداف المصالح الأميركية”.

وفيما كان لكتابات بعض الإعلاميين الذين اعتقلوا في غوانتانامو، دور في تسليط الضوء الجدل القانوني، يقول الجعبي إن “اختيار موقع المعتقل في خليج غوانتانامو الواقع في الأراضي الكوبية يستهدف رفع الحرج والتخفيف من الجدل القانوني حول المعتقلين”.

وبشأن دور الجهات المعنية في الدول التي يحمل المعتقلين جنسياتها، يقول المتحدث إنه اتسم بالضعف والخوف من الاتهامات الأميركية، ورغبة في التخلص من عبء استقبالهم، ولهذا ناقشت الإدارة الأميركية في فترات مختلفة فكرة فتح معتقلات تحمل طابع التأهيل للمعتقلين، في السعودية أو اليمن، ولكن الخشية من وجودهم في مناطق ينشط فيها تنظيم “القاعدة” وإمكانية تعرض هذه المعتقلات للهجوم لتحريرها. كما تم نقل بعضهم إلى معتقلات سرية في دول عربية لم يعرف موقعها.

ويخلص الجعبي إلى أن الضربات التي يقوم بها تنظيم “القاعدة” ضد المصالح الأميركية، تجعل الإفراج عن المعتقلين عرضة للتأخير، كما أن ما يزيد صعوبة الموقف الأميركي أن الأرضية القانونية للاتهامات ضعيفة. لهذا يكون أسهل الإجراءات بالنسبة إلى الرؤساء الأميركيين، ترحيل الموضوع. ويبدو أن الرئيس الأميركي الحالي يريد إنهاء الملف كما فعل في موضوع إعادة حركة طالبان إلى السلطة”.

درج

————————

أفغانستان: كيف اتخذ الرئيس جو بايدن قرار الانسحاب؟

قضية تاريخية وتحظى باهتمام كبير

– بي. بي. سي.

كان من المؤكد أن مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ستكون قضية تاريخية وتحظى باهتمام كبير.

لكن حدوثها بالشكل الذي شاهده العالم من إنهيار تام وسريع للحكومة والجيش الأفغاني وسيطرة حركة طالبان على أفغانستان زاد من حدة الجدل بشدة حول الطريقة التي اتخذ بها الرئيس الأمريكي جو بايدن قراراته بخصوص الانسحاب، وسبب إصراره على المضي قدما برغم وجود مؤشرات وتساؤلات سبقت ورافقت تدهور الوضع عشية الانسحاب.

نهاية “أطول حرب”

ردد بايدن دوماً بأنه يريد أن يوقف سقوط القتلى الأمريكيين في أفغانستان، ساحة أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة. وكان إنهاء هذه الحرب قد أصبح فعلا مطلبا شعبيا أمريكيا بسبب طول مدتها و جمود الوضع فيها.

إلا أن الطريقة التي سيطرت بها طالبان على البلاد بسرعة ومشاهد الفوضى في عمليات إجلاء الأمريكيين والأفغان المتعاونين معهم في مطار كابل هزت صورة السياسي الخبير في الشؤون الدولية المعروفة عن بايدن الذي كان نائبا للرئيس السابق باراك أوباما على مدى ثمان سنين.

وكان بايدن قبل ذلك وعلى مدى أربعين عاما تقريبا عضوا مؤثرا في مجلس الشيوخ يرأس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس.

وضع بايدن قضية التاريخ في صلب الحجج التي ساقها لتبرير قراره الانسحاب من أفغانستان. لا بل إنه وصل إلى استخدام وصف (مقبرة الإمبراطوريات) لوصف أفغانستان وهو الوصف الذي يطلقه بعض الأفغان على بلدهم بسبب تاريخه في مقاومة الاحتلال العسكري الخارجي عبر التاريخ والتي أدت في نهاية المطاف إلى هزيمة الغزاة وخروجهم من البلاد.

وقد انتهى التدخل العسكري للاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي إلى خروج القوات السوفيتية بعد فشلها في تحقيق أي من أهدافها، ثم دخول الاتحاد السوفيتي السابق نفسه مرحلة الانهيار والتفكك.

لكن حرب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان كانت واحدة من الحروب التي حظيت في بدايتها بتأييد كبير في عام2001، فهي جاءت بعد أيام من هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر التي شنها تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة.

وكان التنظيم يتخذ من أفغانستان مقرا له ولقيادته وقد رفض نظام حكم حركة طالبان تسليم قادة القاعدة، كانت القضية واضحة للرأي العام الأمريكي وحتى العالمي إلى درجة كبيرة.

لذلك سارع حلفاء أمريكا في حلف شمالي الأطلسي (ناتو) لمساندة أمريكا ودخلوا الحرب معها في أفغانستان لا بل إن روسيا وهي خصم سياسي ومنافس دولي للولايات المتحدة ساندت أيضا العملية العسكرية ضد طالبان بصورة ملحوظة ومؤثرة عبر توفير تسهيلات في جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة لأفغانستان والتي تحظى موسكو فيها بنفوذ كبير.

تغيرات كبيرة

تغيرت الأوضاع كثيرا في أفغانستان والعالم على مدى عشرين عاما منذ الغزو الأمريكي عام 2001. فقد تعثرت عمليات بناء الدولة التي انخرطت فيها الولايات المتحدة في أفغانستان وكانت الحكومة الأفغانية والقوات الأفغانية، التي أشرفت أمريكا على بناءها وإسنادها محل انتقاد كبير واتهامات فساد وعدم الكفاءة. كما أن أمريكا دخلت حربا أخرى أكبر من حرب أفغانستان في العراق .

وفي المقابل استعادت حركة طالبان تدريجيا قدراتها القتالية بعد أن كانت قد انكفأت وتراجعت عقب الغزو الاميركي. لكن مع ذلك استطاعت الولايات المتحدة أن تصل إلى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وتقتله في عام 2011 بعد أن أصاب الوهن تنظيم القاعدة في مركزه في أفغانستان.

لم يكن بن لادن في أفغانستان بل في باكستان المجاورة وهي الدولة التي تملك نفوذا كبيرا في أفغانستان وعلاقات تاريخية مع حركة طالبان.

وقد ذكر بايدن مقتل بن لادن لتبرير الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان بعد أن حققت الولايات المتحدة أهدافها من حرب أفغانستان منذ زمن بعيد حسب رأيه، وبأن الانسحاب كان يجب أن يحصل من أجل أن تركز الولايات المتحدة على التحديات الاستراتيجية الأكبر التي تواجهها وخصوصا من قبل القوى الدولية المنافسة وتحديدا الصين المنافس الاقتصادي الأول لأمريكا في العالم وروسيا المنافس العسكري والسياسي الأول.

وجه بايدن اللوم إلى سلفه دونالد ترامب و قال بانه ورث وضعا كانت طالبان في أقوى حالاتها منذ عام 2001 وانتقد بايدن بشدة أيضا الحكومة الأفغانية السابقة التي كانت مدعومة أمريكيا وقواتها العسكرية التي انهارت ولم تقاتل.

لكن بايدن لم يتحدث بالتفصيل عن التقييم الاستخباراتي الأمريكي الذي استند إليه في إصراره على قرار وطريقة الانسحاب. تحليل التقييم الاستخباراتي في هذه القضية مهم جدا ليس فقط لفهم قرار الانسحاب ولكن أيضا لفهم تبعات القرار.

فلقد كانت الاستخبارات الأمريكية تتحدث عن احتمال تراجع للقوات الأفغانية إلا أنها لم تكن تتوقع أن تسقط العاصمة كابل، وبالتالي الحكم بيد طالبان بهذه الطريقة والسرعة. وهذا يعني أن حجم الخلل في التقييم الاستخباراتي كبير برغم وجودها في أفغانستان على مدى عشرين عاما رافقت الوجود العسكري.

أما اتفاق الانسحاب الذي وقعته إدارة الرئيس السابق ترامب مع طالبان فقد استند إلى تعهد طالبان بعدم إيواء أي جماعة تشن هجمات على الولايات المتحدة مقابل أن تنسحب أمريكا بصورة كاملة من أفغانستان.

ترجيح

قد يكون إصرار بايدن على إتمام الانسحاب ناجم على الأغلب عن ترجيحه إلتزام طالبان بما تعهدت به رغم أنه يقول بأنه لايثق بطالبان.

وقد ركز بايدن أيضا على أن طبيعة التهديدات التي يواجهها الأمن القومي تغيرت وبأن أفغانستان لم تعد تشكل بالضرورة منطقة خاصة فيما يخص تلك التهديدات وبالتالي فإن من الممكن للولايات المتحدة أن تتعامل مع أي خطر يأتي من أفغانستان في المستقبل من غير أن تحتاج لوجود عسكري مباشر على الأراضي الأفغانية.

وهذا التقييم يأتي بالتأكيد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي لم تحسن على ما يبدو تقييم الموقف الميداني قبيل الانسحاب الأمريكي الذي أدى إلى ما شاهدناه حتى الآن.

أدى الانسحاب الأميركي بهذه الطريقة إلى توجيه سيل من الانتقادات لإدارة بايدن من كل الجهات في أمريكان، أما تأثير القضية سياسيا عليه فسيكون معلقا الآن على الطريقة التي ستحكم بها طالبان أفغانستان، وعلى تعامل بايدن مع تداعيات الوضع الجديد ونجاحه أو فشله في طمأنة الشعب الأمريكي وحلفاء أمريكا بأن هناك استراتيجية واضحة وقابلة للتطبيق في المرحلة المقبلة.

——————–

«طالبان» والمظهر الجديد/ د. جبريل العبيدي

هل عودة حركة طالبان بمظهر جديد newlook هي مقدمة لظهور طالبان «المعتدلة» خاصة ما أعلنته الحركة بعد دخولها كابل من أنها ستقضي على ساحة المخدرات في البلاد، وهذا مؤشر إيجابي مهم جداً؟

عودة طالبان بشكل مفاجئ وسريع، وفرار الجيش الأفغاني واستسلامه، وهو الذي لطالما تفاخرت أميركا ببنائه وتأهيله، جميعها أحداث تدفع بالأسئلة، هل كان ما حدث مجرد اتفاق غير معلن بين الإدارة الأميركية وطالبان بمعزل عن حلفائها الأفغان لتسلم الحكم؟ أم أن الحركة استولت على الحكم بزنادها وحده؟

طالبان وهي جمع لكلمة طالب في اللغة الأفغانية، هي حركة طلابية تشكلت في باكستان من طلاب العلوم الشرعية، ومذهبهم من أهل السنة، وهو قريب جداً من مذهب أبي الحسن الأشعري.

هناك مَن يبرر لعودة طالبان ويرى عودتها نصراً يردد أنهم مجرد مقاتلين يعيشون حياة بسيطة وإيمانهم بالنصر لأنهم يدافعون عن أرضهم وبلادهم.

نظر البعض إلى هذا الزحف الطالباني على أنه انتصار مجاني ويقولون إنها تقدمت في مساحات خالية من أي تسلح مضاد، فعناصر طالبان القادمون على ظهور الدراجات النارية من دون غطاء طيران أو مدفعية يتقدمون في صحراء أفغانستان لدرجة أن البعض شبّه ما حدث بهزيمة أميركا في فيتنام، ولكن بعيداً عن هذا المشهد الهوليوودي أو البوليوودي الخائب وسيناريو الخيال، فإن ما حدث لم يمكن قراءته بعيداً عن اتفاق الظل من وجهة نظري.

ففي أفغانستان خسرت أميركا آلاف القتلى والجرحى وقرابة تريليون دولار، فلا يمكن التصديق بخروجها من دون بديل أو خطة، وإلا تصبح أميركا كمن رمى بأمواله وجنوده في بئر عميقة لا قاع محدداً لها، وخرجت أو انسحبت أميركا من دون سابق إنذار حتى لحلفاء واشنطن من الأفغان، الذين فروا إلى مطار كابل ظناً منهم أن أميركا جلبت طائرات بعدد كافٍ لنقلهم معها.

طالبان بمجرد دخولها كابل تصرفت بشكل مختلف عن ماضيها، فقد أصدرت عفواً عاماً لم يكن متوقعاً، بل وأطلقت سراح بعض المسؤولين الأفغان السابقين، خاصة في إدارة الحكم المحلي، ولكن لا بد من الانتظار حتى نرى أفعالاً تؤكد هذا التوجه.

المهمة الصعبة أمام طالبان للاندماج في المجتمع الدولي فهي تبدأ من إبعاد المقاتلين الأجانب.

لقد بعثت الحركة برسائل الطمأنة ورسائل الحوار مع الداخل وتجنب العداوة مع الخارج على لسان المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد وقوله «إن الحركة تطمئن العالم بأن أفغانستان لن تكون مركزاً لإنتاج أي نوع من أنواع المخدرات، خاصة الخشخاش»، لكن القلق سيبقى قائماً خاصة بعد تصريح القيادي البارز في «طالبان» وحيد الله هاشمي: «لن يكون هناك نظام ديمقراطي، والذي يجب اتباعه في أفغانستان هو الشريعة».

سيطرة طالبان على أفغانستان لن تبقى هادئة من دون صراعات داخلية، خاصة بعد وجود حشود لأحمد مسعود نجل القيادي الأفغاني الراحل أحمد شاه مسعود في ولاية بنجشير التي تعني «الأسود الخمسة» في لغة الطاجيك الأفغان، فهل سيهاجم مسعود طالبان في ظل أنباء عن وجود نائب الرئيس المستقيل أشرف غني إلى جانب أحمد مسعود، وفي ظل وجود دعوات لدعم مسعود كرمز للمقاومة ضد طالبان؟

ونتساءل مجدداً هل المظهر الجديد لطالبان سيسهم في ترويض المقاومة التي يقودها مسعود في إطار ترتيب البيت الداخلي والحفاظ على النسيج الأفغاني، خاصة أن طالبان تنتمى لقبائل البشتون، بينما مسعود ينتمى إلى الطاجيك؟ أم ستختار طالبان المواجهة والإقصاء للخصوم؟ الأيام كفيلة بفك بتبيان ذلك.

——————————

أفغانستان، من هزيمة لأخرى/ ألان غريش

ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.

سقطت كابول. بضعة أسابيع فقط كانت كافية لطالبان كي تتخلص من الجيش الأفغاني الذي مولته ودربته الولايات المتحدة خلال عشرين عامًا. للتذكير، صمد النظام الشيوعي في أفغانستان لمدة ثلاث سنوات بعد انسحاب الجيش الأحمر. لكن الكارثة الأفغانية، بغض النظر عن هذه الهزيمة بالذات، توقّع على الفشل الذريع “للحرب على الإرهاب”.

كنا في ربيع 1988 مجتمعين في كابول. كان الاتحاد السوفييتي قد أعلن بصوت ميخائيل غورباتشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي، الانسحاب من جانب واحد لقواته التي دخلت أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979. لأول مرة انفتح النظام على مجموعة من 150 صحفي أجنبي، غالبيتهم من الغرب، ومعظمهم كانت لهم دراية بتاريخ وثقافة أفغانستان تقترب بصفة خطيرة من مستوى الصفر. كانت تتلخص معرفتهم في مُسَلَّمةٍ بدائية، هي أن الحرب تدور بين مجاهدين مكللين بالمجد ضد حزب شيوعي يُقلَّص إلى دور الدمية السوفييتية، وهو الحزب الديمقراطي الشعبي الذي استولى على السلطة في 27 أبريل/نيسان 1978. في المساء، ونحن محجورون في الفندق، ساعة قبل بداية حظر التجول، تمت دعوتنا من طرف القائم بالأعمال الأمريكي الذي فصّل، مستندا إلى خرائط عسكرية وبثقة الجنرال عشية انتصار كبير، كيف سيستولي المتمردون على كابول بمجرد مغادرة آخر الجنود السوفييت. كان الصحافيون، المسلحون باليقين والمفتونون بهذه المعلومات، يجوبون شوارع العاصمة يتربصون باصطياد صورة ترمز إلى الهزيمة الحتمية للاتحاد السوفييتي، صورة دبابة منقلبة في وادٍ بالمدينة مثلا، كدليل لا يُدحض عن تفكك النظام.

لا أحد آنذاك كان يهتم بمستقبل النساء الأفغانيات، مع أن نصفهن فقط في العاصمة كن يرتدين البرقع الأفغاني، ذلك الحجاب الذي يغطيهن من الرأس إلى أخمص القدمين، لا يترك سوى ثغرة شبكية ضيقة على مستوى الوجه، وكنا نصادف بعضهن في أروقة الوزارات والإدارات. كانت النساء وقتها يتحصلن على التعليم، في المدن الكبرى على الأقل. الصراع الذي اختصر إلى صدام بين الشرق والغرب وبين الشر والخير كان مع ذلك يشمل لاعبين آخرين غير الكبيرين. كان للحزب الشيوعي الأفغاني، الذي يعج بتيارات متعددة وجد منقسمة، تأثير محدود لكنه حقيقي خاصة لدى الفئات “الحديثة” ـ خاصة الضباط والجنودـ ولدى الأقليات مما دفعه إلى الاستيلاء على السلطة دون إذن من السوفييت الذين كانت لهم علاقات ممتازة مع الرئيس المخلوع محمد داود خان. كنت قد التقيت آنذاك بعض كوادر الحركة وقدرت كم كان عزمهم كبيرا على عدم التنازل عن السلطة دون قتال.

“جعل الروس ينزفون”

كانت المقاومة الأفغانية منقسمة إلى مجموعات متعددة، وتعززت التيارات الراديكالية (لم يكن يستعمل لفظ الجهاديين بعد) مع استمرار الحرب وجرائم الجيش الأحمر. لكن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والغربيون كانوا ينظرون إليهم على أنهم “مقاتلين من أجل الحرية” يواجهون “إمبراطورية الشر”، وكانوا يزيَّنون بكل فضائل الفرسان الشجعان، المحركون للمشاعر بأزيائهم التقليدية. في كتاب نُشر في عام 1995

1

، كتب الصحفي الأمريكي سيليغ هاريسون ووسيط الأمم المتحدة لأفغانستان ووزير خارجية الإكوادور السابق دييغو كوردوفيز: “إذا كانت موسكو هي الشرير، فلم يكن هناك بطل” في هذه القصة. مع أنه كان من الضروري بالنسبة لواشنطن “القتال حتى آخر أفغاني” لـ “جعل الروس ينزفون”. تم تحديد هذه الاستراتيجية في عام 1980 من طرف فرانسيس فوكوياما، ذلك الباحث الشاب الذي انضم بعدها إلى إدارة الرئيس رونالد ريغان، والذي لم يجعله كتابه “نهاية التاريخ” (The End of History and the Last Man, 1992) بعدُ مشهورا. باسم وجهة نظر ثنائية مطلقة، قامت الولايات المتحدة، على مر السنين، بكسر جهود الأمم المتحدة لتأمين انتقال سلمي قائم على انسحاب الجيش الأحمر.

صحيح أن الاستراتيجيين الأمريكيين -ولم يكونوا الوحيدين-، أوَّلوا التدخل السوفيتي في أفغانستان على أنه دليل على توسع جامح -البحث عن الوصول إلى البحار الدافئة- كمرحلة بسيطة في عملية غزو العالم. وقد أعلن الفيلسوف جان فرانسوا ريفيل، “اليقظ” دائما، عن نهاية الديمقراطيات، غير القادرة على محاربة “أخطر هؤلاء الأعداء الخارجيين، الشيوعية، وهي المتغير الحالي والنموذج المكتمل للشمولية”..

مصنع الجهاديين

مع أنه لم يكن أمام هذا “النموذج المكتمل” سوى بضع سنوات من العيش، ولم تكن دبابات الجيش الأحمر على استعداد لاكتساح الشانزليزيه. لم يكن للحرب التي مولتها واشنطن وزن كبير في انهيار نظام محتضر أصلا، ولكنها أعطت قوة غير متوقعة لأشد الجماعات المتطرفة من المتمردين التي كانت الولايات المتحدة وباكستان تمولها بشكل أولوي: أليسوا هم الذين يقاتلون بصفة أفضل؟ لقد تشكل في إطالة أمد هذه المواجهة الطويلة والقاتلة، جيل من الجهاديين الأفغان والعرب، الذين سينقلبون على الولايات المتحدة، كما سنرى مع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. إذا لم تكن واشنطن قد خلقت القاعدة، كما يود البعض اعتقاده، فهي ساهمت في ذلك بعماها.

لنعد إلى كابول في ربيع عام 1988. على عكس هذيان الدبلوماسي الأمريكي، بقي النظام مدة ثلاث سنوات بعد رحيل الجيش الأحمر وقاوم بشكل أفضل بكثير من السلطة الأفغانية التي نصبتها واشنطن. لم يسقط هذا النظام إلا بعد قرار روسيا، التي خلفت الاتحاد السوفيتي، بوقف إمداد حليف الأمس بالأسلحة وانشقاق الجنرال عبد الرشيد دوستم، وهو من أصل أوزبكي – الذي نجا من جميع حلقات الحرب حتى اليوم.

والنتيجة كانت عدة سنوات من الحرب الأهلية وصعود قوة طالبان، فقد تمكن “طلبة الدين” هؤلاء، الممولين والمدعومين بشكل واسع من طرف باكستان، حليف الولايات المتحدة، من وضع حد للحرب الأهلية التي تناحرت فيها مختلف مجموعات المجاهدين، واستولوا على كابول في عام 1996، وأقاموا نظامًا ظلاميًا ووفروا لأسامة بن لادن قاعدة آمنة. لكن بالنسبة لواشنطن، مع انتهاء الحرب الباردة، لم تعد أفغانستان أولوية. وسرعان ما تم نسيان مصير النساء الأفغانيات، الذي يُتحجج به أحيانًا لتبرير الغزو الأمريكي.

“الحرب على الإرهاب”، دوامة لا نهاية لها

لكن بعد 11 سبتمبر/أيلول، شنت الولايات المتحدة حملة صليبية جديدة، “الحرب على الإرهاب”، وغزت البلاد. لكنها، مثل السوفييت، ستنغرس في وحل نزاع بلا نهاية وبلا أمل في النصر. كانت “الضربات الجراحية” تتسبب في مقتل العديد من الأبرياء إلى جانب طالبان. وكانت الهجمات تثير عمليات انتقامية لم يسلم منها المدنيون؛ وكان “فرض السلام” يدفع المزيد من الأفغان إلى المنفى أو الانتقال إلى المدن الكبرى.

أما وعدهم بإرساء الديمقراطية فقد بقي مجرد حبر على ورق. كما كتبت هيومن رايتس ووتش في عام 2002: “عندما طردت الولايات المتحدة طالبان في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وُعد الأفغان بعهد جديد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان … لكن الأمل الذي قامت بتغذيته لم يتحقق

2

سرعان ما ظهر القادة الجدد، المفروضون من الخارج والمنقسمون والفاسدون والمعتمدون على ميليشيات تم توثيق انتهاكاتها بصفة واسعة، على أنهم تُبّع للولايات المتحدة، مثيرين المقاومات الأولى ثم عمليات القمع الأولى. وهي دوامة لا نهاية لها مماثلة للكابوس الذي عاشه الجيش الأحمر.

نهاية الإمبراطوريات والحروب غير القابلة للكسب

في عام 1969، وقت طويل قبل التدخلات السوفيتية والأمريكية كتب باحث أفغاني في كتيب صغير يقدم فيه بلاده: “إحدى أهم خصائص الأفغان هو حبهم الذي لا يقهر للاستقلال. قد يقبل الأفغان بصبر حظهم السيء أو فقرهم، ولكن لا يمكن جعلهم يتصالحون مع سلطة أجنبية مهما كانت مستنيرة أو تقدمية”.

جربت ذلك الامبراطورية البريطانية بصفة كارثية ثلاث مرات خلال التاريخ الحديث في 1842 و1881 و1919. بالنسبة للأوليين كان الهدف “تفادي” التقدم القيصري في آسيا الذي كان يهدد الهند، الجوهر النفيس للإمبراطورية. أما الثالثة فتعلق الأمر بمواجهة تنامي الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار في هذا البلد. جرب بعد ذلك الاتحاد السوفييتي حظه “لتفادي.. التخطيطات الامبريالية”. وها هي اليوم الولايات المتحدة التي تنسحب بعد أطول حرب في تاريخها تم خوضها باسم ضرورة سحق الإرهاب.

إذا كانت للنكسات الامبراطورية في القرن 19 وبداية القرن العشرين طابع استثنائي في وقت كانت فيه الإمبراطوريات الاستعمارية لا تزال تهيمن على المعمورة، فإن الهزائم التي تلت بعد ذلك تؤكد على الخصوص موت فكرة الامبراطورية ذاتها، وانتصار الاستقلال الوطني لهذه الشعوب التي كانت تنعت ذات مرة بـ“القاصرة”.

في حصيلة حديثة أجراها المركز المرموق للاستراتيجيات والدراسات الدولية بواشنطن يشير أحد كبار محلليه، أنطوني كورديسمان: “إذا درسنا تكلفة الحرب وغياب أي تبرير استراتيجي واضح ومتماسك لمواصلتها، فليس من البديهي أن تقوم الولايات المتحدة بتخصيص الموارد التي جندتها في حرب لم تكن تدخل في أية أولوية استراتيجية لتبرير عقدين من الحرب”

3

مع أنه كانت هناك “أولوية إستراتيجية” غطت التدخل في أفغانستان: “الحرب ضد الإرهاب” التي انضمت إليها العديد من الحكومات، ومنها حكومة فرنسا (بعد تردد في البداية). تسجل “حرب الـ 20 سنة” هذه كل نزاع وكل تمرد وكل احتجاج عبر المعمورة ضمن صراع أُخروي ضد الشر، ضد وهم يستحيل الإمساك به أو تدميره: الإرهاب. فهذا ليس “عدوا” بل شكل من أشكال العمل الذي عبَر التاريخ واستعملته حركات مختلفة جدا مثل اللاسلطوية (الأناركية) والصهيونية والجيش الجمهوري الإيرلندي و“إيتا” الباسكية أو “القاعدة” ولكن أيضا ـوقد يتناساه البعض ـ من طرف الدول (فرنسا في الجزائر أو إسرائيل في الشرق الأوسط). لذا يمكن التشكيك في أن مآله الاختفاء.

تمثل إذا الهزيمة الأمريكية في أفغانستان قبل كل شيء إخفاقا في إحدى تلك الحروب غير القابلة للكسب وتنوعاتها المختلفة من الساحل إلى كردستان ومن فلسطين إلى اليمن والتي تغذي ما يزعمون بأنهم يقاتلونهم. كم يتطلب من الوقت لاستخلاص الدروس من ذلك؟

ألان غريش

—————————-

الزّلزال الأفغاني بين “طالبان” و”القاعدة”/ عبدالله سليمان علي

لا تزال العلاقة بين حركة “طالبان” في أفغانستان وتنظيم “القاعدة” محل تساؤلات وشكوك كثيرة. سارع البعض منذ بدء المفاوضات بين الحركة والولايات المتحدة عام 2020 إلى اعتبار ذلك بمثابة توقيع شهادة وفاة تنظيم “القاعدة”. وعلى الرغم من أن الأخير بارك خطوة المفاوضات واعتبرها “نصراً كبيراً” لـ”الإمارة الإسلامية”، إلا أن بعض مسؤولي الحركة أدلوا خلال مرحلة التفاوض بتصريحات فيها تشكيك واضح بطبيعة العلاقة بين الطرفين، حتى أن بعضهم أنكر وجود “بيعة”.

وحالياً بعد سيطرة “طالبان” على العاصمة كابول، واستعدادها لإعلان النسخة الثانية من إمارتها الإسلامية، تظل العلاقة مع تنظيم “القاعدة” من أهم الهواجس التي تثير قلق الدول الغربية ودول الجوار الأفغاني، وسط تحذيرات من بعض المسؤولين الغربيين من إمكان أن يمهد “الزلزال الأفغاني” لعودة تنظيم “القاعدة”. وذلك في الوقت الذي تركز تصريحات مسؤولي حركة “طالبان” على أنها معنية بمنع أي تنظيم من تهديد الدول الغربية، انطلاقاً من أفغانستان، التزاماً على ما يبدو ببنود اتفاق الدوحة. فما هي العلاقة بين “طالبان” و”القاعدة” وكيف يمكن أن تتطور في ظل “الإمارة الثانية”؟

العلاقة التاريخيّة بين الطّرفين

في منتصف عام 2014، وعلى خلفية الصراع الذي نشأ بين “داعش” وتنظيم “القاعدة” حول البيعة والنكث بها، سرّب الأخير تسجيلاً مرئياً لزعيمه الراحل أسامة بن لادن. تضمّن التسجيل لأول مرة إقراراً واضحاً من بن لادن بأن العلاقة بين “القاعدة” و”طالبان” هي علاقة “بيعة عظمى”، أي بيعة إمامة وحكم وليست مجرد “بيعة صغرى”، أي اتّباع أوامره بما يخص شؤون الجهاد والقتال فقط من دون أمور الإدارة والقضاء وسواها.

وردّاً على سؤال مباشر حول الموضوع وجّهه شخص لم تظهر صورته في التسجيل، أجاب بن لادن بكل وضوح: “بيعتنا لأمير المؤمنين هي بيعة عظمى، وهي التي تنصرف إليها النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواردة عن النبي مثل قوله: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”. وبحسب بن لادن، فإنه “ينبغي على أي مسلم أن يعقد في قلبه أنه بايع أمير المؤمنين الملا عمر وإلا مات ميتة جاهلية”.

وحول وجوب أن يكون الخليفة قرشياً أي منتمياً إلى قبيلة قريش، كما يذهب إلى ذلك تنظيم “داعش”، قال بن لادن: “إذا تغلّب الرجل على بلد من البلدان فلا مجال للبحث في توافر الشروط الأخرى فيه ما دام مسلماً”، وبما أنّ الملا عمر توفر فيه شرط “التغلب” يكون تجاوز جميع الشروط الأخرى. وأضاف بن لادن أن بعض الناس يشكل عليهم أن الملا عمر غير قرشي، ويشير إلى أن هذه المسائل والشروط تكون في حالة الاختيار وحالة الوفرة، أما في حالة الضرورة أو التغلب أو الضعف فهذا الشرط لا يلتفت إليه، وبالتالي لا تنزع البيعة عنه لأنه غير قرشي أو غير مجتهد، بحسب قوله.

وقد جاء هذا التسجيل ليكشف واحدة من أطول حالات الخداع التي مارسها تنظيم “القاعدة” مع أتباعه وأنصاره، إذ كان طوال عقدين يوهمهم بأن العلاقة بين “القاعدة” و”طالبان” قائمة على أساس البيعة الصغرى فقط، وأنه ليس لأمير “طالبان” أي سلطة على “القاعدة” إلا بما يخص أمور القتال والجهاد فقط.

ولكن هنا نقطة في غاية الأهمية، تولى عطية الله الليبي الذي كان يتولى منصب مفتي “القاعدة” قبل مقتله توضيحها عندما قال إنه “حتى إمارة أمير المؤمنين الملا عمر حفظه الله ليست إمامة عظمى إنما هو أمير في حدود سلطانه وولايته”، بمعنى أن “القاعدة” تعتبر زعيم حركة “طالبان” أميراً عليها في حدود أفغانستان فقط، أما خارج حدود أفغانستان حيث ليس لـ”طالبان” سيطرة جغرافية، فإن فروع “القاعدة” لا تكون ملزمة تجاهه إلا بما تفرضه البيعة الصغرى.

 شبهات حول البيعة في عهد الظّواهري وهبة الله

بعد وفاة بن لادن، سار خلفه أيمن الظواهري على المنوال نفسه، مقدماً فروض البيعة والولاء للملا أختر منصور زعيم الحركة السابق الراحل الذي قتل بعملية أميركية بعد عودته من زيارة لإيران في شهر أيار/مايو من عام 2015، ليخلفه زعيم الحركة الحالي الملا هبة الله أخند زادة الذي أرسل له الظواهري رسالة بيعة مشابهة من حيث ألفاظها وعباراتها للرسالة التي تلقاها سلفه أختر منصور.

غير أن هبة الله ترك بيعة الظواهري معلقة، من دون أن يعطي موافقته عليها، أو على الأقل لم تعلن هذه الموافقة حتى الآن، فيما نشرت موافقة أختر منصور على بيعة “القاعدة” في بيان رسمي منشور على موقع الحركة في 14 آب/أغسطس عام 2015. بل أكثر من ذلك صدرت تصريحات من بعض مسؤولي “طالبان” تشكك بحصول البيعة، فقد نقل موقع “أخبار الآن” عن الناطق باسم “طالبان” سهيل شاهين أنه “لا وجود للبيعة”. وأضاف شاهين في تقرير منشور على الموقع بتاريخ 19 أيار (مايو) الماضي: “من قال إنّ هناك بيعة؟ ليس هناك أيّ بيعة. هذه أحد المزاعم التي يطلقونها ويستخدمونها لدعم أهدافهم. ولكن في الحقيقة ليس هناك من بيعة”.

ولم يكتف شاهين بذلك، بل أصر الناطق باسم “طالبان” على إنكار أيّ وجود لـ”القاعدة” في المناطق الأفغانية الريفية الشاسعة التي تقع تحت سيطرة “طالبان”. وقال شاهين: “ليس هناك من وجود لـ”القاعدة” في أفغانستان. فليس لـ”القاعدة” ولا لأي أفراد آخرين أي مركز تجنيد أو مركز لجمع التبرعات أو مركز تدريب في كل أنحاء أفغانستان”.

 “القاعدة” تدعم المفاوضات وتصرّ على البيعة

خلافاً لما ذهبت إليه بعض التحليلات من أن مفاوضات الدوحة بين “طالبان” وواشنطن تعتبر بمثابة إعلان وفاة لتنظيم “القاعدة”، سارع الأخير في شهر آذار (مارس) من العام السابق إلى إصدار بيان تحت عنوان “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”. تضمن البيان إشادة بالاتفاق الموقع بين الإمارة الإسلامية والولايات المتحدة، واصفاً إياه بأنه انتصار تاريخي. وذكر البيان أن اتفاق الدوحة جاء لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب من أفغانستان: “جاء (الاتفاق) تحقيقاً لمقولة الملا عمر (وهو الزعيم الروحي لحركة “طالبان” توفي عام 2013) التي قال فيها: لقد وعدنا الله بالنصر ووعدنا بوش بالهزيمة، وسوف يرى العالم أي الوعدين سيتحقق”، وقد رأى العالم بأسره هذا الانتصار التاريخي الكبير بإرغام الولايات المتحدة الأميركية على سحب جيوشها المحتلة من أرض أفغانستان”.

وأضاف البيان: “إننا بهذه المناسبة الجليلة نرفع أسمى التهاني والتبريكات لمقام أمير المؤمنين الملا هبة الله آخندزاده”، في إشارة إلى أن “القاعدة” تنظر إلى الملا هبة الله على أنه صاحب البيعة العظمى، وأن عدم الإعلان عن الموافقة على بيعة قد يكون مجرد ترتيب ضمن البيت الداخلي الواحد لعدم عرقلة المفاوضات أو إعطاء الخصم ذريعة للتنصل منها.

وحتى الآن تشدد حركة “طالبان” على أن ما التزمت به بموجب اتفاق الدوحة بخصوص تنظيم “القاعدة” هو منعه من القيام بأي نشاطات ضد الدول الغربية انطلاقاً من أفغانستان، أما موضوع قطع العلاقات فإنه لم يكن مطروحاً ضمن بنود الاتفاق. وهو ما أكده ذبيح الله مجاهد في مقابلة صحافية مع قناه “طلوع نيوز” قال فيها: “لم يُذكر في أي مكان في الاتفاقية أن لدينا علاقات أو لا علاقة لنا مع أحد. في الواقع، لا يتم النظر في مسألة العلاقات، ما تم الاتفاق عليه هو أنه ينبغي أن لا يكون هناك أي تهديد من الأراضي الأفغانية للولايات المتحدة وحلفائها”.

 الظّواهري خارج سلطان الإمارة الإسلاميّة

تشير المعلومات المتوافرة إلى أن زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري موجود في باكستان وليس في أفغانستان. وهذا يعني أن الظواهري أصبح خارج “سلطان” الملا هبة الله، أي أنه يتمتع بنوع من المرونة في تكييف نوع العلاقة التي تربطه به، فبإمكانه أن يصر على أنها “بيعة عظمى” من باب أنه موجود في أراض باكستانية لكنها خاضعة لنفوذ “طالبان”، بحكم أنها أراض فيها ملايين النازحين الأفغان الموالين للحركة. ومن جهة ثانية، بإمكانه إذا شعر أن اتفاق الدوحة يتضمن بنوداً سرية تلزم “طالبان” بالتضييق عليه وعلى تنظيمه أن يلجأ إلى التفسير الثاني الذي قال به عطية الله الليبي إن البيعة العظمى تكون فقط ضمن حدود سلطان أمير “طالبان” ولا تتعداها إلى مناطق وبلدان أخرى.

النهار العربي

————————-

أفغانستان أمام «سيناريوهات» ما بعد الانتصار وسط تبدل المعطيات والتكتيكات وحسابات لاعبي الداخل والخارج/ عمر فاروق

كانت اللحظة التي استقل فيها الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي، في مطار كابُل الدولي، الطائرة المتجهة إلى جمهورية طاجيكستان بمثابة نهاية للجهود الأميركية التي استمرت على مدى 20 سنة متصلة لبناء دولة في أفغانستان. إذ ذهبت هباءً تريليونات الدولارات التي أنفقت على محاولة بناء مؤسسات دولة أفغانية، مع «اختفاء» القوات المسلحة الأفغانية، وانهيار الهيكل الحكومي بشكل كامل. وكل هذا حدث في غضون ساعات فقط من دخول رجال ميليشيا من أعضاء «حركة طالبان» العاصمة الأفغانية كابُل، صباح الأحد الفائت.

وحقاً، كان هذا الحدث خاتمة لـ20 سنة من الجهود الدولية، التي كانت قد بدأت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة بمحاولة تفكيك «حركة طالبان»، بيد أنها كما حصل، انتهت نهاية مخزية، إذ لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث أن نفّذت قوة عظمى مثل هذه المغامرة العسكرية بهذه التكلفة المهدورة.

لقد مرّ استيلاء «طالبان» على العاصمة الأفغانية كابُل بشكل سلمي حتى الآن، إذ أصبحت كابُل الآن تحت السيطرة الكاملة لقوات الحركة، ولا سيما بعدما نشر قادة الميليشيا وحدات أمنية حول المدينة، وباتوا متغلغلين في جميع أنحائها، ناصبين نقاط تفتيش أمنية في كل زاوية فيها. ومن ناحية أخرى، لا يزال مطار حامد كرزاي الدولي – وهو الاسم الرسمي للمطار – المرفق الوحيد في كابُل الذي يخضع لسيطرة الجيش الأميركي، وذلك بعدما أنشأت «طالبان» نقاطاً أمنية في جميع أنحاء المطار، لكنها أحجمت عن الإقدام على أي محاولة لدخول مبانيه. وبالتالي، ولذلك فإن ثمة ما يشبه الهدنة غير المعلنة بين «طالبان» والقوات العسكرية الأميركية المسيطرة على المطار، مع العلم أن هذه القوات كانت قد أجلت الموظفين الدبلوماسيين الأميركيين من كابُل وأزالت العلم الأميركي عن مجمّع السفارة في المدينة.

جدير بالذكر أنه قبل ساعات معدودات من دخول رجال «طالبان» إلى مختلف أحياء كابُل ومناطقها، كان جميع أعضاء حكومة الرئيس أشرف غني تقريباً قد فرّوا منها، ومع ذلك، اختارت الحركة تحاشي الإخلاء القسري للمسؤولين الذين كانوا لا يزالون داخل المباني الحكومية أو في مقرّ الرئاسة. وبدلاً من ذلك، دخلت «طالبان» في مفاوضات مع كبار المسؤولين في الحكومة الأفغانية السابقة من أجل إنجاز انتقال سلمي للسلطة، ويقود الرئيس السابق حامد كرزاي والسياسي الحكومي البارز الدكتور عبد الله عبد الله فريق الحكومة الأفغانية في المباحثات، ولا تزال المفاوضات مستمرة حتى كتابة هذا التقرير.

من ناحية ثانية، لم ترد أنباء عن وقوع حوادث عنف تستحق في كابُل بعد دخول مسلحي «طالبان» المدينة، ومع ذلك، جرى الإبلاغ عن حدوث نزوح جماعي واسع النطاق خارج المدينة. إذ يخشى السكان الذين كانوا يتعاونون بشكل وثيق مع حكومة أشرف غني أو مع القوات الأميركية من التعرّض لهجمات انتقامية من قبل مسلحي «طالبان»، واتضحت هذه الصورة مع اقتحام عدد كبير من المواطنين بوابات المطار الدولي محاولين الصعود على متن طائرات عسكرية أو تجارية أميركية متجهة إلى خارج أفغانستان، كذلك عُلّقت الرحلات التجارية مع إعطاء الأولوية لرحلات الطيران العسكرية الأميركية التي تتولّى إجلاء الموظفين الدبلوماسيين.

بيان دولي مشترك

على الصعيد السياسي الدولي، أصدر أكثر من 60 دولة بياناً مشتركاً يدعون إلى إعادة فرض الأمن والنظام المدني بشكل فوري، وكذلك طالب البيان «طالبان» بالسماح بمغادرة البلاد لكل الراغبين بذلك. وفي المقابل، يعرب النُشطاء عن مخاوفهم بشأن مصير النساء في أفغانستان وسط تقارير تفيد بأن «طالبان» تفرض بالفعل تغييرات على طريقة لباسهنّ واختيارهن للعمل، في بعض أنحاء البلاد، في حين واصلت محطات التلفزيون المحلية الخاصة الأفغانية بثّ برامجها المعتادة مع وجود الممثلات والمذيعات بشكل طبيعي على شاشات التلفزيون.

أيضاً واصل النُشطاء والمعلّقون السياسيون الإعراب عن مخاوفهم أيضاً من معاملة أقليات أفغانستان في ظل قيادة «طالبان» للبلاد. وقال الصحافي الباكستاني، طاهر خان، الذي يتكلم اللغة البشتوية – الباشتونية (لغة غالبية مسلحي «طالبان») وكان يغطي شؤون الحركة منذ استيلائها على كابُل لأول مرة: «توجد مؤشرات واضحة على أن الحركة ستكون مختلفة هذه المرة، فهناك بالفعل كثير من الضغوط التي تُمارس عليها من قبل المجتمع الدولي بشأن القضايا المتعلقة بالأقليات».

وأضاف خان أن 3 من قادة «طالبان» حضروا يوم الأحد مجلس عزاء شيعياً في مدينة كابُل، وهو في رأيه بمثابة إشارة واضحة إلى أن الحركة ستكون ليّنة في تعاملها مع الأقليات بعد تشكيل الحكومة الأفغانية. وتابع: «صحيح أنه سيكون من الصعب التكهّن بما سيحدث لاحقاً، لكنهم يستجيبون للضغوط الدولية في الوقت الحالي».

دور إيران المتنامي

يرتبط هذا التغيير في موقف «طالبان» الواضح تجاه الأقليات والنساء بخلفية استراتيجية يظهر أنها دُفعت إليه، وذلك بعدما تحسنت علاقات الحركة بشكل كبير مع الدول الإقليمية، بما في ذلك إيران والصين وروسيا. وحسب كلام طاهر خان: «إحدى الدول التي حسنّت (طالبان) علاقاتها معها بشكل كبير هي إيران، إذ تشاور أعضاء الحركة مع القادة الإيرانيين إبّان المباحثات مع الإدارة الأميركية، كما أنهم يزورون طهران بانتظام من أجل إجراء مشاورات».

ومن جانب آخر، هناك إدراك واضح داخل دوائر السياسة الخارجية الباكستانية بأن قرار الولايات المتحدة الأحادي بالانسحاب من أفغانستان يشير إلى أن واشنطن لم تعُد تركِّز على القضايا المتعلقة بالإرهاب، وهو ما يعني عملياً تضاؤل الأهمية الاستراتيجية لكل من باكستان وأفغانستان. لكن، مع ذلك، ثمة إشارات ضعيفة من قبل العواصم الإقليمية بأن «الأصول الاستراتيجية» التابعة للمؤسسة الأمنية الباكستانية، وهو التعبير الذي يستخدَم كثيراً في وسائل الإعلام الدولية للإشارة إلى «حركة طالبان» الأفغانية، تتمتع ببعض الدعم بين دول المنطقة مثل روسيا وإيران والصين.

وما يُذكر هنا أنه إبان ذروة الوجود الأميركي في أفغانستان، وردت تقارير تفيد بأن الاستخبارات الأميركية كانت قد رفعت معلومات إلى واشنطن تفيد بأن كلاً من إيران وروسيا كانتا تقدمان أسلحة ودعماً استخباراتياً وتمويلاً لـ«حركة طالبان» من أجل شن هجمات على القوات الأميركية داخل كابُل. كذلك، نفذت «طالبان»، بإيعاز من الروس والإيرانيين، عمليات ضد الجماعات الموالية لـ«تنظيم داعش» في شمال أفغانستان وشرقها، خلال الفترة ما بين 2014 و2016. عندما سجّل صعود مفاجئ لـ«داعش» في البلاد. ثم إن وكالة الاستخبارات الباكستانية استضافت رؤساء استخبارات موسكو وطهران وبكين في مؤتمر عُقد بالعاصمة الباكستانية إسلام آباد في يوليو (تموز) 2018. وفيه جرى الاتفاق على أن أجهزة الاستخبارات الأربعة ستنسق جهودها ضد صعود «داعش» في أراضي أفغانستان.

لكن هل يعني هذا أن روسيا وإيران لهما علاقة عمل مع «طالبان» الأفغانية؟ أو هل ذلك يعني أيضاً أن اللاعبين الإقليميين كانوا أكثر تقبُّلاً لـ«حركة طالبان» المحافظة من «تنظيم داعش» المتطرف، الذي – وفقاً لتقارير – كان يؤسس داخل أفغانستان؟

البُعد الروسي للصورة

لا توجد إجابات واضحة على مثل هذه الأسئلة حتى الآن. لكن الواضح أن إيران رحّبت «بسحب القوات الأجنبية»، وأبدت روسيا استعدادها لاستخدام القوة العسكرية لحماية حلفائها الإقليميين مثل طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان (والجمهوريات الثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى)، في حين لم يُشَر إلى «طالبان» على أنها تشكّل تهديداً لهذه الجمهوريات في أي من البيانات الروسية، وهذا على الرغم من حتمية رفض موسكو العنف المتزايد والقلاقل هناك.

وفي هذا السياق، وفقاً لمسؤولين وخبراء باكستانيين، فإن الروس يشعرون بالقلق بشكل خاص من صعود «داعش» في شمال أفغانستان بالقرب من حدودها مع دول آسيا الوسطى كلها، بما فيها طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. إذ لا تزال موسكو تعتبر أمن دول آسيا الوسطى مسؤوليتها الرئيسة، لكن الروس كانوا يناقشون هذه المشكلة مع قادة «طالبان»، ويرون أن الحركة تُعدّ بمثابة حليف محتمل لهم ضد «داعش» والجماعات المتطرفة الأخرى الناشئة في المنطقة الحدودية.

وحقاً، فإن قصة «داعش» في أفغانستان تتمحور أيضاً حول تراجع هذا التنظيم المستمر هناك. إذ إنه بعد الصعود الدراماتيكي في كابُل خلال الفترة بين عامي 2014 و2016 ووصول عدد أعضائه إلى الآلاف، بات التنظيم في حالة تراجع مستمرة. ثم إنه على مدى السنتين الماضيتين، عانى «داعش» من خسائر متتالية في مواجهته للعمليات العسكرية الأميركية والأفغانية في ولايتي كونر وننغرهار الشرقيتين، وقد تفاقمت هذه الخسائر بسبب الحملة العسكرية المنفصلة التي شنها مسلحو «طالبان» ضد التنظيم.

ومع ورود أنباء تشير إلى استدعاء «داعش» نحو 2200 مقاتل، فإن المسار بالنسبة لـ«طالبان» إجمالاً، يعجّ بانشقاقات بين صفوف القادة والمقاتلين، وخسارة أراضٍ، وتمزّق الحلفاء على أرض المعركة وفقاً لتقرير يشمل قراءات خبراء غربيين. ويرى بعض هؤلاء أن «طالبان» لا تتمتع بالكفاءة والتطور الكافي لمعالجة مشكلة عنف المفسدين الذي يمكن أن يظهر، ويكشف عن نفسه بأشكال متعددة في أفغانستان وربما يؤثر على دول المنطقة.

احتمالات المستقبل

على صعيد آخر، يتوقّع المراقبون أن تسعى «طالبان» الآن لبناء نوع من العلاقات الجيدة مع الأقليات الأفغانية، وبالأخصّ أقلية الهزارة الشيعية (في وسط أفغانستان) تفادياً لإزعاج إيران أو استفزازها. وللعلم، كان عدد كبير من الطاجيك والأوزبك والتركمان حتى بعض الهزارة قد انضم إلى «حركة طالبان». وكان هذا هو سبب بدء الحركة هجومها في شمال أفغانستان؛ حيث الأكثرية من غير قبائل الباشتون، ومن شأن هذا الواقع الجديد تشجيع «طالبان» على أن تكون لطيفة ومتعاونة مع الأقليات العرقية والطائفية.

في المقابل، قد يتخذ عنف المفسدين شكل هجمات إرهابية داخل الأراضي الباكستانية، وإذا صدّقنا أقوال خبراء الاستخبارات الغربية يمكن أن تصبح الاستخبارات الهندية ذراعاً تستخدم فلول الجماعات الإرهابية ضد باكستان. ولا يبدو هذا الأمر مستبعداً لدى النظر إليه في ضوء الادعاءات الباكستانية عن اختراق الاستخبارات الهندية لحركة «تحريك طالبان باكستان»، وأنه جرى استخدام هذه الجماعة المسلحة نحو تنفيذ هجمات إرهابية في قلب باكستان. ويوجد عدد لا يحصى من التقارير والادعاءات التي تشير إلى الشبكات التي تربط حركة «طالبان باكستان» بجماعات إرهابية دولية مثل «القاعدة» و«داعش».

بالمثل، قد يأتي هذا العنف في شكل استخدام باكستان للجماعات الإرهابية لتنفيذ هجمات إرهابية ضد المصالح الهندية في أفغانستان. وإذا ما نظرنا إلى الماضي القريب لن يبدو هذا مستبعداً، إذ من المعلوم والموثق كيف يستخدم الهنود الأصول العسكرية الاستخباراتية في أفغانستان ضد باكستان. كذلك لا تزال حيّة في الذاكرة القومية والدولية أيضاً الذكريات المريرة لما حدث من تحميل الإدارة الأميركية الاستخبارات الباكستانية مسؤولية الهجوم الإرهابي على السفارة الهندية في كابُل.

ويمثل هذا جانباً آخر من الصراع الأفغاني الذي يفرز قيحاً كجرح لم يندمل، فليس لدى الجهازين الأمنيين الباكستاني والهندي «قواعد لعبة» راسخة واضحة لحماية مصالح كل منهما في أفغانستان. ويشعر الباكستانيون بالقلق من رغبة واشنطن في منح الهند دوراً غير متناسب في أفغانستان بعد الانسحاب، في حين يشعر الهنود بالقلق والخوف من احتمال تأثر مصالحهم الاقتصادية في أفغانستان سلباً بسبب أعمال أعدائهم اللدودين في ثوب «طالبان». لذا لا يعد عنف المفسدين مستبعداً في هذا «السيناريو»، بل إن له سوابق في الأراضي الأفغانية، فقد اتهمت الإدارة الأميركية روسيا وإيران بدعم «طالبان» في أفغانستان لتنفيذ أعمال عنف ضد القوات الأميركية هناك. واتهمت روسيا الأميركيين بشكل غير مباشر بجلب مقاتلين تابعين لـ«تنظيم داعش» في شمال أفغانستان بالقرب من حدود جمهوريات آسيا الوسطى التي تعدّها روسيا جزءاً من حدودها الأمنية. وبالفعل، أوت فلول «القاعدة» و«داعش» في أفغانستان جماعات إرهابية ظهرت في مجتمعات آسيا الوسطى، وشاركت في صراع عسكري مع حكومة آسيا الوسطى.

ولا يقلّ قلق الصينيين إزاء ما يحدث من تطورات في أفغانستان، فهم يعلمون جيداً بتحالف العناصر الانفصالية الصينية، خاصة الأويغور المسلمين، مع كل من «داعش» و«طالبان» و«القاعدة». كذلك تتحالف بعض تلك العناصر مع «طالبان باكستان» التي كانت توفر لهم ملجأ حتى وقت قريب. وبينما يقول خبير يقيم في إسلام آباد: «إن المخاوف من عنف المفسدين التي تصل إلى الأراضي الصينية حقيقية»، عبّرت الصين بالأمس عن نيتها العمل والتعاون مع حكومة «طالبان» الجديدة.

أفغانستان… أمام خلفية تقاطع الحسابات الباكستانية ـ الهندية

> حركة طالبان» لم تواجه حتى هذه اللحظة أي مقاومة لنصرها العسكري في أفغانستان، ومع ذلك تشير التقارير إلى أن المسلحين الموالين لأحمد شاه مسعود، القائد العسكري السابق الراحل، قد بدأوا في التجمع في وادي بنجشير، المعقل القديم للقادة العسكريين الطاجيك.

المعلومات تحدثت عن أن أمر الله صالح، نائب الرئيس الأفغاني موجود في وادي بنجشير مع رجاله، وأنه قد يبدأ حراك مقاومة من شمال كابُل. والمعروف أن هناك تاريخاً طويلاً من تقديم الهند مساعدات عسكرية لقوات مسعود. وإذ ذاك لم يكن التهديد الإرهابي الدولي قد تبلور بالكامل عام 1996، وهو العام الذي شهد بداية الهنود تقديم المساعدة العسكرية الجوية لجماعات «التحالف الشمالي»، كذلك لم تكن وسائل إعلام العواصم الإقليمية والدولية قد بدأت تولي أهمية لهذا التهديد بعد. لذا كان المسؤولون العسكريون الهنود قلقين من صعود القوى الموالية لباكستان في أفغانستان، وبالتالي، كانوا يرون «طالبان» تهديداً للهند داخل أفغانستان، وهو ما كان له دور حيوي في تشكيل الفكر الاستراتيجي والسياسي للهند. وفي ظل هذه الجهود والمحاولات انضمت دول أخرى إلى الهند مثل إيران وروسيا وطاجيكستان حيث كانت أشكال الدعم الهندي تتدفق باستمرار إلى أحمد شاه مسعود (وهو طاجيكي) بمساعدة الجمارك الطاجيكية.

خوف الهند الاستراتيجي من أن تصبح باكستان متحكمة في أفغانستان، خلال مرحلة ما بعد الانسحاب، نابع من نظرة المسؤولين الهنود إلى الجهاز الأمني الباكستاني باعتباره مهيمناً على المسلحين السنة و«الإرهاب القادم من أفغانستان». وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن الهند مهتمة كثيراً بالعلاقات داخل أفغانستان من أجل ضمان اختراق أفغانستان (البعيدة عن البحار) من خلال الموانئ الإيرانية. لكن، كان لها أيضاً خطط للوصول إلى الجمهوريات الغنية بالنفط والغاز في آسيا الوسطى باعتبارها أسواقاً وموردين للطاقة في الوقت ذاته، وذلك لتلبية طلب الاقتصاد الهندي المتنامي والمتعطش للنفط. وبهذه الطريقة يستهدف المخططون الاستراتيجيون الهنود خفض الأهمية الاستراتيجية لباكستان. ومع اتجاه أفغانستان حالياً نحو سيطرة «طالبان» العسكرية الكاملة، من المرجح أن يضيع الاستثمار الهندي الكبير في الطرق والاتصالات في أفغانستان، وهذا ما يخشاه المسؤولون الهنود.

على أي حال، الإعلاميون والمفكرون الاستراتيجيون الهنود مقتنعون أن وضع الهند جيد بين المواطنين الأفغان، ويرون أن نيودلهي اختارت الاستثمار الصحيح وفي البلد المناسب، لكن ربما ليس في التوقيت السليم. فقد كان صعود «طالبان» عام 2014 أمراً واضحاً ومتوقعاً، عندما شهد ذلك العام بدء الاستخبارات الأميركية والغربية والمسؤولين الدبلوماسيين إشراك «طالبان» في المباحثات السرية. وأخذت التقارير عن هذا الأمر تتصدّر العناوين الرئيسة في الصحف ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم؛ ومع ذلك تجاهل الهنود التسريبات، وبدا أنهم لم يخططوا لـ«سيناريو» أفغانستان بعد رحيل القوات الأميركية، وواصلوا تقديم أنفسهم بوصفهم داعمي الحركات المناهضة للإسلام السياسي و«الإرهاب».

هذه المرة الوضع مختلف. وإذا قرّرت الهند تقديم الدعم إلى مسلحي بنجشير في مواجهة «طالبان»، فمن المؤكد أنها لن تحظى بدعم إيران أو الاتحاد الروسي. إلى جانب ذلك، بعدما كانت الأقليات العرقية في أفغانستان، كالطاجيك والأوزبك والتركمان، قاعدة الدعم الأساسية لمقاتلي أحمد شاه مسعود، نجد أن «طالبان» اجتذبت أخيراً كثيرين من أبناء هذه الأقليات، ما سهل لها الاستيلاء على المدن والبلدات الشمالية.

الشرق الأوسط

———————–

نيويورك تايمز: 3 ادعاءات مضلّلة في خطاب بايدن عن الانسحاب من أفغانستان

ألتراصوت- فريق الترجمة

تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمة له يوم الجمعة، 20 آب/أغسطس، بإتمام عمليات إجلاء كافة الأمريكيين من أفغانستان، ودافع مجددًا عن الخطوات التي اتخذتها إدارته في عملية الانسحاب، والتي واجهت العديد من الانتقادات المحلية والدولية.

وقد اشتملت الكلمة التي ألقاها بايدن يوم أمس على عدد من المغالطات أو الادعاءات المضللة بشأن عمليات الانسحاب والإجلاء، والتي شابتها حالة عارمة من الفوضى والهلع، خلال محاولة الأمريكيين وآلاف الأفغان مغادرة أفغانستان عبر مطار كابول.

وقد قدّمت نيويورك تايمز مراجعة لهذه الادعاءات المغلوطة ننقل ترجمتها هنا بتصرّف.

    لم يشكّك أحد من حلفائنا حول العالم بمصداقيتنا

مضلّل: صحيح أن قادة الدول الحليفة للولايات المتحدة قد أبدوا تحفظًا على تقديم انتقادات علنية بشأن عملية الانسحاب الأمريكية والأخطاء التي وقعت في أفغانستان خلال الفترة الماضية، إلا أنّ شخصيات سياسية بارزة في حكومات تلك الدول أعربوا وبشكل صريح عن موقف ناقد يشكّك بسلامة الخطوات التي أقدمت عليها الإدارة الأمريكية ومصداقيتها.

ففي ألمانيا، وصف رئيس اللجنة البرلمانية للعلاقات الخارجية، الانحساب الأمريكي بأنه “سوء تقدير خطير من قبل الإدارة [الأمريكية] الحالية، وله تبعات طويلة المدى”، مؤكدًا على أنّ خطوة الانسحاب على النحو الذي جرت عليه قد تسببت “بإساءة بالغة للمصداقية السياسية والأخلاقية للغرب”. أما آرمين لاشيت، زعيم حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، والمرشح خلافة أنجيلا ميركل، فقد وصف ما حصل بأنه “أكبر إخفاق” في تاريخ الناتو. أما ميركل نفسها، فقد انتقدت عملية الانسحاب بشكل غير علني، وفق ما نقلت وسائل إعلام ألمانية.

ولم يقتصر انتقاد الانسحاب الأمريكي بأخطائه العديدة التي تكشفت خلال الأسبوعين الماضيين على ألمانيا، فقد شكّك عدد من البرلمانيين في المملكة المتحدة بصورة الولايات المتحدة كحليف يمكن الاعتماد عليه، وقال توم توغندهات، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني عن حزب المحافظين، إن ما حصل في أفغانستان يعدّ “أكبر كارثة في السياسة الخارجية” منذ أزمة قناة السويس عام 1956. وقال توغندهات: “علينا إعادة التفكير بكيفية التعامل مع الأصدقاء ونحدّد من هو الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه، وأن نعطي أولوية لمصالحنا”.

    لقد قضينا على القاعدة في أفغانستان

مضلّل: صحيح أن تواجد تنظيم القاعدة في أفغانستان قد تراجع بشكل كبير منذ الغزو الأمريكي عام 2001، إلا أن بايدن قد جانب الصواب بادعائه أن تنظيم القاعدة لم يعد موجودًا في أفغانستان.

فوفق تقرير لمجلس الأمن في الأمم المتحدة في حزيران/يونيو الماضي، فإن للقاعدة وجودًا في 15 ولاية على الأقل من ولايات أفغانستان التي يبلغ عددها 34 ولاية. كما كشف مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأمريكية في تقرير نشر يوم الأربعاء الماضي، 18 آب/أغسطس، أن “طالبات ما تزال متمسكة بعلاقاتها مع القاعدة، وتوفر لأعضاء التنظيم الإرهابي حاضنة في أفغانستان”.

وفي تعليق مباشر على هذا الادعاء، أكّد جون كيربي المتحدث باسم البنتاغون، في مؤتمر صحفي، أنه ما يزال للقاعدة حضور في أفغانستان.

مضلّل: تشير تقارير من أفغانستان إلى عكس ذلك، وهو ما أكّده مسؤولون آخرون في الحكومة ممّن تحدثوا عن الظروف الصعبة التي يواجهها الأمريكيون في أفغانستان للوصول إلى المطار بشكل آمن.

وقد نشرت سفارة الولايات المتحدة في كابول تحذيرًا أمنيًا يوم الأربعاء الماضي جاء فيه أن “حكومة الولايات المتحدة قد لا تكون قادرة على ضمان الوصول الآمن إلى مطار حامد كرزاي الدولي”.

وفي إجابة على سؤال صحفي يشكّك بادعاء الرئيس بايدن بشأن الوصول الآمن إلى المطار، قال نيد برايس، المتحدث الرسمي في وزارة الخارجية الأمريكية إن الوزارة “تلقت عددًا محدودًا من التقارير التي تشير إلى تعرض مواطنين أمريكيين في أفغانستان إلى معيقات تحول دون وصولهم إلى المطار بطريقة أو بأخرى، أو أنهم واجهوا أي مصاعب أو مقاومة تمنعهم من ذلك”.

تعرض العديد من المواطنين لصعوبات جمة قبل الوصول إلى مطار كابول (Getty)

كما أفاد جون كيربي، المتحدث باسم البنتاغون، في مؤتمره الصحفي، بأنه قد اطلع على “تقارير متفرقة بشأن عدم تمكّن بعض الأمريكيين من تجاوز بعض نقاط التفتيش [التي فرضتها قوات طالبان]، إلا أنّ الغالبية العظمى منهم قد تمكنوا من العبور”.

وقد نقلت مجلة “بوليتيكو” أن وزير الدفاع الأمريكي ليود أوستين قد تحدث لأعضاء في الكونغرس يوم الجمعة، 20 آب/أغسطس، عن تعرض بعض الأمريكيين أثناء محاولة الوصول إلى المطار في كابول إلى أشكال من المضايقة والضرب من مسلحي الحركة.

كما ادعى مواطن أمريكي مقيم في أفغانستان، في حديث له مع قناة “إي بي سي نيوز” الأمريكية، بأنه شهد تعرّض مواطنين يحملون جواز السفر الأمريكي إلى مضايقات على نقاط تفتيش لحركة طالبان، وأن بعضهم قد منع من العبور إلى المطار. كما تحدثت مراسلة سي أن أن في كابول، كلاريسا وورد، عن تعرضها لصعوبات أثناء محاولتها الوصول إلى المطار.

————————-

======================

تحديث 23 آب 2021

—————————

وحوش طالبان”.. الذين لم يهبطوا من المريخ/ رستم محمود

في آلية فهم حركة طالبان الأفغانية، عقيدتها وسلوكها، ثمة نزعتان مُستقطبتان: واحدة طُهرانية، يتبناها المنخرطون في صفوف الحركة، ومعهم أغلبية واسعة من التنظيمات الإسلامي، التي لا يكاد أن يُستثنى منها أحد، ومعهم طيف واسع من الأوساط الأهلية، المحافظة والطائفية، المُسلمة السُنية تحديداً. فهؤلاء يعتبرون طالبان تمثيلاً لبراءة وقداسة “الإسلام الأول” وما كان عليه في العقود التأسيسية الأولى. إذ تُبهجهم وتغريهم المطابقة السيميائية والرمزية والكلامية والسلوكية بين مقاتلي طالبان وما يُعتقد أن الشخصيات الإسلامية المُقدسة كانت عليه في سنوات الإسلام الأولى.

على النقيض تماماً، ثمة نزعة التوحيش (من وحش) في فهمهم، التي تتبناها بشكل مشترك قوى يمينية ويسارية غربية على حدٍ سواء، ومعهم غالبية النُخب “العلمانية” والطبقات الاجتماعية العُليا وأبناء الطوائف غير السُنية في منطقتنا. تميل هذه النزعة لاعتبار مقاتلي طالبان مُجرد “وحوش”، غرباء وخارجيون عن كُل أنماط الاجتماع الآدمي، ذوو سلوكيات وعقائد أيديولوجية اعتباطية، يتبنون العنف والكراهية لتكوين عضوي في ذواتهم بشكل مُطلق.

في كِلا القراءتين، ثمة ما هو مُشترك بالرغم من التناقض الظاهري الأولي بينهما.

فكلاهما تميلان للمُطلق، الأولى نحو قداسة مُطلقة متأتية من خارج الزمان والأحداث وحركة التاريخ ومعطيات الإنتاج والمساهمة والإيجابية الحاضرة، بمعنى ما تميل لقداسة مجانية، مطلقة وخارج أية حسابات. النزعة الأخرى تفعل الأمر نفسه، عبر ممارسة التجريم التأسيسي. إذ ثمة إخراج لمقاتلي طالبان من آليات فهم العوامل التاريخية والديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أوصلت طالبان إلى هذا القعر من الوحشية.

كذلك فأنهما تشتركان في السعي للفرار من مسؤولية كُبرى، تكشفها أية قراءة موضوعية لفهم هذه الوحشية التي عليها الحركة، مسؤولية مشتركة بين ذلك التيارين المستقطبين في فهم الحركة، هُم ومؤسساتهم ونزعاتهم العقائدية.

فأفغانستان كُلها، وطالبان كتكثيف شديد التعبير عن ذلك البلد، بكُل ما فيها وما عليها، إنما هي نتاج الجمع الموضوعي لذلكم الفاعلين: الإسلام المعاصر، بموقعه وديناميكيات فعله وتاريخ تحولاته، وطبعاً بهويات وسلوكيات متبنيه السياسيين والاجتماعيين والثقافيين. وإلى جانبه “الغرب”، بآليات وأدوار ومضامين ثقافية نظيرة، من مركزية التحديث واحتكاره إلى الاستعمار والهيمنة، وكل تفصيل آخر يُمكن أن يُقال عنه.

فكل المُعبرين والمُتبين للإسلام المعاصر، السُني منه بالذات، وأياً كان موقعهم ومستويات فاعليتهم، أنما يتحملون مسؤولية أساسية عن هذه الفداحة التي اسمها حركة طالبان. فهذا التيار السياسي العقائدي، المُغلق والعنيف، أنما قائم على ترسانة صلبة من النصوص والمرويات والقيم والأحكام الرؤى التي اسمها “الإسلام في أحواله الراهنة”. حيث إن جميع المُعبرين والمتبنين والمُقدسين والفرحين بحركة طالبان، كانوا طوال أوقات سابقة من تاريخ مجتمعاتهم، حاجزاً أمام تعثر هذا الفضاء الإسلامي الكُلي في عملية التحديث ومواكبة العالم وإعادة تشكيل الذات، مثلما فعلت الأديان الأخرى. وتالياً أنتج هذا “النكوص في تحديث الإسلام” أبناء موضوعيين مثل طالبان وما يشابهها. هذه المسؤولية التي لا يُمكن لأكثر إسلامي “مُعتدل” أن يفر منها.

صحيح، يُمكن سرد عدد لا نهائي من العوامل التي أحالت دون انزياح هؤلاء الفاعلين في الإسلام نحو التحديث، لكن المحصلة تقول إن ذلك النوع من سرد العوامل أنما غالباً يدخل في باب التبرير والتبرئة، فهناك مسؤولية تاريخية على عاتق هؤلاء، بالضبط كما هي المسؤولية السياسية والأخلاقية التي يتحملها دُعاة “الإسلام الآخر” راهناً، الذين يُعلنون اختلافهم مع طالبان، لكن المتوجسين من أية مواجهة وجدانية وعقائدية مع البُنى العميقة للعقائد والسرديات والأحكام والقيم التي تجمعهم بما تتبناها حركة طالبان نفسها، وتالياً الإبقاء على ترسانة العوالم التي تقوم عليها طالبان.

على طرف نظير، فأن “الغرب” يتحمل مسؤولية موازية، وأولاً لأنه ما ترك أفغانستان لمسارها التاريخي التقليدي قط. حتى أن كل هيمنة ومركزية واستعمار “الغرب” لباقي العالم يُمكن كشفه من خلال تقفي تاريخ هذا “الغرب” في أفغانستان.

فمنذ أواسط القرن الثامن عشر، ومع تأسس المملكة الدرانية، التي كانت أفغانستان التأسيسية بمعنى ما، كانت أدوار بريطانيا في استتباعها وخلق الصراعات بين أركان حُكمها، وفي مرحلة لاحقة احتلالها عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية، وطبعاً على الدوام في صراع مرير مع المملكة الروسية عليها، كل ذلك كان ذو دور رئيسي في عزلة أفغانستان عن حركة التحديث العالمية، وتحولها السريع من هدوء العالم القديم نحو الصراعات الداخلية والإقليمية الدائمة، بكل عنفها وجبروتها وأدوارها في قتل كُل ما قد يصنع حياة موازية.

أُعيدت الحكاية نفسها طوال القرن العشرين الذي مضى، وعقدي القرن الجديد.

إذ تقاسم الإتحاد السوفياتي وخصومهم الأميركيين حرباً بينية في أفغانستان طوال عقود الحرب الباردة المديدة، التي ما كانت بادرة على الأفغان قط. ففي وقت كان السوفيات يدعمون نُخبة مدنية عسكرية مؤدلجة، تؤسس لأنظمة شمولية عسكرية تدعي تحديثاً ما، لكنه بالحقيقة مُجرد بهرجة تحديث شكلانية معزولة عن القاع الشعبي. كانت الدفة الأخرى من الصراع تدعم أعتى أنواع الرجعيات الدينية والقبائلية والمناطقية، وفقط لتحطيم المشروع الآخر.

وحدهم الأفغان كانوا حطب “صراعات الأمم”، ودفعوا أبلغ الأثمان جراء ذلك. أكثر ضرراً وتأثيراً، هو تحول النُخبة السياسية والعسكرية وحتى الثقافية والاجتماعية الأفغانية إلى ما يشبه “الجاليات الأجنبية” داخل بلادها. فكل فرد وتنظيم من هذه النُخب، يملك مجموعة ضخمة من الولاءات والحسابات مع الخارج ولصالحه، أكثر مما يملكها ويحملها لداخل أفغانستان، وهذا بالضبط أكثر ما يُنتج شكلاً من الاحتلال المديد، وغالباً بأيدي مواطني البلاد نفسها.

كنتيجة لذلك، فأن طالبان بوحشتيها وغربتها هي من منتج ذلك الاحتلال والتحطيم المديد للذات الأفغانية، التي ما سُمح لها أن تؤسس نفسها وتحفر مساراتها. فوحشية طالبان هي وحشة أعضاءها عن العالم، الغرب المُحدث منه بالذات، الذي ما توقف عن التدفق كقوة احتلال وهيمنة وإثارة داخل أفغانستان، وتالياً صار العالم بالنسبة للأفغان مُجرد حذاء عسكري وهيمنة رمزية وسياسية واجتماعي.

ما ينطبق على “الغرب” ينطبق على دول الجوار الأفغانية، باكستان التي استخدمت هذه الجماعة لعشرات المرات لصالح أمنها القومي وحسابات جنرالاتها الانقلابين، إيران التي تتلاعب بالحساسيات الأهلية والطائفية والعرقية الأفغانية منذ عقود، وتحولهم إلى مُجرد وقود في حساباتها الإقليمية.

الحرة

—————————-

الانسحاب الأميركي من أفغانستان .. قراءة مختلفة/ علي العبدالله

على الضد مما ذهبت إليه قراءات عديدة، وما اعتبرته حركات إسلامية انتصارا لحركة طالبان وهزيمة لأميركا، يسمح المشهد بقراءة مختلفة تقول إن الولايات المتحدة انسحبت من أفغانستان وفق تصور سياسي محسوب ومدروس جيدا. وتستند هذه القراءة إلى معطيات سياسية واقتصادية أميركية، داخلية ودولية.

غزت الولايات المتحدة أفغانستان تحت راية “الحرب على الإرهاب” بعد تنفيذ تنظيم القاعدة غزوته على الأراضي الأميركية، وتدميره برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك، حيث قتل ثلاثة آلاف شخص، واستهدافه مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من دون وقوع خسائر بشرية، ما جعل الرأي العام الأميركي يؤيد الانتقام من المنفذين والداعمين لهم. وهذا جاء على هوى إدارة الرئيس جورج بوش الابن وتيار المحافظين الجدد، المسيطر فيها، صاحب دعوة “أمركة العالم بالقوة”؛ واعتماد نشر “الفوضى الخلاقة”، وإقامة “الشرق الأوسط الكبير”، آليات لتنفيذ الأمركة، فتم استثمار الحدث والتأييد الداخلي والدولي للرد على العدوان. وقد قدّمت حركة طالبان التي كانت تحكم أفغانستان، في ذلك الوقت، خدمة كبيرة للإدارة الأميركية، حين رفضت تسليم زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، وإبعاد التنظيم عن الأراضي الأفغانية، بذريعة مبايعة إمارة أفغانستان الإسلامية بن لادن.

تم الغزو بالاتفاق مع قوى محلية أفغانية، لم تصمد “طالبان” طويلا، واحتلت القوات الأميركية وحلفاؤها المحليون العاصمة ومعظم الأراضي الأفغانية. تلا ذلك غزو القوات الأميركية العراق، تنفيذا لمخطط المحافظين الجدد المذكور أعلاه، وتحت ذرائع واهية: امتلاك أسلحة دمار شامل والتنسيق مع تنظيم القاعدة.

مع الوقت تحول النصر السريع في أفغانستان والعراق إلى ثقبٍ أسود يستنزف القوة الأميركية البشرية، 2300 قتيل ونحو 20.660 جريحا، في أفغانستان. و4487 قتيلاً و32.000 جريح في العراق، وكذا القوة الردعية؛ ويبتلع أموال دافعي الضرائب الأميركيين، حوالي 2.2 تريليون دولار، صرفت على محاربة تمرّد “طالبان” التي عادت إلى الجبال وواصلت القتال على طريقة حرب العصابات، بلغ عدد القوات الأميركية التي زجّت في الحرب حوالي مائة ألف جندي، وبلغت كلفة الحرب مائة مليار دولار سنويا، صرف منها على الجيش الأفغاني، تسليحا وتدريبا، حوالي 88 مليار دولار، وإعادة الإعمار وتأهيل المؤسسات الحكومية. “كان عاما 2003 و2004 أكثر السنوات التي مرّت بها أفغانستان هدوءا منذ السبعينيات. ولكن، منذ العام 2006 تصاعدت حدّة مقاومة طالبان، وردّ التحالف الغربي عليها. وبين العامين 2009 و2013، نفذت الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئًا يشبه احتلالا واسع النطاق للبلاد. وفي 2011، بلغت القوة المشتركة للقوات الأميركية والقوات المتحالفة والأفغانية المنتشرة ضد تمرّد “طالبان” ذروتها عند أكثر من 450.000 جندي” وفق آدم كويز في مقالته “مقبرة الإمبراطوريات: لماذا فشلت القوة الأميركية في أفغانستان؟” – ذا نيوستيتسمان: 5/8/2021. وبلغ إجمالي كلفة الحرب في العراق حوالي ثلاثة تريليونات دولار. وقد تزامن ذلك مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، وتبعاتها على الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطنين الأميركيين، حيث تلاشت البحبوحة وارتفعت نسبة الفقر والبطالة والمحتاجين لإعانات حكومية. وهذا بالإضافة إلى ظهور مشكلاتٍ كبيرةٍ في البنية التحية والخدمية، كشفت عنها الكوارث الطبيعية، الأعاصير وحرائق الغابات، ما دفع الرأي العام الأميركي إلى التململ من سياسات القوة ولعب بلاده دور شرطي العالم، وهدر التريليونات خارج البلاد، والبلاد أحوج إليها وأحقّ بها، “وعندما ترى الأرقام، يصبح من الأسهل فهم السبب الذي جعل آثار الحرب الأفغانية في المجتمع الأميركي كبيرة كما هو حالها”، وفق آدم كويز في المصدر المذكور، وقد تجلى هذا التحول باختيار رئيس ديمقراطي، باراك أوباما، وعد في حملته الانتخابية بتغيير التوجه والانسحاب من العراق، حيث كانت المواجهة شديدة والكلفة، بشريا وماديا، مرتفعة.

في السياق، جاء سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011، والتمهيد لسحبها من أفغانستان عبر العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية أفغانية مستقرّة وقادرة وتأهيل الجيش الأفغاني وتسليحه وتدريبه. وهو ما عملت إدارة الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، على استكماله، تلبية لرغبة الرأي العام بوقف هدر المال العام على حروبٍ خارجية ووضعها في مشاريع تنمية داخلية، عبر فتح مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع حركة طالبان التي كانت قد أعادت تنظيم صفوفها وحشد مقاتليها وتعزيز قدراتها القتالية وبسط سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، مستفيدة من الصراعات داخل الحكومة الأفغانية، بين الرئيس ومنافسه عبدالله عبدالله، ومن الاستياء العام من التمييز بين الريف والمدينة والفساد وتدنّي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغياب مشاريع تنمية، أكثر من 12 مليون أفغاني، ما يعادل ثلث السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من نصف السكان مصنفون فقراء، للاتفاق على تنظّم عملية خروج القوات الأميركية والحليفة ووقعت معها “اتفاقية الدوحة” في فبراير/ شباط 2020. وهو -سحب القوات – ما وعد به المرشّح الديمقراطي، جوزيف بايدن، خلال حملته الانتخابية؛ ونفّذه عند نجاحه.

لقد تغيرت الأوضاع، تنامى تحفظ المجتمع الأميركي على المغامرات الخارجية وزاد ضغطه على الإدارات المتعاقبة لتغيير التوجه وإعطاء الأولوية المطلقة للداخل. وتزامن هذا مع تنامي الخسائر البشرية والمادية وتصاعد الكلفة العامة؛ وبروز تحدّيات كبيرة على الصعيد الدولي أكثر تأثيرا على الموقع والقوة الأميركيتين، ببروز الصين تحدّيا اقتصاديا وتجاريا وسياسيا؛ وعودة روسيا للعب على المسرح الدولي. وهذا فرض تغيير طبيعة التعاطي، فالمواجهة هنا مختلفة؛ ليست مباشرة، ساحاتها أشمل وأعقد، مواجهة في الصناعات الدقيقة والفضاء السبراني والأسلحة فائق السرعة والتدمير؛ ما يستدعي إعادة نظر شاملة في التعامل بدءا من العودة إلى توطين الصناعات وتقليص دور سلاسل التوريد الخارجية فيها؛ والصرف على البحث العلمي والابتكار؛ وما يعنيه من ضرورة تطوير البنى التحتية، والتحرّك على ساحات كثيرة وحساسة لمواجهة التمدّد الصيني، مشروع الحزام والطريق، والتضييق على خططه، وحشد الحلفاء للمشاركة في الاحتواء والتطويق، والتصدي للتحدّي الروسي على صعد مختلفة، الأسلحة والردع والهجمات السبرانية، قدرت دراسات استراتيجية كلفة خطة بايدن للنهوض بالولايات المتحدة وتهيئتها للمواجهة مع الصين وروسيا بـ 3.5 تريليونات دولار.

في هذا السياق، جاء قرار الإدارة الأميركية إعادة النظر في دورها في الصراعات الإقليمية الطويلة وغير المجدية ووضع خطة بديلة لانتشار القوات الأميركية في الشرق الأوسط، سحب صواريخ الباتريوت من السعودية والكويت والإمارات ونقل جزء هام من قواتها من هذه الدول ونشرها في الأردن؛ والاتفاق مع الحكومة العراقية على سحب القوات المقاتلة من العراق، وسحب القوات الأميركية من أفغانستان. قرار مبني على اعتبارات أولية تبدأ بالتخلص من الحروب المديدة والمكلفة وذات الجدوى المحدودة، ولا تنتهي عند خلط الأوراق بإلقاء كتلة اللهب الأفغانية المتفجّرة في ساحات الخصوم، الصين وروسيا وإيران، الذين سينشغلون بالصراع على ملء الفراغ واحتواء القوة الأفغانية الجديدة ببنيتها العقائدية وتطلعاتها الجيوسياسية وعلاقاتها السياسية والتنظيمية مع الحركات الجهادية في دول الجوار والعالم، ويصطدمون مع بعضهم البعض لاعتباراتٍ تتعلق بالمصالح والحسابات والمغانم والخسائر المحتملة في ضوء ما تحويه أفغانستان من ثرواتٍ بكر غير مستثمرة، الليثيوم والنحاس والبوكسيت والحديد والأتربة النادرة، معادن تعد ضروريةً لتحقيق الانتقال إلى الطاقة النظيفة وحماية المناخ، فالليثيوم أساسي في تخزين الكهرباء في البطاريات ومنشآت توليد الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، قدّرت وكالة الطاقة الدولية في مايو/ أيار أن الطلب العالمي عليه سيتضاعف 40 مرّة بحلول عام 2040، والنحاس أساسي في صناعة الأسلاك الكهربائية، والأتربة النادرة، مثل النيوديميوم أو البراسيوديميوم أو الديسبروسيوم، ضرورية في تصنيع المغناطيس المستخدم في صناعات المستقبل مثل طاقة الرياح والسيارات الكهربائية، بالإضافة إلى غناها بالأحجار الكريمة مثل اللازورد والزمرد والياقوت والتورمالين وكذلك بمسحوق الرخام. وقد قدّرت قيمة هذه الثروات الباطنية من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في تقرير مشترك عام 2013 بـ تريليون دولار، وموقعها الاستراتيجي حلقة وصل حيوية في طرق التجارة عبر القارّات ولنقل الغاز والنفط من دول غنية بهما في آسيا الوسطى إلى المحيط الهندي، مثل خط أنابيب “تابي” البالغ طوله 1700 كلم ويربط بين حقول الغاز في تركمانستان وبين الهند مرورا بأفغانستان وباكستان. فقد أنهى الانسحاب الأميركي حالة الطمأنينة والاستقرار التي عرفها الإقليم في ظل السيطرة الأميركية في أفغانستان. وهذا ما عكسته ردود فعل دول الجوار على قرار الانسحاب.

الموقف الروسي

انتقدت روسيا قرار الانسحاب الأميركي لحظة إعلانه، مؤكّدة أنه يهدّد الأمن القومي لها ولحلفائها في دول آسيا الوسطى وإيران المجاورة لأفغانستان؛ وبدأت الاستعداد لملاقاة الموقف عند انتهاء سحب القوات الأميركية والحليفة بإجراء مناورات عسكرية مع القوات الطاجيكية والأوزبكية بالقرب من حدودهما مع أفغانستان، وشاركت في مؤتمرٍ ضم الولايات المتحدة والصين وباكستان للاتفاق على موقفٍ موحد نجم عنه إصدار بيان حضّوا فيه الأفغان على التوصل إلى اتفاق سلام ووقف العنف؛ ورفض قيام إمارة إسلامية في أفغانستان، واستثمرت توسّطها بين “طالبان” والحكومة الأفغانية واستضافتها منتدى للحوار بين الأطراف الأفغانية في مارس/ آذار الماضي وعقدها اتفاقا مع وفد الحركة، يقضي بعدم السماح لحركات جهادية، خصوصا من دول آسيا الوسطى، استخدام الأرض الأفغانية منصّة لعملياتها، فأفغانستان، بالنسبة لروسيا، مصدر مخاوف جدّية على منظومة الأمن الإقليمي في آسيا الوسطى، حديقة روسيا الخلفية، في حال تحوّلت أفغانستان إلى بؤرة جذب للحركات الإسلامية. لذا تقرّبت من الحركة بعد سيطرتها على كابول وفرار الرئيس الأفغاني، أشرف غني، بنشر خبر عن هروبه مع كمية كبيرة من المال، وإشادة السفير الروسي في كابول، دميتري جيرنوف، بسلوك الحركة، بقوله “الجماعة، التي لا تزال مصنفة رسميا منظمة إرهابية في روسيا، جعلت كابول أكثر أمانا… والوضع هناك تحت حكم طالبان أفضل مما كان عليه في عهد (الرئيس) أشرف غني”. وسعت، في الوقت نفسه، إلى بناء علاقات قوية مع الأقليتين، الطاجيكية والأوزبكية، تمكّنها من تشكيل تحالف يضم إليهما أقلية الهزارة المقربة من إيران واستخدامه في حرب بالوكالة يستنزف “طالبان” ويحصر الصراع داخل أفغانستان، في حال خرجت عن الصيغة المقبولة، والعمل على حل توافقي يجمع المكونات الإثنية على قواسم مشتركة، وعلى تذليل عقبة تضارب المصالح بين دول جوار أفغانستان، إضافة إلى العمل على إحداث تغيير جوهري في منطلقات حركة طالبان السياسية.

الموقف الصيني

اتسم الموقف الصيني من قرار الانسحاب الأميركي بالقلق والحذر من إمكانية تجدّد أعمال العنف؛ على خلفية ملف المسلمين في إقليم شينجيانغ، ووجود علاقة تعاون وتنسيق قديمة بين “طالبان” والحزب الإسلامي التركستاني الذي يقاتل السلطة الصينية دفاعا عن حق الإيغور في تقرير المصير، حيث سبق للحركة تدريب مئات من مقاتلي الحزب على استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة وزرع العبوات الناسفة، في حال استتباب الأمر للحركة في أفغانستان، ما دفعها إلى التواصل مع الحركة وتحذيرها من استخدام أفغانستان من قبل أي جهة لتهديد أمن الصين؛ واتفقت معها على احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبدأت بتخفيف الضغط على المسلمين الايغور كي تقطع الطريق على محاولات استغلال الملف في التدخل وإثارة مواجهات وعدم استقرار. فالمطلوب، من وجهة النظر الصينية، بقاء الحدود الأفغانية مع دول الجوار هادئة وعدم قيام طالبان بزعزعة استقرار جيرانها، على طول الحدود المشتركة بين الصين (إقليم شينجيانغ المسلم) وأفغانستان 74 كم. ولكسب موافقة الحركة أعلنت الخارجية الصينية استعدادها للاعتراف بنظام تقيمه طالبان.

لا تتوقف مصالح الصين عند حماية حدودها ومنع استخدام أراضي أفغانستان منصّة للهجوم عليها بل لها مصالح أخرى كبيرة وحساسة مرتبطة بمشروع الحزام والطريق حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع بنى تحتية في باكستان، وقد وفّر لها الحضور الأميركي في أفغانستان الأمان، وهي الآن عرضةٌ لتخريب وتعطيل محتملين، وتحتاج للتفاهم مع “طالبان” لضمان عدم التعرّض لها بالتخريب أو الاعتداء على العاملين الصينيين فيها، كما حدث، أخيرا، في باكستان، كما كانت أقامت مشاريع في أفغانستان ذاتها، مثل منجم النحاس في “آيناك”، على بعد 35 كيلومترا من كابول، والذي بدأت باستثماره سنة 2007 بمبلغ أولي قدره ثلاثة مليارات دولار، لكن المشروع جمّد بسبب الحالة الأمنية والسياسية غير المستقرّة، بالإضافة إلى استثمار حقل الغاز في الشمال الأفغاني، وقد سعت إلى التنسيق مع دول الجوار لحماية هذه المصالح، ومغازلة “طالبان” من أجل تعزيز نفوذها في أفغانستان.

الموقف الهندي

اعتبرت الهند الدولة الأكثر خسارة بين دول الجوار بقرار الانسحاب الأميركي بعدما كان الحضور الأميركي، في ضوء تحالفهما في مواجهة الصين، قد منحها فرصة لموطئ قدم وإقامة علاقات عمل مع الاستخبارات الأفغانية ومع شخصياتٍ سياسيةٍ وماليةٍ أفغانيةٍ نافذة تناصب باكستان العداء، وتحقيق مكاسب وازنة عبر تنفيذ مشاريع واستثمارات كبيرة في أفغانستان، إلا أنها بقيت الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا تملك علاقاتٍ وثيقةً بحركة طالبان بسبب علاقات الأخيرة بباكستان، وتعاطفها مع مسلمي كشمير، وهو ما يتوقع أن يؤثر على موقعها في المعادلة الأفغانية الجديدة.

الموقف الباكستاني

جاءت سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول في صالح باكستان التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الحركة منذ عقود، عبر الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي رعت ولادة الحركة أواسط تسعينيات القرن الماضي، واستمرت في لعب هذا الدور، على الرغم من اعتراض المستوى السياسي الباكستاني، وتحمّل الحكومة انتقادات من دول الجوار والأمم المتحدة لهذا الدور. وهذا سيمنحها فرصةً  للقيام بدور مركزي في تحديد وجهة الصراع في أفغانستان في المستقبل، على الرغم من وجود تخوف من انقلاب الحركة، بعد تسنمها السلطة، على حليفتها التقليدية، وسعيها للحصول على اعتراف دولي بسلطتها، ما يضطرّها لإجراء حساباتٍ أشمل من تحالف ضيق مع دولة ضعيفة.

الموقف الإيراني

على الرغم من الارتياح الإيراني لقرار واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الانسحاب من خاصرتها الشرقية، إلا أنها وقعت في ارتباك بسبب التحولات الصاعقة التي تمت على الأرض، وسيطرة حركة طالبان على العاصمة قبل موعد الانسحاب الأميركي والغربي المقرر في شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، وقبل أن تستكمل هي بعض إجراءاتها لضمان عدم انقلاب المشهد السياسي الأفغاني ضدها، ما دفعها إلى اتخاذ خطوات سريعة، أولها الإعلان عن الترحيب بعودة “طالبان” إلى حكم أفغانستان؛ والتحرّك عبر القنوات التي أقامتها معها في السنوات الأخيرة للتنسيق ضد الحضور الأميركي وتبادل الخدمات للضغط عليه ودفعه إلى الانسحاب. وثانيها سحب قوات من لواء “فاطميون” الأفغاني و”سيد الشهداء” العراقي من سورية، ونقلهم إلى أفغانستان تحسّبا لحدوث تطوّرات غير مرغوب فيها ولتعزيز موقف قبائل الهزارة الشيعية، تشكل حوالي 19% من الشعب الأفغاني، ولحماية مصالحها هناك مثل خط أنابيب غاز “إي بي” الذي أعلنت أنها أنهت حصتها من تمديده؛ والذي سينقل الغاز من حقل بارس، جنوب الخليج العربي، إلى باكستان، وثالثها الاستعداد لتنافس وصراع جغرافي سياسي مع اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين سيسعون إلى لعب دور أكبر وتحقيق مكاسب ونفوذ  أكبر في أفغانستان وآسيا الوسطى، تنافس وصراع مركب ومعقد ويحتاج لإمكانيات وقوى كبيرة في ضوء عدد ووزن الدول المنخرطة فيهما.

صراع جغرافي سياسي واقتصادي قادم

جاء الانسحاب بعد مفاوضات طويلة بدأتها إدارة ترامب، حيث اتفقت على خطة للانسحاب، تتضمن مرحلة انتقالية تديرها حكومة وحدة وطنية تشترك فيها حركة طالبان، وانخرطت فيها إدارة بايدن، تنفيذا لوعده الانتخابي، من جهة، ومن جهة ثانية لتحاشي عقبات وعوائق قد تقيّد تنفيذ عقيدته السياسية في التنافس مع القوى العظمى، بما في ذلك إرباك الخصوم بالقادم الجديد: إمارة أفغانستان الإسلامية.

وعليه، ليس من المبالغة القول إن صراعا حادّا سيحتدم بين دول جوار أفغانستان على ملء الفراغ الأمني والتحكّم بالثروات الهائلة التي تختزنها أرضها، فروسيا التي تتفق مع الصين على التخلص من النفوذ الأميركي؛ وتنسّق معها أمنيا، لن تترك لها الفرصة لالتهام الكعكة الأفغانية وحدها، بل ستكون منافسا شرسا، مع تحاشي الغرق في المستنقع الأفغاني ثانية. والصين هي الأخرى لن تترك فرصةً لتفعيل اتفاقات سابقة مع أفغانستان، حيث سبق لها تشكيل لجنة اقتصادية وتجارية ثنائية معها عام 2015، وافتتاح رحلات شحن مباشرة بينهما في أواخر عام 2018، وخط قطار نقل بضائع يمر عبر أوزبكستان وكازاخستان عام 2019، وتوسيع استثماراتها بربط أفغانستان بمشروع الحزام والطريق، فأفغانستان تمثّل فرصة اقتصادية وتجارية ضخمة، بالنظر إلى ما فيها من معادن وثروات طبيعية أخرى، يمنحها وجود حدود مباشرة بينهما أفضلية على منافسيها، خصوصا أنّ حركة طالبان، المسيطرة على إقليم باداخشان وممر واخان، عرضت مقايضة أمن الحدود باستثماراتٍ صينية كبيرة، ما يسمح بتمهيد الطريق لدخول أفغانستان طرفا في الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني، وتحول ميناء جوادر الباكستاني إلى أهم موقع لوجستي في جنوب آسيا. كما ستحاول استثمار علاقة حليفتها العريقة، باكستان، المنخرطة في تنافس حاد مع خصمهما المشترك، الهند، مع طالبان في حصار النفوذ الهندي تمهيدا لإخراجه من هناك بشكل نهائي.

لن تفوّت الهند فرصة للدفاع عن مصالحها وحماية نفوذها في أفغانستان؛ ومنع تحول أفغانستان إلى عمق استراتيجي لخصمها: باكستان، عبر دعم حركات سياسية وقبلية معارضة وتسليحها، والدفع نحو مقاومة سيطرة “طالبان”، خصوصا إذا أبقت الولايات المتحدة على موارد عسكرية وأمنية في الإقليم للرد على تحوّلات الموقف في حال انفجار حرب أهلية، كما تتوقع دوائر استخباراتية أميركية وأوروبية، ونشوء حالة عدم استقرار أمني وسياسي تمنح الولايات المتحدة وحلفاءها مبرّرا للحفاظ على وجود عسكري كبير بالقرب من أفغانستان والتدخل بشكل مباشر، ما يمنحها (الهند) فرصة مواجهة التحرّك الصيني الباكستاني، ودفع حلفائها الأفغان إلى استهداف البنية التحتية الصينية في أفغانستان، فالقلق الصيني الرئيس مصدره طبيعة العمليات الأميركية المستقبلية في أفغانستان واستمرار “الهيمنة” الغربية على البلاد، لكن من دون الاستمرار بتحمل كلفة الأمن كاملة، كما في العقدين الماضيين، ومن تحول أفغانستان ساحة لمواجهة مباشرة بين دول الجوار، خصوصا الهند وباكستان.

أما إيران فتتفق مع الصين في معارضة النفوذ الغربي في أفغانستان، وتميل إلى نجاح الصين وسيطرة الاستثمارات الصينية، ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، فيها، على حساب الغرب والهند، ورفضهما (الصين وإيران) المشترك لدور تركي في حماية المطار في كابول، باعتباره تدخلاً خارجياً يحافظ على النفوذ الغربي في المرحلة المقبلة، وتعتبر فوز الصين فوزا لها في ضوء الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما.

في الختام، ما حدث على الأرض الأفغانية في الأسابيع الأخيرة؛ هجوم “طالبان” الكاسح وسيطرتها على العاصمة، تم على الضد من الاتفاق الأميركي – الطالباني في الدوحة، والذي قضى، من بين بنود كثيرة، إجراء مفاوضات بين “طالبان” والحكومة الأفغانية على مرحلة انتقالية وحكومة وحدة وطنية. أرادت “طالبان”، بهجومها تفادي شبهة الوصول إلى السلطة بقرار أميركي، من جهة، ورفضها، من جهة ثانية، منح السلطة القائمة شرعية سياسية والتعامل معها على هذا الأساس. وهنا، لا بد من توضيح عدم دقة تقديرات ومواقف سياسية لدول وحركات سياسية هللت لنصر “طالبان” معتبرة ما حصل هزيمة ثانية للولايات المتحدة، في إشارة إلى الهزيمة الأولى في فيتنام، فالفرق شاسع بين انسحاب بقرار سياسي، حتى لو شابت عملية الانسحاب الفوضى والارتباك، وهروب تحت ضغط هجوم الـ”فيت كونغ” الشامل والصاعق، علما أن معظم هذه التقديرات تنطلق من مواقف مسبقة لجهات وأنظمة رافضة لتوجهات إدارة بايدن بوقف التدخل في الصراعات القائمة على خلفية بحثها (الجهات) عمّن يحارب معاركها الخاصة بدلا عنها.

العربي الجديد

————————–

مطار الموت” في كابول: مشاهد يائسة لأفغان يحاولون الهروب

أكثر من أسبوع مرّ على سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، من دون أن يتبدل المشهد في مطار كابول حيث لا يزال الآلاف من الأفغان يسابقون الزمن والحشود، وهراوات عناصر الحركة والإجراءات الأمنية الأميركية المشددة، للوصول إليه، علّهم يحظون بفرصة لمغادرة البلاد على متن إحدى طائرات الإجلاء، حتى لو أدت هذه المحاولة إلى مقتلهم.

وما المشاهد التي وثقتها الكاميرات مع بدء الإجلاء للطفلين اللذين سقطا من طائرة نقل عسكرية أميركية بعد إقلاعها من المطار وارتفاعها بمئات الأمتار، أو الذين قتلوا في الأيام الماضية في محيطه، سوى تجسيد لتحول مطار كابول إلى “مطار الموت”، بعدما ذكر مسؤول في حلف شمال الأطلسي، طلب عدم ذكر اسمه، أمس الأحد، أن ما لا يقل عن 20 شخصاً لقوا حتفهم في الأيام السبعة الماضية داخل المطار وحوله خلال عمليات الإجلاء، مشيراً إلى أن الأزمة خارج مطار كابول مؤسفة. وكانت القوات الجوية الأميركية أعلنت، الثلاثاء الماضي، أنها تحقق في الملابسات المحيطة بالعثور على أشلاء بشرية في تجويف عجلات طائرة أقلعت من كابول.

وبينما تتخبط الولايات المتحدة وحلفاؤها وسط عجز عن إدارة سلسة لعمليات الإجلاء التي تركز على الأجانب، وإقرار بعدم القدرة على تسفير جميع الذين هم عرضة لتهديدات “طالبان”، حمّلت الحركة، أمس الأحد، الولايات المتحدة مسؤولية الفوضى التي تسود عمليات الإجلاء. وقال القيادي الكبير في “طالبان” أمير خان متقي إن “أميركا بكل قوتها ومنشآتها فشلت في إحلال النظام في المطار”. ولفت إلى أنه “يسود سلام وهدوء في كل أنحاء البلاد، لكن هناك فوضى فقط في مطار كابول”. وأضاف “يجب أن يتوقف ذلك في أقرب وقت ممكن”.

ويسيطر نحو ستة آلاف جندي أميركي على مطار كابول، فيما تقوم “طالبان” بدوريات في الشوارع المحيطة، ما يمنع العديد من الأفغان من الوصول إلى المطار. وتجمهرت عائلات تأمل بـ”أعجوبة فرار” قرب سياج شائك يمثل حدوداً غير رسمية لمنطقة عازلة تفصل مقاتلي “طالبان” عن القوات الأميركية وفلول كتيبة من القوات الخاصة الأفغانية التي تساعدهم.

وأعلن متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية أمس مقتل 7 أفغان أمس الأول خارج مطار كابول. وقال، في بيان، إن “أفكارنا مع عائلات المدنيين الأفغان السبعة الذين لقوا حتفهم في فوضى الحشود في كابول”، موضحاً أن “الظروف على الأرض ما زالت صعبة جداً، لكننا نبذل قصارى جهدنا للتعامل مع الوضع بأكثر الطرق أماناً”.

من جهة ثانية، ذكر شهود أن مقاتلي “طالبان” أطلقوا النار في الهواء واستخدموا الهراوات لحمل الناس على الوقوف في طوابير منظمة خارج مطار كابول، بعد سقوط القتلى السبعة في تدافع عند بوابات المطار. وأكد الشهود أنه ليس هناك إصابات جسيمة، في الوقت الذي أبعد فيه عناصر من الحركة الحشود بالقوة.

وأظهرت لقطات صوّرها صحافيّون، أول من أمس السبت، جثث ثلاثة أشخاص بين حشود كبيرة من الناس خارج مطار كابول. وأظهرت لقطات بثتها قناة “سكاي نيوز” البريطانية جنوداً يغطّون ثلاث جثث بقطع قماش أبيض. كما يظهر في الصور العديد من الجرحى. وقال مراسل القناة ستيوارت رامسي، الذي كان موجوداً في المطار، إنّ الأشخاص الذين كانوا في مقدّم الحشد تعرّضوا “للدّهس”، مشيراً إلى أنّ المسعفين ينتقلون من مصاب إلى آخر. ولفت إلى أنّ الناس “يُعانون التجفاف ويشعرون بالرعب”. وقد صوّر فريقه جنوداً يرشّون الحشد بخرطوم مياه “لإبقائهم منتعشين”. واعتبر المراسل أن تسجيل وفيات في خضم الفوضى السائدة أمر “لا مفر منه”.

ووصف صحافي من مجموعة من العاملين في مجال الإعلام والأكاديميين الذين حالفهم الحظ للوصول إلى المطار ليستقل طائرة، أمس الأحد، مشاهد يائسة لأشخاص يحيطون بحافلة في طريقهم. وقال لوكالة “فرانس برس”: “كانوا يبرزون جوازات سفرهم، ويصرخون خذونا معكم، نرجوكم خذونا معكم”. وأضاف أن “مقاتلاً من طالبان كان في الشاحنة أمامنا عمد إلى إطلاق النار في الهواء لإبعادهم”. ولا يتوقع أن تنتهي هذه المشاهد قبل 31 أغسطس/آب الحالي، وهو الموعد الذي حددته الولايات المتحدة لاستكمال عمليات الإجلاء. وفي محاولة لتسريع عمليات الإجلاء إلى أميركا، قام وزير الدفاع لويد أوستن بتفعيل المرحلة الأولى من برنامج الأسطول الجوي المدني الاحتياطي، ويتضمن طلب 18 طائرة للمساعدة في الجهود.

ولخص المسؤول في حلف شمال الأطلسي، لوكالة “رويترز”، الرؤية الغربية لأولويات عمليات الإجلاء، بقوله إن” تركيزنا منصب على إجلاء جميع الأجانب بأسرع ما يمكن”، مضيفاً “تبتعد قواتنا بمسافة محددة عن المناطق الخارجية لمطار كابول لمنع أي اشتباكات مع طالبان”.

بدوره، أعلن الاتحاد الأوروبي أنه “من المستحيل” إجلاء جميع المعرضين للخطر من “طالبان”، ما يعني عملياً ترك الأفغان الراغبين بالمغادرة، تحديداً ممن سبق لهم أن عملوا مع قوات التحالف، لمصيرهم. وبالنسبة لهؤلاء الأفغان فإن التطمينات التي قدمتها الحركة لم تغير من حالة القلق التي تعتري الكثير منهم ممن يرون أن “طالبان” لا تزال صورة طبق الأصل عما كانت عليه قبل سقوط حكمها، ما يجعلهم يبحثون عن أي وسيلة للابتعاد خشية تعرضهم للانتقام.

وقال قائد القوات الألمانية في كابول الجنرال ينس أرلت، في تصريح للصحافيين عبر الهاتف، إن الحشود اليائسة التي تريد مغادرة العاصمة الأفغانية ابتعدت عن البوابات الشمالية والشرقية لمطار المدينة بعد أن بدا واضحاً أنها مغلقة.

وما زاد من تعقيد الوضع تحذير أطلقته الحكومة الأميركية أول من أمس إلى رعاياها بالابتعاد عن المطار بسبب “تهديدات أمنية”. وفي حين لم تذكر سبباً محدداً، فإن مسؤولاً في البيت الأبيض أعلن، في وقت لاحق، أنه تم إطلاع بايدن على التهديدات الأمنية، بما في ذلك التهديدات من تنظيم “داعش”. وينتظر آلاف الأميركيين والأفغان في المطار رحلات جوية أو يتجمعون خارج بواباته. وهناك ما يصل إلى 15 ألف أميركي، وما بين 50 إلى 60 ألفاً من الأفغان الذين يجب أن تشملهم عمليات الترحيل، حسب إدارة الرئيس جو بايدن.

وفي إطار محاولات الدول الغربية تنظيم الوضع، أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أمس الأحد، أن قادة مجموعة السبع سيعقدون اجتماعاً غداً الثلاثاء عبر الإنترنت لبحث الوضع في أفغانستان، موضحاً أنه “من الأساسي أن تعمل الأسرة الدولية معاً لضمان عمليات إجلاء آمنة وتفادي أزمة إنسانية ومساعدة الشعب الأفغاني في حماية مكتسبات السنوات العشرين الأخيرة”.

من جهته، لم يبد وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل متفائلاً بإمكانية نجاح الجسر الجوي. وقال لـ”فرانس برس” أول من أمس إنهم “يريدون إجلاء 60 ألف شخص من الآن وحتى نهاية الشهر الحالي. هذا مستحيل حسابياً”. وأضاف: “اشتكينا” للأميركيين من أن إجراءاتهم الأمنية المشددة في المطار مبالغ فيها، وتعرقل محاولات الأفغان الذين عملوا من أجل الأوروبيين للدخول إليه. وكان العديد من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي طلبوا من الأميركيين الجمعة الماضي إرجاء عملية خروجهم النهائي من البلاد.

وأشار بوريل إلى أن “المشكلة هي الوصول إلى المطار”، موضحاً أن “إجراءات المراقبة والأمن التي يفرضها الأميركيون مشددة جداً”، معتبراً أن هذه التدابير “تعرقل مرور موظفينا”. وتضم البعثة الوحيدة للاتحاد الأوروبي في كابول نحو 400 موظف أفغاني وعائلاتهم. وهو وعد بإجلائهم، لكن 150 منهم فقط وصلوا إلى إسبانيا حتى الآن. وقال بوريل إنه “يوجد في كابول مطاران، والمطار المدني يخضع لسيطرة طالبان ولا يتم تسيير أي رحلات جوية منه. الأميركيون يسيطرون على المطار العسكري، ويصعد إلى الطائرات الأشخاص الموجودين على المدرج”. وأشار إلى أنه “في الرحلة الجوية التي وصلت إلى مدريد (السبت) ثلث الركاب أميركيون”. وأكد بوريل أنه “إذا غادر الأميركيون في 31 أغسطس، لن يكون لدى الأوروبيين القدرة العسكرية للسيطرة على المطار العسكري وتأمينه وستسيطر طالبان عليه”. ورأى أنه من الضروري التحدث إلى الحركة. وقال: “إذا كنتم ترغبون في إخراج موظفيكم فعليكم التحدث إلى طالبان. الجميع يحاولون عقد اتفاقات مع طالبان. لدينا اتصالات مع طالبان لكن ليس مع القادة”، مشدداً على أن “الحوار معهم لا يعني الاعتراف” بنظامهم.

كما ناشدت الحكومة البريطانية واشنطن تمديد الموعد النهائي لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. وقال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، في مقال نشر في صحيفة “ميل أون صنداي”، إنه “لن تتمكن أي دولة من إجلاء الجميع” من أفغانستان. وأضاف “إذا بقي الجدول الزمني الأميركي كما هو، لن يكون لدينا وقت نضيعه لإجلاء معظم الأشخاص الذين ينتظرون ترحيلهم. قد يسمح للأميركيين بالبقاء لفترة أطول وسيحصلون على دعمنا الكامل إذا فعلوا ذلك”. وأشار إلى أنه سيتم إنشاء مراكز لمعالجة طلبات الإجلاء “خارج أفغانستان، في المنطقة” مخصصة للأفغان الذين “لدى المملكة المتحدة التزام بنقلهم إليها”.

وفي ظل تزايد الضغوط التي تتعرض لها واشنطن، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز”، أمس الأحد، أن بلاده قامت بإجلاء نحو 30 ألف شخص من أفغانستان حتى الآن. وكان تم إجلاء أكثر من سبعة آلاف شخص من أفغانستان إلى قطر، فيما حصلت واشنطن على الضوء الأخضر من برلين لنقل بعض الأشخاص الذين تم إجلاؤهم إلى ألمانيا حيث لديها قواعد عدة.

سياسياً، ولأسباب غير معروفة، أقالت “طالبان”، أمس الأحد، حاكم إقليم كابول القيادي البارز في الحركة المولوي عبد الرحمن منصور، ومسؤول أمن العاصمة الملا غالب. وقال مصدر في الحركة، لـ”العربي الجديد”، إن “طالبان” أصدرت قراراً بإقالة منصور، نجل القائد الجهادي الشهير المولوي نصر الله منصور، وعينت مكانه الملا شيرين، الذي كان يعيش في باكستان. كما أصدرت قراراً بإقالة مسؤول أمن العاصمة المولوي غالب، وتعيين القائد الميداني في إقليم هلمند المولوي عبد الله مكانه.

في هذا الوقت، بدأ قادة “طالبان” في إجراء محادثات لتشكيل حكومة. وكتب رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في الحكومة المخلوعة، عبد الله عبد الله، في تغريدة، أنه التقى مع الرئيس السابق حامد كرزاي القائم بأعمال حاكم “طالبان” في كابول، الذي “أكد لنا أنه سيفعل كل ما في وسعه من أجل أمن المواطنين” في المدينة.

وفي إطار محاولة ضمان سيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية واحتواء أي تمرد عسكري ضدها، فتحت “طالبان” قنوات اتصال مع أحمد مسعود، نجل القائد الراحل أحمد شاه مسعود. وجاء ذلك بعدما كان أحمد مسعود قد أعلن أخيراً، من بنجشير شمال وسط البلاد، قيادته المقاومة ضد الحركة. ونقلت قناة “الجزيرة” عن مصدر رفيع في “طالبان” قوله إن الحركة “سترسل قريباً وفداً لبحث الأمر وتقديم الضمانات التي طلبها مسعود”، من دون توضيح ما هي هذه الضمانات.

وكان السفير الروسي في كابول دميتري جيرنوف أعلن، السبت الماضي، أن “طالبان” طلبت من سفارته نقل عرض الحركة بشأن التوصل إلى اتفاق مع المقاتلين في وادي بنجشير لتسوية الوضع هناك. وأشار إلى أن الحركة تدعي أنها لا تريد إراقة الدماء في المنطقة.

في هذه الأثناء، أعلن مسؤول من طالبان أن “الحركة” تسعى إلى توضيح تام لخطة خروج القوات الأجنبية من البلاد. وقال لوكالة “رويترز”، إنه من المنتظر أن يجتمع قادة الحركة مع حكام أقاليم سابقين ومسؤولين حكوميين في أكثر من 20 من أقاليم أفغانستان الأربعة والثلاثين خلال الأيام القليلة المقبلة، وذلك لضمان أمنهم والتماساً لتعاونهم. وتابع: “نحن لا نجبر أي مسؤول حكومي سابق على الانضمام لنا أو إثبات ولائه لنا، فلديهم الحق في مغادرة البلاد إذا أرادوا”.

العربي الجديد

————————-

ذا ديلي سيغنل: سقوط كابول: لماذا لم يتعلم بايدن من دروس العراق؟/ رائد صالحة

واشنطن- “القدس العربي”: على الرغم من مقارنة سقوط العاصمة الأفغانية كابول بسقوط سايغون، إلا أن المقارنة الأفضل هي انهيار الجيش العراقي عام 2014 في مواجهة هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية”، على حد تعبير جيمس فيليبس في صحيفة “ذا ديلي سيغنل”، الذي أشار إلى أن الأزمات سبقتها انسحابات عسكرية أمريكية غير حكيمة، وعلى عكس سقوط جنوب فيتنام، فقد عززت كلتا الأزمتين الجماعات الإرهابية التي تركز على قتل الأمريكيين.

وقد لعب بايدن، كنائب للرئيس في ذلك الوقت، دوراً رائداً في الضغط من أجل انسحاب أمريكي كامل من العراق خلافاً لنصيحة كبار مسؤولي الجيش والمخابرات، وكانت نتائج الانسحاب الكلي من العراق لعام 2011 متوقعة، حيث قوض الانسحاب العسكري الأمريكي القدرات العسكرية والاستخبارية ومكافحة الإرهاب العراقية وخلق فراغاً ملأته إيران من خلال استغلال التوترات الطائفية، والتي مكنت من نمو تنظيم “الدولة”.

ولاحظ الكاتب أنه على الرغم من أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما قد أُجبرت لاحقاً على عكس مسارها في عام 2014، وإعادة نشر القوات العسكرية الأمريكية لهزيمة تنظيم “الدولة” في العراق وسوريا، إلا أن صعود التنظيم ألهم هجمات إرهابية دموية قام بها مسلحون إسلاميون في جميع أنحاء العالم.

ولمنع “الدولة” من الصعود مرة أخرى، احتفظت الولايات المتحدة بقوات متبقية قوامها 2500 جندي في العراق، وتمركز نفس العدد في أفغانستان، قبل أن يقرر بايدن الانسحاب، وكما هو الحال في العراق، تجاهل بايدن نصيحة المسؤولين العسكريين، الذين جادلوا بأن القوة المتبقية الصغيرة كانت خياراً مستداماً يمكن أن يساعد في استقرار الوضع بتكلفة منخفضة نسبياً، تماما كما ساعدت الوحدات العسكرية الأمريكية الصغيرة في استقرار العراق وشرق سوريا.

وبحسب ما ورد، فقد كانت الكارثة الناتجة عن الانسحاب وصمة عار من تلقاء نفسها على سمعة أمريكا وكارثة إنسانية وانتكاسة كبيرة في مكافحة الإرهاب ومن المرجح أن يتم تنشيط الحركة الجهادية العالمية وتشجيعها بفعل انتصار طالبان، تماما كما حدث مع النجاح الأول لتنظيم “الدولة”.

وتدعى إدارة بايدن أنها تستطيع بشكل كاف مراقبة التهديدات الإرهابية الموجودة في أفغانستان من خارج البلاد وردعها والدفاع عنها، ولكن مصداقية هذا الأدعاء تراجعت بشدة بسبب فشل الإدارة المذهل في توقع خطورة المخاطر الكامنة في اندفاعها للخروج من البلاد.

وقد حذرت وزارة الدفاع الأمريكية بالفعل من أن الشبكات “الإرهابية” يمكن أن تعيد تأسيس نفسها في أفغانستان بشكل أسرع من المتوقع بسبب انتصار طالبان السريع.

وأثار صاحب المقال أسئلة مقلقة بخصوص حكم الرئيس بايدن وكفاءة إدارته، وقال إنه لسوء الحظ فقد فات الآوان لإنقاذ الوضع في أفغانستان، وأفضل ما يمكن عمله هو إجلاء الأمريكيين والأجانب وأكبر عدد من الحلفاء الأفغان بسرعة، قبل أن يتم استهدافهم بالقتل أو احتجازهم كرهائن.

ولاحظ فيليبس أن الولايات المتحدة ستجد أن خياراتها لمكافحة الإرهاب تقتصر على أنصاف الإجراءات غير الفعالة إذا قامت الحركة بدعم هجمات على الأمريكيين، وعندها فقط، سيتم التركيز على تكاليف الأمن القومي الكاملة لمناورة بايدن المحفوفة بالمخاطر.

وأضاف أن بايدن قلل بشكل كبير من المخاطر الأمنية لخسارة الحرب في أفغانستان فضلاً عن التكاليف الإنسانية وتكاليف حقوق الإنسان المترتبة على حكم طالبان المتجدد، ولكنه سينتهي به الأمر إلى السعي وراء ما تبقى من إدارته لاحتواء وتعويض “الإرث السام” غير المقصود لانسحابه المتهور من أفغانستان.

القدس العربي

—————————

طالبان في كابل: تحديات عالم النقد والمال الأفغاني/ علي نور الدين

قيل الكثير عن أبعاد سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانيّة كابل ودلالاته. أثره على المستوى الاجتماعي في أفغانستان، وتداعياته السياسيّة الإقليميّة.

أزمة المصرف المركزي

على المستوى الاقتصادي، ثمّة ما يوحي أن طالبان ستكون قريباً أمام تحديات كبيرة، قد تضع أفغانستان على موعد مع الانضمام إلى نادي دول الاقتصادات البائسة، إذا لم تقدم طالبان ببراغماتيّة على الاستفادة من القدرات والثروات المحليّة، ومن العامل الصيني. ويتناول الحديث اليوم التحديات المحتملة، من قبيل حبس أموال الودائع في المصارف الأفغانيّة، والتضخّم المفرط وانهيار سعر الصرف، إضافة إلى صعوبات في تأمين أبسط مقومات العيش، كالمحروقات الطحين.

وهذا كله مرتبط بمصير أموال المصرف المركزي الأفغاني في الخارج، وبقدرة طالبان على التعامل مع هذه التحديات النقديّة والماليّة بخطط اقتصاديّة محكمة وواقعيّة.

وفي الأساس لم تمتلك أفغانستان اقتصاداً مزدهراً ومتيناً. ولو امتلكت تاريخياً مقومات يمكن البناء عليها، لتحقق ذلك. فما يقارب 75 في المئة من إنفاق الدولة الأفغانيّة اعتمد منذ سنوات على الهبات والقروض الدوليّة، التي مثّلت نحو 22 في المئة من ناتج اقتصادها القومي.

ونحن نتحدث هنا عن دولة شديدة الاعتماد على مصادر التمويل الخارجي. وتأثرها الشديد بأي تحوّل سياسي يمس علاقة الدولة الأفغانيّة بالجهات المانحة أو المقرضة. وسقوط البلاد تحت سيطرة طرف لا ينال رضا دوليّاً – لا بل خاضع لعقوبات دوليّة قاسية – من شأنه أن يمس بأسس هذا النموذج غير المستدام في أساسه.

لكن هذا لن يكون أكبر مشاكل أفغانستان في المرحلة المقبلة. فلدى المصرف المركزي الأفغاني ما يقارب 10 مليارات دولار من الموجودات بالعملات الأجنبيّة. وهو يعتمد عليها لتأمين حاجة البلاد من العملة الصعبة. ومصدرها أساساً توظيفات المصارف الأفغانيّة لدى المصرف المركزي بالعملة الأجنبيّة. وهي أموال المودعين. ما يعني أن أي مساس بسلامة موجودات المصرف المركزي الأفغاني مساس بأموال المودعين في النظام المصرفي.

وهذا تماماً ما حصل في لبنان، حين بُدِّدت معظم احتياطات المصرف المركزي في عمليات تمويل الاستيراد وتثبيت سعر صرف الدولار.

وفي حالة أفغانستان، تكمن المشكلة حالياً في أن العقوبات الأميركيّة على طالبان التي لن تسمح للسلطة الجديدة هناك باستعمال أي دولار من الموجودات في الخارج. مع العلم أن أقل من 0.2 في المئة فقط من هذه الموجودات موجودة داخل أفغانستان. أما الشطر الأعظم من الموجودات الخارجية فيتوزع على النحو التالي: 1.3 مليار دولار على شكل احتياطي من الذهب مودع في نيويورك. وما يقارب 6.1 مليار دولار من الاستثمارات في سندات الخزينة الأميركيّة والتوظيفات لدى المصارف السويسريّة والتركيّة. فيما تمثّل سائر الموجودات استثمارات وتوظيفات متنوّعة غالبيتها الساحقة بالدولار الأميركي.

تضخم وأزمة مصارف وسعر صرف

والنتيجة البديهيّة لحبس هذه الأموال في الخارج، ستكون أولاً حرمان الأفغان من استخدامها لتأمين حاجات البلاد بالعملة الصعبة، وخصوصاً تلك المرتبطة باستيراد المواد الأكثر حساسيّة أو نفقات الدولة. أما النتيجة الثانية فهي إجبار المصارف التجاريّة الأفغانيّة على الامتناع عن توفير السحوبات بالعملة الصعبة للمودعين. ومرة ثانية هذا ما حصل في لبنان تماماً: ضوابط مفروضة كأمر واقع على السحوبات والتحويلات إلى الخارج.

أما على المستوى النقدي في أفغانستان، فالتداعيات المتوقعة ستكون انهياراً سريعاً في سعر صرف العملة المحليّة، ومستويات مرتفعة من التضخّم. وللمرة الثالثة يلوح المثال اللبناني.

وهذا، علماً أن أفغانستان كانت على موعد لتلقي نحو 450 مليون دولار من السيولة بالعملة الصعبة، كان يفترض أن تتأتّى من تخصيص حقوق السحب في صندوق النقد الدولي في نهاية هذا الشهر. لكنّ من المرتقب أن يتعرقل وصول هذه الأموال إلى المصرف المركزي الأفغاني، بعد سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابل، نظراً إلى العقوبات الدوليّة التي تخضع لها الحركة، وصعوبة تسييل حقوق السحب، حتى إذا حصلت عليها السلطات الأفغانيّة.

أزمة طالبان ولغة النقد والمال

والمشكلة الأكبر من مشكلة الاحتياطات، هي أن اجتراح الحلول في هذه المرحلة الأفغانية يحتاج إلى رؤية ماليّة ونقديّة محكمة.

فإيران مثلاً، تمكنت طوال سنوات من الالتفاف على جميع أشكال العقوبات المفروضة عليها، فاعتمدت حلولاً مكنتها من تبادل السلع والخدمات مع بعض الدول، بمعزل عن هذه العقوبات. وهذا النوع من العمليات الماليّة والنقديّة لم يكن ممكناً، لولا وجود خبراء أتقنوا استعمال الموارد الطبيعيّة للبلاد، وصولاً إلى هذا النوع من التفاهمات، التي أمنت للإيرانيّين الحاجات الأساسيّة طوال الحقبة الماضية.

في الحالة الأفغانية، تكمن المشكلة في أن طالبان ما زالت بعيدة عن امتلاك فرق عمل قادرة على فهم لغة الخطط الماليّة والنقديّة المعقّدة. وهذا ناجم عن ابتعادها المتعمّد عن العالم بأسره. فأنشطة طالبان الماليّة اقتصرت طوال السنوات الماضية على تمويل أعمالها من بعض الزراعات المحليّة التي تصدرها إلى الخارج. أو من تقاضي بعض الأموال من الشركات المحليّة، مقابل حمايتها. هذا كله لا يدل إلا على هشاشة العمليات الماليّة التي أتقنت طالبان التعامل معها، قياساً على لغة النقد والمال المطلوبة لإدارة بلد بحجم أفغانستان.

الحلول البديلة

لا يحتّم ما سبق الدخول في نفق المجاعة المظلم. فثمّة ما يمكن الرهان عليه إذا تمتّعت طالبان بالحد الأدنى من الواقعيّة والمرونة في تعاملها مع المشاكل الماليّة والنقديّة. وإذا تمكنت من صياغة خطط نقديّة ومالية تتماشى مع ما تواجهه من مشكلات. وهذه المسألة قد تحتاج إلى بعض الوقت، لكنّها قد تقي الحركة شر مواجهة شعب جائع لا يملك شيئاً من مقومات الحياة الأساسيّة.

الرهان الأوّل، يمكن أن يكون على مخزون البلاد من الثروات الطبيعيّة المعدنيّة، وخصوصاً الليثيوم والنحاس واليورانيوم وخام الحديد. فقيمة هذه الثروات الطبيعيّة تزداد مع الوقت، وخصوصاً مع انتقال الكثير من دول العالم للاستفادة من موارد الطاقة المتجددة. وفي المقلب الآخر، تُعتبر أفغانستان من الدول التي تمتلك قاعدة إنتاج زراعي يمكن تطويرها، لتعتمد نسبة كبيرة من السكان على النشاط الزراعي لتأمين الدخل. ويمكن لأي خطة اقتصاديّة محكمة أن تستفيد من الموارد الطبيعيّة في المستقبل، لتطوير القطاعات المحليّة الإنتاجيّة.

لكن هذا يحتاج إلى استثمارات خارجيّة بالتأكيد. وهنا بالتحديد يدخل العامل الصيني. فالصين كانت منذ الأساس من الأطراف المهتمّة بالاستثمار في أفغانستان، نظراً إلى حاجة صناعاتها إلى الموارد المعدنيّة الموجودة فيها. لا بل كانت الصين من الدول التي فازت بعقود استثماريّة في مجالات استخراج النفط والنحاس الأفغانيين. لكن تنفيذ العقود لم يُستكمل بفعل الدور الأميركي الذي دخل على الخط.

أما اليوم، فبإمكان طالبان الاستفادة من خروج الولايات المتحدة الأميركيّة من أفغانستان، ومن الاهتمام الصيني بثرواتها، للتمكن من استثمار الموارد الطبيعيّة.

والاستفادة من هذه الفرص، تحتاج أولاً إلى فريق عمل مالي واقتصادي للسلطة الجديدة في البلاد. وهذه مسألة تحتاج إلى بعض الخطوات البراغماتيّة من طالبان: التعامل مع خبراء المال والنقد الذين أشرفوا على عمل نظام البلاد المالي طوال السنوات الماضية. وفي المقابل، على طالبان أن تؤمّن الثقة للشركات الأجنبيّة الراغبة في الاستثمار في أفغانستان، وخصوصاً ضبط الوضع الأمني، وتحقيق الأمان لنشاط العمال والموظفين الأجانب.

أخيراً، ثمّة مسار خاص ومنفضل ستحتاج السلطة الجديدة في أفغانستان للعمل عليه، لمتابعة وضعيّة استثمارات مصرف البلاد المركزي في الخارج ومصيرها، لارتباطه بسلامة القطاع المالي الأفغاني ومستقبل الودائع فيه.

المدني

————————

دول كبيرة وأقفاص صغيرة/ غسان شربل

لم يفز أي مسلسل تلفزيوني بمتابعة توازي التي يفوز بها حالياً مسلسل مطار كابل. كان من الصعب على أي مخرج بارع الذهاب بعيداً في الخيال إلى هذا الحد. لا يمكن تصورُ خاتمةٍ بهذه القسوة لقصة من هذا النوع بدأت بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وعلى أيدي ضيوف رفضت حركة «طالبان» يومها تسليمهم للعدالة.

منذ أيام وأنظار العالم مسمَّرة على الشاشات المسمرة على ما يجري في مطار كابل ومحيطه. كأنَّ الإمبراطورية الأقوى في العالم وقعت فجأة في فخ المطار. لم تعد لها أي طموحات أو مطالب. لم تعد تفكر بما أنفقته هناك من خسائر بشرية ومالية. تفكر فقط في المغادرة والابتعاد. في الاستقالة من مهمة طويلة بدأت دفاعاً عن النفس وها هي تنتهي بفضيحة. ليس بسيطاً أن يصبحَ مصير الرحلة الأفغانية الصاخبة للولايات المتحدة معلقاً على مشاهد المطار. نقول مصير أميركا ونعني تحديداً هيبتها. والإمبراطوريات هي هيبتها قبل أي شيء آخر.

وليس ثمة شك أنَّ صورة أميركا أُصيبت بأضرار سريعة وعميقة منذ اللحظة التي اختار فيها الرئيس أشرف غني الفرار من البلاد بذريعة حقن الدماء. انهارت فجأة المؤسسات التي كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تباهي ببنائها وبما أنفقته عليها موحية بأنَّ عهد «طالبان» صار مجرد مرحلة شائكة من تاريخ غير قابل للتكرار. ترسانة أميركية كاملة وقعت في أيدي مقاتلي «طالبان». وجد العالم صعوبة في التصديق. هل بقي الأميركيون غرباء عن الحقائق الأفغانية بعد عقدين من الإقامة في تلك البلاد الصعبة؟ وهل يمكن الوثوق بعد اليوم بتقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية بعدما تسببت توقعاتها الهوائية في إيقاع البلاد والإدارة الحالية في مأزق اسمه مشاهد المطار؟

ومسلسل المطار غريب وموجع. غادر «الجيش الأحمر» السوفياتي أفغانستان مثخناً لكنه لم يغادر في ظل مثل هذه الشروط. ولم تسبق مغادرته انهيارات المؤسسات الأفغانية التي دعمها. غريب أيضاً لأن الإمبراطورية تُمضي أياماً قلقة مفتوحة على كل أنواع المفاجآت. ماذا يمكن أن يحدث لو قررت مجموعة من «طالبان» اختطاف حفنة أميركيين وأخذهم إلى مخابئ بعيدة في هذه البلاد الوعرة؟ ماذا يفعل الجيش الأميركي؟ وأي قرارات يمكن أن يتخذ بايدن؟ وماذا عن القوات الحليفة أيضاً؟ وماذا لو استهدف «داعش» موكباً أميركياً في طريقه إلى المطار؟ وماذا لو قررت إيران تحريك أذرعها الغامضة لتوجيه ضربة وداعية للقوات الأميركية وبغرض تشجيعها على تسريع مغادرتها الخريطتين العراقية والسورية؟ هل يحق للجنرالات وضع جنودهم ومواطنيهم تحت رحمة الخيارات الصعبة أو المذلة؟ وهل يحق لسيد البيت الأبيض وضع الجنرالات وجنودهم في مثل هذا المأزق حيث تبدو الضمانة مقدار التزام «طالبان» بما وعدت به؟

مشاهد مسلسل مطار كابل عجيبة وغريبة ومؤثرة. لا تقتصر على العسكريين الذين يستعجلون الرحيل. هناك مشاهد الأفغان والخوف المطل من عيونهم. خوف من تعاونوا مع الزمن الأميركي لاعتقادهم أن المؤسسات التي أقامها ستدوم وتحميهم. وخوف آخرين يريدون أفقاً للتنفس ونافذة لأولادهم وعمراً غير الذي يمكن أن يتبدد في ظل التشدد والزي الموحد. صور أمهات يحاولن الإلقاء بأطفالهن بين أحضان القافلة المغادرة ستبقى ماثلة في الأذهان. لا شيء يوازي الخيبة من أميركا وقراراتها غير الرهان على رحابة صدرها حيال تعدد الألوان وفرص النجاح التي تتيحها للوافدين والجامعات اللامعة التي تتولى صقل قدرات الواعدين.

يمكن التشاطر على الانطباع الذي ترسخه المشاهد. يمكن الحديث مثلاً عن أكبر وأسرع جسر جوي بعيد في التاريخ لا يمكن أن ينفذه إلا الجيش الأميركي وحده. هذا صحيح لكنه جسر مغادرة لبلاد عادت إلى حيث كانت قبل عقدين. هناك شيء اسمه الهيبة. الأفضل أن تكون قوية إلى درجة لا يجرؤ أحد على اختبارها. وعنيفة إلى درجة تمنع المتحرش من تكرار مغامرته.

مسلسل مطار كابل يفتح امتحان الهيبة على مصراعيه. ماذا يستنتج فلاديمير بوتين حين يتابع مسلسل مطار كابل؟ هل يمكن أن يدافع عن أوكرانيا الجيش الذي ينسحب من أفغانستان بهذه الطريقة؟ يتمشى في مكتبه الواسع. الحذر أكبر الجنرالات وأبرعهم. التوقيت الملائم نصف المعركة. لم يتدخل عسكرياً في سوريا إلا بعدما استنتج بشار الأسد وقاسم سليماني أنه لم يعد أمامهما إلا الدواء الروسي لوقف «الهجمة الكونية». بهجة بوتين بمشاهد مطار كابل لا تخفي شعوره أن أميركا المغادرة ألقت بالقنبلة الأفغانية بين أيدي جيران «المفاعل الأفغاني». وهو يعرف أن روسيا معنية بانبعاثات هذا المفاعل سواء ما يتعلق بأمنها أو أمن حلفائها المقيمين على شفير أفغانستان.

ولا غرابة أن يتابع شي جينبينغ مشاهد مسلسل مطار كابل. مغادرة الأميركيين خبر جيد. والمعادن الأفغانية تستحق دفع «الحزام والطريق» إلى التوغل في بلاد «طالبان» بعد باكستان. يشعر «الرفيق» الجالس على عرش ماو أن أميركا المغادرة لن تعود للدفاع عن أسلوب الحياة في هونغ كونغ أو حتى عن سيادة تايوان. يبتسم. صار من الصعب على دول العالم الرهان على وسادة أميركية مضمونة. وسيدفع بايدن ثمن هبوط أسهم هذه الوسادة.

لم يعد الغرب قادراً على كسب الحروب في مناطق لا تشبهه. حسم الحروب يحتاج إلى بطش لم يعد الغرب قادراً على ممارسته. رقابة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع المدني تكبل أيدي الجنرالات. لا يعاني الجيشان الروسي والصيني من وطأة هؤلاء الرقباء. ثم إن الحكومات الغربية لا تستطيع الاستقالة من مصير مواطن واحد من مواطنيها. أزمة الرهائن الغربيين في لبنان في العقود الماضية خير دليل. إيران الخميني التي احتجزت الأميركيين رهائن في سفارة بلادهم في طهران لاستنزاف هيبة «الشيطان الأكبر» طورت لاحقاً أساليبها. باحتجاز حفنة مواطنين غربيين نجحت وعبر عناوين مضللة في استدراج الدول الكبرى إلى «أقفاص صغيرة». رحلات ووساطات وأثمان وتنازلات من أجل الإفراج عن أميركي اختطفته «منظمة مجهولة» من شوارع بيروت.

هل تغري مشاهد مطار كابل بعض الدول أو الجهات بالعودة إلى التحرش بأميركا؟ هل ستشجع إيران على تصعيد هجومها لطرد أميركا من العراق وسوريا؟ هل ستشجع «القاعدة» و«داعش» على العودة إلى محاولات اقتياد دول كبيرة إلى أقفاص صغيرة؟

الشرق الأوسط

————————–

أفغانستان هل تنتهي مثل إيران؟/ عبد الرحمن الراشد

على المراهنين والمستثمرين في «طالبان» أن يفكروا مرتين، لأنَّ معظم الأنظمة الدينية انهارت لعجزها عن الفصل بين أفكارها وإدارة الدولة. تبدو «طالبان» هذا العام غير «طالبان» عندما استولت على الحكم عام 1996. لكنها تظلُّ تحمل المخاطر نفسها ذاتية التدمير. وهذا ديدن معظم الأنظمة المؤدلجة، شيوعية وبعثية وإسلامية.

كما نلحظ كثيراً من المتشابهات بين ما يحدث في كابل اليوم، وما حدث في طهران 1979. بدخول الملا، كما جاء آية الله الخميني. كانت للخميني شعبية كبيرة في تلك السنة. وكانت شوارع طهران فعلاً تكتظ بمئات الآلاف من الإيرانيين المتحمسين لاستقباله وتغيير حكم الشاه. ومعظم المرحبين كانوا قوميين أو يساريين أو مواطنين عاديين تواقين للتغيير، والقلة كانت تنتمي للحركة الإسلامية المعارضة التي قادها الخميني ورجال الدين. لم تكن لهم معرفة مسبقة بالحكم الديني الآتي مع الخميني على طائرة «أير فرانس» من باريس.

كان الرئيس الإيراني الأول أبو الحسن بني صدر متديناً باعتدال، لم يكن يلبس ربطة العنق، لكنه أيضاً لم يعتمر العمامة، ولم يكن سيداً ولا شيخاً. وكان وزيره الأبرز قطب زاده قد ملأ شاشات التلفزيونات في أنحاء العالم. في الغرب اختلط عليهم فهم من هو الخميني، حياته المتقشفة، مثل معظم رجال الدين في الإسلام، جعلتهم يظنونه غاندي، الإنسان المتسامح المتواضع. اكتشف الإيرانيون، وكذلك الغرب، الحقيقة خلال السنوات الثلاث التالية، شخصية متطرفة كارهة العالم. هرب الرئيس بني صدر، وأُعدم زاده، وأَطبق رجال الدين على الحكم إلى هذا اليوم. تغيرت حياة سكان طهران الليبرالية، التي اشتهرت بالفنون، وكانت الأكثر تمدناً في منطقة الشرق الأوسط، إلى جحيم. سيطر المتوحشون من رجال قم، نصبت المشانق لعشرات الآلاف حتى اختفى اليساريون، وأقفلت النساء على أنفسهن البيوت، وأغلقت المسارح والسينما ودور الفنون.

«طالبان» ليست جديدة، يعرفها أهالي كابل من كبار السن، ممن عاشوا تحت حكمها في التسعينات. وخلال الأسبوع الماضي بعد الاستيلاء على الحكم ظهر رجالها بنفس الوجوه والملابس لـ«طالبان» القديمة، لكن بلغة مختلفة. وبعد أن رددت وسائل الإعلام تصريحاتها المتسامحة، يكتشف العالم تدريجياً أن ما قيل ويقال مجرد علاقات عامة تم ترتيبه لتمهيد عودتهم، والإطباق على الدولة بأقل قدر من المواجهات والخسائر. الحقيقة «طالبان» لم تتغير ولن تتغير، أو يصعب أن أصدق غير ذلك، وعلينا أن نراقب حتى نهاية هذا العام.

قادة «طالبان» ومقاتلوها، في ثيابهم وهيئتهم، يبدون أكثر وضوحاً من بقية الجماعات الإسلامية المتسترة بالحداثة، لكنهم مثلهم، ينظرون للآخرين مع وضد، أسود وأبيض، مسلم وكافر. النهضة في تونس، و«الإخوان» في مصر، والقومي الإسلامي في السودان، و«حزب الله» في لبنان، والحوثي في اليمن، جميعها مجاميع سياسية دينية. قد تكون «طالبان» أقرب إلى الحوثي في اليمن؛ حيث يلعب الانتماء القبلي دوراً أساسياً فيها، لكنها تبقى في صندوق ديني مؤدلج يعادي الانفتاح المدني. عدد من الأفغان الذين استمعت إليهم لا يعتقدون أن «طالبان» هي التي تظهر على الشاشة اليوم. معظم كوادرها، المقاتلين، هم شباب تم تخريجهم من مدارس دينية متشددة وهؤلاء هم الذين سيسيطرون على إدارة البلاد، الأحياء والشوارع والمدارس والمساجد ووسائل الإعلام. وهنا يمكننا أن نقرأ كيف يمكن أن تكون عليه البلاد خلال السنوات المقبلة. والأرجح أن القادة كبار السن، سيختفون من المشهد تدريجياً مع صعود المتطرفين. ومعظم الحركات الإسلامية التي وصلت الحكم، أو كانت تشارك فيه، عانت من مثل هذا الصراع وتكررت سيرة هيمنة المتشددين على مراكز القرار وإقصاء القيادات المعتدلة، هذا على افتراض أن هذه الأحزاب تحمل طيفاً من التنوع داخلها.

الشرق الأوسط

————————-

طالبان والمرأة.. تفكيكُ الأسئلة الشّائكة/ محمد خير موسى

بعيدًا عن حالة الاستقطاب بطرفيه المندفع المنحاز لطالبان والمتشنّج المنحاز ضدّها؛ نحتاجُ إلى تفكيك ناعمٍ للقضايا التي غدت تطرق أسماع النّاس مع تحوّل أفغانستان إلى الخبر الأهم في الأحداث العالميّة.

ولعلّ قضيّة المرأة وطالبان، وموجة الهلع التي تجتاح الخطاب السّياسيّ للدّول الغربيّة والبكائيّات المتصاعدة على حال المرأة الأفغانيّة تحتاج إلى إجاباتٍ هادئةٍ عن أسئلة طالبان والمرأة؛ الأسئلة التي غدت مالئة الشّاشات وشاغلة النّاس.

من أعجب ما يلفتُ النّظر في الحالة الأفغانيّة هو التّعامل مع المرأة وعلاقة طالبان بها؛ هو جعلها أحد أهمّ معايير التحوّل السّياسي، ومعيارًا رئيسًا في تقييم سلوك جماعاتٍ ودولٍ بعينها دون أخرى.

إضافةً إلى ما في هذا المعيار من تحيّز غير بريء؛ فإنّه يتضمّنُ أيضًا معنى صريحًا من معاني تسليع المرأة، والتّسليع السّياسي للمرأة لا يختلف في إساءته للمرأة من مجالات التّسليع الأخرى.

على أنّ هذا التّسليع يتزامن مع ما يمكن أن نسميه “متلازمة التّنانير القصيرة” وهي متلازمة موجودةٌ في العقل الغربيّ والعقول العربيّة التي خضعت للتغريب بشكلٍ ممنهج وبيتمّ التعبير عنها من خلال نشر صور قديمة من أيّام الأبيض والأسود  لمجموعة من الفتيات أو الشّابات يرتدين التّنانير القصيرة في إحدى شوارع المدن المعروف عنها التوجه المحافظ أو المتديّن، وقد فعلت وسائل الإعلام الغربيّة هذا مرارًا، فنشرت CNN  أكثر من مرة هذا النّوع من الصور ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما نشرته في موقعها النّاطق بالعربيّة يوم 6  حزيران “يونيو 2014م تحت عنوان “مظهر نساء أفغانستان؛ قبل وبعد وأثناء حكم طالبان” ونشرت العديد من صور الأبيض والأسود للنساء الأفغانيّات بالتّنانير القصيرة.

أخطر ما في هذه المتلازمة أنّها تؤدّي إلى التّضليل من خلال تقديم تصوّر غير صحيح للمجتمع في ذلك الوقت، فوجود مثل هذه الصّور التي لا تعبّرُ إلّا عن حالاتٍ بالغة النّدرة، وإبرازها مع إخفاء غيرها في مجتمع يرزح تحت قيود الاستبداد السياسي والقبلي والاجتماعي يؤدّي إلى ترويجٍ تضليليّ لصورةٍ متخيّلةٍ للمجتمع تتناقض مع الصورة الحقيقيّة الواقعيّة له.

ممّا يسهم في تفكيك الأسئلة الشّائكة المتعلّقة بالمرأة وطالبان، معرفةُ واقعها في أفغانستان قبل استلام طالبان الحكم ما بين عامي 1996م و2001م.

في مجتمع تحكمه القبيلة، وتتعدّد فيه العرقيّات والقوميّات، تهيمنُ قبيلة “البشتون” على أفغانستان من حيثُ العدد ببلوغها نسبةً تصل إلى 63% في كثير من التقديرات وعلى أدنى التقديرات تتجاوز 45% من نسبة السّكّان، وهم أكبر وأقوى تجمّع عرقي في أفغانستان ويهيمنون على المناصب العليا والجيش وقياداته منذ نشأة أفغانستان حتّى اليوم.

ويأتي “الطّاجيك” في المرتبة الثّانية من حيث النسبة العدديّة إذ يبلغون ما بين 25 و30%، ويعيشُ غالبهم في المدن وهم في العموم من التجّار والصنّاع وأهل الحرفة.

ويأتي بعدهم عرق “الهازارا” وهم شيعة إماميّة وقليلٌ منهم من السنّة والإسماعيليّة ويبلغون قرابة 6.6%، وكذلك “الفارسوان” و”القزلباش” وهم من الشّيعة الإماميّة ويبلغون معًا قرابة 6%

وتضمّ أفغانستان أيضًا عرقيّات أخرى قليلة النّسبة أيضًا مثل “الأيماق” و”المغول” و”الأوزبك” و”التركمان” و”القرغيز” و”البلوش” و”العرب” و”الهنود” وغيرهم.

تتّسمُ قبائل الأفغان عمومًا وقبائل البشتون على وجه الخصوص بالتّعصّب لكلّ أنواع الانتماء، فهي في انتمائها الدينيّ متعصّبة وفي انتمائها القبليّ أشدّ تعصّبًا.

ولكنّ هذا التّعصب القبليّ والخشونة في العيش والغلظة في الطباع كانت لها فوائدها في مواجهة المحتلّين وجعل أفغانستان مقبرةً للغزاة، غير أنّها كانت وبالًا على المرأة الأفغانيّة عمومًا وعلى البشتونيّة بشكلٍ أكبر بكثير.

فقد عانت المرأة الأفغانيّة من عاداتٍ قبليّة كانت مهيمنةً وما زال الكثير منها مسيطرًا ولم تفلح محاولات العلماء والدّعاة في مواجهتها أو التخفيف منها.

ومثال على تلكم العادات الكارثيّة عادة “البعاد” وهي منتشرة في قبائل البشتون في أفغانستان وباكستان منذ مئات السنين وما تزال قائمةً إلى اليوم، ويقوم “البعاد” على استخدام المرأة وسيلةً لتسوية النّزاع بين المتقاتلين سواء من قبيلة البشتون نفسها أو بين قبيلتين مختلفتين، فيتمّ تقديم فتاة بكر من عائلة الجاني القاتل بصفة زوجة لأحد أفراد عائلة المقتول المجني عليه لإنهاء الخلاف، لكنّ الواقع يشهد أنّ هذه الفتاة يتمّ استعبادُها وتُعامَل معاملة الأمَة المملوكة وتعاني ألوان الظّلم والاضطهاد الفظيع.

وعلى الهامش وفي السّياق ذاته يجدر التذكير بأنّ هذه العادة ليست حكرًا على البشتون الأفغان، بل هي موجودةٌ بالصّورة ذاتِها في بعض القبائل العربيّة ومنها قبائل جنوب العراق حتّى يومنا هذا ويطلق على المرأة فيها لقب “الفصليّة”.

وأمّا فيما يتعلّق بالحجاب فهو لباس المرأة الأفغانيّة عمومًا فلا تكاد تجد امرأةً أفغانيّة غير محجّبة في مرحلة ما قبل طالبان حتّى غير المسلمات وذلك كونه عرفًا عامًّا إضافةً إلى أنّه شعيرة إسلاميّة.

بل إنّ عامّة نساء البشتون يغطين وجوههنّ لا من باب الفقه، بل إنّ المذهب الحنفي الذي يعتمده الأفغان عامّةً مذهًبًا لهم لا يعدّ وجه المرأة عورةً ولا يأمر بتغطيته، فتغطية النّساء الأفغانيّات والبشتونيّات على وجه الخصوص وجوههنّ هو عرف القبيلة المسيطر.

وكانت القبيلة تجابه بعنف أيّة محاولة لكسر هذه الأعراف والقيود، ومن ذلك ما حدث عندما حاول الأمير أمان الله خان فرض التّغريب على أفغانستان متأثرًا بما رآه في الغرب وتركيا بعد زيارة طويلة استغرقت سبعة أشهر في تركيا وعددٍ من الدّول، فرجع وأصدر عام 1928م العديد من القرارات منها:

نزع الحجاب عن رأس المرأة، وتمكينها من أن تطلق الرّصاص على زوجها إذا عارض حريتها، كما كانت زوجته الملكة ثريّا طرزي ــ وهي سوريّة دمشقيّة ــ تدعو إلى نزع الحجاب.

فما كان من قبائل البشتون إلّا أن ثارت عليه وساندها في ذلك الفقهاء البشتون من الديوبنديّة الذين أعلنوا كفر الملك ووجوب خلعه، وكانت نتيجة هذه الثّورة التي كانت بسبب محاولته خرق التقاليد وفرض التغريب أن تمّ خلعه وإنهاء حكمه يوم 29 من الشّهر الأوّل من عام 1929م.

وقبائل البشتون أصلًا كانوا يمنعون بناتِهم من العمل ويرفضون إرسالهنّ إلى المدارس، فالمرأة عندهم بمنطق القبيلة لا تتعلّم ولا تعمل، وهذا هو حال الغالبيّة العظمى من نساء البشتون بخلاف نساء عرق الطّاجيك الذين كانوا يسكنون المدن؛ فقد كانت نسائهم تمارس العمل في المجالات المختلفة وتنخرط بناتهم في سلك التعليم وقد تأثرت نسبة قليلة من نساء البشتون الذين انتقلوا للعيش بالمدن بهنّ فتلقين التعليم وزاولن بعض الأعمال.

كما أنّ العرف القبليّ في أفغانستان في الزّواج يقوم على انتشار ظاهرتيّ التعدّد بشكلٍ كبيرٍ والزّواج من الصّغيرات بشكل واسع، وهو عرفٌ ما زالت المرجعيّات الفقهيّة المختلفة قبل طالبان وبعدها تعلن تأييدها له وتشجيعها عليه.

استلمت طالبان الحكم عام 1996م، وفور استلام الحكم أعلنت قرارات صارمةً بشأن المرأة، من أهمّها وأبرزها:

وجوب ارتداء البرقع وتغطية المرأة وجهها، ومنع المرأة من العمل، ومنع الفتيات من التوجّه إلى المدارس والسّماح لهنّ فقط بتعلّم القرآن الكريم، ومنع تصوير النساء فوتوغرافيًّا أو سينمائيًّا، وكذلك منع عرض صور النساء في الصحف أو المجلات أو الكتب أو المنازل، ومنع ظهور أو حضور المرأة في الإذاعة والتلفزيون أو أي تجمع آخر، ومنع خروج المرأة من منزلها دون مرافق لها من الرجال المحارم.

وكانت الشرطة الدّينيّة تلاحق النّساء في الشّوارع وتعمدُ إلى ضربهنّ، كما كانت تقوم بإنزال عقوبات الجلد بمن تخالف هذه القرارات.

نرى في عموم هذه القرارات أنّها غير منبثقة من المرجعيّة الفقهيّة التي تعتمدها طالبان، بل هي إحدى تجلّيات تغلّب العرق القَبلي البشتوني على المرجعيّة الفقهيّة، وإلباس هذه الأعراف ثوب الخطاب الدّيني كون الحركة أعلنت أنّها تقيم “إمارة أفغانستان الإسلاميّة” وتحكم بما أنزل الله تعالى.

على أنّ ما أعلنته طالبان من قرارات هي أعرافٌ كانت سائدةٌ أصلًا في البيئة القبليّة البشتونيّة.

فما فعلته طالبان أمران: أنّها حوّلت هذه الأعراف القبليّة إلى قوانين دولة، وأنّها عمّمت هذا العرف القبلي ليشمل عموم الحالة الأفغانيّة والأعراق الأخرى التي كانت أقلّ حدّةً من البشتون في تعاملهم مع المرأة.

كان التّعامل مع المرأة منسجمًا مع سلوك طالبان العام مع بقيّة المكوّنات في المجتمع الأفغاني سواء مع المخالفين سياسيًّا كالتيّارات الإسلاميّة الأخرى كالإخوان المسلمين والفصائل المنافسة لهم في ساحة القتال، أو المخالفين اعتقاديًّا كالشّيعة، لكن تسليط الضّوء كان يتمّ بشكلٍ رئيسٍ على المرأة حتّى وصل الامر بسيّدة أمريكا الأولى لورا بوش أن تعلن في خطابها الذي ألقته يوم 17 تشرين الأوّل “نوفمبر” من عام 2001م قائلةً: “إنّ الحرب على الإرهاب هي حربٌ من أجل تحرير نساء أفغانستان” وهو ذاته ما أعلنته أيضًا شيري بلير زوجة توني بلير بعد يومين من هذا خطاب لورا بوش إذ قالت: “إن هذه الحرب هي من أجل إنقاذ المرأة”

كان واضحًا أن تسليط الضّوء على سلوكيّات طالبان تجاه المرأة ــ وهي سلوكيّات كارثيّة آنذاك بالطّبع ــ لم يكن الهدف منه الانتصار للمرأة ولا لحريّتها بل هو جزء من منهج الشّيطنة الذي اتبعته أمريكا ضدّ طالبان بين يدي الحرب عليها من جهة، وللترهيب من الإسلام من خلال إلصاق هذه السلوكيّات القبليّة بالفقه الإسلامي.

مزاعم تحرير المرأة الأفغانيّة من يد طالبان على لسان لورا بوشا لم تقنع حتّى رائدات الحركة النسويّة شديدات العداء لطالبان إذ قالت الدكتورة ليلى أبو لغد، أستاذة علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأمريكية والتي تعدّ من الشخصيّات البارزة في الحركة النسوية:

“إنّ لورا بوش لا تهتمّ حقيقة بتحرير المرأة في أفغانستان لأنها هي وزوجها جورج بوش الابن، بحكم انتمائهما إلى الحزب الجمهوري. بريئان من دعم النساء وبقية الاتجاهات التقدمية، لأنهما في يمين الحزب ولا يتحمّسان لـتحرير المرأة الأمريكية ناهيك عن المرأة المسلمة”

أسقطت الحرب الأمريكيّة “إمارة أفغانستان الإسلاميّة” وأنهت حكم طالبان، وأعلن المحتلّون الجدد بدء عهدٍ جديدٍ للمرأة الأفغانيّة.

اشتركت المرأة الأفغانيّة في الجيش، ولكن كانت عموم المنضمات إلى الجيش هنّ من قوميّة الهازارا الشيعيّة، وليس في الجيش وجودٌ ملحوظ للبشتونيّات ولا الطاجيكيّات.

وبعد أن دخل الأمريكان لم تُقم الأفغانيّات احتفالاتٍ صاخبةً لخلع البرقع أو الحجاب بل دعا العديد من الباحثين إلى عدم توقّع نزع الحجاب والبرقع بسرعة لأنّ له جذورًا عرفيّة وليس مرتبطًا بطالبان!

عملت بعض المذيعات في التلفزيون الأفغاني دون حجاب، لكنّهنّ كن يخرجن من مبنى التلفزيون فيلبسن الحجاب والزيّ الشعبيّ الأفغاني على الفور، انسجامًا مع الواقع الأفغانيّ العام.

حتّى كبيرة مراسلي CNN  “حين ظهرت بالحجاب عقب سيطرة طالبان وطار النّاس بصورتها للتّأكيد على عودة القمع الطالبانيّ للمرأة علّقت على تداول صورتها بالحجاب والعباية خلال تغطيتها لتطورات الأوضاع في كابول مع سيطرة حركة طالبان على أفغانستان.

وأعادت ملصق عبر حسابها على تويتر، يجمع بين صورتين لها من العاصمة الأفغانية كابول الأولى بدون حجاب والثانية بحجاب وعباية سوداء.

وقالت وورد: “هذا الملصق غير دقيق، فالصورة العلويّة من داخل مجمع خاص، بينما الصّورة بالجزء السفلي في شوارع كابول التي تسيطر عليها طالبان، وأنا كنت أرتدي دائمًا غطاء الرأس في شوارع كابول سابقًا، على الرغم من عدم تغطية شعري بالكامل والعباية، لذلك هناك فرقٌ ولكن ليس بهذه القوة”

لم تنته عادة “البعاد” ولم تفلح الدّعوات من العلماء قبل الاحتلال الأمريكيّ في إنهائها كما لم تفلح الحريّة المفترضة التي جاء بها الامريكان في القضاء عليها.

وكذلك زواج الصّغيرات القاصرات على حاله، وعموم ما كان يتمّ توجيه الانتقادات لطالبان من أجله بقي على حاله.

فعلى سبيل المثال في شهر آذار “مارس” من عام 2021م أي بعد عشرين عامًا من الاحتلال الأمريكيّ أصدر مديرُ التّعليم في كابول قرارًا يمنع فيه الفتيات اللّاتي بلغن 12 عامًا من الغناء في العلن.

وفي شهر نيسان “إبريل” من هذا العام أيضًا قالت كبيرة مسؤولي برامج أفغانستان في معهد الولايات المتحدة للسّلام (USIP) بِلقيس أحمدي:

“إن سجلَّ أفغانستان في مجال إدماج المرأة سجلٌّ يبعث على الأسى؛ إذ استُبعدت النساءُ بين عامي 2005م و2020م من قرابة 80% من اجتماعات عمليات السّلام ومفاوضاتها”

وفي الشهر ذاته قالت كبيرة مسؤولي برامج الدين والمجتمعات الشاملة في معهد الولايات المتحدة للسلام بالواشا إل. كاكار: ” إن محاولة تغيير وجهات النّظر والسّياسات بالاعتماد على أُطر حقوق الإنسان الدولية لم تكن ناجحة دومًا في أفغانستان، نظرًا إلى أن هذه الأفكار كثيرًا ما تُرفض لكونها مفروضة من الخارج، وبدلًا من ذلك لا بدّ أن تبدأ تلك العملية بالاعتراف بأن أفغانستان لا تزال مجتمعًا تقليديًّا عميقًا”

وفي بداية شهر آب “أغسطس” الحالي” عقدت رئيسة إدارة شؤون النساء في إقليم ننغرهار، فتانه عزيز، مؤتمرًا صحفيًّا قالت فيه:

“إنّ أبرز مظاهر العنف الأسري تتمثل في الضّرب والاعتداءات الجنسيّة وتزويج القاصرات وغيرها، وتختلف هذه الممارسات بين منطقةٍ وأخرى، لكنّها موجودةٌ في كلّ أنحاء أفغانستان”

وهنا لستُ في معرض التأكيد على أنّ حال المرأة خلال الاحتلال الأمريكيّ كان شبيهًا بحالها قبل ذلك أو أسوأ منه، فمن الطبيعيّ أن يكون هناك القليلُ من التطوّر الذي طرأ بسبب عمل منظمات المرأة، لكن هذا لا يعني أبدًا الترويج بأن حال المرأة كان ورديًّا رائقًا تحت الاحتلال الأمريكيّ حتّى تقام مجالس النواح واللطم على حالها بعده، فحال المرأة كان بالغ السواد قبل الاحتلال الأمريكيّ وخلاله.

عند سيطرة طالبان على أفغانستان غدا لباس المرأة الأفغانيّة هو مالئ الدنيا وشاغل النّاس، وغدا هو القضيّة الأكثر تداولًا في الأخبار العالميّة، وكأنّ أفغانستان تعيشُ حالةً من الرخاء الاقتصاديّ وتنعم بالحريات السياسيّة والتنمية فيها على قدم وساق ولم يبقَ من همومها إلّا ما تضعه المرأة الأفغانيّة على رأسها وعلى وجهها.

هذا الجوّ الجنائزيّ في وسائل الإعلام على حال المرأة الأفغانيّة فرض على طالبان أن تكون المرأة حاضرةً في تصريحاتها التي شهدت تغيّرًا ملحوظًا في عدد من القضايا الأساسيّة ما بين طالبان 2001م وطالبان 2021م

وفي أوّل مؤتمرٍ صحفيّ لطالبان عقب سيطرتها على أفغانستان كانت المرأة حاضرة إذ قال ذبيح الله مجاهد: “ومسألة المرأة مسالة مهمّة جدًا، نتعهّد بأن نمنح النساء حقوقها التي أقرّها الدّين الإسلامي، والمرأة هي عنصر مهمّ في البلد وفي القانون، وسيكون هناك قانون يحترمها ويحافظ على حقوقها، وسيكون هناك حضورٌ نشيطٌ فعّال للمرأة، ونحن نطمئن القلقين على مستقبل المرأة وحقوقها، فنحن نتعهّد أن نمنحها حقوقها كاملة”

كان السّؤال الاوّل من الصّحفيين في المؤتمر عن المرأة، فأعاد ذبيح الله مجاهد ما قاله في متن المؤتمر وأكد أن المرأة ستنال حقّها في العمل في مختلف المجالات كما أنّها ستنال حقّها في التعليم.

وبعد ذلك تتالت التصريحات تترى مؤكّدة على أنّ المرأة سيكون لها حقّ التنقّل من غير مرافق ودعوتها للانخراط في مؤسسات الدّولة ووصل الأمر إلى التأكيد على أنّها ستكون عضوًا في العمل الشّوريّ.

ثمّ سارعت قيادات طالبان لزيارة المستشفيات واللقاء بالطبيبات والتأكيد على ضرورة استمرارهنّ في العمل وتقديم الحماية الكاملة لهنّ، كما أجرى عددٌ من رجالات طالبان لقاءات مع مذيعات بنصف حجاب وشعر مكشوف وهذا ما كان يُعدّ من الخطوط الأكثر من حمراء في العقيدة الطالبانيّة.

لا يمكن الحكم باستعجالٍ عن سلوك طالبان مع المرأة كما هو الحال على سلوكها في بقيّة الملفّات، غير أنّ التّصريحات والأفعال حتّى الآن تعطي مؤشّرًا على تغيّر في التّعامل وهو منسجم مع تغيّر تريد طالبان ترسيخه في الملفات المختلفة.

ومع ذلك فإنّني أتوقّع أنّ حال المرأة لن يكون ورديًّا ولا جيّدًا في عصر طالبان كما لم يكن ورديًّا في المراحل السابقة، فالأمر تحكمه جذورٌ من التّقاليد القبليّة العميقة التي تعود إلى مئات السّنين وهو أكبر من قدرة طالبان التي لا تملك الخروج من عباءة القبليّة البشتونيّة من حيث الأصل.

على أنّه من الضّروريّ التأكيد أنّ النّواح على حال المرأة الأفغانيّة لا تراد منه المرأة ولا حقوقها بدرجةٍ رئيسة ولا ثانويّة، إنّما هو وسيلةٌ للشيطنة التي يمارسها الإعلام الغربيّ، وهو يقع في التحيّز غير الأخلاقي والتسليع السّياسي المهين للمرأة، كما أنّه يجسّدُ الازدواجيّة المفضوحة، فلا تثيرُه المرأة الأسيرة في سجون الاحتلال الصّهيونيّ ولا النساء في معتقلات بشّار الأسد والسيسي وفي المعتقلات الجماعيّة في تركستان الشرقيّة، ولا نسمع لهم صوتًا حتّى تجاه النساء البشتونيّات في باكستان التي يمثّل البشتون ثاني أكبر عرقيّة فيها واللواتي يعشن الظروف ذاتها الللواتي يعشنها النساء الأفغانيّات، كما لا نسمع لهم تجاه فرض خلع الحجاب على المرأة المسلمة في الغرب رِكزًا.

المصدر : الجزيرة مباشر

محمد خير موسى

 كاتب وباحث فلسطيني

——————————-

مشهد كابول بين الخطأ والخطيئة/ نبيل فهمي

عدم الاعتماد على واشنطن أكثر من اللازم ضرورة فلن تتردد في اتخاذ قرارات على حساب الأصدقاء والحلفاء

أخطأ من فوجئ بالخروج الأميركي من أفغانستان، وإن كان من حق الجميع الاستغراب من عدم الانضباط الذي شهد الإجراءات الخاصة بترحيل مواطنيها، والتعامل غير الإنساني الذي تعرض له أصدقاء أميركا من الأفغان المهددين بمستقبل مظلم وسلامة أرواحهم.

يتساءل بعضهم كيف تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان بعد أن أنفقت أكثر من تريليون دولار وفقدت أرواح الآلاف من جنودها؟ ويتساءل آخرون كيف تصل واشنطن إلى اتفاق مع طالبان بكل ما يمثله هذا التنظيم من رؤى وصفات وممارسات بعيدة كل البعد عن المبادئ التي تحكم الحياة المعاصرة في الولايات المتحدة والعالم الغربي.

تساؤلات في محلها، ولكن ليس هناك مكان أو مبرر للمفاجئة أو الاستغراب، ويكفي الرجوع إلى مقولة “الصورة بألف كلمة” وأوجه التشابه بل التطابق بين أحداث كابول 2021 ومغادرة سايغون الولايات المتحدة عام 1975، كان ذلك في تحليق الطائرة المروحية العسكرية فوق السفارة، ومشاهد إقلاع الطائرات الأميركية من مطار كابول محملة بالركاب حتى على أجنحتها، وهو نفسه ما شهدناه في فيتنام قبل ذلك بنصف قرن.

لا يستبعد أن يكون القرار الأميركي في إطار تحرك استراتيجي يشمل صراع القوى الكبرى، بخاصة في ظل التركيز على آسيا ومواجهة وإشغال الصين الصاعد بقوة وبسرعة، وعلى المدى المتوسط هناك اعتبارات محددة تحكم تحرك أميركا وسياساتها بصرف النظر عن الانتماء الحزبي لرئيسها أو الأغلبية في الكونغرس، وظلت كذلك ولم تتغير ولم تحد عنها منذ بروز دورها عقب الحرب العالمية الثانية.

أولى تلك الاعتبارات هي تقدير حجم المكسب أو الخسارة من أي قرار، وكان ذلك بدخول أي ساحة أو البقاء فيها أو الخروج منها، وكما أكرر دائماً السياسة الخارجية الأميركية تحكمها المبادئ والأهداف نفسها التي تحكم السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة، وهو اقتصاد السوق. قد يتساءل البعض كيف تهدر واشنطن كل ما استثمرته أو أنفقته في أفغانستان بالخروج من الساحة، والإجابة في فهم النظام السياسي الأميركي وتحديداً الانتخابي المتعدد والمتكرر على مستويات مختلفة، رئاسياً كل أربعة سنوات بحد أقصى دورتين، وبرلمانياً على فترات أقصر تصل إلى عامين، وكذلك على مستوى المحليات. هو نظام يفرض على السياسيين النظر لأغلب القضايا بمنظور مستقبلي قصير الأجل، بعيداً من أحداث الماضي وقراراته، ويعني هذا بإيجاز شديد أن قرار بايدن المنتمي للحزب الديمقراطي بالانسحاب من أفغانستان الآن على الرغم من ضخامة الكلفة السابقة، جاء لرغبته في عدم تحمل مزيد من الإنفاق المادي أو الخسائر الإنسانية، بصرف النظر عن سلامة قرار التدخل فيها من عدمه بالأساس، الذي اتخذه جورج بوش الابن، ويطبق بايدن في ذلك مبادئ اقتصادية مادية، ومقولة عدم إهدار مزيد من المال على مشروع فاشل، وغرضه من تلك الخطوة الحد من الخسائر المستقبلية، وهو نفسه ما فعله رئيس أميركي جمهوري في فيتنام.

وغني عن القول إن الفوضى وعدم الانضباط في عمليات الخروج من كابول ترك انطباعاً سيئاً عن صورة الولايات المتحدة وأداء الإدارة الحالية، في ما يتعلق بخروج الدبلوماسيين الأميركيين والأجانب ومؤيديها من الأفغان، فضلاً عن تسليم البلاد لـ “طالبان” التي تتضمن قيادات كانت في السجن الأميركي في غوانتانامو، ومع هذا خرج الرئيس بايدن معلناً وبقوة أنه متمسك بقرار الخروج باعتباره في مصلحة بلاده، وتحدث كذلك لعلمه أن المجتمع الأميركي مرهق سيكولوجياً من استمرار المواجهات العسكرية الممتدة، بخاصة مع صعوبة إيضاح الخطر المباشر على بلاده أو المصلحة في البقاء واستمرار الإنفاق.

وتحدث بايدن كذلك لاقتناعه أن بلاده ستتجاوز التداعيات قصيرة الأجل على سمعتها من هذا القرار، وأن المجتمع الدولي لن يستطيع مقاطعة أميركا أو الاستغناء عنها، أسوة ما تم بعد فيتنام القرن الماضي وغزو العراق أخيراً.

وشخصياً لا أتفهم تساؤلاتنا عن السياسات الأميركية، وعلى الرغم من أن الاعتبارات التي تحكمها واضحة، وهي المصلحة الوطنية والمادية قصيرة الأجل اليوم وغداً، في حين أن السؤال الأوقع والأهم هو موقف الدول الصديقة وغيرها إزاء تلك السياسات بكل ما تحمله من خطيئة، فإن تساؤلنا يجب أن ينصب على ردود أفعالنا وسياساتها إزاء هذا الثبات في المواقف والخطيئة الأميركية.

لا أشك في قوة الولايات المتحدة وغناها، وهو ما سيجعل كثيراً من الدول تتجاوز تلك الأحداث وتظل تسعى إلى علاقات قوية معها، وهو ما فعلته بعد أحداث فيتنام والعراق، وسبق أن وصفت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت بلادها بأنها قوة لا غنى عنها، وإنما بات واضحاً مرة أخرى من الأحداث الأخيرة أن القوة والثروة وقوة التحمل لها حدود، وأن الخطأ بل الصحبة لها ثمن.

ومن الدروس المستفادة والمهمة التي يجب أن يخرج بها المجتمع الدولي من الأحداث الأخيرة هي أنه مع أهمية الولايات المتحدة فإنه من الخطأ الاعتماد عليها أكثر من اللازم، لأنها لن تتردد في اتخاذ قرارات على حساب مصالح غيرها بمن فيهم الأصدقاء والحلفاء إذا لزم الأمر، إذاً إدارة التعاون مع أميركا واجبة، إنما الاعتماد المبالغ فيه عليها خطأ، وأرى أن التفاعل الوطني والإقليمي أفضل سبيل على المدى المتوسط والطويل، لأنه يستجيب ويتفاعل مع الواقع المباشر على الأرض، وقدرات وطموحات مباشرة في ساحتنا المشتركة يمكن تقديرها والتفاعل معها بشكل أفضل.

من ناحية أخرى، وبعد غزو العراق وأفغانستان وغير ذلك من الاشتباكات العسكرية المكلفة وغير الناجحة، على الولايات المتحدة اليقين أن صراع القوى الكبرى في إطار نظريات استراتيجية شيء، والتعامل مع الواقع الوطني والهوية المجتمعية للدول عبر العالم شيء آخر، وعليها الاستفادة من أخطاء غرور القوة والثراء المبالغ فيه، وقراءة الساحات الوطنية والإقليمية قبل الاشتباك فيها، والتهور في عمليات عسكرية تحمل في طياتها خسائر كبيرة، بل عليها بحث ومراجعة السبل المختلفة لتحقيق أهدافها في ساحات مختلفة، فالتفوق في معارك لا يعني بالضرورة الانتصار في الحروب، والأعمال العسكرية لا تحسم كل القضايا، أو تحقق كل الأهداف، خصوصاً مع توافر أدوات تحفيزية عدة لها، إذا كانت أكثر احتراماً وتقديراً لمصالح الغير، وتسعى إلى الوسطية والاعتدال الأمني والاستقرار الدولي.

—————————-

خبايا الفشل الغربي في أفغانستان

ماذا حدث لتنهار الحكومة الأفغانية وجيشها بهذه السرعة؟ الأسباب واضحة منذ أمد بعيد لكن الغرب أغفل الحقائق حتى النهاية. عمران فيروز -صحفي نمساوي أفغاني زار أفغانستان عدة مرات وألف كتاب “أطول الحروب” الملخِّص لخفايا فشل الغرب هناك- يكتب لموقع قنطرة عن مدى جهل الناتو بأفغانستان رغم 20 عاما من بقائه فيها.

“ربَّما تكون هذه المرة أيضًا مثل المرة الأولى التي استولت فيها طالبان على كابول بين ليلة وضحاها” هذا ما قاله شاب عمره ثلاثون عامًا واسمه أحمد جاويد في يوم السبت 14 / 08 / 2021 عَشِيَّةَ استعادة حركة طالبان سيطرتها على كابول، متذكرًا تمامَ التذكُّر صباح أحدِ الأيامِ قبل خمسة وعشرين عامًا -رغم أنه كان لا يزال طفلًا صغيرًا- حين سيطر مسلحو حركة طالبان الإسلامية على العاصمة الأفغانية لأوَّل مرة.

في ذلك الوقت وصل مسلحو طالبان إلى كابول فجأةً في حين هرب ممثِّلو حكومة المجاهدين بعدما تقاتل هؤلاء وأولئك فيما بينهم لسنوات عديدة، ويبدو أن هذا السيناريو يتكرر من جديد -كما رأى أحمد جاويد- بعد نحو عشرين عامًا من بداية احتلال حلف الناتو لأفغانستان، وأضاف متوقعًا: “لقد أظهرت الأيَّام الأخيرة أنَّ طالبان ستكون هنا في كابول قريبًا”.

توقُّعات أحمد لم تلبث أن تحقَّقت بالفعل في اليوم التالي حين دخلت حركة طالبان إلى كابول في تاريخ 15 / 08 / 2021 -بعد تمكنها من السيطرة على جميع مراكز المحافظات الرئيسية الأخرى في أفغانستان خلال الأيَّام القليلة السابقة لهذا التاريخ- وذلك نتيجة تخلى أفراد الجيش والشرطة -في حالات كثيرة- عن مواقعهم في كابول حتى قبل دخول طالبان إلى العاصمة الأفغانية.

وفي الوقت نفسه سارع الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى الفرار من البلاد مع حاشيته، بعد فترة حكمه التي تصرَّف فيها كنائبٍ للاستعمار الجديد – كما كان يصفه خلال الأعوام السابقة ليس فقط حركة طالبان بل وحتى أفغانٌ كثيرون ممن لم يكونوا مستفيدين من جهاز دولته الفاسد، وبحسب بعض التقارير فقد أخذ رجال أشرف غني معهم حقائبَ مملوءة بالنقود عند فرارهم.

وبالمناسبة أشرف غني هو نفسه الذي كان قبل عدة أعوام قد قال إنَّه غير متعاطف مع اللاجئين الأفغان مضيفًا أنَّهم على أية حال سيعملون في نهاية المطاف في غَسْل أطباق المطاعم في الغرب، وبعد هروبه كاللاجئين من كابول استولى مسلحو حركة طالبان على القصر الرئاسي وَهَيَّئوا أنفسهم لالتقاط الصور عند مكتبه وفي كلِّ مكان داخل القصر الرئاسي.

وبعد دخولهم القصر الرئاسي بقليل قال أحدُ قادة طالبان الحاضرين خلال مؤتمر صحفي مرتجل لقناة الجزيرة القطرية إنَّ الأمريكيين اعتقلوه وعذَّبوه في معتقل غوانتانامو ثماني سنوات، وعلى الأرجح أن هذا لم يكن من باب المصادفة فقد اتَّضح هنا من جديد أنَّ “الحرب الأمريكية على الإرهاب” عملت على تطرُّف العديد من الأشخاص في أفغانستان – وأنَّ الكثيرين منهم لم ينسوا هذه الحرب حتى يومنا هذا.

السماح للأمريكيين البيض فقط بالصعود إلى الطائرة؟

تتابعت الأحداث في كابول بوتيرة سريعة وتدفَّقت حشود الناس إلى المطار حيث كانت القوَّات الأمريكية منشغلة في إجلاء مواطنيها -ولم تنتهِ الفوضى في المطار حتى في الأيام التالية- وتعلق بعض الأشخاص بطائرة أمريكية أثناء إقلاعها وسقطوا موتى خلال محاولة هروبهم اليائسة، في حين كان جنود أمريكيون يطلقون النار في اتجاه حشد من الأفغان اليائسين.

بعد هذا الحادث قال الصحفي الهولندي الأفغاني والناشط في البودكاست سنگر پيكار: “قُتل أحد أقربائي وقد كان طبيبًا”، وكذلك ادَّعت الكاتبة والناشطة الأفغانية الأمريكية نادية هاشمي أنَّ الأمريكيين من أصل أفغاني تم منعهم جزئيًا من الصعود على متن الطائرة والسبب -بحسب تعبيرها- أنهم لم يكونوا من الأمريكيين البيض البشرة.

هذه المشاهد في كابول أظهرت بوضوح أكثر من أي وقت مضى أنَّ مهمة الغرب في أفغانستان باءت بالفشل. وها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال خطابه في خضم هذه الأحداث لم يتَفوَّهْ حتى ولو بكلمة واحدة حول الأفغان الذين قُتلوا في الحرب الأمريكية على الإرهاب في العقدين الماضيين، وبدلًا من ذلك اتسمت كلماته من جديد بإنكاره الواقع وبالجهل، وهو ما يدل على إنَّ الفائزين الحقيقيين في هذه الحرب ليسوا الجالسين في البيت الأبيض بل في كابول.

لم تكن حركة طالبان قوية بتاتًا إلى هذا الحد بقدرما صارت في هذا الوقت بعد استيلاء مقاتليها -خلال أيَّام وأسابيع فقط- على الكثير من الآليات والمعدَّات العسكرية الأمريكية العالية التقنية، وبعد سيطرة المتطرِّفين من جديد على كلِّ أفغانستان تقريبًا بغض النظر عن ولاية بَنْجْشِير شمال كابول المعروفة دائمًا بمقاومتها لطالبان، وهذا عدا قوَّة قادة حركة طالبان السياسية على الساحة الدولية التي عملوا على زيادتها خلال سنوات سابقة.

وباستيلاء طالبان على السلطة كان لابدّ من من تصحيح تحليلات وتوقُّعات كثيرة برزت في أيَّام سابقة لسيطرة طالبان ومنها مثلًا افتراض وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أنَّ بإمكان طالبان الاستيلاء على كابول خلال ثلاثين أو تسعين يومًا تالية ولكن في النهاية حدث كلُّ شيء خلال أربعٍ وعشرين ساعة، وحتى أنَّ الكلمات لم تسعف الكثيرين من المحللين الأمريكيين المعروفين في واشنطن فوقف بعضهم عاجزين عن الكلام في موضوع أحداث أفغانستان.

على سبيل المثال وصف المحلل الأمريكي بيل روغيو من مركز الأبحاث الفكرية الأمريكي اليميني المحافظ “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” تقدُّمَ طالبان الناجح كواحد من “أعظم الإخفاقات الاستخباراتية خلال العقود الأخيرة”، قائلًا إنَّ استراتيجية طالبان الحربية المُحَنَّكة “في غاية التألُّق”، فقد ركَّز المتطرِّفون في البداية على شمال البلاد قبل استيلائهم على مدن أخرى في جميع أنحاء أفغانستان.

كيف حدث ذلك؟

توجد أسباب عديدة لكلّ هذه الأحداث، فقد تم كبت الكثير من أسباب فشل الغرب وتم تجاهلها طيلة سنوات – ليس فقط لأنَّ الغربيين أرادوا حفظ ماء وجههم بل أيضًا لأنَّهم لا يزالون بعد كلِّ هذه السنوات يجهلون أفغانستان، فقد كانت جميع المحافظات -التي سقطت مراكزها قبل كابول- تخضع عمليًا لسيطرة طالبان منذ سنوات إثر ترسيخ مسلحي طالبان وجودهم هناك: فقد كانوا يعملون ويحكمون في الظلّ وتمكَّن المتطرِّفون في فترة مبكِّرة من الحصول على موطئ قدم لهم في هذه المناطق الريفية، وذلك لأسباب منها الفساد الهائل في العاصمة وكذلك العمليات العسكرية الكثيرة التي نفَّذها هناك حلفُ الناتو وحلفاؤه الأفغان.

فقد تسبَّبت هجمات الطائرات المسيَّرة من دون طيَّار والمداهمات الليلية الوحشية في سقوط الكثير من الضحايا المدنيين بانتظام في القرى الأفغانية، وهذا ما دفع الكثيرين من أهالي الضحايا إلى الانضمام إلى طالبان بطريقة أو بأخرى، وهذا ذاته كان الحال على أرض الواقع على أبواب كابول، وحتى قبل تطوُّرات سيطرة طالبان على كابول بفترة طويلة كان يكفي السفر بالسيارة مسيرة عشرين إلى ثلاثين دقيقة للوصول من العاصمة إلى مناطق طالبان.

غير أنَّ المسؤولين في حكومات الغرب كانوا لا يريدون مواجهة مثل هذه الحقائق وبدلًا من ذلك كانوا مشغولين بأكبر قدر من التملُّق الذاتي ومداهنة الذات متحدثين عن “قيمهم المُقْنِعة” ومركِّزين على إنجازات مفترضة تحقَّقت في أفغانستان منذ عام 2001، ومتحدثين عن ديمقراطية على الرغم من عدم حدوث أي انتقال ديمقراطي للسلطة في أفغانستان خلال العشرين سنة التي سبقت استعادة طالبان السيطرة على كابول.

ما من شكّ في أنَّ هذا لا ينطبق على الأفغان الذين خاطروا بحياتهم وذهبوا فعلًا إلى صناديق الاقتراع، بل ينطبق في المقام الأوَّل على تلك النُخب الفاسدة التي وصلت إلى السلطة في كابول عن طريق الولايات المتَّحدة الأمريكية، فقد استغل رجالٌ مثل حامد كرزاي أو الرئيس الهارب أشرف غني النظام الجديد وقوَّضوه من الداخل لأغراضهم الخاصة واستخدموا دائمًا تزوير الانتخابات من أجل البقاء في السلطة.

ومثلهم تصرَّفت أيضًا جهاتٌ فاعلة أخرى داخل أفغانستان ومن بينها مثلًا كثيرون من أمراء الحرب وأرباب تجارة المخدرات المعروفين، الذين أصبحوا من أقرب حلفاء الغرب في جبال الهندوكوش، مالئين للجيوب وجامعين للثروات من أموال المساعدات الخارجية الكبيرة وناقلين لمليارات الدولارات إلى خارج أفغانستان.

وهم في الوقت نفسه من أكبر المستفيدين من الحرب، مثلًا بفضل شركات أمن خاصة أنشأوها بأنفسهم لتفتعل هجمات وهمية على قوَّات الناتو وحصلوا على إثر ذلك على عقود مربحة من حلف الناتو نفسه من أجل التكفل بمواجهة خطر إرهابي مزعوم.

    Airport in #Kabul… Listen .. #kabulairport #Afghanistan pic.twitter.com/0hsDWNqOFS

    — Natalie Amiri (@NatalieAmiri) August 16, 2021

تطورات تنبئ بالفشل بات من الواضح -منذ نهاية عام 2019 على أبعد تقدير- أنَّ المسؤولين في واشنطن وغيرها يعرفون عنها كلَّ شيء. فقد نشرت في ذلك الوقت صحيفةُ واشنطن بوست ما يُعرف باسم “أوراق أفغانستان”، التي اعترف فيها إلى حدّ ما نحو أربعمائة من كبار المسؤولين الأمريكيين بفشلهم في أفغانستان، وقد ظلت تفاصيل ذلك محفوظة بسرية طيّ الكتمان طيلة سنوات.

ولكن لا أحد يريد في هذا الوقت الحديث حول ذلك أيضًا، بل يتم الاستناد على كل ما هو ظاهر فوق السطح والتأكيد على أنَّ حركة طالبان خرجت من العدم لتفاجئ أفغانستان والغرب، ويتم الادعاء بأنه قد تم بذل أقصى الجهود في أفغانستان بأعلى مراتب المعرفة والضمير وبأن هذه الجهود لم تثمر عن نجاح بسبب سوء الحظ.

وها هو الغرب -بعد عشرين عامًا من تدخُّل فاشل أودى بحياة مئات الآلاف من الأفغان وجعل الملايين منهم لاجئين ودفعهم إلى الفقر- لم يفقد فقط اهتمامه بأفغانستان بل أيضا أصبح الغرب لا يشعر بأية مسؤولية عن بلوى الأفغان وتعاستهم، بل يتم اختزال المأساة في توصيف ثقافوي يلقي باللوم على ثقافة الأفغان ويهوّن من مسؤولية الغرب بالقول: “هذه طبيعة الأفغان في الواقع، وهذا ليس ذنبنا نحن في الغرب”، توصيف أصبح يتردَّد صداه الصوتي بقوة خصوصًا إبان خروج قوات الناتو واستعادة طالبان السيطرة على أفغانستان.

عمران فيروز

ترجمة: رائد الباش / ع.م

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 —————————

أفغانستان.. مراحل تدخل وانسحاب أميركا/ فاطمة ياسين

في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1979 اجتازت القوات السوفييتية نهر أموداريا (جيحون)، ودخلت إلى أفغانستان لمحاولة تثبيت حكومة ماركسية موالية لها، ولكن سيطرة السوفييت لم تكن مستقرة وجوبهت بمقاومة عنيفة من قوات راديكالية مدعومة من السعودية والولايات المتحدة، وخرجت القوات السوفييتية بعد أن طرأ تغير مهم على عقيدتها الإيديولوجية بمجيء ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة، إلى جانب إنهاك متلاحق طال القوى السوفييتية التي لم تنجح بالسيطرة الكاملة على أفغانستان..

عاشت أفغانستان عدم استقرار ومزيدا من التدهور الأمني حتى اللحظة التي سيطرت فيها طالبان على العاصمة، وكان ظهور طالبان سريعا، وانتشارها في أفغانستان أكثر سرعة، حتى وصلت إلى كابول، وطبقت بعد ذلك نظاما متشددا، فرضَ عليها عزلة دولية ازدادت بعد تحالفها مع القاعدة، وهذه (القاعدة) مزيج من المقاتلين العرب الذين قدموا من مختلف الأقطار لمساندة الجماعات الإسلامية في أفغانستان بهدف مقاومة الوجود السوفييتي، ووجدت نفسها بعد الانتصار تتكتل ضمن فكر متشدد ومنفصل عن طالبان لكنهما يرتبطان بالأفكار ذاتها، استمر الوضع كذلك حتى يوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، اليوم الشهير الذي نفذت فيه القاعدة هجمات بالطائرات على مبانٍ مهمة في أميركا، وربما دون علم طالبان.

أعلنت أميركا بقيادة جورج بوش الابن حربا على أفغانستان أرادت بها استئصال التنظيم الذي تطاول على عظمتها السياسية والتجارية، وكان اجتياحا سريعا وحاسما بدأ في السابع من تشرين الأول عام 2001 وانتهى بسقوط قندهار معقل الحركة في السادس من كانون الأول من العام نفسه،  شكل هذان الشهران أول مرحلة من مراحل الوجود الأميركي في أفغانستان، بدأت أميركا بعدها مباشرة محاولة بناء جديد للدولة الأفغانية وتشكيل جيش وشرطة قادرين على إمساك الأمن والدفاع عن المؤسسات، واستمرت هذه المرحلة حتى نهاية عهد الرئيس بوش الذي قام بعملية سمّاها إعادة بناء الدولة وتأكيد هزيمة حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ثم سلم مفاتيح البيت الأبيض إلى خلفة باراك أوباما بعد ثماني سنوات شغلت أفغانستان فيها حيزا كبيرا من الاهتمام الأميركي.

كانت استراتيجية أوباما تقضي بزيادة القوات الأميركية في أفغانستان وصد هجمات طالبان المتزايدة ومحاولة دمج المتشددين بالمجتمع الجديد الذي تبنيه الولايات المتحدة وزيادة الاعتماد على الجيش والشرطة الأفغانية لمنع تمدد طالبان، ومحاولة وضع برنامج زمني للانسحاب المبرمج من البلاد وتسليم كل شيء للحكومة والقوات المحلية، ولكن هذه الاستراتيجية لم تنجح وفشلت القوات الأفغانية في التصدي لطالبان، وظهرت هشاشة النظام السياسي الذي وضعته أميركا وكان غارقا في الفساد، واستمر الوضع القلق عسكريا وغير المستقر اجتماعيا حتى العام 2014، حين أعلن أوباما انتهاء الحرب على أفغانستان رسميا، بعد أن سجلت رقما قياسيا من حيث إنها أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، ولكن ذلك التاريخ لم يعنِ شيئا فما ساد الفترة هو تقاعس الجيش والشرطة في مواجهة طالبان وفساد الحكومة المحلية، وتردد أميركي كبير فيما يجب أن تفعله للمرحلة التالية..

بعد إعلان انتهاء الحرب سحبت أميركا والناتو كثيرا من قواتهما وأبقتا على عدد كاف لدعم الحكومة والجيش المحليين، وأعطى هذا الانحسار مزيدا من الفرص لطالبان كي تتمدد وتفرض وجودها بشكل أوضح دون أن تتمكن من احتلال مناطق واسعة تهدد فيها الوجود الأميركي أو الحكومة التي ترعاها أميركا.. مجيء ترامب إلى السلطة وشعاره “أميركا أولا” عكس رغبته في الانسحاب، وقد أعرب عن ذلك أكثر من مرة ونقل السياسة الأميركية إلى نقطة جديدة بمحاولته الاتصال مع حركة طالبان ذاتها، وقد ذكر جون بولتون الذي شغل منصب مستشار ترامب للأمن القومي فترة قصيرة، بأنه حاول دعوة قادة طالبان إلى كامب ديفيد وتخلى عن الفكرة في نهاية المطاف، ولكنه ظل مؤمنا بجدوى محاورة طالبان.. رحل رئيس الفترة الواحدة الأميركي دون أن يتغير شيء في الجبهة الأفغانية، ووصل إلى البيت الأبيض جو بايدن الذي كان مؤيدا وبشدة لسحب كل القوات من أفغانستان، وعبر عن هذا الموقف منذ أن كان نائبا للرئيس أوباما، وها هو بالفعل ينهي فصلا أميركيا في أفغانستان تميز بمراحل بدأت واضحة الاستراتيجية حتى عام 2014، تلتها مرحلة عدم تعيين تنتهي اليوم بانسحاب سريع للقوات الأميركية، وفراغ ملأته طالبان خلال أيام يمكن أن يثير كثيرا من الأسئلة التي لن تجد لها جوابا..

تلفزيون سوريا

————————

السوريون والحدث الأفغاني/ عمر كوش

ألقى الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما تبعه من عودة سريعة لحركة طالبان وسيطرتها على مقاليد الحكم في كابول من جديد، ظلالاً كثيفة على مجمل الأوضاع والملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، وطُرحت تحليلات وتكهنات حول إمكانية تكرار الحدث الأفغاني في كل من العراق وسوريا في حال انسحاب مماثل للقوات الأميركية من كلا البلدين، وذهب بعض المتابعين والمحللين إلى وضع سيناريوهات لما سيحدث في المناطق التي ستسحب منها تلك القوات في سوريا، فيما ذهب آخرون إلى تخيّل إمكانية أن تسحب روسيا قواتها من سوريا أيضاً، نظراً لاعتبارات وحيثيات بدت لهم مشابهة.

وتابع سوريون كثر الحدث الأفغاني باهتمام كبير، وتفاعلوا مع مختلف تداعياته ومخرجاته، وأبدوا ردود فعل متباينة، بل ومتناقضة حيالها، حيث سارع بعضهم إلى التعبير عن شماتته بما اعتبرها هزيمة الولايات المتحدة الأميركية وإخفاق مشروعها الاحتلالي والتوسعي، ولم يخفِ آخرون فرحتهم بانتصار طالبان واعتبروه نصراً عالمياً، فيما وقف بعضهم الآخر مذهولاً أمام الانسحاب الأميركي المتسرع، الذي أفضى إلى انهيار كارثي لقوات الحكومة الأفغانية وجيشها وأجهزة أمنها، والتي أشرفت على تسليحها وتدريبها إدارات أميركية متعاقبة، وصرفت عليها مليارات الدولارات.

وليس مفاجئاً أن يحظى الحدث الأفغاني باهتمام السوريين بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم، سواء في الداخل السوري أم في بلدات الشتات والمهجر، ذلك أن بلادهم وأوضاعهم ليست بمنأى عن التأثر بما حدث في أفغانستان وبتداعياته وإرهاصاته، خاصة أن هناك تقاطعات كثيرة معه، حيث تقبع بلادهم تحت نفوذ وسيطرة احتلالات عديدة، فضلاً عن قوى الأمر الواقع التي تدين بسطوتها وسلطاتها لقوى الاحتلال، لذلك سارعت معظم هذه القوى إلى إصدار بيانات وإطلاق تصريحات تعبر عن مواقفها وانفعالاتها.

ولم ينتظر نظام الأسد طويلاً كي يعبر عن موقفه حيال الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بل سارعت وسائل إعلامه عن التعبير عن فرحتها بهزيمة الولايات المتحدة، وعن شماتتها بانهيار النظام الذي كانت تحميه، وراحت تتحدث عن الدرس الذي يجب أن يتعلمه “عملاء” الولايات المتحدة، وذلك تناغماً مع موقف نظام الأسد الذي عبّر عن نائب وزير الخارجية والمغتربين، بشار الجعفري، بالقول إن “ما فعله الأميركيون في أفغانستان فعلوه في أكثر من بلد، لذلك فإن ما جرى في أفغانستان هو درس لجميع شعوب المنطقة والعالم”، وبالتالي على جميع الأطراف “التي لا تزال تعوّل على الأميركي حتى الآن الاستفادة من الدرس”، وليس خافياً أنه يقصد الأطراف الكردية ممثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وقوات سوريا الديمقراطية وسواها. وفي ذات السياق ذهب وزير إعلام النظام الأسبق، مهدي دخل الله، إلى التبجح والحديث عن الدرس الوحيد المتمثل بتخلي الولايات المتحدة “عن عملائها بكل بساطة، من دون رحمة أو شفقة”، وبالتالي يجب على قوات سوريا الديمقراطية أن تتعلم الدرس لأن الدور سيأتي عليها، ولم يطرح مسؤولو نظام الأسد السؤال عما سيحلّ بهم وبنظامهم في حال انسحاب الروس والإيرانيين من سوريا.

ولا شك في أن الطرف المتضرر الأكبر من انسحاب القوات الأميركية من سوريا هو حزب الاتحاد الديمقراطي ومخرجاته العسكرية والمدنية المسيطرة على مناطق في الجزيرة السورية أو ما يسمى مناطق شرقي الفرات، لذلك سارعت قيادات عسكرية وسياسية في الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية إلى إرسال إشارات بأن ذلك سيفضي إلى عودة سريعة لتنظيم الدولة “داعش”، حيث عبّرت الرئيسة المشتركة لما يسمى مجلس سوريا الديمقراطية، إلهام أحمد، عن زيادة مخاوف القوى السياسية والعسكرية المسيطرة على مناطق في شرقي الفرات بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، في وقت كانت تأمل فيه الإدارة الذاتية في تلك المنطقة التوصل إلى توافقات مع نظام الأسد، وباتت تتخوف من أن أحداث أفغانستان ستدفعه إلى إدارة ظهره لها وتركها تواجه مصيرها.

وعلى الطرف الآخر، أشادت معظم الفصائل والتنظيمات الإسلامية بما اعتبرته انتصار حركة طالبان، حيث سارعت “هيئة تحرير الشام” إلى إرسال مباركتها لحركة طالبان، وإلى “أهلنا في أفغانستان على هذا الفتح المبين”، كما أن المجلس الإسلامي السوري أرسل تهنئة للشعب الأفغاني بطرد المحتل، وبارك انتصار الشعب الأفغاني ممثلاً بحركة طالبان على المستعمر وأعوانه. وبدورها لم تتأخر كثيراً حركة الإخوان المسلمين في سوريا في التعبير عن سعادتها وفرحتها من عودة طالبان بعد “عشرين عاماً من احتلال دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة”، لذلك يستحق الشعب الأفغاني التهنئة على هذه “النعمة”، وعلى “النصر الذي حققته طالبان”.

واللافت هو أن الحدث الأفغاني أثار مواقف متقاربة بين نظام الأسد ومعه محور الممانعة وتنظيمات وفصائل إسلامية عديدة، هللت لهزيمة الولايات المتحدة مع الشماتة بعملائها والمتعاونين معها. لكن الحديث عن انتصار طالبان بوصفه انتصاراً للشعب الأفغاني، بدا حديثاً واهياً ومخادعاً مع انتشار صور الخوف والهروب للأفغان، وتوجهم إلى مطار كابول ومشاهدة أجسادهم المكدسة داخل الطائرات، وانتشارهم فوق مدرّجات المطار، وتعلقهم بأجسام الطائرات المغادرة، وتمسك بعضهم بها حتى سقوطه من الجو. كل ذلك يجعل الحديث عن “الانتصار” و”فتوحات أهلنا في أفغانستان”، لا يستحق سوى السخرية المرّة.

ولا شك في أن مواقف عامة السوريين من الحدث الأفغاني كانت مدفوعة بالغضب من تعامل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من قضيتهم، إلا أن منطق الانتصار الإيديولوجي الإسلامي هو الذي ساد، إلى جانب مواقف مدفوعة بالعداء لسياسات الولايات المتحدة وبمشاعر الخذلان من عدم الوقوف إلى جانبهم ضد بطش نظام الأسد، ذلك أن بقاء هذا النظام بالرغم من جرائمه، مدعوماً من طرف روسيا والميليشيات الإيرانية، ولد شعوراً بإحباط عميق لدى عامة السوريين، وجعل مواقفه تتمزق بتمزق بلادهم التي تتقاذفها قوى احتلال متعددة.

تلفزيون سوريا

—————————–

أين تقف إيران حيال أفغانستان؟/ أسعد عبود

بعد أفغانستان والانسحاب الأميركي وعودة “طالبان” إلى السلطة بعد عشرين عاماً من إطاحتها بها عقب هجمات “القاعدة” في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على نيويورك وواشنطن، كيف يمكن إيران أن تقرأ التطورات المتسارعة في البلد المجاور، وما هي الإنعكاسات المحتملة على مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015.

أولاً، يتعين التذكير بأن العلاقة بين إيران و”طالبان” تتسم بالحذر، بسبب العداء الذي حكم هذه العلاقة في التسعينات من القرن الماضي، بسبب إضطهاد الحركة الأفغانية السلفية لأقلية الهزارة التي هي على المذهب الشيعي وتشكل نحو 20 في المئة من إجمالي سكان أفغانستان البالغ نحو 40 مليون نسمة. ومعلوم أنه بنتيجة الحروب الأهلية في العقد الأخير من القرن المنصرم، لجأ نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون أفغاني إلى إيران. وحادثة أخرى عكرت مجرى العلاقة بين “طالبان” وطهران، عندما اقتحم مقاتلون من الحركة القنصلية الإيرانية في مزار الشريف وقتلوا 11 شخصاً بينهم 9 ديبلوماسيين.

ولهذه الأسباب، لقيت إطاحة “طالبان” عام 2001  على يد القوات الأميركية ترحيباً إيرانياً ضمنياً على رغم العداء  الذي يحكم العلاقة الأميركية-الإيرانية. ويقال إن طهران سهلت بطريقة أو بأخرى الغزو الأميركي. بيد أن الموقف الإيراني بدأ بالتغير، منذ صنف الرئيس الأميركي سابقاً جورج دبليو بوش طهران ضمن “محور الشر”، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية.

ومع ذلك، حافظت العلاقة مع “طالبان” على توترها إلى أن بدأ الحديث عن إنسحاب أميركي نهائي من أفغانستان قبل أكثر من سنة. وسعت إيران التي كانت تربطها علاقات جيدة مع حكومة كابول إلى التوسط، بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد رحيل الأميركيين. وزار وفد من الحكومة الأفغانية و”طالبان” طهران قبل شهرين في سياق هذه المساعي.

ثانياً، أما وقد انهارت حكومة كابول وسيطرت “طالبان” على السلطة، فإن إيران التي رحبت بالإنسحاب الأميركي، تنظر الآن بحذر وترقب إلى ما يجري في أفغانستان وإلى الطريقة التي ستتعامل بها “طالبان” مع الهزارة ومع العرقيات الأخرى الناطقة بالفارسية، قبل أن تتخذ الخطوة التالية.

ثالثاً، وهذا المهم، كيف ستحاول إيران ورئيسها الجديد إبراهيم رئيسي الاستفادة من الإنسحاب الأميركي، في وقت تواجه المفاوضات النووية في فيينا طريقاً مسدوداً.

هل يقرأ رئيسي الإنسحاب الأميركي، كنقطة ضعف وتالياً يتشدد أكثر في المفاوضات ويرفض تقديم تنازلات أمام المطالبة الأميركية بجعل اتفاق 2015، منطلقاً لاتفاق أشمل وأوسع يتضمن البحث في البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي لإيران؟

وهل يتمسك رئيسي بالنسخة الأصلية لخطة العمل الشاملة المشتركة مقابل رفع كامل العقوبات الأميركية؟ وإلى أين يمكن أن يقود رفض واشنطن المطلب الإيراني، في وقت يهيمن التوتر على الشرق الأوسط وسط احتمالات أن تتطور “حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية إلى مواجهة علنية؟

ويتصاعد منسوب التوتر مع تسخين الحدود بين لبنان وإسرائيل واعتزام “حزب الله” استيراد النفط الإيراني لتعويض النقص الحاصل في الوقود في لبنان. بينما إسرائيل تواصل استهداف مواقع لفصائل موالية لإيران في سوريا.

وإذا أضفنا إلى ذلك تحذيرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء 60 في المئة يقربها من المستوى اللازم لصنع قنبلة نووية.

في خضم الغليان السائد في الشرق الاوسط، أتت تطورات أفغانستان غير البعيدة من القضايا الأخرى في المنطقة. ويبقى السؤال في مصلحة من ستصب هذه التطورات، وكيف ستعمل واشنطن وطهران على استثمار الحدث الأفغاني؟

النهار العربي

————————-

أفغانستان: الانسحاب الأحمق!/ علي حمادة

بهذه الكلمات القاسية وصف رئيس الوزارء البريطاني الأسبق طوني بلير طريقة الانسحاب الأميركية التي قررها الرئيس جو بايدن، فضلا عن ادارته بنتائجها الكارثية. أهمية كلام بلير تنبع من كونه كان يشغل منصب رئيس الوزراء في العام 2001 عندما قررت الولايات المتحدة القيام بحملة عسكرية على أفغانستان التي كانت ترزح تحت سيطرة  حركة “طالبان ” ردا على هجمات نيويورك و واشنطن (9-11) التي نفذها تنظيم “القاعدة” بقيادة أسامة بن لادن الذي كان يتخذ من أفغانستان مقرا له بحماية   “طالبان”. يومها كانت بريطانيا اول المنضمين الى تحالف دولي قادته اميركا، و اتخذت حكومة بلير القرار من دون تردد بوصف بريطانيا الحليف الأقوى والأقرب للولايات المتحدة.

في هجومه القاسي يوم السبت الماضي الذي أصاب الرئيس الأميركي جو بايدن بشكل غير مباشر عبر بيان مسهب، كان طوني بلير يتقاطع مع حملة انتقادات واسعة وجهت الى الرئيس وادارته، بسبب القرار غير المدروس، وقلة التخطيط، وسوء ادارة الانسحاب   وعمليات الإنقاذ الحالية. و قد حملت الانتقادات التي خرجت من العديد من مواقع القرار في دول حليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا، المانيا وفرنسا تشكيكاً كبيراً في صدقية الولايات المتحدة كحليف يمكن الوثوق به في الازمات. طوني بلير لم يكن الوحيد الذي قال كلاما قاسيا، بل نقل حسب صحيفة “التايمس” اللندنية عن رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون استعادته لوصف استخدمه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لمهاجمة خلفه بايدن خلال حملة الانتخابات الرئاسية حيث اطلق عليه  تسمية “جو المتثائب” او “جو النعسان”. و قد حفل الاعلام الغربي بشكل عام بمشاعر الغضب مما حصل ويحصل في كابول، و طريقة إدارة الرئيس جو بايدن السيئة لقرار يتفق المراقبون على انه يحظى بحسب استطلاعات الرأي بتأييد غالبية الاميركيين، لكن قلة الكفاءة التي ظهرت من خلال إدارة الانسحاب التنفيذية حولت الأنظار عن هذا التأييد.

فالاميركيون ايدوا الانسحاب وإنهاء آخر الحروب و اطولها في تاريخ الولايات المتحدة، لكنهم لا يمكنهم القبول بما يحصل، لا سيما الفوضى العارمة التي خلفها سوء التدبير من قبل الرئيس بايدن، وبقاء آلاف الاميركيين و المتعاونين الأفغان عالقين في كابول، حيث لا يمكنهم الوصول الى مطار حميد كارزاي الدولي لتتم عملية الاجلاء . هذا ناهيك عن مئات آخرين منتشرين في مناطق عدة عبر أفغانستان لا إمكانية لديهم حتى في الوصول الى كابول نفسها، و هم في خطر كبير .

لقد شكلت مشاهد الهلع الجماعي، و الهروب الفوضوي من كابول الى المطار الدولي، إضافة الى مشاهد تعلق مواطنين أفغان بعجلات الطائرات العسكرية الأميركية و هي تقلع مناسبة لكي يجمع الاعلام في العالم الغربي، و حتى الأميركي على ان الرئيس جو بايدن أخفق إخفاقاً كبيرا مع ادارته في قيادة استحقاق بهذه الخطورة . كما انه القت بظلالها على النظرة الى كفاءة الرئيس نفسه، الذي بدا وكأن الاحداث تجاوزته. وللتذكير فإن احدى نقاط القوة التي اعتمد عليها المرشح جو بايدن في حملته ضد دونالد ترامب، كانت صورته كمرشح كفوء، صاحب خبرة طويلة في السياسة الخارجية، و يملك حس التعاطف مع القضايا الإنسانية. هذه الصورة تضررت كثيراً ، كونه غلّب توقه لانهاء الحرب   والخروج من أفغانستان على واجبه في حسن التخطيط و التنفيذ، و الانتباه الكافي الى سلامة المواطنين الاميركيين، وانقاذ الأفغان الذين عملوا مع القوات الأميركية على مدى عقدين من الزمن، وحياتهم في خطر مؤكد بعد سيطرة حركة “طالبان ” .

ليس البريطانيون وحدهم من ينتقدون إدارة الرئيس بايدن، بل ان مسوؤلين كباراً من محيط المستشارة انغيلا ميركل، مثل رئيس “الحزب الديموقراطي المسيحي” الذي تنتمي اليه و المرشح لخلافتها بعد اقل من شهر آرمين لاشيت، يصف ما حصل بـ”اكبر كارثة تحل بحلف “الناتو” منذ ولادته” . و في وقت يتحاشى القادة الغربيون توجيه انتقادات مباشرة للرئيس الأميركي وإدارته، ثمة انتقادات قاسية تخرج عن محيط هؤلاء القادة بحق بايدن و ادارته، كلها تتمحور حول مدى صدقية التحالف مع الاميركيين، وكفاءة الرئيس و ادارته لقرار الانسحاب و تنفيذه على الأرض، فضلا عن غياب التشاور  والتنسيق مع الحلفاء الذين انخرطوا في حرب اميركا في أفغانستان .

في الولايات المتحدة لم يحصل أن تعرض بايدن لحملة تشكيك بكفاءته، و حسن ادارته لقرار استراتيجي كبير كما يحصل اليوم . فالاعلام الأميركي بفروعه كافة من قنوات تلفزة و صحف كبرى و الذي اسهم قبل بضعة اشهر في انتصار بايدن على ترامب حافل بإنتقادات واسعة لبايدن و الإدارة، بل ان الانتقادات بدأت تتضمن و لو عرضاً  تشكيكا بقدرات الرئيس و كفاءته كرئيس للدولة الأقوى في العالم. و قد كانت اطلالة الرئيس بايدن الإعلامية الأخيرة يوم الجمعة مناسبة انهالت فيها انتقادات، بعضها كما جاء في مقال كتبته الصحافية ليندا كيو في “النيويورك تايمس” يوم السبت فند مغالطات جوهرية جاءت في كلام بايدن خلال اطلالته يوم الجمعة، و يستنتج منها انه اما انه حاول حرف الحقائق، او انه لم يتابع بجدية التقارير التي رفعتها مختلف الوكالات الأميركية التابعة للإدارة، فعكس صورة ضعيفة و غير متماسكة لـ”القائد الأعلى” .

صحيح أن الرئيس الأميركي اتخذ قراراً يحظى بشعبية في الداخل الأميركي . وصحيح ان محيط الرئيس يعتمد على مرور الوقت وتلاشي اخبار أفغانستان ومشاهدها من وسائل الاعلام، لكي ينتقل الاميركيون الى موضوع آخر، لكن الخوف في ظل الفوضى الحاصلة على الأرض في أفغانستان ان تطول الأمور اكثر، أو تطرأ مفاجأة دراماتيكية، مثل ان يسقط ضحايا اميركيون، او ان يتم احتجاز أو اختطاف البعض منهم فيتحول القرار الصائب الذي نفذ بقلة كفاءة و فوضوية، وضعف الى مقتل لولاية الرئيس بعد اقل من تسعة اشهر على وصوله الى البيت الأبيض. و التاريخ يذكر ما حصل مع الرئيس الأسبق جيمي كارتر في قضية احتجاز رهائن السفارة الأميركية في طهران سنة 1979  . ويقول وزير الدفاع الأسبق ليون بانيتا الذي خدم خلال ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما وجو بايدن   (نائب الرئيس ) ان الرئاسة التي تخسر صورة الإدارة الكفوءة تصبح في خطر كبير . فهل يتمكن الرئيس بايدن من الإفلات من فخ الانسحاب من أفغانستان؟ المسألة غير مضمونة على الاطلاق .

النهار العربي

—————————–

أسباب خسارة الأميركيين في أفغانستان/ آدم نوسيتر

كانت الساعة الثامنة صباحاً، وقد وقف الرقيب الأفغاني الناعس عند ما أسماه الخط الأمامي، قبل شهر من سقوط مدينة قندوز بيد حركة «طالبان». وكان هناك اتفاق غير معلن يحمي الجانبين. لن يكون هناك إطلاق للنار.

كانت هذه طبيعة الحرب الغريبة التي خاضها الأفغان مع حركة «طالبان»، وخسروها.

يقول الرئيس جو بايدن ومستشاروه إن الانهيار الكامل للجيش الأفغاني أثبت عدم جدواه، زاعمين براءة الولايات المتحدة من جرائر الانسحاب. ولكن الانزواء غير العادي للحكومة والجيش في أفغانستان، والانتقال السياسي من دون إراقة الدماء في أغلب الأماكن حتى الآن، يشير إلى شيء أكثر أهمية.

إن الحرب التي ظن الأميركيون أنهم يخوضونها ضد «طالبان» لم تكن الحرب التي يخوضها حلفاؤهم الأفغان. وهذا ما جعل حرب الولايات المتحدة هناك، على غرار العديد من المغامرات الاستعمارية الجديدة، محكوما عليها بالفشل منذ البداية على أرجح الآراء.

أثبت التاريخ الحديث أنه من الحماقة للقوى الغربية أن تخوض الحروب في أراضي الشعوب الأخرى، رغم المغريات. وحركات التمرد المحلية، وإن كانت تبدو أنها لا تتفوق على خصمها من حيث الحجم، والأموال، والتقنيات، والأسلحة، والقوة الجوية، وما إلى ذلك، غالباً ما تكون أفضل تحفيزاً وأقوى دافعاً من خصمها، ولديها تدفق مستمر من المجندين الجدد، وكثيراً ما تحصل على المؤن والإمدادات عبر الحدود.

وفي أفغانستان لم تكن اللعبة هي الخير في مواجهة الشر كما يراها الأميركيون، بل كان الأمر أشبه بصراع الجار ضد جاره.

عندما يتعلق الأمر بحرب العصابات، وصف الزعيم الشيوعي السابق ماوتسي تونغ العلاقة التي لا بد أن تكون قائمة بين الشعب والقوات، فكتب قائلاً: «يمكن تشبيه الأول بالماء، ووصف الثاني بالسمك الذي يسكنه».

وعندما يتعلق الأمر بأفغانستان، كان الأميركيون السمكة من دون ماء. تماماً كما كان الروس في الثمانينات. وكما كان الأميركيون أنفسهم في فيتنام في ستينات القرن العشرين. وكما كان الفرنسيون في الجزائر في خمسينات القرن ذاته. والبرتغاليون خلال محاولاتهم العقيمة الحفاظ على مستعمراتهم الأفريقية في الستينات والسبعينات. والإسرائيليون خلال احتلالهم الجنوب اللبناني في ثمانينات القرن الماضي.

وفي كل مرة كانت القوة المتدخلة عسكرياً في كل هذه المواضع تعلن أن التمرد الناشئ في الداخل قد تعرض للضرب المبرح أو انقلب رأساً على عقب، في حين أن الجمر المشتعل دائماً ما كان يؤدي إلى اندلاع حروب جديدة.

اعتقد الأميركيون أنهم تمكنوا من هزيمة «طالبان» بحلول نهاية عام 2001. ولم تعد حركتهم مبعثاً للقلق. غير أن النتيجة كانت في واقع الأمر أكثر غموضاً.

كتب العميد ستانلي ماكريستال يقول: «لقد انزوى معظمهم، ولم نكن متأكدين إلى أين ذهبوا»، على النحو الذي اقتبسه المؤرخ كارتر مالكاسيان في كتاب جديد بعنوان «الحرب الأميركية في أفغانستان».

في الواقع، لم تتعرض «طالبان» للضرب المبرح أبداً. وهناك العديد ممن قتلوا على يد الأميركيين، ولكن البقية تلاشت ببساطة إلى الجبال والقرى أو عبر الحدود إلى باكستان، التي نجحت في إنقاذ الحركة منذ نشأتها.

وبحلول عام 2006، أعادت الحركة ترتيب الصفوف بما يكفي لشن هجوم كبير. وانتهت الرواية بالمهانة الأميركية الكئيبة والتي تكشفت أماراتها على مدى الأسبوع الماضي – تكريس الخسارة العسكرية الأميركية.

منذ عشرين عاماً – في الوقت الذي تورط الأميركيون في مستنقع أفغانستان إلى حد مهلك – كتب باتريك شابال مؤرخ المغامرات البرتغالية الفاشلة في أفريقيا، يقول: «على الأمد البعيد، سوف تضيع كل الحروب الاستعمارية بلا طائل».

كان تشابك القوى العظمى المستمر منذ عقدين من الزمان وهزيمتها الأخيرة أكثر إثارة للدهشة، حيث كانت الولايات المتحدة في العقود السابقة على الألفية مفعمة بالحديث عن «دروس» فيتنام المفترضة.

صرح السيناتور مايك مانسفيلد، زعيم الأغلبية السابق في مجلس الشيوخ في أواخر سبعينات القرن الماضي قائلاً في مقابلة إذاعية عن حرب فيتنام: «كان الثمن 55 ألف قتيل، و303 آلاف جريح، و150 بليون دولار. لم يكن ذلك ضرورياً، بل لم يكن مطلوباً بالأساس، لم تكن حرباً مرتبطة بأمننا أو بمصالحنا الحيوية. لقد كانت مغامرة سيئة في جزء من العالم كان ينبغي أن تبقى أنوفنا بعيدة عنه».

قبل فترة طويلة، مع بداية «المغامرة الفاشلة» في عام 1961، كان الرئيس كيندي قد جرى تحذيره من مستنقع فيتنام من قبل سلطة لا تقل عن شارل ديغول. وفي وقت لاحق تذكر الرئيس ديغول حديثه للرئيس كيندي قائلاً: «أتوقع أن تنزلق خطوة بخطوة إلى مستنقع عسكري وسياسي لا قاع له، مهما أنفقت من أموال أو بعثت من رجال».

ولقد تجاهله الرئيس الأميركي تماماً. ولقد حذر ديغول الرئيس كيندي بعبارات ترمز إلى كارثة فيتنام وخيبة الأمل في أفغانستان: «حتى لو وجدت الزعماء المحليين الذين هم على استعداد لطاعتك تحقيقاً لمصالحهم الخاصة، فإن الناس لن يوافقوا على ذلك، ولا يريدونك حقاً».

وبحلول عام 1968، كان الجنرالات الأميركيون يزعمون أن الفيتناميين الشماليين تعرضوا «للجلد»، على حد تعبير أحدهم. وكانت المشكلة أن الخصم رفض الاعتراف بهزيمته وواصل القتال، كما لاحظ محللا السياسة الخارجية جيمس تشاس وديفيد فرومكين في منتصف ثمانينات القرن الماضي. ومن ناحية أخرى، كان حليف الأميركيين في فيتنام الجنوبية فاسداً ولم يكن يتمتع بتأييد شعبي يذكر.

إن نفس الثالوث غير المقدس للحقائق لم يتغير – «الجنرالات المتبجحون، العدو غير الراكع، الحليف الضعيف» – ويمكن ملاحظته على طول مسار انخراط الولايات المتحدة في حرب أفغانستان.

كان حرياً بالرئيس كيندي الاستماع إلى نصيحة ديغول. لم يكن الرئيس الفرنسي، على عكس نظرائه الأميركيين آنذاك ثم لاحقاً، يثق في آراء الجنرالات، ولم يكن ليصغي إلى مداهناتهم، رغم أنه البطل العسكري الأول في فرنسا.

كان في ذلك الوقت يخرج بفرنسا من حرب استعمارية وحشية دامت ثماني سنوات في الجزائر، ضد الرغبات الشديدة لكبار الضباط والمستوطنين الأوروبيين الذين أرادوا استمرار الحكم الاستعماري الذي دام أكثر من قرن من الزمان. ولقد زعم جنرالاته، بحق، أن المقاومة الجزائرية الداخلية قد تحطمت إلى حد كبير. غير أن ديغول كان يتمتع بالحكمة الكافية لإدراك أن المعركة لم تنته بعد.

كان المحتشدون على حدود الجزائر هم من أطلق عليهم المتمردون «جيش الحدود»، ثم لاحقاً «جيش التحرير الوطني»، الذي أصبح اليوم «الجيش الشعبي الوطني»، الذي لا يزال العنصر صاحب الهيمنة في الحياة السياسية الجزائرية.

يقول بنجامين ستورا، المؤرخ البارز في العلاقات الفرنسية الجزائرية: «ما دفع ديغول إلى القيام بذلك هو أنهم كان لا يزال لديهم جيش على الحدود. وعليه، فقد تجمد الموقف عسكرياً. وكان منطق ديغول: إننا إذا حافظنا على الوضع الراهن فإننا نخسر الكثير. فقرر سحب الفرنسيين من السباق في قرار لا يزال يؤلمهم».

كان زعيم «جبهة التحرير الوطني»، الذي أصبح فيما بعد أهم زعيم جزائري بعد الاستقلال، هواري بومدين، قد جسد توترات الثورة الجزائرية – وهي التوترات الغالبة – التي ستكون مألوفة لدى مراقبي «طالبان»: الدين والقومية. ولقد انقلب الإسلاميون ضده في وقت لاحق بسبب الاشتراكية. غير أن الحشود الجماعية الشعبية الحزينة التي خيمت على جنازة بومدين عام 1978 كانت حقيقية.

لقد نبعت سيطرة بومدين على الشعب من واقع أصوله المتواضعة وصلابته ضد المحتل الفرنسي المكروه. وتساعد هذه العناصر في تفسير تغلغل «طالبان» السلس تقريباً عبر جل الأراضي الأفغانية خلال الأسابيع والأشهر التي سبقت النصر النهائي الذي تحقق الأسبوع الماضي.

فقد تصورت الولايات المتحدة أنها تساعد الأفغان على محاربة آفة الشر الكريهة، ألا وهي حركة «طالبان»، المرشح البارز للإرهاب الدولي. كانت هذه هي الرؤية الأميركية.

بيد أن كثيراً من الأفغان لم يكونوا يخوضون تلك الحرب. ينتمي أفراد «طالبان» إلى مدنهم وقراهم. وربما تغيرت أفغانستان، لا سيما في مراكزها الحضرية، عبر أكثر من 20 عاماً من الاحتلال الأميركي. غير أن القوانين التي روجت لها «طالبان» – السياسات القمعية تجاه المرأة – لم تكن مختلفة تماماً، ولم تختلف على الإطلاق عن العادات السائدة في العديد من هذه القرى الريفية، لا سيما في جنوب البشتون.

ولقد ذكر تقرير صادر عن منظمة هيومان رايتس ووتش في العام الماضي بكل صراحة: «هناك مقاومة لتعليم الفتيات في العديد من المجتمعات الريفية الأفغانية. ومن النادر رؤية النساء من دون البرقع خارج عواصم المحافظات، حتى في أقاليم الشمال».

وهذا هو السبب في أن حركة «طالبان» ما فتئت تفرض العدالة فرضاً منذ سنوات، ربما بوحشية في كثير من الأحيان، في المناطق الخاضعة لسيطرتها، برضا – بل وقبول – من السكان المحليين. فالنزاعات على الملكية وقضايا الجرائم الصغيرة يتم الفصل فيها على وجه السرعة، أحياناً من قبل علماء الدين -وهذه المحاكم تحظى بسمعة أنها «غير قابلة للفساد» عند المقارنة مع النظام الفاسد للحكومة السابقة، كما قالت هيومن رايتس ووتش.

إنه نظام يركز على العقاب، الذي غالباً ما يكون قاسيا. ورغم احتجاج «طالبان» خلال الأسبوع الماضي بالعفو عن الذين خدموا في الإدارة الأفغانية المنحلة، إلا أنهم لم يظهروا أي شيء من هذا التسامح في الماضي. وقد أشاع نظام السجون السرية، التي تؤوي أعداداً كبيرة من الجنود والموظفين الحكوميين، الخوف بين السكان المحليين في كافة أنحاء أفغانستان.

وتردد أن زعيم «طالبان»، الملا عبد الغني برادار، قد لقي ترحيباً كبيراً إثر عودته الأسبوع الماضي إلى مدينة قندهار الجنوبية، مسقط رأس «طالبان». ولا بد أن يشكل هذا عنصراً آخر من عناصر التفكير في القوة العظمى التي شعرت منذ عشرين عاماً بأنها لم تجد أمامها أي خيار غير الرد العسكري على جرائم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

بالنسبة لمالكاسيان، المؤرخ الذي كان مستشاراً سابقا للقائد الأعلى للقوات الأميركية في أفغانستان، هناك درس من التجربة، لكن ليس بالضرورة أن الولايات المتحدة كان يجب أن تبقى بعيدة. وقال في مقابلة: «إذا تحتم عليك الذهاب، فلا بد من الإدراك أنه لا يمكنك النجاح تماماً. ولا تفكر أنك سوف تحل المشكلة أو تصلح الأحوال».

* خدمة «نيويورك تايمز»

الشرق الأوسط

—————————

ليس في وسعي سوى أن أغضب، وأنا أنظر في عيون النساء الأفغانيات/ ماريا عباس

كنت مولعة بقراءة الكتب التي تتحدث عن ثقافات متنوعة من مختلف أنحاء العالم، وما تسرده من مرويات عن الحياة، والحب، والنساء، تلك الحكايات التي تشدنا إليها، بأحداثها الواقعية والفانتازية، وهي تفرد أشرعة الخيال، فنصبح أكثر قرباً إليها، وأكثر تحليقاً معها. كنت أقرأ بشغف عن تفاصيل حياة النساء، الصغيرة منها قبل الكبيرة، لأن تلك التفاصيل مرآة تعكس مشهد الحياة في أي مكان.

أتذكر أني قرأت عن الأفغانيات اللواتي يعشن صنوف العنف والقهر والحرمان كلها، ويرزحن تحت حكم تشريعات يسنها مجتمع مغموس بالقيم الذكورية، والسلطة الأبوية المطلقة، لتدعمها الجهات كلها، التي حكمت وتتحكم بالبلاد تناوباً. ها هن يستنجدن الآن عبر شاشات التواصل الاجتماعية: “صلّوا من أجل نساء أفغانستان”.

كانت أفغانستان واحدة من تلك البلدان التي جذبني إليها الكاتب الأفغاني الأصل خالد الحسيني، عبر رواياته التي قرأتها، ومن بينها “ألف شمس مشرقة”، و”ورددت الجبال الصدى”، وغيرها. حاول الحسيني، في هذه الروايات، أن يشعل قناديلَ ليقرأ العالم عن ظلمات بلاده، التي صُنفت كأسوأ البلدان في العالم، خاصةً بالنسبة إلى الفتيات، حسب الأمم المتحدة، التي تتتبّع شكل الحياة، وصنوف العنف في بلدان الخراب، عبر الأرقام والتقارير. نعم، حينها يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في قائمة. يقول الأفغاني خالد الحسيني في روايته “عداء الطائرة الورقية”: “مخطئون في ما قالوه عن الماضي، لقد تعلمتُ كيف أدفنه، إلا أنه دائماً يجد طريق عودته”. لم ترد هذه العبارة سهواً، بهدف الجذب، وبث الدهشة في نفوس القراء. بل إنه تنبؤ حكيم بمستقبل بلاده، يكاد يكون استنساخاً من تاريخ مندثر يأبى إلا أن ينبعث من جديد.

لا تكاد أفغانستان ترى بصيصاً من النور، لتسقط مجدداً في نفق مظلم. ما يحدث مؤخراً هناك، هو لعنة أيديولوجيا تلاحق الحياة المنهكة تماماً، وعقود طويلة من النزاعات، والتبعية، والجهل، والتخلف، والقمع، وشروط كافية لتكون بيئة يستبد فيها هؤلاء. وها هي تيسر لطالبان الطريق، وتقدم لها الولاء، وتمنحها مفاتيح الحكم على طبق من ذهب.

قد يتسائل البعض لماذا هذا الاهتمام كله في وسائل التواصل الاجتماعية، والقنوات التلفزيونية، بما يحدث في أفغانستان، بعد أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها العسكرية من كابول، فهناك لبنان، وهناك سوريا، وهناك كوارث طبيعية؟ لأنها أفغانستان التي انطلقت منها شراراة التفجيرات الكبرى التي تبناها تنظيم القاعدة، والتي غيرت مسارات كثيرة في العالم، حين نالت تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، من شموخ الأبراج الشاهقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعظمتها، فأردتها رماداً، وتحولت إلى تاريخ فاصل. عشرون سنة مضت، وها هي طالبان تعود منتصرةً، وتُفتح لها أبواب القصر الرئاسي، وتعلو رايتها التي أثارت الرعب والهلع في نفوس الناس عامة، والنساء خاصة،

مثيرةً مخاوف الدول العظمى والمجاورة والبعيدة والقريبة، وقلقها، لما يمكن أن يحدث. هل تتخيلون المأساة التي ستحدث؟ أنا شخصياً لا حدود لمخيلتي عن الفظاعة المحتملة. ابتُليت الأفغانيات بانتمائهن إلى تلك البقعة من العالم التي ترزح تحت لواء الجماعات الأصولية المتشددة الإسلامية، كالقاعدة، وطالبان الذي فرض قوانين القمع والإذلال الممنهجة على النساء أولاً. الحرمان من التعليم، وفرض الحجاب والبرقع، حوّلاهن إلى أشكال مستنسخة، يرتدين الزي ذاته في تنقلاتهن، بفتحة لا تكاد تروي حاجتهن إلى نورٍ يرشدهن إلى طريق أوله وآخره جهنم التي استبدت بهم على أيدي الحركات الإرهابية. ليس من السهل علينا أن نتخيل صنوف العنف التي تتعرض له الأفغانيات. هناك من تُقتل، ويمارَس عليها الحدّ، بالرجم حتى الموت، والجلد أمام الناس، أو الحرق كشجرة يابسة، أو الذبح كنعجة، أو ربما يصل بهم الأمر، من التوحش، إلى قطع الأنوف. ولن يتردد الأب، أو الأخ، أو الزوج، في أن يكسر لها ساقاً أو ذراعاً، وقد يكون الضرب المبرح من صغائر الممارسات.

قرأت مرة عن نوع غريب من الممارسات اللا إنسانية في أفغانستان، وهي عادة قديمة تسمى بلغتهم “الباشا بوش”؛ انتهاك صارخ للأنوثة، يفرضها الأهل على بناتهم الصغيرات ليعشن حياة الفتيان. فتيات كثيرات يولدن إناثاً، لكنهن يعشن حياتهن بسرية، ويمارسن أدواراً جندرية مخالفة للحقيقة، ويعشن على أنهن فتية يرتدون زيهم، ويحلقون شعرهم، ويلعبون ألعاباً هي حكر على الفتيان، حتى لا يتعرضن للاغتصاب، أو وصمة عدم إنجاب الذكور، على الرغم من أن الاغتصاب يطال الفتيان أيضاً.

مريم، وعزيزة، وباري، وباروانا، ومعصومة، أسماء لشخصيات في روايات، كتبَ عن مصائرهن المؤلمة خالد الحسيني، تحاكي الحياة المعقدة في أفغانستان. وبقدوم طالبان، ستلقى الصغيرات حتفهن مجدداً. زواج القاصرات في الانتظار، وتعدد الزوجات. لا مدارس لتعليم الإناث، ولا خروج من دون محرم، ولا لعب، ولا ترفيه، ولا ضحك، ولا حديث بصوت عال، ولا ألوان، ولا ملابس جميلة، ولا مساحيق للتجميل، ولا مساحة خاصة سوى كيس الثوب الذي اختاروه ليستروا ما يسمونه عورات النساء، ليبدو البرقع المتحرك كأنه سجن يسير على الأقدام.

وكنت قرأت عن أفغانستان أيضاً، في كتاب قيّم عن حركات التحرر في آسيا، أو كما أسمته الكاتبة كوماري جاياواردينا، “النسوية والقومية في العالم الثالث”، الصادر بالعربية عن دار الرحبة للنشر والتوزيع. وقد جاء في القسم المخصص في الدراسة عن أفغانستان، أن الموقع الجغرافي لأفغانستان الواقعة على تقاطع الطرق بين آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والهند، جعل منها ساحة ملغومة بالنزاعات القبلية، وعرضة للاستعمار، ولاستبداد الحركات الأصولية المتشددة، على مدى قرون متتالية. أصبح الإسلام هو الدين السائد في أفغانستان منذ القرن العاشر الميلادي، ولم تستطع طبيعة المجتمع القبلية إلا أن تكون عائقاً أمام إثبات هويتها القومية، ودافعاً لاستغلالها من قبل كل من حاول استعمارها، من خلال استمالة القبائل، وتحريضها للاقتتال في ما بينها. حين احتلها الأتراك، وعاثوا فيها فساداً، ومن بعدهم الفرس، ولم يكونوا أفضل من غيرهم، ثم البريطانيون والروس، وحتى حين دخلت القوات الأمريكية، بقي الحال على حاله، بتحسنات خجولة، وبتراجع عشرات السنين إلى الوراء، وركل كل تطور، بقدم من حديد.

رصيف 22

—————————

التغيير في خطاب طالبان… نحو أي مستقبل سيقود البلاد؟/ عبد الهادي حريبة

قبل عشرين عاماً، دخلت الولايات المتحدة أفغانستان، لتطيح بنظام بنته حركة طالبان التي أوت في حينه تنظيم القاعدة، وقائدها أسامة بن لادن، رافضة تسليمه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، التزاماً منها بقاعدة الولاء والبراء. ليس مقنعاً ما قاله الآن الرئيس الأمريكي جو بايدن، من أن بلاده لم تسعَ إلى بناء نظام جديد على أنقاض طالبان، بل الصحيح أنها أنفقت مليارات الدولارات لهذه المهمة التي باءت بالفشل.

عقدان من الزمان مرّا، على وقع خسائر بشرية واقتصادية مهولة، واضطرت واشنطن إلى الجلوس على مائدة التفاوض مع عدوها. وما إن أعلنت خطة انسحابها، حتى انسحب تابعوها، وتلقت طالبان الإشارة، فقضمت مدن البلاد، مدينة وراء مدينة، ووصلت إلى القصر الرئاسي في كابول، وجاءها “نصر الله والفتح”، كما قرأ أحد مسلحيها أمام العدسات.

هل انتصرت الولايات المتحدة أم هُزمت؟ هل ما حدث هزيمة أم انسحاب؟ هل قويت طالبان أم ضعفت؟ الحد الأدنى الذي لا خلاف عليه لهذه الأسئلة كلها، هو أن الحركة لم تُهزم، حتى بعد عشرين عاماً من الحرب المتواصلة عليها. تلك هي الحقيقة. هل يُحسب للحركة أنها حررت وطنها من المحتل؟ لكن شواهد التاريخ تُشير إلى أن الكثير من حركات التحرر الوطني، تحولت لاحقاً إلى جماعات استبداد وطني، فجرى استبدال محتل خارجي بمستبد داخلي. ذلك هو التاريخ.

فهل هذا ما سيكون عليه الطالبانيون الجدد؟ كل إجابة على هذا السؤال ستبدو عجلى. العجلة ذاتها التي قضمت بها الحركة مدن البلاد. فالنصر في المعارك لا يعني النصر في السياسة، وحرب الأعداء ليست معادلةً لقيادة البلاد، والمحارب الجيد ليس السياسي الجيد بالضرورة. فبين الحرب والسياسة، ما بين القصر الرئاسي في كابول، والكهوف في تورا بورا.

ذلك وحده ما يفسر الهروب الكبير لمن استطاع إليه سبيلاً، عبر مطار كابول، حين انطلق آلاف الأفغان اليائسون من المستقبل، فرادى وجماعات، راغبين في الخلاص، ولو كانوا معلقين في الهواء على أجنحة الطائرات. مُريح للنفس القول إن هؤلاء الفارين بجلودهم جميعاً، عبر مطار كابول، متعاونون مع الاحتلال، ويسعون للإفلات من العقاب المحتمل. قول مريح، لكنه نصف الحقيقة، فالمؤكد أن بين هؤلاء مواطنين كثر خائفون ويائسون، ولا يريدون البقاء تحت حكم ذاقوا مرارته منذ تسعينيات القرن الماضي، وما زالت تجربته في أذهانهم حاضرة، لذا رفضوا الاستجارة من الرمضاء بالنار.

أمام هذا الواقع، وفي الاتجاه المعاكس، بثت الحركة بعضاً من رسائل الطمأنة، كأنها تقول إن عشرين عاماً قد فعلت فعلها، في عقولها، وإن أولوياتها وتوجهاتها وأفكارها ونهجها، الذي حكمت به البلاد في سنوات حكمها الأولى بين العام 1996 و2001، قد نضجت، والزمن -كما يُقال- جزء من العلاج.

بتفاؤل بدا متسرعاً، استقبل متابعون ما أبدته الحركة من رسائل إيجابية في أيامها الأولى، من قبيل “السماح” للمرأة بالتعليم والعمل، شريطة ارتداء الحجاب -لاحظ هنا كلمة السماح وليس الحق- كما تعهدت الحركة بحماية الصحافيين ووسائل الإعلام، وقالت إنها اعتمدت التسامح مقابل الانتقام، والشراكة مقابل الانفراد، فضلاً عن طمأنة المجتمع الدولي بألا تكون أراضي البلاد، مجدداً، محطة استهداف لغيرها.

ثلاثة اعتبارات يجب وضعها في الحسبان أمام هذا التفاؤل، إن أردنا تقييماً واقعياً لمآلات الحركة، فكرياً، بعد عقدين من الزمن. تقييم يميل إلى التشاؤم، ولا يغلق باب التفاؤل، ويميل إلى قراءة التاريخ، ولا يتجاهله، ويسعى إلى الموضوعية لا الانحياز.

الأول: يجب النظر لما صدر ويصدر عن الحركة في هذا التوقيت كله، كونه تصريحات ما بعد الانتصار، وفترة الانتقال. وفترات الانتقال ليست صالحة لاختبار مقولات أصحابها، بل فترات التمكين هي التي يجري فيها الاختبار. ففي الانتقال ينصبّ الاهتمام على سبل الوصول، وما بعد الوصول، إما لك، وإما عليك.

ثانياً: المراقب لما صدر من الحركة، سيدرك أنها أعلنت أن نظام الحكم المرتقب سيكون إسلامياً لا ديمقراطياً، وأن ما صدر عن متحدثيها بشأن المرأة، ووسائل الإعلام، وحرية المعارضة، سيلحظ حرص المتكلمين على ربط ذلك كله بما تُقرّه الشريعة الإسلامية من أحكام. وتلك هي المشكلة التي تجعل مما صدر كله قابلاً للتراجع. إذ إن اعتماد الشريعة مقياساً يعني، عملياً، اعتماد الرأي الذي تميل الحركة إليه، وترتاح له، وهي التي أغلقت المدارس، والحياة، في وجوه النساء من قبل، عملاً بقول الله تعالى” وقرن في بيوتكن”، فسحبت النص الديني إلى غير مبتغاه. وحين نحتكم إلى أحكام النص الديني، فسنكون أمام جملة واسعة من الأحكام، تبدأ من أقصى اليمين، وتنتهي في أقصى اليسار.

ثالثاً: على الرغم مما يُعرف عن كون الحركة حنفية المذهب، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، والمشهور بكونه إمام أهل الرأي، الذي يعارض مذهب أهل النقل، فإننا نجد إرثاً كبيراً مما صدر من الحركة في تسعينيات القرن الماضي، في شأن فهمها للشريعة، يجعلهم أقرب إلى فهم بسيط سطحي بدائي للنص. ولأن طبيعة أي مجتمع تصبغ الظاهرة الدينية بصبغتها، يصبح السؤال الصعب هو: إلى أي مدى قد تتنصل الحركة مما تفهمه قواعدها الشعبية في مجتمع قبلي مثل مجتمعها، بعدّه شأناً دينياً مقدساً، لا شأناً اجتماعياً بشرياً غير مقدس. والراجح أن ما لدى الحركة من إرث فكري في الماضي، قديم، وليس للاجتهاد فيه نصيب. قال لي صحافي زار الحركة في الماضي، ولست أدرس صحة ما قال: “إن أقدم كتاب فقهي تعتمده طالبان يعود تاريخه إلى 300 سنة خلت”، وذلك يعني أن أي تغيير في فكر الحركة يستتبع سؤالاً عما أدخلته هي على أفكارها، وآرائها الفقهية، غير الذي اعتمدته تراثاً لها.

في خطاب الحركة تغيير مثير للدهشة بلا شك، لكن ما هي حدوده، وأين منتهاه؟ ذلك هو السؤال. ووفق ما ستكون عليه الإجابة، سيكون مستقبل الحركة، ومستقبل البلد الذي تسلمته.

رصيف 22

————————–


بين فشل أميركا وفشل أفغانستان وفشلنا!/ حازم صاغية
لو كنت ممانعاً لواجهني الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان بمعضلتين:
الأولى تأخذ شكل الحيرة: من جهة، سيكون مُغرياً لي الحديث عن هزيمة أميركيّة مطنطنة تكرّر الهزيمة الفيتناميّة أواسط السبعينيّات. سيكون مغرياً أن أقول: «خرجت أميركا تجرجر أذيال الهزيمة»، أو «تمّ تمريغ رأس الإمبراطوريّة في الوحل»… عبارات تملأ الرأس وينتفخ لها الصدر!
من جهة أخرى، سيكون مُغرياً بالقدر نفسه أن أؤكّد أنّ أميركا افتعلت هذه الهزيمة كي تُضرّ بإيران والصين وروسيا. المُغري هنا توكيدُ صورتها «الشيطانيّة» بوصفها مصنعاً للمآكد والشرور.
الممانع النمطيّ لم تأخذه الحيرة. حلَّ المعضلة بأن روى «التحليلين» المتضاربين معاً: أميركا انهزمت لأنّها ضعيفة، وأميركا هزمت نفسها لأنّها شرّيرة.
المعضلة الثانية أنّ من يهزم أميركا يُفترض به أن يكون، وفق التصانيف الجاهزة، «حركة تحرّر وطنيّ». «طالبان» هي ما يصعب على يساريّ أو ماركسيّ أو قوميّ يصف نفسه بالعلمانيّة أن ينعتها بهذا النعت. ما العمل إذاً؟ نمتدح الهزيمة التي أُنزلت بأميركا وننسبها إلى «الشعوب» الغامضة، فيما نحيط بالكتمان الطرف المحدّد الذي أنزلها بها. يُترك للإسلاميّ الراديكاليّ، السنّيّ لا الشيعيّ، أن يحتكر قول العبارة كاملةً: المجد لهزيمة أميركا على يد طالبان.
هذا، على أيّ حال، ليس موضوعنا. فشل أميركا، بجميع التباساته وتعقيداته، وبتضارب تأويلاته واحتمالاته المستقبليّة، سيكون مادّة تعيش عليها طويلاً الجغرافيا السياسيّة وتستهلكها التحليلات الاستراتيجيّة. هذا بالطبع لا يقلّل بتاتاً من ضخامة الحدث الأفغانيّ أميركيّاً ودوليّاً، إلاّ أنّه يطرح علينا عنواناً أشدّ إلحاحاً، أو أقلّه، أشدّ مباشرةً. إنّه أفغانستان الطالبانيّة.
فعلى رغم ما يقال اليوم عن «مراجعاتها» و«تحوّلاتها»، وما يقوله قادة طالبان عن «تغيّرهم»، فإنّ السجلّ المعروف لا يحمل على الثقة بمستقبل أفغانيّ في ظلّ طالبان. الكثير الكثير ينبغي فعله قبل الاطمئنان إلى أمور ستّة على الأقلّ:

  • أنّ ذاك البلد لن يُزجّ في مهبّ الفوضى الأهليّة والدمويّة ما بين إثنيّاته، وربّما داخل إثنيّاته نفسها. ما يُنقل عن وادي بنجشير يعزّز هذا التقدير.
  • وأنّ علاقات أفغانستان مع جيرانها لن تكون بالغة التوتّر، وستكون منزّهةً عن الحروب التي تكمّل وتؤجّج النزاعات الأهليّة.
  • وأنّ أوضاع النساء والفتيات فيها لن تتردّى، وأشكال العقاب لن يُعمَل بها مجدّداً.
  • وأنّ النظام الذي سيقوم، إذا تمّ تجنّب الحرب الأهليّة، لن يكون (كما كان حتّى 2001) سجناً كبيراً لعموم الأفغان.
    – وأنّ النازحين واللاجئين الذين هم اليوم سُدس مجموع السكّان لن تتزايد أعدادهم ولن يشكّلوا سبباً آخر لتسعير العنف والحروب في الداخل ومع الخارج. آلاف الذين يتدافعون اليوم، محاولين الهجرة أو الفرار، إيحاء مبكر بذلك.
  • وأنّ صورة الإسلام في العالم، والأهمّ ما ينجم عن ذلك في ما خصّ أوضاع المسلمين في الغرب، لن يصبحا أسوأ حالاً، بفضل طالبان، وأنّ رايات «صراع الحضارات» لن تزداد ارتفاعاً وخفقاً، ومعها نظريّات «الاستثناء الإسلاميّ»، فضلاً عن «الاستثناء العربيّ».
    هذا كلّه من دون، وربّما من قبل، أن تنبعث من أفغانستان «طليعة» أخرى كـ«القاعدة» وترتكب ما سبق أن ارتُكب في نيويورك وواشنطن. هذا قد لا يحدث حرصاً من النظام على بقائه وعدم تكرار إطاحته، كما في 2001، لكنّه أيضاً قد يحدث، بسبب الطبيعة الآيديولوجيّة لطالبان، وربّما المنافسات بين جماعات وأجنحة إسلاميّة مزايدة في تشدّدها.
    ندع ذلك جانباً لنلاحظ ما يصعب أن لا يُلاحَظ. فرغم «التطمينات»، وهي على الأغلب ما يتطلّبه الاستقرار في السلطة، ترتسم بعض القضايا التي أثارها الانتصار الطالبانيّ الأخير ممّا يعنينا كعرب على نحو مباشر:
    أوّلاً، تعلن عودة طالبان إلى كابُل أنّ الأمل بأفغانستان، وحتّى إشعار آخر، أمل ضعيف وضئيل، ويعلن الاحتفال العربيّ بتلك العودة أنّ البؤر الأفغانيّة في مجتمعاتنا ليست قليلة أو ضعيفة. نردّ ذلك إلى القهر والفقر والإحباط إلخ… هذا صحيح، لكنّ النتيجة الكارثيّة واحدة.
    ثانياً، ترسم تلك العودة احتمال انسداد كبير: لا التغيير ممكن من الخارج، وعبر مشاريع «بناء الأمم» و«إقامة الديمقراطيّات»، وليس ممكناً أيضاً من الداخل، وأفغانستان تكثيف وربّما مستقبل لسواها. لقد هُزمت ثورات قامت في سبيل الحرّيّة، ووحدها طالبان انتصرت!
    ثالثاً، طالبان ليست ضدّ «الاستعمار الغربيّ» أو «الإمبرياليّة الغربيّة». إنّها ضدّ الغرب. ضدّ حرّية النساء. ضدّ الدواء. ضدّ التعليم. ضدّ التنوير… العداء لها ليس موقفاً سياسيّاً، إنّه موقف حياتيّ وإنسانيّ. حيال ذلك، لا يعود الرأي بأميركا وسياستها سوى حاشية وتفصيل.
    رابعاً، تعود طالبان إلى كابُل فيما «داعش» ومثيلاتها لم تُهزم. والحال أنّه في ظلّ أنظمة كنظام بشّار الأسد، وفي ظلّ سطوة الميليشيات الشيعيّة في العراق، والتجبّر العونيّ – «الحزب الهيّ» في لبنان، قد تدغدغ طالبان شعوراً سنّيّاً بإحباط عميق. ودوماً للإحباط، بغضّ النظر عن شرعيّة أسبابه أو عدم شرعيّتها، بطن خصب. فلنتذكّر التفاعل الشعبيّ مع الثورة الخمينيّة في 1979 أو مع غزو صدّام حسين للكويت في 1990…
    هذا كلّه يقول كم أنّ فشل أفغانستان، وإلى حدّ بعيد فشلنا، مسألة وجوديّة صلبة وعميقة. فحين لا يُعنى الممانعون إلاّ بفشل أميركا، يكونون، في الحدّ الأدنى، يحتقرون منطقتنا كلّها، وبالأخصّ 38 مليون أفغانيّ. أمّا احتقار النفس فأمر مُسلّم به.
    الشرق الأوسط

كابوس أمريكي جديد.. كيف تشابهت حربا فيتنام وأفغانستان؟/ عبدالرحمن النجار
قال سريدار كريشناسوامي في مقال على موقع «ذا فيديرال»: إن الرئيس جوزيف بايدن أكد أن جميع القوات المتبقية في أفغانستان ستعود إلى الوطن بحلول الذكرى السنوية العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية على البرجين التوأمين في نيويورك، مما يضع حدًا لأطول حرب خارجية شاركت فيها الولايات المتحدة، ثم تأتي حرب فيتنام في المرتبة الثانية مع استمرارها 18 عامًا وتسعة أشهر.
كانت التكاليف البشرية والمالية للمغامرتين «الكارثيتين» هائلة: إذ قُتل ما يقرب من 59 ألف جندي أمريكي في فيتنام. وفي أفغانستان قُتل ما يقرب من 2500 جندي، وجُرح حوالي 20 ألفًا آخرون. من حيث القيمة بالدولار الأمريكي في عام 2019، كلفت الحربان دافعي الضرائب الأمريكيين أكثر من تريليون دولار لكل منهما؛ مع بعض التقديرات المستقلة التي تحدد الرقم الخاص بمغامرة أفغانستان وحدها بالقرب من تريليوني دولار.
أضاف كريشناسوامي أن عدد القوات الأمريكية في ذروة حرب فيتنام عام 1968 بلغ حوالي نصف مليون جندي في البلد الواقع جنوبي شرق آسيا. وفي ذروة الحرب الأفغانية بين عامي 2010 و2012، كان هناك 100 ألف جندي مع إنفاق واشنطن ما يقدر بنحو 100 مليار دولار أمريكي سنويًا. لا يمكن رؤية حربي فيتنام وأفغانستان بالأرقام الرسمية فقط، وهذا أيضًا من منظور أمريكي. ففي فترة ما بالثمانينات والتسعينات عندما كانت واشنطن تركز على معرفة مصير 2400 جندي مفقود في الحرب، كانت القيادة الفيتنامية تنظر بألم إلى مئات الآلاف من مدنييها الذين لم يجرِ حسابهم في الحرب؛ فقد استمرت الأعمال العدائية وحدها لمدة عقد تقريبًا بين عامي 1964-1965.
في أفغانستان يُقال إنه منذ عام 2014 فقد حوالي 45 ألفًا من قوات الأمن المحلية حياتهم، مع رقم آخر يقدر عدد الضحايا بين 30 و40 كل يوم. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنه منذ عام 2009 لقي حوالي 100 ألف مدني أو أكثر مصرعهم. يجب النظر إلى الخسارة الأمريكية في أفغانستان – البشرية والنقدية – في سياق ما فعله الحلفاء مثل الناتو من خلال تقاسم العبء. وأيضًا كم أنفقت واشنطن على بلد مثل باكستان جرى استخدامه كقناة للإمدادات.
ذكريات كابوس فيتنام تطل برأسها
هناك الكثير من أوجه الشبه بين فيتنام وأفغانستان. ومع ذلك – يستدرك كريشناسوامي – فإن الاختلافات أكثر وضوحًا – شهدت الحرب في فيتنام خمسة رؤساء: هاري ترومان، ودوايت أيشنهاور، وجون إف كينيدي، وليندون جونسون، وريتشارد نيكسون، في حين شهد الصراع في أفغانستان أربعة رؤساء: فترتان لكل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما؛ أما دونالد ترامب، والآن بايدن، فيبدو أنهما بصدد وضع حد كامل للفوضى. لكن بايدن والمشرعين والبنتاجون يعرفون جيدًا أن الكلمة الأخيرة بشأن الانسحاب الكامل لا يمكن قولها بشكل نهائي؛ نظرًا لأنه ما تزال هناك خمسة أشهر حتى مغادرة آخر جندي أمريكي على الأرض.
راح ترامب يصرخ مؤكدًا على إعادة الأولاد إلى الوطن من جميع الحروب الخارجية؛ تمامًا كما أراد الرئيس أوباما إغلاق سجن خليج جوانتانامو الذي كان يؤوي «إرهابيين» منذ 11 سبتمبر في بداية رئاسته. ومع ذلك جرى إغلاق هذا المرفق مؤخرًا فقط، أو هكذا يقولون. إن النوايا والوقائع على الأرض لا تتوافق في أحيان كثيرة.
لطالما هاجم المحافظون في الولايات المتحدة الرئيس هاري ترومان (1945-1953)؛ لأنه «خسر» الحرب في كوريا من خلال اعتماده بلا داع على الأمم المتحدة كطريقة لإيجاد مخرج من المأزق. ومنذ ذلك الحين – يؤكد كريشناسوامي – سرعان ما أصبحت فكرة «الخسارة» جزءًا لا يتجزأ من السياسة الداخلية الأمريكية. أظهرت أوراق البنتاجون – حوالي 7 آلاف صفحة وتحليل في 47 مجلدًا مختومًا بـ«سري للغاية» – دليلًا وافرًا على أن الرؤساء كذبوا على الناس لسبب بسيط هو أنهم لا يريدون أن يذكرهم التاريخ على أنهم الشخص الذي «خسر» فيتنام.
وعلى الرغم من كل مخاوفه بشأن الحادث الذي وقع في خليج تونكين عندما تعرضت المدمرتان «يو إس إس مادوكس» و«يو إس إس تيرنر جوي» لهجوم من قبل زوارق دورية فيتنامية شمالية، حصل الرئيس ليندون جونسون على تفويض مطلق من الكونجرس لشن حرب شاملة عبر خليج تونكين. كل ذلك مع التأكيد على أنه إذا سقطت فيتنام الجنوبية في أيدي الشيوعيين، ستتبعها منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
كانت مشكلة القيادة السياسية في واشنطن العاصمة هي أنهم لم يفهموا أو يقدروا تمامًا حقيقة هو تشي مينه – يضيف كريشناسوامي – بأنه كان في البداية قوميًا أراد إعادة توحيد بلاده، وبعد ذلك فقط يمكن النظر إليه كشيوعي. أدى عدم وضوح التمييز بين القومية والشيوعية إلى دفع هو تشي مينه إلى التقارب مع الاتحاد السوفيتي والصين. وكانت حرب نيكسون السرية في كمبوديا والتفجيرات الهائلة في مسار هو تشي مينه تحت تأثير فكرة مضللة مفادها أنه يمكن إخضاع الفيتناميين وإجبارهم على الدخول في محادثات سلام.
في خضم كل الجدل في الولايات المتحدة حول «خسارة» كوريا أو فيتنام، فاتنا جانب واحد مهم: متى «سيطرت» الولايات المتحدة على كوريا أو فيتنام كي تخسرهما؟ يتساءل كريشناسوامي. عندما تعرض الفرنسيون للإذلال في معركة ديان بيان فو عام 1954، حزموا حقائبهم؛ وبدا أن الرئيس شارل ديجول قد أخبر القيادة بواشنطن في أكثر من مناسبة أنه لا يمكن السيطرة على فيتنام الشمالية.
الفرنسيون أدركوا الحقيقة مبكرًا
يتذكر الجنرال ديجول في مذكراته أنه قال للرئيس كينيدي: «ستكتشف أن التدخل في هذه المنطقة سيكون بمثابة فخ لا مخرج منه. فبمجرد أن تنهض أمة لا يمكن لأية قوة أجنبية، مهما كانت قوية، أن تفرض إرادتها عليها». لكن كل النصائح الحكيمة لم تلق آذانًا صاغية. في الواقع قال الرئيس جونسون بقدر من الغطرسة لوسائل الإعلام بعد الضربات الجوية الأمريكية الأولى ضد فيتنام الشمالية في 5 أغسطس (آب) 1964: «لم أقم فقط بضرب هوشي منه، لقد قطعت أنفه».
هناك فرق شاسع بين فيتنام وأفغانستان. لم تكن الأيديولوجيا الهدف الأساسي عندما وطأت أقدام الجنود الأمريكيين أفغانستان بحثًا عن أسامة بن لادن والقاعدة، والأهم من ذلك طالبان التي تؤويهم. في نهاية المطاف قتل عدو غير مرئي 3 آلاف أمريكي في ضربة واحدة في الحادي عشر من سبتمبر، وهو أمر يختلف تمامًا عن حرب فيتنام. كانت أفغانستان من نواحٍ عديدة بداية الحرب على الإرهاب التي قادت إدارة بوش إلى بدء مغامرة خاطئة في العراق، وهو الثمن الذي ما زالت واشنطن تدفعه.
في الواقع يسأل الكثيرون إدارة بايدن عما إذا كان بإمكان الجنود الأمريكيين فقط حزم حقائبهم والعودة إلى الوطن، تاركين وراءهم آلاف الأفغان الذين أصبحوا مرتبطين بطريقة أو بأخرى بالحرب وإعادة الإعمار بعد ذلك. إن ذكريات تحليق طائرات الهليكوبتر من أعلى سطح البعثة الأمريكية في سايجون عام 1975 مع محاولات الناس التشبث بها ما زالت حية تمامًا حين كان الجنود الفيتناميون الشماليون يطرقون أبواب مدينة تعيش في هلع.
هل لدى إدارة بايدن الاستعداد لمنح اللجوء للأفغان مثلما فعلت إدارتا نيكسون وفورد مع شعب فيتنام الجنوبية؟ سوف تطفو كل هذه الأسئلة قريبًا، خاصة في وقت يتخبط فيه الديمقراطيون والجمهوريون للحصول على إجابات بشأن أزمة الهجرة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست»


بين فشل أميركا وفشل أفغانستان وفشلنا!/ حازم صاغية
لو كنت ممانعاً لواجهني الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان بمعضلتين:
الأولى تأخذ شكل الحيرة: من جهة، سيكون مُغرياً لي الحديث عن هزيمة أميركيّة مطنطنة تكرّر الهزيمة الفيتناميّة أواسط السبعينيّات. سيكون مغرياً أن أقول: «خرجت أميركا تجرجر أذيال الهزيمة»، أو «تمّ تمريغ رأس الإمبراطوريّة في الوحل»… عبارات تملأ الرأس وينتفخ لها الصدر!
من جهة أخرى، سيكون مُغرياً بالقدر نفسه أن أؤكّد أنّ أميركا افتعلت هذه الهزيمة كي تُضرّ بإيران والصين وروسيا. المُغري هنا توكيدُ صورتها «الشيطانيّة» بوصفها مصنعاً للمآكد والشرور.
الممانع النمطيّ لم تأخذه الحيرة. حلَّ المعضلة بأن روى «التحليلين» المتضاربين معاً: أميركا انهزمت لأنّها ضعيفة، وأميركا هزمت نفسها لأنّها شرّيرة.
المعضلة الثانية أنّ من يهزم أميركا يُفترض به أن يكون، وفق التصانيف الجاهزة، «حركة تحرّر وطنيّ». «طالبان» هي ما يصعب على يساريّ أو ماركسيّ أو قوميّ يصف نفسه بالعلمانيّة أن ينعتها بهذا النعت. ما العمل إذاً؟ نمتدح الهزيمة التي أُنزلت بأميركا وننسبها إلى «الشعوب» الغامضة، فيما نحيط بالكتمان الطرف المحدّد الذي أنزلها بها. يُترك للإسلاميّ الراديكاليّ، السنّيّ لا الشيعيّ، أن يحتكر قول العبارة كاملةً: المجد لهزيمة أميركا على يد طالبان.
هذا، على أيّ حال، ليس موضوعنا. فشل أميركا، بجميع التباساته وتعقيداته، وبتضارب تأويلاته واحتمالاته المستقبليّة، سيكون مادّة تعيش عليها طويلاً الجغرافيا السياسيّة وتستهلكها التحليلات الاستراتيجيّة. هذا بالطبع لا يقلّل بتاتاً من ضخامة الحدث الأفغانيّ أميركيّاً ودوليّاً، إلاّ أنّه يطرح علينا عنواناً أشدّ إلحاحاً، أو أقلّه، أشدّ مباشرةً. إنّه أفغانستان الطالبانيّة.
فعلى رغم ما يقال اليوم عن «مراجعاتها» و«تحوّلاتها»، وما يقوله قادة طالبان عن «تغيّرهم»، فإنّ السجلّ المعروف لا يحمل على الثقة بمستقبل أفغانيّ في ظلّ طالبان. الكثير الكثير ينبغي فعله قبل الاطمئنان إلى أمور ستّة على الأقلّ:

  • أنّ ذاك البلد لن يُزجّ في مهبّ الفوضى الأهليّة والدمويّة ما بين إثنيّاته، وربّما داخل إثنيّاته نفسها. ما يُنقل عن وادي بنجشير يعزّز هذا التقدير.
  • وأنّ علاقات أفغانستان مع جيرانها لن تكون بالغة التوتّر، وستكون منزّهةً عن الحروب التي تكمّل وتؤجّج النزاعات الأهليّة.
  • وأنّ أوضاع النساء والفتيات فيها لن تتردّى، وأشكال العقاب لن يُعمَل بها مجدّداً.
  • وأنّ النظام الذي سيقوم، إذا تمّ تجنّب الحرب الأهليّة، لن يكون (كما كان حتّى 2001) سجناً كبيراً لعموم الأفغان.
    – وأنّ النازحين واللاجئين الذين هم اليوم سُدس مجموع السكّان لن تتزايد أعدادهم ولن يشكّلوا سبباً آخر لتسعير العنف والحروب في الداخل ومع الخارج. آلاف الذين يتدافعون اليوم، محاولين الهجرة أو الفرار، إيحاء مبكر بذلك.
  • وأنّ صورة الإسلام في العالم، والأهمّ ما ينجم عن ذلك في ما خصّ أوضاع المسلمين في الغرب، لن يصبحا أسوأ حالاً، بفضل طالبان، وأنّ رايات «صراع الحضارات» لن تزداد ارتفاعاً وخفقاً، ومعها نظريّات «الاستثناء الإسلاميّ»، فضلاً عن «الاستثناء العربيّ».
    هذا كلّه من دون، وربّما من قبل، أن تنبعث من أفغانستان «طليعة» أخرى كـ«القاعدة» وترتكب ما سبق أن ارتُكب في نيويورك وواشنطن. هذا قد لا يحدث حرصاً من النظام على بقائه وعدم تكرار إطاحته، كما في 2001، لكنّه أيضاً قد يحدث، بسبب الطبيعة الآيديولوجيّة لطالبان، وربّما المنافسات بين جماعات وأجنحة إسلاميّة مزايدة في تشدّدها.
    ندع ذلك جانباً لنلاحظ ما يصعب أن لا يُلاحَظ. فرغم «التطمينات»، وهي على الأغلب ما يتطلّبه الاستقرار في السلطة، ترتسم بعض القضايا التي أثارها الانتصار الطالبانيّ الأخير ممّا يعنينا كعرب على نحو مباشر:
    أوّلاً، تعلن عودة طالبان إلى كابُل أنّ الأمل بأفغانستان، وحتّى إشعار آخر، أمل ضعيف وضئيل، ويعلن الاحتفال العربيّ بتلك العودة أنّ البؤر الأفغانيّة في مجتمعاتنا ليست قليلة أو ضعيفة. نردّ ذلك إلى القهر والفقر والإحباط إلخ… هذا صحيح، لكنّ النتيجة الكارثيّة واحدة.
    ثانياً، ترسم تلك العودة احتمال انسداد كبير: لا التغيير ممكن من الخارج، وعبر مشاريع «بناء الأمم» و«إقامة الديمقراطيّات»، وليس ممكناً أيضاً من الداخل، وأفغانستان تكثيف وربّما مستقبل لسواها. لقد هُزمت ثورات قامت في سبيل الحرّيّة، ووحدها طالبان انتصرت!
    ثالثاً، طالبان ليست ضدّ «الاستعمار الغربيّ» أو «الإمبرياليّة الغربيّة». إنّها ضدّ الغرب. ضدّ حرّية النساء. ضدّ الدواء. ضدّ التعليم. ضدّ التنوير… العداء لها ليس موقفاً سياسيّاً، إنّه موقف حياتيّ وإنسانيّ. حيال ذلك، لا يعود الرأي بأميركا وسياستها سوى حاشية وتفصيل.
    رابعاً، تعود طالبان إلى كابُل فيما «داعش» ومثيلاتها لم تُهزم. والحال أنّه في ظلّ أنظمة كنظام بشّار الأسد، وفي ظلّ سطوة الميليشيات الشيعيّة في العراق، والتجبّر العونيّ – «الحزب الهيّ» في لبنان، قد تدغدغ طالبان شعوراً سنّيّاً بإحباط عميق. ودوماً للإحباط، بغضّ النظر عن شرعيّة أسبابه أو عدم شرعيّتها، بطن خصب. فلنتذكّر التفاعل الشعبيّ مع الثورة الخمينيّة في 1979 أو مع غزو صدّام حسين للكويت في 1990…
    هذا كلّه يقول كم أنّ فشل أفغانستان، وإلى حدّ بعيد فشلنا، مسألة وجوديّة صلبة وعميقة. فحين لا يُعنى الممانعون إلاّ بفشل أميركا، يكونون، في الحدّ الأدنى، يحتقرون منطقتنا كلّها، وبالأخصّ 38 مليون أفغانيّ. أمّا احتقار النفس فأمر مُسلّم به.
    الشرق الأوسط

كابوس أمريكي جديد.. كيف تشابهت حربا فيتنام وأفغانستان؟/ عبدالرحمن النجار
قال سريدار كريشناسوامي في مقال على موقع «ذا فيديرال»: إن الرئيس جوزيف بايدن أكد أن جميع القوات المتبقية في أفغانستان ستعود إلى الوطن بحلول الذكرى السنوية العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية على البرجين التوأمين في نيويورك، مما يضع حدًا لأطول حرب خارجية شاركت فيها الولايات المتحدة، ثم تأتي حرب فيتنام في المرتبة الثانية مع استمرارها 18 عامًا وتسعة أشهر.
كانت التكاليف البشرية والمالية للمغامرتين «الكارثيتين» هائلة: إذ قُتل ما يقرب من 59 ألف جندي أمريكي في فيتنام. وفي أفغانستان قُتل ما يقرب من 2500 جندي، وجُرح حوالي 20 ألفًا آخرون. من حيث القيمة بالدولار الأمريكي في عام 2019، كلفت الحربان دافعي الضرائب الأمريكيين أكثر من تريليون دولار لكل منهما؛ مع بعض التقديرات المستقلة التي تحدد الرقم الخاص بمغامرة أفغانستان وحدها بالقرب من تريليوني دولار.
أضاف كريشناسوامي أن عدد القوات الأمريكية في ذروة حرب فيتنام عام 1968 بلغ حوالي نصف مليون جندي في البلد الواقع جنوبي شرق آسيا. وفي ذروة الحرب الأفغانية بين عامي 2010 و2012، كان هناك 100 ألف جندي مع إنفاق واشنطن ما يقدر بنحو 100 مليار دولار أمريكي سنويًا. لا يمكن رؤية حربي فيتنام وأفغانستان بالأرقام الرسمية فقط، وهذا أيضًا من منظور أمريكي. ففي فترة ما بالثمانينات والتسعينات عندما كانت واشنطن تركز على معرفة مصير 2400 جندي مفقود في الحرب، كانت القيادة الفيتنامية تنظر بألم إلى مئات الآلاف من مدنييها الذين لم يجرِ حسابهم في الحرب؛ فقد استمرت الأعمال العدائية وحدها لمدة عقد تقريبًا بين عامي 1964-1965.
في أفغانستان يُقال إنه منذ عام 2014 فقد حوالي 45 ألفًا من قوات الأمن المحلية حياتهم، مع رقم آخر يقدر عدد الضحايا بين 30 و40 كل يوم. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنه منذ عام 2009 لقي حوالي 100 ألف مدني أو أكثر مصرعهم. يجب النظر إلى الخسارة الأمريكية في أفغانستان – البشرية والنقدية – في سياق ما فعله الحلفاء مثل الناتو من خلال تقاسم العبء. وأيضًا كم أنفقت واشنطن على بلد مثل باكستان جرى استخدامه كقناة للإمدادات.
ذكريات كابوس فيتنام تطل برأسها
هناك الكثير من أوجه الشبه بين فيتنام وأفغانستان. ومع ذلك – يستدرك كريشناسوامي – فإن الاختلافات أكثر وضوحًا – شهدت الحرب في فيتنام خمسة رؤساء: هاري ترومان، ودوايت أيشنهاور، وجون إف كينيدي، وليندون جونسون، وريتشارد نيكسون، في حين شهد الصراع في أفغانستان أربعة رؤساء: فترتان لكل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما؛ أما دونالد ترامب، والآن بايدن، فيبدو أنهما بصدد وضع حد كامل للفوضى. لكن بايدن والمشرعين والبنتاجون يعرفون جيدًا أن الكلمة الأخيرة بشأن الانسحاب الكامل لا يمكن قولها بشكل نهائي؛ نظرًا لأنه ما تزال هناك خمسة أشهر حتى مغادرة آخر جندي أمريكي على الأرض.
راح ترامب يصرخ مؤكدًا على إعادة الأولاد إلى الوطن من جميع الحروب الخارجية؛ تمامًا كما أراد الرئيس أوباما إغلاق سجن خليج جوانتانامو الذي كان يؤوي «إرهابيين» منذ 11 سبتمبر في بداية رئاسته. ومع ذلك جرى إغلاق هذا المرفق مؤخرًا فقط، أو هكذا يقولون. إن النوايا والوقائع على الأرض لا تتوافق في أحيان كثيرة.
لطالما هاجم المحافظون في الولايات المتحدة الرئيس هاري ترومان (1945-1953)؛ لأنه «خسر» الحرب في كوريا من خلال اعتماده بلا داع على الأمم المتحدة كطريقة لإيجاد مخرج من المأزق. ومنذ ذلك الحين – يؤكد كريشناسوامي – سرعان ما أصبحت فكرة «الخسارة» جزءًا لا يتجزأ من السياسة الداخلية الأمريكية. أظهرت أوراق البنتاجون – حوالي 7 آلاف صفحة وتحليل في 47 مجلدًا مختومًا بـ«سري للغاية» – دليلًا وافرًا على أن الرؤساء كذبوا على الناس لسبب بسيط هو أنهم لا يريدون أن يذكرهم التاريخ على أنهم الشخص الذي «خسر» فيتنام.
وعلى الرغم من كل مخاوفه بشأن الحادث الذي وقع في خليج تونكين عندما تعرضت المدمرتان «يو إس إس مادوكس» و«يو إس إس تيرنر جوي» لهجوم من قبل زوارق دورية فيتنامية شمالية، حصل الرئيس ليندون جونسون على تفويض مطلق من الكونجرس لشن حرب شاملة عبر خليج تونكين. كل ذلك مع التأكيد على أنه إذا سقطت فيتنام الجنوبية في أيدي الشيوعيين، ستتبعها منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
كانت مشكلة القيادة السياسية في واشنطن العاصمة هي أنهم لم يفهموا أو يقدروا تمامًا حقيقة هو تشي مينه – يضيف كريشناسوامي – بأنه كان في البداية قوميًا أراد إعادة توحيد بلاده، وبعد ذلك فقط يمكن النظر إليه كشيوعي. أدى عدم وضوح التمييز بين القومية والشيوعية إلى دفع هو تشي مينه إلى التقارب مع الاتحاد السوفيتي والصين. وكانت حرب نيكسون السرية في كمبوديا والتفجيرات الهائلة في مسار هو تشي مينه تحت تأثير فكرة مضللة مفادها أنه يمكن إخضاع الفيتناميين وإجبارهم على الدخول في محادثات سلام.
في خضم كل الجدل في الولايات المتحدة حول «خسارة» كوريا أو فيتنام، فاتنا جانب واحد مهم: متى «سيطرت» الولايات المتحدة على كوريا أو فيتنام كي تخسرهما؟ يتساءل كريشناسوامي. عندما تعرض الفرنسيون للإذلال في معركة ديان بيان فو عام 1954، حزموا حقائبهم؛ وبدا أن الرئيس شارل ديجول قد أخبر القيادة بواشنطن في أكثر من مناسبة أنه لا يمكن السيطرة على فيتنام الشمالية.
الفرنسيون أدركوا الحقيقة مبكرًا
يتذكر الجنرال ديجول في مذكراته أنه قال للرئيس كينيدي: «ستكتشف أن التدخل في هذه المنطقة سيكون بمثابة فخ لا مخرج منه. فبمجرد أن تنهض أمة لا يمكن لأية قوة أجنبية، مهما كانت قوية، أن تفرض إرادتها عليها». لكن كل النصائح الحكيمة لم تلق آذانًا صاغية. في الواقع قال الرئيس جونسون بقدر من الغطرسة لوسائل الإعلام بعد الضربات الجوية الأمريكية الأولى ضد فيتنام الشمالية في 5 أغسطس (آب) 1964: «لم أقم فقط بضرب هوشي منه، لقد قطعت أنفه».
هناك فرق شاسع بين فيتنام وأفغانستان. لم تكن الأيديولوجيا الهدف الأساسي عندما وطأت أقدام الجنود الأمريكيين أفغانستان بحثًا عن أسامة بن لادن والقاعدة، والأهم من ذلك طالبان التي تؤويهم. في نهاية المطاف قتل عدو غير مرئي 3 آلاف أمريكي في ضربة واحدة في الحادي عشر من سبتمبر، وهو أمر يختلف تمامًا عن حرب فيتنام. كانت أفغانستان من نواحٍ عديدة بداية الحرب على الإرهاب التي قادت إدارة بوش إلى بدء مغامرة خاطئة في العراق، وهو الثمن الذي ما زالت واشنطن تدفعه.
في الواقع يسأل الكثيرون إدارة بايدن عما إذا كان بإمكان الجنود الأمريكيين فقط حزم حقائبهم والعودة إلى الوطن، تاركين وراءهم آلاف الأفغان الذين أصبحوا مرتبطين بطريقة أو بأخرى بالحرب وإعادة الإعمار بعد ذلك. إن ذكريات تحليق طائرات الهليكوبتر من أعلى سطح البعثة الأمريكية في سايجون عام 1975 مع محاولات الناس التشبث بها ما زالت حية تمامًا حين كان الجنود الفيتناميون الشماليون يطرقون أبواب مدينة تعيش في هلع.
هل لدى إدارة بايدن الاستعداد لمنح اللجوء للأفغان مثلما فعلت إدارتا نيكسون وفورد مع شعب فيتنام الجنوبية؟ سوف تطفو كل هذه الأسئلة قريبًا، خاصة في وقت يتخبط فيه الديمقراطيون والجمهوريون للحصول على إجابات بشأن أزمة الهجرة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست»


==================

تحديث 25 آب 2021

————————-

الدرس الأفغاني: هل آن أوان تخلي روسيا عن ورقة الأسد؟/ سامر إلياس

طرح الانهيار الدراماتيكي والسريع للحكومة الأفغانية وجيشها وأجهزتها الأمنية، بعد الانسحاب الأميركي، العديد من الأسئلة التي تتعدى الملف الأفغاني، ومنها سؤال حول إمكانية وواقعية تكرار المشهد في سورية. فرغم أوجه الاختلافات الكثيرة بين الأزمة في البلدين، لجهة نشوئها والقوى المحركة فيها والبيئة الجيوسياسية والمجتمعية التي يجري فيها الصراع وتركيبة نظام الحكم، إلا أن كثيراً من المقاربات تفرض نفسها، ما يعطي مشروعية لهذا السؤال، الذي لا يبدو بعيداً حتى عن دوائر صنع القرار في روسيا نفسها.

خبراء عسكريون وأمنيون روس، إلى جانب محللين سياسيين، انشغلوا في تفسير أسباب النصر السريع والسهل لحركة “طالبان”. وهذا طبيعي انطلاقاً من تهديدات محتملة تطاول الأمن القومي لروسيا وحلفائها في دول آسيا الوسطى، وهو ما عكسته عشرات التصريحات المتواترة لمسؤولين روس قبل وبعد الانسحاب العسكري الأميركي، وحسم “طالبان” للوضع لمصلحتها من دون مقاومة تذكر.

الكيل بمكيالين

تستند غالبية التفسيرات والتحليلات، التي قدَّمها خبراء ومحللون روس، إلى خبرة طويلة ومتابعة حثيثة لتطورات وتداعيات المشهد الأفغاني، الذي لم يغب يوماً عن التصريحات والتغطيات الإعلامية الروسية منذ الاحتلال العسكري الأميركي للبلاد، وفي الخلفية التاريخية ما سبق ذلك من هزيمة للاتحاد السوفييتي هناك، وانهيار حكومة محمد نجيب الله عام 1992، الذي لجأ إلى مقر الأمم المتحدة في كابول، وبقي مختبئاً فيه إلى أن اقتحمت عناصر من “طالبان” المقر وأعدمته خريف 1996.

إلا أن توخي الموضوعية في التحليلات لا يحقق المراد منها. ففي قراءة لما خلف سطورها تظهر محاولات تورية لنفي صحة أي مقارنة بين الوضع في أفغانستان ومآله والوضع في سورية، من زاوية مصير النظام السوري ارتباطاً بوجود الدعم العسكري الروسي، أو بمعنى أوضح إمكانية صمود النظام من دون إسناد مباشر من موسكو. لكن اللافت أن تلك التحليلات تدفع المتابع لها نحو إسقاط ما تذهب إليه من تفسيرات على الملف السوري، لوجود الكثير من العناصر المشتركة في المعضلات، التي قادت إلى انهيار نظام الحكم الأفغاني الذي هندسته واشنطن على مدار 20 سنة، ومعضلات مشابهة تعصف بنظام الأسد، وبالمشروع الروسي في سورية.

سيميون شانكين، وهو ضابط سابق في المخابرات الروسية، فسر سبب سقوط حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني وانتصار “طالبان” بأنه يعود إلى “الدعم الشعبي للحركة”. وقال، في مقابلة مع محطة القوات المسلحة الروسية “زفيزدا”، في 19 أغسطس/آب الحالي، إن “الأميركيين لم يفعلوا شيئاً للشعب الأفغاني. فقد اكتفوا برمي الدولارات التي لم تصل إلى عامة الشعب. ولهذا حظيت حركة طالبان بالدعم الشعبي، ولم تجد صعوبة في دخول العاصمة كابول”. التفسير الرسمي الروسي جاء على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، في كلمة ألقاها في جامعة البلطيق الفدرالية في مدينة كاليننغراد في 18 الشهر الحالي، بقوله “إن الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه الغرب في أفغانستان كان محاولة إجبار الأفغان على العيش وفقاً لقوانينهم، متجاهلين التقاليد التي عاشت بموجبها الدول الأخرى لقرون”.

سياسة الإنكار

كلا التفسيرين صحيحان من حيث المبدأ، بيد أن القبول بهما يجب أن يجيز محاكمة النهج والمشروع السياسي الروسي في سورية. فإذا كانا قد أديا إلى انهيار الحكومة والجيش الأفغاني بسرعة البرق، في حسابات السياسة، بعد الانسحاب الأميركي، فلماذا يرفض الروس، من حيث المبدأ، أي مقارنة بين الملفين الأفغاني والسوري، أو بين المشروعين الأميركي والروسي ومآلها؟ مع التأكيد على أن الحديث هنا يدور عن المشترك بين الملفين والمشروعين، آخذين بالاعتبار الفوارق بينهما.

رامي الشاعر، الدبلوماسي السابق والمقرب من وزارة الخارجية الروسية، نشر مقالاً مطولاً في صحيفة “النهار” اللبنانية، في 18 أغسطس الحالي، تحت عنوان “سورية لن تواجه مصير أفغانستان”. العنوان بحد ذاته يكشف، بشكل أو بآخر، عن حقيقة وجود هواجس لدى دوائر في الخارجية الروسية، وإن جاء بصيغته جازماً في نفيه لأي مقارنة أو مقاربة بين الملفين السوري والأفغاني. وقال الشاعر: “لا أحد يريد أن يتكرر المصير الأفغاني المؤسف في سورية، ولن يحدث ذلك ببساطة، لأن كل الجهود التي تبذلها موسكو في سورية إنما تستند إلى معرفة عميقة بطبيعة المجتمع السوري، ولا توجد أي رغبة من الطرف الروسي لفرض أي أجندة خارجية على الشعب السوري الذي يدرك تماماً ما يريد، وقادر بلا شك على تجسيد إرادته السياسية من خلال صناديق الاقتراع، وانتخابات شفافة ونزيهة بإشراف هيئة الأمم المتحدة، كما نص قرار مجلس الأمن رقم 2254”. وأضاف، موضحاً وجهة نظره، أن “التواجد العسكري الروسي في سورية لم يأت بهدف تثبيت نظام معين، وإنما أتى بطلب رسمي من الحكومة الشرعية في دمشق، لحماية الشعب السوري من التنظيمات الإرهابية. وقد نجحت روسيا في ذلك بجدارة، لا من خلال التدخل العسكري وحده، وإنما أيضاً من خلال التوصل إلى مواءمات وتعاون دولي واسع، خاصة مع تركيا وإيران، وبإشراف من هيئة الأمم المتحدة، وما زالت الجهود مستمرة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 لحل الأزمة السورية”.

أما السبب الثاني، وفقاً لما يراه الشاعر، فهو أن “الجيش السوري وتركيبته الأمنية منظمة وصارمة وقوية للغاية، وبنية سورية على مدى عشرات السنين رسخت وجود هذا الجيش بحاضنة شعبية معتبرة، لن تنهار مثلما حدث مع الجيش الأفغاني الذي تديره حكومة مستوردة من الخارج”. وتابع “يحظى الجيش السوري بقاعدة تمثّل ما بين 10 إلى 15 في المائة من الشعب السوري. إلا أن ذلك الوضع لا يمكن أن يكون مستداماً من دون اتساع لهذه الحاضنة الشعبية، التي تمنع وتضمن استحالة انهيار الدولة كما حدث في أفغانستان، حيث انهار الجيش الأفغاني، الذي حصل على مليارات الدولارات من تدريب وعتاد وأسلحة، في ظرف أيام معدودة”.

هنا يبرز جلياً للعيان تناقض يجعل من الدفاع عن صلابة المشروع الروسي والنظام في سورية كاشفاً لهشاشته، فكيف لجيش يمتلك حاضنة تمثل فقط ما بين 10 إلى 15 في المائة من الشعب السوري أن يصمد بقواه الذاتية؟ وهل حقاً أن التدخل الروسي لم يأت لتثبيت نظام الأسد؟ وعلى ضوء وقائع ما جرى في متوالية المفاوضات في جنيف وسوتشي وأستانة وغيرها، والكيفية التي تعاملت موسكو مع مسارها ونتائجها، هل هناك ما يؤكد أن المشروع الروسي يهدف إلى تسوية سياسية في سورية على أساس قرار مجلس الأمن 2254؟ للتذكير، فإن الشاعر نفسه كشف، في مارس/آذار 2021، في تصريحات لصحيفة “الشرق الأوسط”، عن فحوى 40 رسالة متبادلة بين مسؤولين في النظام ومسؤولين روس حول تطورات الأوضاع الميدانية بين عامي 2013 و2015، رسخت القناعة لدى موسكو في خريف 2015 بضرورة الإقدام على تدخل عسكري لمنع سقوط دمشق في أيدي المعارضة.

ومن الواضح أن محاولة الدبلوماسية الروسية إضفاء طابع موضوعي ومرن على رؤيتها لحل الأزمة الأفغانية سياسياً، لم يقابلها نهج مماثل من قبل موسكو بالنسبة للملف السوري، وما زالت تتعامل بازدواجية لن تخرج منها إلا بإجراء مراجعة شاملة لنهجها بخصوص الأزمة السورية. لكن حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات عملية ذات وزن تدلل على أنها بصدد الإقدام على ذلك طواعية.

ورقة مصير الأسد على الطاولة

خشية روسيا من إجراء مراجعة لسياساتها في سورية ربما تضعها أمام حقيقة أنه آن الأوان لإلقاء ورقة الرئيس الأسد على طاولة التسوية. وسبق لها أن لوَّحت مواربة باستعدادها لذلك منذ بداية الأزمة السورية، وهذا يعيدنا إلى ما صرَّح به الرئيس فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحافي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2012، حيث قال: “نحن لسنا قلقين على نظام بشار الأسد في سورية، بل نحن قلقون بسبب ما يجري هناك حالياً. نحن ندرك أن هذه العائلة توجد في السلطة منذ 40 سنة، ولا ريب أن التغييرات لا بد منها”.

بعيداً عن التكتيكات التي اتبعتها موسكو، خاصة بعد تدخلها العسكري المباشر في سبتمبر/أيلول 2015، فإنها ستبقى تتعامل مع بشار الأسد ونظامه كورقة لتحقيق مكاسب استراتيجية من البوابة السورية، هدفها انتزاع حضور قوي في منطقة المتوسط، الضامن له، من وجهة النظر الروسية، تسوية سياسية متوافق عليها مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري.

ويبدو أن دوائر في الخارجية الروسية باتت مقتنعة بأن موسكو يجب أن تلعب ورقة نظام الأسد قبل فوات الوقت، ودخول الملف السوري في معادلات جديدة ليست في صالحها، سلط الضوء عليها الوضع الجيوسياسي المستجد في أفغانستان، بعد انتصار حركة “طالبان” وانهيار نظام الحكم الموالي لواشنطن. فروسيا لم تعمل فقط، خلال السنوات الماضية، على إضعاف المعارضة السورية وتفتيتها، بل أضعفت النظام أيضاً وجعلته، إن صح التعبير، يستمد وجوده من تنفس أوكسجين الدعم العسكري الروسي. كما أن موسكو وضعت من بين أهدافها الحدّ من النفوذ الإيراني، بشكل مباشر، عبر التنافس معها على الأرض، وغير مباشر بإطلاق يد إسرائيل لتنفيذ هجمات على المليشيات التابعة لطهران. ويندرج هذا في سياق سعيها للتفرد بإمساك الملف السوري. في المقابل، تدرك موسكو أنه ليس باستطاعتها توفير دعم كاف لإنقاذ الاقتصاد السوري من حالة الانهيار، الذي من المقدر أن يؤدي إلى تنامي النقمة الشعبية على النظام، وصولاً إلى انتفاضة شعبية ثانية ضده، تشارك فيها قطاعات واسعة من الفئة المصنفة كقاعدة وخزان بشري له.

وفي ظل التجربة الأفغانية، يبدو أنه بات لزاماً على روسيا خفض سقف المكاسب التي تراهن على تحقيقها في سورية، وأن يقتنع المسؤولون عن إدارة الملف أن لا حظوظ لموسكو في النجاح بلعب ورقة التخلي عن النظام ورأسه، إلا إذا أكدت صراحة عودتها للمبادئ الخمسة الرئيسية التي أعلنتها مبكراً لتسوية الأزمة السورية، والالتزام بتلك المبادئ، وهي: “التسوية السياسية عن طريق حوار غير مشروط، ولا للحسم العسكري، وتنظيم انتخابات، وصوغ دستور جديد، وبناء دولة ديمقراطية في سورية”، وهذا ينسجم إلى حد مقبول مع أسس القرار الدولي 2254.

العربي الجديد

—————————-

هل يتكرر السيناريو الأفغاني في سورية؟

عودة طالبان تغازل وعي تاريخي مرتبط بالخلافة الاسلامية لدى أطراف في المعارضة الاسلامية السورية

——————————-

عبَر من درس أفغانستان لسوريا/ عبد الحكيم بشار

لا شك في أن مشهد الانهيار السريع لجيش الدولة الأفغانية أمام حركة طالبان كان مشهداً مريعاً بالنسبة للأطراف المؤيدة لتلك الدولة المنهارة، ومشهداً مذهلاً بنفس الوقت لدى مناصري الحركات الإسلامية في العالم، وبناءً عليه يجب على الكثير مِن الأطراف الفاعلة سواء كانت من القوى العظمى أم من القوى المحلية الوقوف ملياً على موضوع أفغانستان وسقوط حكومتها الشرعية بالرغم من الدعم الأميركي الكبير لتلك الدولة منذ عقدين، وبالرغم من أن تعداد جيش الدولة هو أضعاف مقاتلي طالبان، بل هو أكثرهم عتاداً ويمتلك سلاحاً نوعياً وثقيلاً لا يرتقي إليه سلاح حركة طلبان، ومع ذلك لم يصمد الجيش أياماً قليلة وكادت مقاومته أن تكون عدماً، والسبب أن مقاتلي طالبان كانوا مؤمنين بقضيتهم، بينما الجيش الأفغاني لم يكن مؤمناً ببلده وقضيته.

وإننا هاهنا لا ندافع عن حركة طالبان، بل نعتبرها من أسوأ نماذج الحكم في العصر الحالي، ومع أننا على النقيض مع ذلك التنظيم ورغم موقفنا السلبي جداً من تلك الحركة المتشددة، إلاّ أن هذا لا يمنع حركة طالبان من إمكانية بناء سلطة وتشيكل حكومة، ولكن بتصورنا أنه لن يكون بمقدورها بناء دولة حقيقية، بل على الأرجح ستعيد أفغانستان عقوداً للوراء وتجعل تلك الدولة تعيش خارج التاريخ.

وأمام هول ما جرى ويجري ثمّة درس ينبغي أن نتعلمه كسوريين من تجربة أفغانستان، وربما على الدول الفاعلة في سوريا وخاصةً روسيا وأميركا الاستفادة كذلك مما جرى، ومنها:

ـ أن روسيا يجب أن تدرك بأن نظام الأسد مستمر باستمرار دعمها فقط، وعندما تتخلى عنه سيسقط كما سقطت حكومة أفغانستان بعد انسحاب أميركا، لأنه وبكل بساطة نظام مرفوض من قِبل غالبية الشعب السوري، والمقاتلون الذين يدافعون عنه معظمهم غير مؤمنين به وبسلوكه المدمر للبلد، لذلك نرى بأن روسيا أمام خيارين: أحدهما الاستمرار في دعم النظام الذي يخوض حرباً لا نهاية لها مع الشعب السوري إلاّ برحيل هذا النظام وتطبيق العدالة الانتقالية؛ والخيار الآخر هو الاتعاظ من التجربة الأفغانية وإدراك أنه لا يمكن إعادة تأهيل هذا النظام، لذلك فإن قررت روسيا التخلص منه بالتنسيق مع القوى الثورية فقد يحفظ ذلك بعض المصالح الروسية في سوريا، وإلاّ فإن روسيا قد تخسر مستقبلاً كل شيء في سوريا.

ـ أن القوى العسكرية التي تعتمد عليها أميركا في محاربة داعش ومن ثم في استمرار نفوذها في سوريا عموماً وشرق الفرات على وجه الخصوص هي قوى عسكرية طارئة مرفوضة شعبياً ووطنياً ربما أكثر مِن رفض الشعب الأفغاني لحكومة بلده، لذلك الرهان على تأهيلها وتوظيفها من أجل استمرار النفوذ الأميركي هو رهان شبه خاسر، ولا بد من الاعتماد على قوى عسكرية وطنية سورية كردية وعربية مقبولة وطنياً وشعبياً لاستمرار النفوذ الأميركي، أو أن سيناريو أفغانستان قد يتكرر أيضاً في شرقي الفرات.

ـ وطنياً رغم تطرف طالبان الشديد واعتباره من النماذج السيئة جداً، ولكن مع ذلك فلم يسمع أحد إلى الآن بحصول انتهاكات تذكر ضد خصومها وأعدائها فما بالك بالموقف من مؤيديها، وهذا يدل على أن حركة طالبان استفادت من تجاربها السابقة في ارتكاب الانتهاكات والتي كانت سبباً في أن ينفض الشعب الأفغاني من حولها، لأن كل انتهاك يعني المزيد من العزلة والمزيد من خلق الخصوم، فيا ترى هل ستصل هذه الرسالة إلى قوى المعارضة السياسية والمدنية والعسكرية والإدارية لدينا؟ وهل ستتوقف الانتهاكات والتجاوزات بمختلف أشكالها في المناطق المحررة بحق أبناء الثورة وليس خصومها وبالتالي سيمهد لبناء حوكمة رشيدة؟

ـ يجب أن يدرك الكرد أن المصالح هي المحرك الرئيسي لسياسات الدول، وأن بناء العلاقات مع القوى العظمى أمر ضروري، ولكن الرهان الكردي يجب أن يكون وطنياً سورياً من خلال بناء أفضل العلاقات مع القوى الوطنية، والتفاعل مع جميع القضايا الوطنية وتحويل القضية الكردية إلى قضية وطنية فعلية تهم كل السوريين من خلال الاِنخراط بشكل فعلي في جميع القضايا الوطنية السورية.

ختاماً لا شك في أن الدرس الأفغاني هو درس بليغ لكل الأطراف الداخلية والخارجية، لذا على كل تلك الجهات المعنية بسوريا وبقضية الشعب السوري وجوب قراءة مشهد الانهيار السريع في أفغانستان بشكل صحيح.

تلفزيون سوريا

——————————-

لماذا تنسحب أميركا من شرقنا؟/ ماهر مسعود

لم يعد الغرب بحاجة فعلية إلى استعمارنا ولا حتى إلى استغلال “ثرواتنا الطبيعية”، بالمعنى التقليدي للكلمة، بالأحرى، بات يخشى “استعمارنا” له عبر موجات اللجوء من جهة، والإرهاب العابر للحدود من جهة أخرى، الإرهاب الذي بات له اسم واحد في دوائر صناعة القرار، بالرغم من كل المحاولات الشكلية المخادعة لتجنّب التسمية أحيانًا، وذلك الاسم هو “الإرهاب الإسلامي”.

لقد تطوّرت أدوات تصنيع وإنتاج الثروة في الغرب إلى درجةٍ لم تعد فيها أهمية الموارد الأولية والطبيعية قابلة للتنافس على الإطلاق، مع موارد الذكاء البشري والصناعي. وقد أصبح الإنسان فعليًا هو مورد الثروة وليس الطبيعة، وبات إنتاج الثروة يتم فعليًا من الرأس وليس من الأرض، وانقلبت قاعدة الاقتصاد التي بنى عليها ماركس تحليله للرأسمالية والعمل والإنتاج على رأسها، حيث أصبحت البنية الفوقية هي ما ينتج ويعيد إنتاج البنية التحتية، والأفكار الذكية هي ما ينتج الاقتصاد القوي والجيش القوي والأمّة المحصّنة أمام أعدائها. بكلام آخر: لقد انتقل مفهوم الثروة كله في الغرب، من الثروة الطبيعية إلى ما يمكن تسميته بـ “الثروة الذكية”، وليس أمثال إيلون ماسك أو جيف بيزوس أو بيل غيتس أو مارك زوكربيرغ أو ستيف جوبز وغيرهم، إلا رأس الجليد الذي يمثل تجسيدًا لصناعة تلك الثروة الذكية.

وبالعودة إلى سردية “الإرهاب الإسلامي” الذي يحذّر منه ويستخدمه السياسيون، كورقة ضغط داخلية، نجد أن المسألة لم تعد تتعلق بالسياسيين وحدهم، بل إن أشهر المنظّرين والمفكرين، من أمثال جوردن بيترسون “على اليمين”، وسلافوي جيجيك أو سام هاريس “على اليسار”، باتوا يتحدثون بتناغم نادر عمّا يسمّونه الثقافة اليهودية -المسيحية “Judeo-Christian”، المؤسِسَتان للقيم الغربية والمتفقتان جوهريًا، واللتان يصعب على المسلمين التعايش معهما، بل إن هناك من يتحدث عن الـ”Black Democracy” أو الديمقراطية السوداء، التي ينتجها العالم العربي والإسلامي، والخاصة به وبثقافته.

أضف إلى ذلك، على المستوى الشعبي، تجدر ملاحظة النفور الشعبي الذي لا تخطئه عينٌ من العادات والثقافة الإسلامية المحافظة والانعزالية والبطريركية التي ظهرت مع موجات اللاجئين، والتي تراكبت فوق الحساسيات الموجودة أصلًا مع مسلمي المغرب العربي في فرنسا وبلجيكا مثلًا، والأتراك المسلمين في ألمانيا، ولا سيما بعد تجربة (داعش) التي استقطبت مسلمين غربيين عاشوا أجيالًا في الغرب، ولم يتمكنوا من الاندماج مع قيمه، ومن ثم عادوا في موجة مضادة أو تنسيق عبر الإنترنت، للقيام بعمليات إرهابية في عواصم ومدن غربية عدة، وهو ما رفع وتيرة الإسلاموفوبيا إلى مستويات غير مسبوقة.

النفور إذًا من التدخل في الخارج، ورغبة الانسحاب نحو الداخل، لم يعد سياسة فحسب، بل بات سياسة وفكرًا واجتماعًا، يمثّلها بايدن مثلما مثّلها ترامب قبله، لكن يبقى صانعها هو أوباما. فعندما أعلن أوباما خطط انسحابه من أفغانستان والعراق، وانسحب فعليًا من العراق عام 2011، مع اضطراره إلى إبقاء بعض القواعد والمستشارين، ثم أعلن سياسته بضرورة توقف أميركا عن كونها “شرطيّ العالم” والالتفات نحو الداخل، ثم التفرّغ لمواجهة الصين، كان يطبّق حرفيًا وصايا صموئيل هنتغنتون، في كتابه “صدام الحضارات”، على الرغم من أن أوباما شخصيًا لم يكن يحب هنتغتون ولا نظريته، على حد قوله، وأنكر تأثره بأفكاره السياسية الثقافوية.

لكن لننظر إلى ما يقوله هنتنغتون، في ما يتعلق بعلاقة الإسلام والغرب، لكي تتضح لنا طبيعة الخطوات الأميركية منذ أوباما، والتي تبدو كأنها تسير بمسار إجباري لتحقيق النبوءة الهنتغتونية. يقول هنتنغتون: “المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية، بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته وهاجسه ضآلة قوته. والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأميركية ولا وزارة الدفاع. المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة شعبها مقتنع بعالمية ثقافته، ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزامًا بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب”[1].

وفي خاتمة الكتاب، يخرج هنتنغتون بالنتائج والوصايا المهمة التالية: “في عالم الصدام الحضاري والاثني الناشئ، يعاني اعتقاد الغرب في عالمية ثقافته من ثلاث مشكلات: فهو اعتقاد زائف، ولا أخلاقي، وخطر. أما عن كونه زائفًا، فتلك هي الفرضية المركزية لهذا الكتاب… وأما عن كونه اعتقادًا بلا أخلاق، فذلك بسبب ما يجب عمله لكي يتحقق ذلك […] فالاستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية. وإن أيّ محاولة لعمل ذلك ستكون ضد القيم الغربية الخاصة بتقرير المصير والديمقراطية […] إن عالمية الغرب خطر على العالم، لأنها قد تؤدي إلى حرب بين دول المركز في حضارات مختلفة، وهي خطر على الغرب، لأنها قد تؤدي إلى هزيمته”[2].

إن انسحاب أميركا من منطقتنا مرتبط أشد الارتباط بما قاله هنتغتون، بل يبدو وكأنه تطبيق للبرنامج الهنتغتوني، فهذه المنطقة لم تعد مهمة إستراتيجيًا للمصالح الأميركية، ولولا إسرائيل (التي أدركت تمامًا حجم التراجع الأميركي وبدأت إنجاز البدائل) لما بقي جندي واحد في كامل أنحاء المنطقة. فصعود الصين كحضارة وكقطب منافس ومهيمن بات حتميًا، والعودة الروسية لمواقع السيطرة والنفوذ باتت واقعية، وليس لأميركا سوى تقاسم النفوذ والتحلل من بعض الارتباطات، وإغراق الإمبراطوريات المنافِسة ببعض الأعباء الناتجة عن تحلل دولنا ومجتمعاتنا. وأما النتائج، فلا بأس إن تمثلت بالإبادة أحيانًا، أو بالفوضى، أو بالحروب الأهلية، أو بعودة الدكتاتوريات الفاسدة أشرس مما كانت عليه أيام التنافس الأميركي السوفيتي.

ليس الانسحاب الأميركي من أفغانستان؛ الذي قد يليه انسحاب من العراق وبعدها سورية، هو خلاص من الاحتلال، بل هو غرق في احتلالات جديدة أكثر شراسة ورعاعيّة، فالفراغ الذي لن تعبّئه الاحتلالات البعيدة لأعظم قوتين دكتاتوريتين في العالم، أي روسيا والصين، ستعبّئه الاحتلالات القريبة؛ المحلية والإقليمية، على طريقة احتلال “حزب الله” للبنان، أو احتلال الأسد لسورية، أو “الحشد الشعبي” للعراق، أو طالبان لأفغانستان، وأما الدول الإقليمية، مثل إيران وتركيا وإسرائيل، فلن يكون هناك أحب على قلوبهم من دعم تلك الاحتلالات والتلاعب بها وتجييرها لمصالحهم، والدرس الذي يمكن تعلمه من المأساة السورية الطويلة هو أن الاحتلال القريب أقسى وأشرس وأكثر إشكالية من الاحتلال البعيد، والأقربون ليسوا أولى بالمعروف، كما يقول المثل، بل أولى بالقتل.

ليس الانسحاب الأميركي، إذًا، بشرى سارة لشعوبنا، فليس هناك حركات تحرر وطنية في المسألة، بل هناك قوى ميليشياوية تابعة وعابرة للحدود، ولا يعنيها الوطن أكثر من بقائها في السلطة، وأكثر من سيطرتها المطلقة على جميع المختلفين معها، دينيًا أو اثنيًا أو طائفيًا أو سياسيًا. وفي الحالة السورية، لم يعد هناك مقاتل يخرج من السويداء، فيجيبه آخر من حلب، وآخر من جبال العلويين أو من دمشق، مثلما حصل في الثورة السورية الكبرى، بل إن تحرير الوطن، بالنسبة إلى أكثرية سورية الممزقة والمهجّرة، لم يعد يعني أكثر من تحرير دمشق وسورية من حاكمها.

لا يؤكد احتفال الإسلاميين والمسلمين، سنّة وشيعة، بعودة طالبان و”اندحار” الأميركان، إلا على ذلك الشرخ الحضاري الذي تحدث عنه هنتنغتون، ولا يؤكد الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومن المنطقة كلها إلا على وصية هنتغتون بالالتفاف الأميركي والغربي كله نحو الداخل والتقوقع على الذات، والتوقف عن فكرة نشر ثقافته وقيمه والدفاع عن عالميتها، ومن ثم التفرّغ للمواجهة الحضارية مع الصين وروسيا وحروبهم ذات الطابع السيبراني والفضائي والتجاري وغيره. ولكن الجانب الأهم في تلك السياسة الانسحابية من الشرق الأوسط هو أنها باتت تتلاقى مع رغبة الشعوب الغربية، بأطيافها اليمينية واليسارية، فاليسار ضد التدخل العسكري والكولونيالية بشكل قاطع وساذج، واليمين ضد التدخل لأنه غير معني أصلًا بمصاير شعوب المنطقة تحت دكتاتورياتها، بل يرى أنها متناسبة تمامًا مع الثقافة الإسلامية لتلك الشعوب، ولا يعنيه سوى إيقاف موجات اللجوء وتحصين الغرب الأبيض من الثقافة الدخيلة، ولذلك أصبحت سياسات ترامب وبايدن، في ما يخص التدخل، ليست أكثر من استمرار لما بدأه أوباما؛ الصانع الأهم لتلك السياسة الالتفافية الثقافوية، والمعبّر الأكبر عن رغبة الأجيال الجديدة اللاتدخلية في الغرب.

إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان هو انتصار فعلًا لطالبان، مثلما قد يكون انسحابها من سورية انتصارًا لروسيا والأسد، وانسحابها من العراق سيكون انتصارًا لـ “الحشد الشعبي” وإيران و”حزب الله” في لبنان، لكن من لم ير المصير المأساوي لشعوبنا، الناتج عن تلك الانتصارات، لن يرى كيف سيزيد الانسحاب الأميركي من مأساوية ذلك المصير. وأما الاحتفال الإسلاموي بنصر طالبان، فهو كمن يفقأ عينيه احتفالًا بمأساته ونكاية بخصومه.

    [1] انظر مقالنا المنشور في “الجمهورية” في 3 نيسان 2015، تحت عنوان، “قراءة صدام الحضارات” وهو قراءة في كتاب هنتغتون المنشور عام 1996، والنص المقتبس هنا هو من الصفحة 352.  المادة على الرابط التالي https://www.aljumhuriya.net/ar/33331

    [2] المصدر ذاته ص 503-505.

مركز حرمون

——————————–

درس “الحركيين” الأفغان/ علي أنوزلا

محزنٌ مشهد المتعاونين الأفغان مع القوات الأجنبية وهم يتوسّلون الجنود الغربيين من وراء الحواجز التي تحول بينهم وبين مطار كابول لإخراجهم من بلادهم، ومن بينهم رجال ونساء ممن فضلوا، أمام يأسهم من الفرار بجلدهم، تسليم أبنائهم وفلذات أكبادهم إلى جيوش الاحتلال لإبعادهم عن الأرض التي ولدوا فيها، وسيحملون الانتماء إليها مهما كانت الجنسيات التي ستمنح لهم، ليبقى أصلهم يذكّرهم بالخزي والعار الذي لحق بآبائهم. هؤلاء كانوا حتى قبل قرار القوات الغربية مغادرة أفغانستان، والذي بدأ تنفيذه تدريجيا منذ عام 2014، قبل حالة الهروب الكبير الذي نتابع اليوم مسلسله على الهواء مباشرة، منذ دخلت قوات حركة طالبان منتصرة العاصمة كابول، سادة بين قومهم، محميين ومرفهين، ومن بينهم من تلقّى الأوسمة والتنويه من قادة جيش الاحتلال متعدّد الجنسيات الذي جثم على صدر الأفغان منذ 2001، بداية الغزو الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية للدولة التي وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”.

هؤلاء المتعاونون، ومن بينهم من عمل مترجما أو سائقا أو طباخا أو مخبرا للقوات الغربية في أفغانستان، أصبحوا يعيشون اليوم في خوف، ليس بسبب سيطرة مقاتلي “طالبان” على الجزء الأكبر من البلاد، بما في ذلك العاصمة كابول، وإنما بسبب تخلي القوات الغربية عنهم وتركهم يعيشون في الخوف من انتقام “طالبان” وأنصارها الذين يعتبرونهم خونة. وعلى الرغم من أن الحركة أعلنت عن عفو عام عن كل من تعاون مع قوات الاحتلال خلال العقدين الماضيين، إلا أن أغلب هؤلاء يخشون من أن تتراجع الحركة عن وعدها هذا، وأكثر من ذلك يخافون من انتقام الناس العاديين الذين تأذّوا من الوجود الأجنبي على أرضهم.

مصير المتعاونين الأفغان مع قوات الاحتلال يذكّر بمآل مئات آلاف من الجزائريين الذين قاتلوا مع الاحتلال الفرنسي لبلدهم الجزائر أو تعاونوا معه، وعند استقلال الجزائر عام 1962 وجدوا أنفسهم منبوذين من جيش الاحتلال والمحتلين الذين حزموا حقائبهم وفرّوا عائدين إلى بلدهم، ومحتقرين وملاحقين من مواطنيهم الجزائريين الذين يعتبرونهم خونة. أطلق على هؤلاء المتعاونين اسم “الحركيين” وهو لقب كناية عن الخائن في الجزائر لنعت كل من ناصر الاستعمار، وقاتل في صفوف جيوشه أو تعاون معها، إبّان فترة الحرب الجزائرية التي سقط فيها مليون ونصف مليون شهيد جزائري. وبالنسبة لمن رحّلتهم فرنسا إلى بلدها أو تمكّنوا من الفرار بجلودهم من ملاحقة الجزائريين في عهد استقلالها، ظلوا يعيشون في مآوٍ، هي غيتوهات وفرتها لهم فرنسا، مهمّشين ومنبوذين داخل المجتمع الفرنسي الذي انتصر جزءٌ منه لصوت العقل وناصر الثورة الجزائرية. وعلى الرغم من حصولهم على الجنسية الفرنسية، ظلوا يُعاملون بمثابة مواطنين من الدرجة الثانية في فرنسا التي لم تعترف بخدمتهم لها إلا أخيرا في عهد الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، الذي كرّم 26 منهم فقط عام 2018، بينما كان يصل عددهم عند استقلال الجزائر إلى أكثر من مائة وخمسين ألف شخص. وعلى الرغم من مرور أكثر من ستين سنة على نهاية حرب التحرير الجزائرية، ما زال “الحركيون” يعتبرون خونة في الجزائر، ولا يستطيع أبناؤهم وأحفادهم العودة إليها.

مصير “الحركيين” الجزائريين هو نفسه الذي ينتظر المتعاونين الأفغان مع قوات الاحتلال، التي احتلت بلادهم طوال العقدين الماضيين. وربما سيكون مصير “الحركيين الأفغان” أسوأ من مصير نظرائهم الجزائريين، لأن المتعاونين الأفغان قليل من الدول التي تعانوا مع جيوشها تعترف بخدمتهم هذه، ومن حظوا بالاعتراف إما تُركوا لمواجهة مصائرهم في بلادهم أو تم نقلهم بالطريقة المهينة والمذلة للكرامة البشرية التي تابعناها خلال الأيام القليلة الماضية، سواء عندما كانوا يتعلقون بعجلات الطائرات العسكرية المغادرة بلادهم، أو عندما تم شحنهم مثل القطيع مكدّسين داخل طائرات عسكرية بدون كراس خاصة بنقل العتاد والمؤونة، وتم تفريقهم على مآو في عدة دول، قبلت استقبالهم مؤقتا، في انتظار أن تقرّر الدول التي خدموا جيوشها في مصيرهم المأساوي الذي سيورثونه حتما إلى أبنائهم وأحفادهم، ليظل يلاحقهم مثل لعنة طوال حياتهم، لا هم مواطنون كاملو المواطنة داخل البلدان التي ستعترف بهم، ومنبوذون وغير مرحب بهم في بلدهم الأصلي الذي خانوه وخذلوا شعبه.

مشهد المتعاونين الأفغان وهم يتوسلون الحماية من أسيادهم على أبواب مطار كابول درس وعبرة لكل المتعاونين مع الاحتلال، ولكل الخونة الذين يصطفّون إلى جانب المحتل والغازي بلدهم، فالاحتلال مهما يطول زائل، والغزاة مهما عمّروا راحلون. تلك هي حتمية التاريخ التي تأكدت أكثر من مرّة في تاريخ الشعوب المقاومة والمؤمنة بانتصار إرادة الحق مهما طال الزمان. تحقّقت في فيتنام وفي الجزائر وفي جنوب لبنان، وتتجسد اليوم مأساةً إنسانية تتكرّر في أفغانستان. وفي هذا الدرس عبرة لكل من يقف مع الظلم والظالمين، لأن الظلم، مهما طال، إلى زوال، تصديقا للآية الكريمة التي وعدت النبي محمد بالانتصار على من حاربوا دعوته في بدايتها وناصبوه العداء وهَجّروه هو وأنصاره خارج ديارهم، فجاءت الآية المطمئنة لكل المدافعين عن الحق في عز ظلمة الظلم: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”، والفعل “زهق” يعني ذهب إلى غير رجعة، مثل الروح عندما تزهق إلى الأبد، وتترك الجسد فريسة لمصيره المأساوي تأكله ديدان الأرض.

العربي الجديد

—————————-

استخدام المجتمع الأفغاني: و”قيمه” للدفاع عن “طالبان”/ إيلي عبدو

“طالبان” ليست نتيجة حتمية للمجتمع الأفغاني ولو أنها خرجت من جزء منه. تاريخية الظاهرة، أمر شديدة الأهمية، ليس لتبرئة المجتمعات، إنما، لوضع سياق يفسّر الظواهر، بدل أن يبررها، ويطبع معها.

ساجل عدد من الكتاب العرب في مقالات وتعليقات على مواقع التواصل، خصوصاً المتحمسين لحركة “طالبان”، في أن الأخيرة ليست حالة غريبة على المجتمع الأفغاني، بل هي أصيلة، سواء لناحية، مطابقتها طموحات عرقية الباشتون كثيرة العدد، أو لامتلاكها توجهاً إسلامياً، هو “روح الحياة” لدى الناس في أفغانستان. فغيّر هؤلاء، من وظيفة، العوامل والأسباب التي أدت إلى صعود الحركة سواء الانقسامات العرقية، أو عدم تفاعل الدين مع البنى الحديثة. وبدل أن تصبح، العوامل والأسباب، عناصر تفسير، باتت، حججاً للتبرير، وتأصيلاً للحركة التي صارت تعبيراً أوحد عن المجتمع، وليس نتاج خلل وتناقض فيه.

عرقية الباشتون، التي وجدت الحركة في تحولاتها التي انتهت بالإحيائية الدينية، بيئة خصبة لبداية التمدد، سيناريو غالباً ما يتكرر مع معظم الحركات الإسلامية المتطرفة التي تبحث عن سند مجتمعي يعاني غبناً أو تهميشاً، في ظل انعدام الدولة العادلة وانهيار المجتمع وانقسامه. تنظيم “داعش” لعب على مظلومية السنّة في العراق وسوريا ولبنان ليبني قاعدة، ويتمدد من خلالها، و”حزب الله”، لعب على مظلومية الشيعة في لبنان، ليأخذ المسار ذاته، وكذلك فعل الحوثيون في اليمن. واختلاف تجارب هذه الحركات مع بيئاتها الحاضنة، وتراكيبها، لا يغير كثيراً في النتيجة، وهي بحث الراديكاليين الإسلاميين، أو خروجهم من داخل حساسية مقموعة في مجتمع ما، للتغلب

والسيطرة، وبناء نموذج للحكم. أي أن، التناقضات التي في كل المجتمعات، تتحول أحياناً إلى بيئات للتطرف، وتتصلب وتصبح عصية على الحل.

وبذلك تُنقل وظيفة الأسباب، لتصبح تبريرات، يمكن إسقاطها على ظاهرة الاستبداد، الذي يجد، خصوصاً في المشرق، سنداً مجتمعياً له، فجزء واسع من العلويين وأجزاء من أقليات أخرى، يؤيدون النظام السوري، بمعنى آخر، إن الاستبداد مثل الحركات الإسلامية المتطرفة يخرج من ذلك الخلل المرتبط بفشل مشاريع الدول، وتحول الجماعات إلى ولادات للاستبداد والتطرف، وفي الوقت نفسه بيئات تُستغل لتصليب الاستبداد والتطرف. العلاقة شديدة التداخل بين الأمرين، وما يبدأ استثماراً في تناقض مجتمعي أو مظلومية سرعان ما يتحول إلى بيئة لصناعة سلطة. في كل الأحوال، لا يمكن تبرير الاستبداد بسبب تلازم تكوينه مع غبن تعاني منه جماعة ما، وتداخله معها.

الاستبداد هو نتيجة الخلل في مسار بناء الدولة وانعكاس ذلك على الجماعات وخوفها من بعضها بعضاً، وليس أمراً طبيعياً وأصيلاً، تماماً كما أن “طالبان”، ليست نتيجة حتمية للمجتمع الأفغاني ولو أنها خرجت من جزء منه. تاريخية الظاهرة، أمر شديدة الأهمية، ليس لتبرئة المجتمعات، إنما، لوضع سياق يفسّر الظواهر، بدل أن يبررها، ويطبع معها.

غير أن هذه العلاقة بين مظلمة ما وبين تطرف أو استبداد، تدور ضمن بنى تقليدية، فلـ”طالبان” بعد قبلي، وكذلك للاستبداد في منطقتنا أبعاد طائفية. اليمين في الغرب، يجد مثلاً في التحولات الاقتصادية، كانهيار التصنيع لمصلحة الخدمات وتأثر الأطراف لمصلحة المركز، بيئة خصبة، ليتصلب ويقوى، لكن هذه، العوامل الاقتصادية قد تتبدل، لتضعفه من جديد. أي أن صعود اليمين وهبوطه، يحصلان ضمن بنى حديثة، بينها الاقتصاد. بعكس التفاعل السلبي الذي حصل في أفغانستان، بين البنى التقليدية والحركة الرديكالية، والذي تحول، لدى بعض الكتاب العرب، إلى تبرير جديد حول تأصل “طالبان” في المجتمع الأفغاني، من بوابة الدين باعتبار الأخير من البنى التقليدية، وإغفال علاقة الحركة به، وتحويلها له، من وعي فطري مؤثر في حيوات الناس، إلى وعي أوحد، يصوغ حياتهم، انطلاقاً من فهم الحركة وتأويلها للدين، واستخدامه لبناء سلطة.

لكن المطابقة بين الدين والحركة، لتبرير سيطرة الأخيرة على البلاد، تجد جذرها في التسليم بدور البنى التقليدية، في صوغ وعي الأفغان، وليس الإيمان بتصديعها، لمصلحة أخرى حديثة، تمنح أهل هذا البلد المعذب فرصة التعرف إلى ذواتهم عبر الاحتكاك الطبيعي لا الأصلي، والانفتاح على العالم، وليس الانغلاق على الذات. من هنا، فإن تعريف الأفغان بدلالة بناهم، له وظيفة خادعة، وهي التركيز على علاقة الحركة بهذه البنى وابتلاعها أو بناء تسويات معها، لتصبح “طالبان” العنصر الأوحد، الذي يحدد طبيعة المجتمع الأفغاني ويختصر تنوعه، ويصير التمييز بين البنى التقليدية والحركة معدوماً، ما يفسر بروز عبارات في الكتابات الصحافية خلال الأيام الماضية، مثل “الدين روح الحياة”، في أفغانستان و”هذه قيم المجتمع الأفغاني”، وذلك في معرض الدفاع عن مشروعية “طالبان”.

هكذا، تستخدم أسباب صعود “طالبان” عبر حوامل تتعلق بتناقضات مجتمعية، والتسليم بالبنى التقليدية، وتوظيفها من قبل الحركة، لتصبح تبريرات لوجودها، وهي باتت، في عرف المبررين، تطابق المجتمع الأفغاني نفسه، وتمثل قيمه. والتطابق والتمثيل الزائفان يترتب عليهما، تخوين كل من يخشى على نفسه من انتقام الحركة، وهو ما يسهل الانتباه له مع كل تعليق، يصف العائلات التي تكافح للهروب من مطار كابول بـ”العملاء”، فهذا التصنيف لا يعود حصراً إلى عمل هؤلاء الباحثين عن خلاص، مع الأميركيين أو أي من القوات الأجنبية، بل وأيضاً، اختصار أفغانستان بـ”طالبان”، عبر ترسانة من المبررات، حيث تتحول الأسباب، إلى “حقائق”.

درج

——————————

طالبان” تقول إنها ستحترم المرأة…تماماً كما فعل الخميني بالإيرانيات!

ترجمة

نعم، تغيَّرت “طالبان” بالفعل: فقد صارت أكثر براعة في توظيف الإعلام الغربي للترويج لأجندتها. أما الواقع في شوارع كابول فيروي لنا قصة مختلفة…

مسيح علي نجاد

عقدت “حركة طالبان”، مؤتمراً صحافياً في العاصمة الأفغانية كابول. وخلاله بذل المتحدث باسمها، ذبيح الله مجاهد، كل ما في وسعه لطمأنة المجتمع الدولي إلى نيات الحركة. ووعد بتشكيل حكومة شاملة، وأشار إلى إجراء انتخابات، وأعلن أن “طالبان” اليوم قد تغيرت بشكل ملحوظ عما كانت عليه مذ فقدت السلطة قبل 20 سنة. وأكّد أيضاً أن حكومة “طالبان” الجديدة ستحمي حرية التعبير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، في إطار الشريعة الإسلامية، وفق ما أضاف مراراً. وقال، “نؤكد أنه لن يكون هناك عنف ضد المرأة. ولن يُسمَح بتحيّزات ضدها، ولكن في إطار القيم الإسلامية”. وقد صُدِم مراقبون بهذا الغموض في اللغة.

غير أنه يجب أن يكون واضحاً تماماً ما خططت له “طالبان”. فخلال فترة حكمها الوجيزة في السابق أذهلت العالم بقسوة نظامها. وكان الجَلد والإعدامات العلنية وقمع النساء هي السمات المميزة لتلك الفترة. وخلال العقدين الماضيين، قدمت أمثلة كثيرة على استمرار التوجهات نفسها. فدعونا لا ننخدع: هذه كارثة للنساء في المنطقة.

فتصريحات مجاهد ليست إلا تصريحات جوفاء بالنسبة إلى أفغانيات كثيرات يبحثن اليوم عن البرقع، فيما يتساءلن حتى متى يمكنهن البقاء على قيد الحياة في ظل نظام “طالبان”. وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مناشدة امرأة أفغانية لحمايتها من أعمال العنف المرتقبة. وقد أخبرتني في مقابلة معها أن “طالبان تقوم بتزويج نساء مثلي قسراً لمقاتليها. لدينا كثيرات مثل ميشيل أوباما في أفغانستان، ولدينا نساء قويات كالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. ولكنهن سيضطررن للانصياع للشريعة”. (وقد أصبحت اليوم المرأة، التي حافظتُ على سرية اسمها لأسباب أمنية، لاجئة خارج أفغانستان).

تفهم النساء الجماعات الإسلامية أفضل من معظم الناس، لأنهن عانَين أفظع العواقب. فحرب الإسلاميين موجهة أولاً وقبل كل شيء ضدهنّ. وتصريحات مجاهد تحمل بصمة تشابه مخيف مع التأكيدات التي أطلقها آية الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية في إيران، أمام الصحافة الغربية قُبيل وصوله إلى السلطة في إيران.

ففي كانون الأول/ ديسمبر 1978، وقبل عودته من المنفى، قال الخميني: ”للنساء اختيار أي نوع من الثياب يروق لهن، طالما كانت (الثياب) تسترُهن بشكل صحيح وطالما ارتدين الحجاب“. وبعد أسابيع في 23 كانون الثاني/ يناير 1979، أعلن قائلاً “سنعطي النساء جميع أشكال الحرية، ولكننا سنمنع الفساد الأخلاقي؛ وحيثما يتعلق الأمر بهذا، فلا فرق بين الرجال والنساء”. وبغض النظر عن تهدئة المراقبين الغربيين، كان الخميني على الأرجح يحاول طمأنة حلفائه الليبراليين في الثورة ضد الشاه، التي ضمت عدداً كبيراً من الناشطات الفاعلات.

إلا أنه بمجرد تولي الإسلاميين زمام الأمور نهائياً، بدأ الواقع الجديد. فقد أُقصيَت النساء من العمل القضائي، ومنهن شيرين عبادي التي حصلت على جائزة نوبل لاحقاً عام 2003. وتم حظر المغنّيات، ومنعت السلطات عدداً من الأنشطة الرياضية النسائية. والأهم من هذا أنه فُرِض الحجاب على النساء والفتيات؛ ومَن رفضته منهن وجدت نفسها محرومة من حقها في التعليم، ولم يُسمح لها بتقلّد الوظائف وتعرّضت للاعتقال. ووفقاً للتفسير الإيراني للشريعة، فإن النساء اللائي يقاومن الحجاب الإجباري في المجال العام يُعاقَبن بما يصل إلى 74 جَلْدة. وقد حُكمت ناشطات حقوقيات بالسجن فترات طويلة لمجرد اعتراضهن على الحجاب الإجباري.

بالطبع نعرف أن الإسلاميين الإيرانيين شيعة بينما “طالبان” حركة سنّية؛ وهناك فروق كثيرة. ولكن للمصادفة، إ ازدراء المرأة هو أحد المبادئ الأيديولوجية الأساسية التي يشتركون فيها. فمنذ استيلاء “طالبان” على السلطة، تلقّيت الكثير من شَهادات العَيان من أفغانيات أشرن إلى أن الحقوق التي اكتسَبْنها في العقدين الماضيين صارت معرَّضة لخطر التلاشي. وقد طُلب من عاملات كثيرات البقاء في المنازل.

راهناً، شُوهِدت آريانا سعيد، إحدى أشهر المغنّيات الأفغانيات، في وسط حشد من الناس داخل طائرة عسكرية تغادر كابُول. وكانت قد قسّمت وقتها في السنوات الأخيرة بين كابول وإسطنبول؛ ولكنها اليوم تخشى ألا تستطيع العودة أبداً إلى موطنها الحقيقي في العاصمة الأفغانية. إذ أخبرتني أنها شعرت بحزن شديد حيال الغموض الذي يكتنف مستقبلها. وقد كانت تجسيداً لآمال الكثير من الأفغان، وكسرت الكثير من المحظورات؛ وربما كان أشهرها في أيلول/ سبتمبر 2015 حين غنّت في أحد ملاعب كابول وكان يعج بالرجال. وحين كانت “طالبان” في السلطة، سابقاً، مَنعَت النساء من مجرد دخول الملاعب، فضلاً عن الغناء فيها بتباهٍ دون حجاب.

نعم، تغيَّرت “طالبان” بالفعل: فقد صارت أكثر براعة في توظيف الإعلام الغربي للترويج لأجندتها. أما الواقع في شوارع كابول فيروي لنا قصة مختلفة؛ إذ تقوم “طالبان” بتغطية صور النساء في اللوحات الإعلانية والملصقات. وقريباً ستمُحى النساء من المجال العام. لقد رأينا بداية هذا الفيلم في إيران قبل 42 سنة، وما زال العرض مستمراً.

وفي الثامن من آذار/ مارس 1979، في يوم المرأة العالمي، خرجت أكثر من 100 ألف امرأة إيرانية في مسيرة ضد قرار الخميني فرض الحجاب الإجباري. غير أن النظام الجديد استطاع قمع هذه المسيرة الهائلة وإخمادها بالقوة. وقد تواجه الأفغانيات مصيراً أسوأ من هذا، مع الأسف.

هذا المقال مترجم عن washingtonpost.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

https://www.washingtonpost.com/opinions/2021/08/19/taliban-say-theyll-respect-women-we-iranians-have-seen-this-movie-before/

درج

———————————

واشنطن بوست: هل يمكن لأمريكا التعاون مع طالبان؟/ إبراهيم درويش

تساءل ديفيد إغناطيوس في صحيفة “واشنطن بوست” إن كانت الولايات المتحدة قادرة على العمل مع طالبان في أفغانستان “هذا هو السؤال الرئيسي”. وقال “في الوقت الحالي، هناك كوميديا سوداء وسط أزمة أفغانستان، حيث يناقش المسؤولون البارزون في الإدارة الاتصالات الأمريكية مع طالبان فيما يتعلق بالعمليات في المطار المحاصر. وقال مسؤول بارز مازحا: شكرا للرب لدينا في النهاية شريك أمني في كابول”.

ويعلق الكاتب أن هذه هي المفارقة في قلب الفوضى الأفغانية: بعد قتال طالبان مدة 20 عاما أصبحت الولايات المتحدة تعتمد عليها لتوفير الدعم الأمني وهي تحاول إجلاء الأمريكيين والحلفاء الأفغان عن البلد. والمشكلة الفورية هو موعد 31 آب/أغسطس لرحيل الولايات المتحدة حيث تصر طالبان على الموعد كـ “خط أحمر” ويجب عدم تجاوزه.

ووافق الرئيس جوزيف بايدن على هذا المطلب رغم احتجاج الحلفاء الذين يعتقدون أنه موعد قريب جدا. وأضاف أن قنوات الاتصال الأمريكية مع طالبان انتقلت إلى مستوى أعلى عندما قام مدير سي آي إيه ويليام بيرنز بزيارة كابول يوم الإثنين واجتمع مع زعيم طالبان ملا برادار وحمل معه رسالة شخصية من الرئيس بايدن الذي قرر على ما يبدو أن أفضل مسار هو التعاون مع العدو السابق. وفي الوقت الذي يكافح فيه فريق بايدن لرسم استراتيجية لما بعد الحرب في أفغانستان فإن الأسئلة المركزية تمس العلاقة غير المريحة مع طالبان. هل يمكن للجماعة المتشددة أن تصبح شريكا يعتمد عليه؟ وهل تريد الولايات المتحدة نجاح أو فشل طالبان في محاولات تحقيق الاستقرار للبلد؟ وما هي الشروط الواجب توفرها لكي يعترف بايدن بحكومة تقودها طالبان في كابول؟

ويرى الكاتب أن قيمة العلاقات الأمنية مع طالبان بدت مهمة في نهاية الأسبوع الماضي عندما كان المسؤولون يحضرون لهجوم محتمل ينفذه عناصر تنظيم الدولة الإرهابيون ضد المطار. وتبادل المسؤولون الأمريكيون مع مسؤولي طالبان المعلومات حول التهديد، حسب مصدر على معرفة بالأحداث. ويقال إن المسؤولين البارزين في حركة طالبان بالدوحة على علاقة بالنقاشات أيضا.

وقال الكاتب إنه اطلع قبل عامين على تحالف فعلي أمريكي مع طالبان ضد تنظيم الدولة الإسلامية، حيث أطلعه عليه آخر قائد للقوات الأمريكية في أفغانستان الجنرال أوستن “سكوت” ميلر. وفي مقابلات بكابول عام 2019 وصف ميلر وزملاؤه العمليات في إقليمي جوزجان وغور في الشمال حيث قتلت قوات مكافحة الإرهاب الأمريكية زعيما لتنظيم الدولة في المنطقة مما أدى لتعزيز سيطرة طالبان على الأرض. وقبل ذلك شنت الولايات المتحدة حربا بالطائرات المسيرة ضد مقاتلي تنظيم الدولة في نانغرهار، شرق أفغانستان، وبموافقة من طالبان.

إلا أن الحذر قائم، فقد حذر المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية كارتر مالكسيان والذي تحدث مع قادة طالبان من أي علاقة مع طالبان قائلا “أي علاقة أو شراكة مع طالبان ستكون محبطة لنا”. واقترح أن يكون اعتراف الولايات المتحدة ودعمها مشروطا باستعداد طالبان لإقامة حكومة موسعة وتشاركية وموافقتها على المصالحة والتزام قوي بوقف القاعدة وغيرها من الجماعات الأخرى عن ضرب الولايات المتحدة.

ويعلق الكاتب أن تعامل الولايات المتحدة مع طالبان لا يقدم منظورا مشرقا للمستقبل. فهي تحاول التفاوض على سلام مع المتمردين منذ 2011، وتم توقيع اتفاقية أخيرا عام 2020 حيث أكد المفاوض الأمريكي زلماي خليل زاد أن طالبان تعهدت بوقف إطلاق نار شامل ودائم. ولم يحدث هذا، حيث قامت بشق طريقها للنصر عبر الرشوة والاغتيال والترويع.

ويرى مالكسيان في كتابه الجديد “الحرب الأمريكية في أفغانستان: تاريخ” أن واحدا من الأسباب التي دفعت طالبان للتراجع عن الهدنة هو الخوف من انشقاق مقاتليها إلى تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الراديكالية الأخرى. وقال مالكسيان إن اتفاقية السلام كانت متعجلة وعشوائية بسبب قلة صبر دونالد ترامب، وهو ما دفع زلماي لمنح الكثير مقابل القليل من طالبان. كما أن وعود طالبان عن القاعدة ليست مؤكدة كما يقول مالكسيان “في عدد من المناسبات أكدت طالبان لي أن القاعدة هي صديقتهم وهم حريصون على بقاء العلاقة”.

ويرى إغناطيوس أن أفغانستان تواجه مأساة عميقة ومستمرة، ولو بحثت عن بطل في هذه المأساة فما عليك إلا النظر إلى الطيار الأمريكي سي-17 في 15 آب/أغسطس الذي هدرت طائرته على مدرج مطار كابول محملة بـ 823 أفغانيا يائسا (أي ضعف حمولتها). وعندما سئل إن كانت طائرته قادرة على الإقلاع بهذه الحمولة وتحت حر الشمس القاسي، أجاب للمسؤول الأمريكي “فقط راقبني”. فالروح الإنسانية وإنقاذ أكبر عدد من الناس رغم المخاطر تمثل لحظة رحمة وشجاعة في نهاية الحرب الطاحنة ويجب أن تكون مثار إعجاب، التي ستكون للأسوأ والأفضل شريكة لنا.

القدس العربي”

————————-

التايمز: على الغرب أن يتحدث مع طالبان وينسى فرض عقوبات عليها/ إبراهيم درويش

تحت عنوان: “انسَ العقوبات وعلينا الحديث مع طالبان” قال المعلق في صحيفة “التايمز” روجر بويز، إن اقتصاد أفغانستان على حافة الانهيار، وإن قطع كل المساعدات يعني منح فرصة للجهاديين.

وبدأ بويز مقالته بالقول: “صباح الخير أفغانستان، هنا راديو طالبان، والوضع يبدو أفضل، الأمريكيون يهربون وموسم حصاد الخشخاش وفير هذا العام”. وهي أخبار جيدة لحركة طالبان التي ستعتمد على الحصاد وتحوله إلى هيروين، لكي تعوض تراجع الدعم الدولي.

وربما تقوم بذلك كما فعلت في الحكومة السابقة، حيث أعلنت عن حظر جزئي على زراعة المخدرات منتظرة ارتفاع أسعارها في نيويورك ولندن. ويرى الكاتب أن اقتصاد طالبان قائم على هذه الوسائل، ويمكّنها من إدارة إمدادات المخدرات وهي تدير الدولة. ويقول: “علينا الاعتراف بأن طالبان تملك المبادرة وتستطيع تحويل انهيار الاقتصاد الأفغاني إلى سلاح. ولهذا السبب سارع مدير سي آي إيه، ويليام بيرنز، إلى زيارة كابول يوم الإثنين لمقابلة زعيم طالبان ملا عبد الغني برادر، ليس لمناقشة تمديد موعد جلاء الجنود الأمريكيين والمدنيين، ولكن لفهم طبيعة قوة طالبان المدمرة”.

ويقول بويز، إن قوة طالبان لا تقتصر على المخدرات فقط، ولكن أيضا على شبكات التهريب المعقدة. فالحركة تسيطر على خطوط التجارة والطرق السريعة والجسور التي تشكل نقاط الاختناق في جنوب آسيا. ففي حملتها السريعة، قامت بالسيطرة على نقاط الجمارك على الحدود إيران، وباتت الرسوم الجمركية التي كانت تأخذها الحكومة السابقة تحت سيطرتها. ويقترح منح جيران أفغانستان خيارا، إما استمرار التجارة مقابل منح طالبان الشرعية، أو المعاناة من توقف التجارة ومعها الموارد المالية. وما قام به شركاء طالبان في المنطقة هو ما يجب على الغرب عمله.

والسؤال المطروح هو عن طالبان وإن كانت قد “تغيرت” فعلا. لكن السؤال غير مهم في الوقت الحالي، ويجب أن يستبدل بسؤال عن استعداد الحركة لبناء أفغانستان قوية، أم أن قادتها منشغلون بحشو المال في جيوبهم؟

وسيظل السؤال فلسفيا: “كيف يمكن تحفيز مجتمع ما قبل الحداثة باتجاه الدولة الحديثة والمدنية؟”. وأهم من كل هذا، هناك مشكلة عملية، فربما أثرت طالبان نفسها في وقت تنهار فيه الدولة. فقد قررت الولايات المتحدة منع حكّام أفغانستان الجدد من الوصول إلى احتياطي البلد من الأموال وهو 9.4 مليار دولار.

وقرر صندوق النقد الدولي وقف توزيع 460 مليون دولار كاحتياطات طارئة. ويعني تعليق التحويلات المالية، أن نقل الأموال من الأقارب في الخارج سيتوقف. مما قد يؤدي لارتفاع معدلات التضخم، وكانت شحنات الدولارات الأمريكية كافية لدعم العملة الأفغانية، وقد توقفت الآن، ما أثّر على توفر المواد الغذائية في المحلات ودفع رواتب الموظفين المدنيين الذين اختبأ بعضهم.

ولو أضفنا إلى هذا انتشار وباء كوفيد- 19 وعدم توفر الأدوية والجفاف، فإن الدولة الأفغانية تنهار أو انهارت بالفعل. وكلما ساء وضع الأفغان، تحسن وضع قادة طالبان الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة، بحسب تعبير الكاتب. ويضيف أن “ورقة المقايضة مع الغرب هي الفوضى في البلاد التي تمكنهم (قادة طالبان) من العودة إلى شبكة التجارة غير الشرعية لدعم سلطتهم”. وهنا تبدو المعضلة، فهل سحب القوات الغربية يعني وقف الدعم؟ أي 4 مليارات دولار تغطي نسبة 75% من نفقات الحكومة.

ولو حدث هذا، فسيؤدي إلى تقوية رواية الخيانة الأمريكية للأفغان. وسيدفع طالبان لدعوة الجماعات الإرهابية التي تريد فتح معسكرات لها في البلاد. وسيؤدي إلى مجتمع “مطلبن”. أم أن الدعم سيتحول إلى سياسة العصا والجزرة يتم من خلالها دعم مشروعات معينة وفرض عقوبات على طالبان عندما تفشل بتحقيق وعودها؟ وهو المسار الذي تريد حكومة بوريس جونسون اتباعه، لكنها لا تفهم الوضع. فقادة طالبان ليست لديهم حسابات مصرفية في لندن أو نيويورك، وليس لديهم فلل على الشواطئ الفرنسية. وهم ليسوا مثل النخبة الروسية المتنفذة،

وكما كتب أشرف غني في كتاب أصدره عام 2009 “إصلاح الدول الفاشلة” قال فيه إن الأفغان يصطفون بالطوابير في دبي لتخزين أموالهم بدلا من تشغيلها في أفغانستان. ونفس البرفيسور الذي أصبح رئيسا، هرب هذا الشهر إلى دبي محملا كما قيل بحقائب محشوة بالأموال.

وأي محاولة لفرض عقوبات على طالبان يجب أن تدرس كيفية تدفق المال إلى بنوك الشرق الأوسط. والحيلة الوحيدة المتوفرة لدى طالبان من أجل جعل حكومتهم جذابة، هي الأموال الصينية، فقد فكّرت بتطوير مناجم النحاس وحقل للنفط في الشمال، لكن هذه المغامرات التجارية المتواضعة تعتمد على الأمن الذي كان يوفره الأمريكيون وقد ذهبوا، ولهذا خف الحماس الصيني، فبكين تخشى من طالبان وتسامُحِها مع المقاتلين الإيغور.

وعلى الغرب أن يكون قلقا من طالبان، ولكن عدم الخوف من الحديث معها ومن مسافة بعيدة.

—————————-

طالبان.. الحركة والفكرة/ مالك العثامنة

فعليا، طالبان نموذج أسوأ نظام حكم إداري وسياسي واقتصادي موجود في المجتمع الدولي الذي يعترف بحركة طالبان كحالة حضور سياسي وحسب الطلب!

لكن طالبان أيضا تمثل واقع ووقائع المجتمع الأفغاني بكل تفاصيله اليومية وكما وصفهم الكاتب المتخصص بالحركات الإسلامية فهمي هويدي فإن طالبان (.. يمثلون أول نظام حكم خرج من رحم الواقع).

ومن مشاهدتي لكثير من فئات المجتمع الأفغاني الذين وفدوا بالتسلل والتمرير مع موجات اللجوء السوري في أوروبا، فإن طالبان فعليا هم الحالة الأكثر تنظيما في عشوائيات عالم أفغانستان الفوضوي بكل مستوياته.

حتى تركيبة طالبان التنظيمية، لا تخضع لتنظيم تقليدي عادي، بل يمكن القول أن وصف “حركة” هو الأكثر دقة في تصنيفها بدلا من وصفها بالتنظيم، فطالبان ليست تنظيما يخضع لقواعد عضوية وليس لديها لوائح وأدبيات وقوانين محددة ولا أطر مؤسسية يمكن لها أن تضبط حدودها، وليس لها إلا كلمة فضفاضة واسعة لها حضور مقدس حد الرعب لا يمكن التفكير بمخالفته حتى لو خالف كل البديهيات الإنسانية وهو “الشريعة”، والشريعة التي هي قانون طالبان الوحيد مجموعة قواعد فقهية لا يحدها زمان ولا مكان ولا حتى عقل يضبطها ما دام المتحدث باسم الله “الشيخ أو الملا أو الفقيه” قادر على أن يشكل الرأي الخاص بالله نفسه وباسمه ويلقيه قانونا مقدسا قابلا للتغيير وبصعوبة مع أي شيخ آخر أو ظرف آخر.

طالبان، حركة وليست تنظيما، حركة تحمل كرة نار المقدس كقانون صارم وتتحرك في كل الاتجاهات بلا ضوابط ومحددات، وهي حركة بعموم تفكيرها تتحرك مندفعة نحو الأمام، ولكنها ملتفة الرقبة تنظر إلى الخلف، وترى في الماضي المتوقف عند مرحلة “الخلافة الراشدة” نقطة بداية التاريخ الذي توقف هناك بالضبط، لذا هي في بحث دائم ومستمر عن نظام رئاسي قديم رأس الدولة فيه اسمه “أمير المؤمنين”، فهو أمير على كل مؤمن “والمؤمن له تعريف محدد وصعب في الوصفة السلفية” ورأس الدولة أيضا هو خليفة المسلمين بذات الوقت.

لقد استطاعت طالبان في غفلة تاريخية ممزوجة بتواطؤ سياسي نفعي أن تعلن قيام نموذجها الأسوأ في الدولة ليكون منتصف التسعينات حالة حاضرة لدولة تأسست على مفهوم “الحركة”، وكانت القوانين التي أعلنتها دولة الحركة الأكثر غرابة وطرافة وقسوة وأيضا الأكثر توغلا عكس حركة التاريخ، ورغم استهجان العالم كله – بما فيه العالم الإسلامي المعاصر بعلمائه ومشايخه وفقهائه المعاصرين- إلا أن طالبان أعلنت دولتها بعناد بل ورأت فيه حالة قابلة للتصدير – وهذا يتماهى مع مفهوم الحركة- وأنها تحديدا تضع خطوط عامة – حسب رؤيتها الخاصة- لمستقبل كوكب الأرض وقد رأت في نفسها من جعله الله خليفته في الأرض، هكذا ببساطة ترى طالبان أميرها – أيا كان- في هذا العالم: خليفة الله على الكوكب!

حين تتوارد الأنباء عن هذا الانهيار العظيم للدولة – الدمية- في أفغانستان، والدخول السهل والمريح لحركة طالبان إلى كابل وقد تمددت بهدوء في كل أنحاء البلاد التي تشبه طالبان نفسها، تذكرت وانا أشاهد تلك المشاهد الموجعة على طرافتها، دخول “حركة” داعش إلى الموصل، ذلك الدخول المريح والسهل والقاسي والبشع بكل تداعياته، ودوما يأتي بعد أي رحيل عسكري أمريكي لم يكن ضروريا منذ البداية.

لقد كانت المشكلة الأميركية على الدوام تقوم على عدم وجود برنامج بناء لدولة مؤسسات وقانون بقدر ما هو وصفات وهمية على صناديق اقتراع ولجان مراقبة دولية حولها لانتخابات لا معنى لها لتحضير نخبة حكم “منتخبة” خارج قواعد المجتمع نفسه، وبغياب أهم ركن واجب الحضور: الدولة والمؤسسات والقانون.

إن الوصفة الأفغانية وصفة سهلة الصنع مثل أي صناعة منزلية لقنبلة بدائية، كل ما تحتاجه فعليا هو حضور قبلي يتم تكثيفه وتعظيمه، وتغذية المجتمع “القبلي بمجمله” بالموروث الديني الذي يصبح مقدسا حسب رأي “الشيخ او الملا او الفقيه” وهو غالبا الرجل الأكثر ذكاء في فئة الجهلة الأقل تعلما ومعرفة أكاديمية حقيقية.

لتكتمل الوصفة لا بد من تذويب الدولة المؤسسية، وإغراقها بالفساد ليصبح عاما وشرسا مما يجعل المجتمع “القبلي – المتدين” يقبل بأي حالة “مقدسة” تنهي العبث الذي يحيط به.

المشكلة.. أن العبث لا ينتهي إلا بدولة مؤسسات وقانون ومواطنة ودستور.

لذا، ستبقى “حركة طالبان” حركة تتمدد كفكرة في كل جغرافيا محكومة بالقهر واليأس والبؤس المعرفي، وتتبلور في غياب الدولة والمؤسسات وحكم القانون.

الحرة

————————-

أية هزيمة للولايات المتحدة في أفغانستان؟/ حسن منيمنة

التقاذف متواصل بين الاحتفاليين والاعتذاريين. ثمة رغبة لدى أولئك بإلصاق نعت الهزيمة النكراء بما جرى للولايات المتحدة في أفغانستان، في مقابل مسعى في أوساط هؤلاء لإدراجه في إطار التحول الرائق والمتوقع بإجماله، وإن لم يكن بتفصيله.

واقع الحال، لا جيوش طالبان تجول بالبيارق المرفوعة في جادات العاصمة واشنطن للحديث عن الفتح المبين، ولا الآلة الحربية الأميركية تعيد توزيع عديدها وعتادها بالدقة المتعمدة والتأني الرقيق، بما يسند مقولة الانتقال السلس.

الولايات المتحدة قد هزمت بالفعل في أفغانستان، فيما يتعدى صورة الفوضى في مطار كابل، والتنسيق الاضطراري مع عدو الأمس. غير أنها هزيمة بمقاييسها الذاتية، وليست هزيمة إزاء أحد.

أصول الهزيمة تعود إلى قرار الهجوم على أفغانستان نفسه، في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001.

ما كانت الولايات المتحدة تفتقده في أعقاب هذا الاعتداء هو نظرية علاقات دولية متماسكة. في المرحلة السابقة، أي الحرب الباردة، كانت قراءة الولايات المتحدة للأحوال الدولية موحّدة في تقييمها للتحديات والمصالح، وإن اختلفت، بين التيارات الفكرية والتوجهات الحزبية، في تصورّها للسياسات التي تقتضيها. كانت ثمة منظومة اشتراكية شمولية تسعى إلى التمدد بما يهدد مصالح الولايات المتحدة والبنى الدولية التي أنشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فسواء كان الرد تشديد المواجهة لغرض الإنهاك، أو التواصل الذي من شأنه تفكيك جهود الخصوم، فإن خطوط التماس بين العدو والصديق كانت واضحة، ودور الولايات المتحدة في قيادة العالم الرأسمالي الحر كان جلياً.

مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، أصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة، وانحصرت مسؤولية ضمان الاستقرار العالمي بها، ما أسس لتنازع فكري داخلها، بين من يدعو إلى الانطواء، طالما أن الأخطار قد انحسرت، ومن يرى وجوب المحافظة على النظام الدولي القائم وتعزيز دعائمه من خلال المؤسسات الدولية، ومن يرى في الأمر فرصة لإعادة صياغة العالم بما يتوافق مع المصالح والقيم الأميركية، باعتبارها الأنسب عالمياً وإن جهل الآخرون الأمر، وهي الرؤية المحافظة الجديدة.

“غزوات” الحادي عشر من أيلول خلطت الأوراق، وهزّت شعور النصر المفصلي والأمان التاريخي واللذين كانا سائدين في الولايات المتحدة. الحاجة إلى فعل حاسم كانت ماسة. السؤال كان وحسب حول طبيعة الخطوة العتيدة، أي الحرب على أفغانستان. اقتصاصية؟ ربما. حرب عادلة”؟ هكذا ارتآها العديد من التقدميين.

على أن تأطير الهجوم على أفغانستان تمّ في نهاية الأمر عبر تلاقي ثلاث قراءات. إحداها، قراءة “المصلحة الوطنية” كانت القائلة إن المطلوب هو فعل عقاب وردع، أي الدخول إلى أفغانستان، تدمير القاعدة المستوطنة فيها، تأنيب حكامها من طالبان بكل القسوة، وترك الأمر للأسرة الدولية لمعالجة التبعات.

القراءة الثانية، تستدعي المبادئ والقيم، وترى في التجاوز الصادر من أفغانستان نتيجة مباشرة لإهمال من واشنطن لمن عبأتهم واستفادت منهم لاستنزاف الاتحاد السوفييتي، أي المجاهدين ومن جاء بعدهم من طالبان. فلضمان استقرار أفغانستان وجوارها والعالم، كان لا بد بالتالي من استبدال النظام الإسلامي القائم بآخر متوافق مع المنظومة الدولية، بفعل أميركي ومساهمة عالمية.

أما القراءة الثالثة فهي التي رأت في الفوضى في أفغانستان وفي استفحال الحركة الجهادية فرصة لتجاوز الفعل التصحيحي باتجاه الإقدام على تأسيس واقع جديد، الشرق الأوسط الكبير، المتوافق في قيمه وبناه ونظمه مع الرؤية المحافظة الجديدة.

المشترك بين القراءات الثلاث هو العزم على القضاء على القاعدة والاقتصاص من طالبان. ورغم أن هذا الهدف الأولي قد تأخر، فإنه كان بالإمكان زعم تحقيقه في وقت لاحق، ولا سيما مع مقتل أسامة بن لادن وتشتيت القاعدة، رغم أن ثمن هذا التشتيت، وسوء متابعته، كان ظهور ما هو أسوأ من القاعدة.

التلاقي المرحلي بين القراءات الثلاث انتهى بعد أعوام قليلة من سقوط كابل والشروع الفاشل بمساعي تنفيذ الأهداف التالية على تضاربها، بل أن هذه الأهداف قد فقدت الزخم، في أفغانستان كما في العراق وسائر العالم، وأمسى لسان حال واشنطن السعي للتخلي عن دور شرطي العالم.

ولكن المشاريع المستهلِكة للأموال العامة لا تزول من تلقاء نفسها، بل لها في بناها من المستفيدين الموضعيين ما يضمن استمرارها. لا حاجة هنا لاستدعاء نفوذ فائق لشركات الانتاج الحربية لتفسير هذا الاستمرار، دون تبرئتها، ذلك أن أعداد المستفيدين، في الولايات المتحدة نفسها وأفغانستان وسائر العالم كانت واسعة إلى حد تعزيز الزخم للاستمرار، ما لم يأتِ قرار ترشيد المصلحة الوطنية من السلطة السياسية في واشنطن.

هذا في حين أن ضياع الخطاب الواضح حول جدوى الحرب الطويلة في أفغانستان وانحسار الخطر الجهادي الإرهابي، أو انتقاله إلى خارج أفغانستان، ضاعف التململ في أوساط المجتمع من حرب يبدو أن نتائجها هو وحسب أعداد من القتلى والمعوقين من الجنود الأميركيين.

أي أنه كان بوسع الرئاسات الأميركية المتعاقبة، بناءً على الرغبة بالتخلي عن دور شرطي العالم، وتجاوباً مع الإرادة الشعبية بإنهاء حرب غير مفهومة، أن تقدم على خطوة وضع حد للمواجهة قبل عقد من الزمن أو أكثر. عرضياً، رغم أن الأمر خارج الاهتمام أو الوعي بالنسبة للغالبية في الولايات المتحدة، ونظراً إلى النتيجة التي تحققت اليوم، كان من شأن ذلك أن ينجي مئات الألوف من أهالي أفغانستان من الموت والألم، وينقد بلادهم من مضاعفة الدمار.

هل كانت الرئاسات المتعاقبة في واشنطن خلال هذه المرحلة الحرجة على مستوى المسؤولية؟ الحكم للتاريخ طبعاً، ولكن الاستعراض الأولي لأداء الرؤساء لا يفيد الطمأنينة. باراك أوباما قرّر بما يشبه الاعتباطية أن الحرب في العراق هي الاختيارية وفي أفغانستان هي الاضطرارية، ثم عاد ومنع عن قواته المسلحة ما يمكنهم من الانتصار بحربه الاضطرارية. كان جلياًً بالنسبة لطالبان، منذ أن تولّى أوباما الرئاسة أن المسألة هي قضية وقت وحسب قبل الانسحاب الأميركي. لا رغبة بالمزيد من الضخ والالتزام، والأهم لا رؤية حول طبيعة الانتصار وكيفيته.

ثم جاء دونالد ترامب، مستعيناً بفكرة الانسحاب وجداوها انتخابياً، وسعى مهرولاً لتحقيق الانسحاب في عهده، دون اعتبار للعواقب، ولا سيما في تضييع الضئيل الذي كان قد تحقّق بنيوياً، فسعى إلى توقيع اتفاق مع أعداء الأمس، بل كاد أن يستقبل وفد طالبان في واشنطن في الذكرى السنوية لاعتداءات الحادي عشر من أيلول. وترك الرئاسة والتواجد الأميركي في أفغانستان في حال افتقاد للخطط الميدانية، بالإضافة إلى غياب الرؤية التأطيرية.

ثم كان دور جو بايدن، والذي عاش ارتباك أوباما يوم كان نائباً له، وعلى ما يبدو شاء أن يستفيد من تسرّع ترامب، لإيلاء الشأن الداخلي كل اهتمامه، فجاءت خطواته من طينة سلفيه، محدودة الرؤية وقاصرة الأداء.

ليس في الأمر تنقيص من صمود طالبان ومقاومتها للقوات الأجنبية، دون أن يصل هذا التقدير إلى حد الارتقاء بها إلى وصف يشبه الحركة الوطنية. هذا التنظيم لم يتردد لتحقيق أغراضه باستباحة دماء الأبرياء. ورغم العقيدة القتالية “الحضارية” للقوات الأميركية والحليفة، فإن أداء هؤلاء بحق الأفغان ليس مشرّفاً بدوره.

غير أن من هزم الولايات المتحدة في أفغانستان هي الولايات المتحدة نفسها، ساعة تشتّتت  الرؤية التي زجّت بها في هذه البلاد البعيدة، وساعة عجز رؤساؤها المتعاقبين عن اتخاذ القرارات الواضحة الحازمة.

ما جرى في أفغانستان يتطلب مراجعات ومساءلات سوف تجري حكماً، وسوف ينتج عنها مطالبات بنهج جديد وسياسات مختلفة تحيط منطق التدخلات الخارجية بفائق الحذر. ولا شك أن خيبات الأمل واسعة ومتشعبة في الولايات المتحدة والصف الغربي، كما في أفغانستان نفسها وفي سائر العالم، الذي اعتبر واهماً أن الانخراط الدولي الطويل الأمد في أفغانستان من شأنه أن يستنهض هذه البلاد المنكوبة.

المسألة ليست في عدم توفر الإمكانيات. للولايات المتحدة من القدرة البناءة ما كان من شأنه تشييد أفغانستان مرات عدة، ولها من القوة الضاربة ما كان كفيلاً بإبادة طالبان عن بكرة أبيها.

ولا المسألة في القناعات. بل المجتمع الأميركي حاضر لأن يستجيب من حيث المبدأ ثم المصلحة لدعوة المساهمة في استنهاض الآخرين إذا كان التأطير واقعياً ومنطقياً. ربما أن الهزيمة الفعلية للولايات المتحدة، في أفغانستان كما في العراق، كانت أنها عجزت عن إنتاج القيادات الكفيلة بوضع إمكانياتها الفائقة في خدمة ما يتوافق مع مصالحها ومبادئها في آن.

قد يكون جو بايدن صائباً في تقييمه أنه لا سبيل لأن يكون الخروج من أفغانستان مختلفاً. إذ ليس في الأمس القريب رئيس كان بالإمكان أن ينتظر منه أداءً يحقق هذا التوافق.

عسى أن يكون في التقييم اللاحق لهذه التجربة المرّة إقراراً بالظلم الذي أصاب سكان أفغانستان. وأن يبنى على الأمر مقتضاه.

————————–

تكاليف الكارثة الأفغانية/ إيلان بيرمان

في الوقت الحالي، لا شك في أن انسحاب إدارة بايدن المتسرع وغير المنسق من أفغانستان لا يقل عن كونه كارثة. السرعة التي انسحبت بها القوات الأميركية في الأسابيع الأخيرة ساعدت في تمكين زيادة القوات من جانب طالبان، مع حدوث نتائج مأساوية، بينما أدى عدم وجود خطط طوارئ مناسبة لإجلاء، أو حتى حماية، المدنيين المعرضين للخطر إلى مشاهد مأساوية من الفوضى والاضطراب المستمر.

سعى صناع السياسة في واشنطن الآن بشكل محموم إلى إصلاح الضرر. الإجراءات التي يستخدمونها، بما في ذلك النقل الجوي للمواطنين الأميركيين واللاجئين الأفغان وتنسيق السياسات الدولية لحقوق الإنسان، قد تؤدي إلى بعض التأثير، لكن من المؤكد أن العواقب طويلة المدى لسوء تقدير الإدارة سوف يتردد صداها لسنوات قادمة. وعلى الرغم من عدم تحديد المدى الحقيقي للضرر بعد، فمن الواضح بالفعل أن هذه التكاليف سيتم تقديرها بعدد من الطرق الملموسة.

أحد الأسباب، أن تراجع أميركا، وتقدم طالبان، قد مهدا المسرح لإعادة تنشيط التشدد الإسلامي العالمي. في الشهر الماضي، أبلغت لجنة من الخبراء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن التهديد الذي تشكله الجماعات المتشددة مثل “داعش” والقاعدة لا يزال بالغا. وقالت دراستهم مؤكدة: “شهد النصف الأول من عام 2021 استمرارية واسعة من حيث طبيعة ومصدر التهديدات التي يشكلها تنظيم “داعش” وتنظيم “القاعدة” والجماعات التابعة لهما، إلى جانب التهديدات المتزايدة الناشئة في بعض المناطق”.

الآن، تهدد نجاحات طالبان السياسية والاستراتيجية المذهلة بجعل الوضع أسوأ بشكل كبير. في داخل أفغانستان نفسها، يشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من أن الاستيلاء الناجح للحركة قد مهد الطريق لعودة محتملة للقاعدة، وهو ما أصبحت الولايات المتحدة الآن أقل قدرة على مراقبته. في الخارج، ساعد انتصار طالبان في إلهام جيل جديد من المتشددين المتحمسين لحمل السلاح ضد الغرب.

وشيء آخر، تسبب الانسحاب الأميركي من أفغانستان في زعزعة استقرار الحلفاء والشركاء بشدة. أثارت الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة من أفغانستان، وتخليها عن السكان المحليين الذين ساعدوا سابقا في المجهود الحربي الأميركي، تساؤلات جدية بين الدول الشريكة حول متانة تعاونهم مع الولايات المتحدة، وربما حتى مدى صواب ذلك. من جانبهم، يبذل خصوم أميركا قصارى جهدهم لتضخيم تلك المخاوف. حذرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية تايوان من أنه من المحتمل أيضا أن تتخلى عنها الولايات المتحدة في الوقت المناسب. فعل زعيم حزب الله، حسن نصر الله، الشيء ذاته، إذ أبلغ إسرائيل علنا أنه لا يمكن الاعتماد على دعم الولايات المتحدة.

في الأوقات العادية، قد تكون هذه الشكوك ضارة، لكن في وقت “منافسة القوى العظمى” بين الولايات المتحدة والصين، فإنها لا تقل عن الدمار.

ثم هناك مكانة أفغانستان نفسها. خلال تجربتها السابقة في الحكم، من عام 1996 إلى عام 2001، كانت طالبان منبوذة عالميا، مع القليل من العلاقات الدولية وحتى الدعم العالمي الأقل. اليوم، ومع ذلك، تجد الحركة نفسها في وضع أفضل بكثير. لقد أشارت دول مثل روسيا وإيران بالفعل إلى قبول واعتراف حذر بحكم طالبان. في غضون ذلك، كانت الصين أكثر حماسا، ولسبب وجيه. منذ بعض الوقت، تعمل الصين بهدوء على تعزيز نفوذها في أفغانستان من خلال الاستثمارات ومشاريع البناء، بهدف أوحد: جعل أفغانستان ما بعد أميركا ممرا استراتيجيا رئيسيا على طول “الحزام والطريق”.

يضع هذا الولايات المتحدة على حافة معضلة خطيرة. لقد امتنعت إدارة بايدن عن الاعتراف بطالبان، وهددت بتحويل أفغانستان إلى “دولة منبوذة” إذا لم تلتزم المجموعة بالمعايير الدولية. ومع ذلك، إذا اتبعت دول أجنبية كافية خطى الصين وتوصلت إلى اتفاق مع القيادة الجديدة في كابل، فلن تكون أميركا قادرة على فعل أي شيء من هذا القبيل. في الواقع، قد تضطر إلى قبول طالبان أيضا، مما يمثل هزيمة كبرى لواشنطن ونجاحا كبيرا لبكين.

في الوقت الحالي، لا يزال المسؤولون يحاولون التخفيف من الآثار التي أعقبت الرحيل الجاف للولايات المتحدة من أفغانستان. لكن بعد فترة وجيزة، ستحتاج أميركا، والعالم، إلى التعامل مع العواقب الاستراتيجية طويلة المدى لذلك القرار المصيري.

الحرة

———————–

أفغانستان، من هزيمة لأخرى/ ألان غريش

ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.

كنا في ربيع 1988 مجتمعين في كابول. كان الاتحاد السوفييتي قد أعلن بصوت ميخائيل غورباتشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي، الانسحاب من جانب واحد لقواته التي دخلت أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979. لأول مرة انفتح النظام على مجموعة من 150 صحفي أجنبي، غالبيتهم من الغرب، ومعظمهم كانت لهم دراية بتاريخ وثقافة أفغانستان تقترب بصفة خطيرة من مستوى الصفر. كانت تتلخص معرفتهم في مُسَلَّمةٍ بدائية، هي أن الحرب تدور بين مجاهدين مكللين بالمجد ضد حزب شيوعي يُقلَّص إلى دور الدمية السوفييتية، وهو الحزب الديمقراطي الشعبي الذي استولى على السلطة في 27 أبريل/نيسان 1978. في المساء، ونحن محجورون في الفندق، ساعة قبل بداية حظر التجول، تمت دعوتنا من طرف القائم بالأعمال الأمريكي الذي فصّل، مستندا إلى خرائط عسكرية وبثقة الجنرال عشية انتصار كبير، كيف سيستولي المتمردون على كابول بمجرد مغادرة آخر الجنود السوفييت. كان الصحافيون، المسلحون باليقين والمفتونون بهذه المعلومات، يجوبون شوارع العاصمة يتربصون باصطياد صورة ترمز إلى الهزيمة الحتمية للاتحاد السوفييتي، صورة دبابة منقلبة في وادٍ بالمدينة مثلا، كدليل لا يُدحض عن تفكك النظام.

لا أحد آنذاك كان يهتم بمستقبل النساء الأفغانيات، مع أن نصفهن فقط في العاصمة كن يرتدين البرقع الأفغاني، ذلك الحجاب الذي يغطيهن من الرأس إلى أخمص القدمين، لا يترك سوى ثغرة شبكية ضيقة على مستوى الوجه، وكنا نصادف بعضهن في أروقة الوزارات والإدارات. كانت النساء وقتها يتحصلن على التعليم، في المدن الكبرى على الأقل. الصراع الذي اختصر إلى صدام بين الشرق والغرب وبين الشر والخير كان مع ذلك يشمل لاعبين آخرين غير الكبيرين. كان للحزب الشيوعي الأفغاني، الذي يعج بتيارات متعددة وجد منقسمة، تأثير محدود لكنه حقيقي خاصة لدى الفئات “الحديثة” ـ خاصة الضباط والجنودـ ولدى الأقليات مما دفعه إلى الاستيلاء على السلطة دون إذن من السوفييت الذين كانت لهم علاقات ممتازة مع الرئيس المخلوع محمد داود خان. كنت قد التقيت آنذاك بعض كوادر الحركة وقدرت كم كان عزمهم كبيرا على عدم التنازل عن السلطة دون قتال.

“جعل الروس ينزفون”

كانت المقاومة الأفغانية منقسمة إلى مجموعات متعددة، وتعززت التيارات الراديكالية (لم يكن يستعمل لفظ الجهاديين بعد) مع استمرار الحرب وجرائم الجيش الأحمر. لكن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والغربيون كانوا ينظرون إليهم على أنهم “مقاتلين من أجل الحرية” يواجهون “إمبراطورية الشر”، وكانوا يزيَّنون بكل فضائل الفرسان الشجعان، المحركون للمشاعر بأزيائهم التقليدية. في كتاب نُشر في عام 1995

1

، كتب الصحفي الأمريكي سيليغ هاريسون ووسيط الأمم المتحدة لأفغانستان ووزير خارجية الإكوادور السابق دييغو كوردوفيز: “إذا كانت موسكو هي الشرير، فلم يكن هناك بطل” في هذه القصة. مع أنه كان من الضروري بالنسبة لواشنطن “القتال حتى آخر أفغاني” لـ “جعل الروس ينزفون”. تم تحديد هذه الاستراتيجية في عام 1980 من طرف فرانسيس فوكوياما، ذلك الباحث الشاب الذي انضم بعدها إلى إدارة الرئيس رونالد ريغان، والذي لم يجعله كتابه “نهاية التاريخ” (The End of History and the Last Man, 1992) بعدُ مشهورا. باسم وجهة نظر ثنائية مطلقة، قامت الولايات المتحدة، على مر السنين، بكسر جهود الأمم المتحدة لتأمين انتقال سلمي قائم على انسحاب الجيش الأحمر.

صحيح أن الاستراتيجيين الأمريكيين -ولم يكونوا الوحيدين-، أوَّلوا التدخل السوفيتي في أفغانستان على أنه دليل على توسع جامح -البحث عن الوصول إلى البحار الدافئة- كمرحلة بسيطة في عملية غزو العالم. وقد أعلن الفيلسوف جان فرانسوا ريفيل، “اليقظ” دائما، عن نهاية الديمقراطيات، غير القادرة على محاربة “أخطر هؤلاء الأعداء الخارجيين، الشيوعية، وهي المتغير الحالي والنموذج المكتمل للشمولية”..

مصنع الجهاديين

مع أنه لم يكن أمام هذا “النموذج المكتمل” سوى بضع سنوات من العيش، ولم تكن دبابات الجيش الأحمر على استعداد لاكتساح الشانزليزيه. لم يكن للحرب التي مولتها واشنطن وزن كبير في انهيار نظام محتضر أصلا، ولكنها أعطت قوة غير متوقعة لأشد الجماعات المتطرفة من المتمردين التي كانت الولايات المتحدة وباكستان تمولها بشكل أولوي: أليسوا هم الذين يقاتلون بصفة أفضل؟ لقد تشكل في إطالة أمد هذه المواجهة الطويلة والقاتلة، جيل من الجهاديين الأفغان والعرب، الذين سينقلبون على الولايات المتحدة، كما سنرى مع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. إذا لم تكن واشنطن قد خلقت القاعدة، كما يود البعض اعتقاده، فهي ساهمت في ذلك بعماها.

لنعد إلى كابول في ربيع عام 1988. على عكس هذيان الدبلوماسي الأمريكي، بقي النظام مدة ثلاث سنوات بعد رحيل الجيش الأحمر وقاوم بشكل أفضل بكثير من السلطة الأفغانية التي نصبتها واشنطن. لم يسقط هذا النظام إلا بعد قرار روسيا، التي خلفت الاتحاد السوفيتي، بوقف إمداد حليف الأمس بالأسلحة وانشقاق الجنرال عبد الرشيد دوستم، وهو من أصل أوزبكي – الذي نجا من جميع حلقات الحرب حتى اليوم.

والنتيجة كانت عدة سنوات من الحرب الأهلية وصعود قوة طالبان، فقد تمكن “طلبة الدين” هؤلاء، الممولين والمدعومين بشكل واسع من طرف باكستان، حليف الولايات المتحدة، من وضع حد للحرب الأهلية التي تناحرت فيها مختلف مجموعات المجاهدين، واستولوا على كابول في عام 1996، وأقاموا نظامًا ظلاميًا ووفروا لأسامة بن لادن قاعدة آمنة. لكن بالنسبة لواشنطن، مع انتهاء الحرب الباردة، لم تعد أفغانستان أولوية. وسرعان ما تم نسيان مصير النساء الأفغانيات، الذي يُتحجج به أحيانًا لتبرير الغزو الأمريكي.

“الحرب على الإرهاب”، دوامة لا نهاية لها

لكن بعد 11 سبتمبر/أيلول، شنت الولايات المتحدة حملة صليبية جديدة، “الحرب على الإرهاب”، وغزت البلاد. لكنها، مثل السوفييت، ستنغرس في وحل نزاع بلا نهاية وبلا أمل في النصر. كانت “الضربات الجراحية” تتسبب في مقتل العديد من الأبرياء إلى جانب طالبان. وكانت الهجمات تثير عمليات انتقامية لم يسلم منها المدنيون؛ وكان “فرض السلام” يدفع المزيد من الأفغان إلى المنفى أو الانتقال إلى المدن الكبرى.

أما وعدهم بإرساء الديمقراطية فقد بقي مجرد حبر على ورق. كما كتبت هيومن رايتس ووتش في عام 2002: “عندما طردت الولايات المتحدة طالبان في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وُعد الأفغان بعهد جديد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان … لكن الأمل الذي قامت بتغذيته لم يتحقق

2

.

سرعان ما ظهر القادة الجدد، المفروضون من الخارج والمنقسمون والفاسدون والمعتمدون على ميليشيات تم توثيق انتهاكاتها بصفة واسعة، على أنهم تُبّع للولايات المتحدة، مثيرين المقاومات الأولى ثم عمليات القمع الأولى. وهي دوامة لا نهاية لها مماثلة للكابوس الذي عاشه الجيش الأحمر.

نهاية الإمبراطوريات والحروب غير القابلة للكسب

في عام 1969، وقت طويل قبل التدخلات السوفيتية والأمريكية كتب باحث أفغاني في كتيب صغير يقدم فيه بلاده: “إحدى أهم خصائص الأفغان هو حبهم الذي لا يقهر للاستقلال. قد يقبل الأفغان بصبر حظهم السيء أو فقرهم، ولكن لا يمكن جعلهم يتصالحون مع سلطة أجنبية مهما كانت مستنيرة أو تقدمية”.

جربت ذلك الامبراطورية البريطانية بصفة كارثية ثلاث مرات خلال التاريخ الحديث في 1842 و1881 و1919. بالنسبة للأوليين كان الهدف “تفادي” التقدم القيصري في آسيا الذي كان يهدد الهند، الجوهر النفيس للإمبراطورية. أما الثالثة فتعلق الأمر بمواجهة تنامي الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار في هذا البلد. جرب بعد ذلك الاتحاد السوفييتي حظه “لتفادي.. التخطيطات الامبريالية”. وها هي اليوم الولايات المتحدة التي تنسحب بعد أطول حرب في تاريخها تم خوضها باسم ضرورة سحق الإرهاب.

إذا كانت للنكسات الامبراطورية في القرن 19 وبداية القرن العشرين طابع استثنائي في وقت كانت فيه الإمبراطوريات الاستعمارية لا تزال تهيمن على المعمورة، فإن الهزائم التي تلت بعد ذلك تؤكد على الخصوص موت فكرة الامبراطورية ذاتها، وانتصار الاستقلال الوطني لهذه الشعوب التي كانت تنعت ذات مرة بـ“القاصرة”.

في حصيلة حديثة أجراها المركز المرموق للاستراتيجيات والدراسات الدولية بواشنطن يشير أحد كبار محلليه، أنطوني كورديسمان: “إذا درسنا تكلفة الحرب وغياب أي تبرير استراتيجي واضح ومتماسك لمواصلتها، فليس من البديهي أن تقوم الولايات المتحدة بتخصيص الموارد التي جندتها في حرب لم تكن تدخل في أية أولوية استراتيجية لتبرير عقدين من الحرب”

3

.

مع أنه كانت هناك “أولوية إستراتيجية” غطت التدخل في أفغانستان: “الحرب ضد الإرهاب” التي انضمت إليها العديد من الحكومات، ومنها حكومة فرنسا (بعد تردد في البداية). تسجل “حرب الـ 20 سنة” هذه كل نزاع وكل تمرد وكل احتجاج عبر المعمورة ضمن صراع أُخروي ضد الشر، ضد وهم يستحيل الإمساك به أو تدميره: الإرهاب. فهذا ليس “عدوا” بل شكل من أشكال العمل الذي عبَر التاريخ واستعملته حركات مختلفة جدا مثل اللاسلطوية (الأناركية) والصهيونية والجيش الجمهوري الإيرلندي و“إيتا” الباسكية أو “القاعدة” ولكن أيضا ـوقد يتناساه البعض ـ من طرف الدول (فرنسا في الجزائر أو إسرائيل في الشرق الأوسط). لذا يمكن التشكيك في أن مآله الاختفاء.

تمثل إذا الهزيمة الأمريكية في أفغانستان قبل كل شيء إخفاقا في إحدى تلك الحروب غير القابلة للكسب وتنوعاتها المختلفة من الساحل إلى كردستان ومن فلسطين إلى اليمن والتي تغذي ما يزعمون بأنهم يقاتلونهم. كم يتطلب من الوقت لاستخلاص الدروس من ذلك؟

ألان غريش

مدير مجلة أوريان ٢١، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها “علام يدل اسم فلسطين؟”، من منشورات “les lien

————————————

إيران وطالبان… هل هي بداية ولاية فقيه سنية شيعية؟/ حسن سنديان

“من هو هذا الغبي الذي حرر الخبر؟”، بهذه الكلمات الغاضبة علّق مدير القسم العربي في وكالة تسنيم الدولية للأنباء، حول سياسة الخبر الذي حررته آنذاك، في مكتب سوريا، عن طالبان، وبدء المفاوضات مع الحكومة الأفغانية عام 2018. كان المقال يسرد تفاصيل الحركة المتطرفة، وإفرازها للجهاد من النصرة، وغيرها من الحركات الإسلامية المتشددة التي قاتلت في سوريا والعراق.

بدأت الاتصالات عبر “السكايب” تنهال من إيران، وتكلم آنذاك مدير القسم العربي، وقال لي: “ما فعلته غباء، لا نريد ضرب حركة طالبان، أو استهدافها”، مضيفاً: “احذف الخبر الآن، هذه ليست سياستنا”. لوهلة، ظننت أن الخبر تعدى حدود المحظور في إيران، وربما تم فهم السياسة الإيرانية، أي “الثورة”، بطريقة خطأ مني.

أردت أن أعرف ما هو خطئي، ولماذا هذا التوبيخ من مدير القسم العربي؟ “ما هو خطئي؟ فطالبان متطرفة عموماً، ومن البديهي مكافحتها دولياً، فهي كداعش، بغض النظر عن الاختلاف الفقهي بينهما”. ارتفع صوت مدير القسم العربي، ولكن هذه المرة ظهرت على لغته العربية اللكنة الفارسية، قائلاً: “افهم… نحن وطالبان نتفق في السياسية والتوجه، ثمة تراتبية دينية بيننا، وغيرها من السياسيات”. هنا أردت أن أسأل سؤالاً واحداً كي أنهي الحديث: “كيف ذلك؟ يعني تقصد القول إن ولاية الفقيه، والتدين في إيران، تماماً مثل “مبايعة الأمير” في طالبان؟” يجيب: “نعم على غرار ذلك. ولكن تختلف القضية. عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران أتعلم على ماذا قامت؟ أتعلم كيف قامت؟ قامت على الشريعة الإسلامية، وفي حال ألقى الحرس الثوري القبض على أحد المستمعين للأغاني، كانوا يجلدونه آنذاك على طول شريط الكاسيت الذي بحوزته”.

بكل بساطة، كان هذا الحديث، بالنسبة إلي، دليلاً كافياً على وجه الشبه بين تراتبية أمير المؤمنين في طالبان من جهة، والمرشد الأعلى في إيران علي الخامنئي من جهة أخرى، من حيث السلطة، والحكم الديني، والولاء، ليتضح اليوم مصير العلاقة بين طالبان وإيران، بعد غموض دام سنواتٍ كثيرة، تخللته خلافات ظهرت في الإعلام، إذ تتهم طالبان إيران بتصدير الفكر الشيعي إلى داخل الحركة، بينما ترى إيران أن الحركة تهدد الأقلية الشيعية في أفغانستان.

ولاية الفقيه والإمارة الإسلامية

في الحسينيات الشيعية، كان الشيوخ يطلبون منا اتّباع “إمام زماننا”، ويرددون قول: “من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة الجاهلية”. أردت تفسير هذا القول، لأنه كان بالنسبة إلي غامضاً. وكنت أعتقد أنني سأموت من دون أن يعلم بي أحد، وستنبذني طائفتي. سألت أحد الشيوخ، فلخص باختصار: “يجب أن تتّبع أحد العلماء في عصرنا الحالي”، ونصحني بالخامنئي “ولي الفقيه”، إمام زماننا الحالي. بدت الصور تتضح اليوم أكثر فأكثر. في أغلب الحسينيات، كان حديث رجال الدين من ولاية الفقيه، عن العدو الأكبر أمريكا، و”داعش”، والنصرة، وإسرائيل، ولكن لم أسمع في يوم من الأيام عن العدو طالبان، الذي يفرز نظاماً يشبه ولاية الفقيه في إيران، ولكن باستخدام مصطلح أمير المؤمنين، أي في يومنا هذا ولاية فقيه، لكن سنية.

طالبان التي لطالما كتمت سرها إيران، في طائفتنا “الشيعة”، تشبه نظام ولي الفقيه فيها، الذي يقوم على هرم السلطة، حيث “المرشد” له الصلاحيات التامة. يقابله اليوم في طالبان، الملا هيبة الله أخوند زاده. ونظام مجلس الشورى، وصيانة الدستور الإيراني، يشبه التراتبية في طالبان، من حيث مركز الشورى المركزي، في اتخاذ القرار حين تشكَّل حكومة طالبان.

هذا الشيخ الذي شرح لي مبدأ ولاية الفقيه، ومبايعة الخامنئي، دعاني لأحضر بعض دروس الفقه في طائفتنا، والعلاقة بين الولاية والمهدوية، التي تعطي الإذن لولي الفقيه بتولي زمام أمور الأمة، نيابةً عن المهدي في زمن الغيبة، ومنحه صلاحيات كان يمتلكها النبي محمد، والمهدي، في تأسيس الدولة، وتولي إدارتها، مع الامتداد في الولاية إلى خارج إيران. الأمر المشابه لطالبان في إقامة إمارة إسلامية، ولكن على المذهب الحنفي. لوهلة سألت نفسي: هل أنا متطرف شيعي؟

شريط الكاسيت وسقوط كابل

الانسحاب الأمريكي بوتيرة متسارعة من أفغانستان، فاجأ الجميع، على غرار ما حدث مع الخميني عام 1979، ليصل إلى طهران بطائرة فرنسية تقله من منفاه في باريس في “نوفل لو شاتو”. خطوة صدمت الجميع آنذاك، إذ كانت البلاد تشهد فوضى واحتجاجات، بسبب شرائط الكاسيت التي كان يرسلها الخميني من منفاه في باريس، وتضمنت خطباً دينية عن “الصحوة الإسلامية”، التي أطاحت بحكم الشاه بهلوي، بعد مغادرته البلاد بذريعة طلب العلاج، في مشهد مشابه لما حصل مع الرئيس الأفغاني أشرف غني، مفاجئاً الجميع بهروبه قبل سيطرة طالبان على البلاد بكاملها.

يرى العالم اليوم، في أفغانستان، مشهداً مشابهاً لما حصل في إيران عام 1979، حين وصل الخميني إلى طهران، ببزوغ نجم هيبة الله أخوند زاده، الأمير الجديد لطالبان، بعد 27 عاماً مرت على نشأة الحركة المتطرفة، التي انطلقت من المدارس الدينية، ومبايعة الأمير، وسقوط الجيش الأفغاني، بدخول الحركة إلى العاصمة كابل بوجهها اللطيف، وتوزيع الضمانات المجانية على جيرانها، والغرب.

إيران اليوم لا تمانع التعامل مع طالبان، فبعض القادة في الحرس الثوري الإيراني رحبوا بدخول الحركة إلى العاصمة الأفغانية، معتبرين ذلك نصراً للشعب على الغطرسة الأمريكية، في انتظار تقاسم التركة مع طالبان، بعد سماح الحركة للشيعة الأفغان بإحياء مراسم عاشوراء. وأمرت مقاتليها بتوفير الحماية للحسينيات، والمواكب العاشورائية، عقب زيارة قيادي من الحركة يدعى أمير خان أحد مجالس العزاء الحسيني، الخميس الماضي، قائلاً إن “طالبان لا تعارض التشيع، ولا تنتهج منهج داعش”…

على ما يبدو، فإن هذه التطمينات من طالبان لإيران، ليست إلا بداية حلف جديد في المنقطة، بولاية فقيه سنية-شيعية، تحت ذريعة محاربة “العدو الأكبر”، أمريكا وإسرائيل، عبر صياغة جديدة لتمدد نفوذ إيران أكثر في المنطقة.

رصيف 22

———————–

====================

تحديث 27 آب 2021

—————————-

ما بعد كابول 2021/ بكر صدقي

شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على أفغانستان، في العام 2001، تحت شعار الحرب على الإرهاب، وبدافع الانتقام من منظمي اعتداءات 11 أيلول على نيويورك وواشنطن، أي منظمة القاعدة وحاضنتها المحلية حركة طالبان. لكن إدارة الرئيس جورج بوش الابن التي كانت تحت تأثير تيار المحافظين الجدد، أعلنت أهدافاً تتجاوز مجرد الثأر أو الحرب على الإرهاب إلى «إعادة هندسة» واسعة النطاق تشمل مناطق تمتد من أفغانستان شرقاً إلى المغرب على شاطئ المحيط الأطلسي تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» تقوم على توطين القيم والمؤسسات الغربية الحديثة، من ديمقراطية واقتصاد سوق وحريات فردية وغيرها. بصرف النظر عن الفشل الذريع الذي مني به هذا «البرنامج» الطموح، فهو يكذّب ما قاله جو بايدن بعد سقوط كابول، بلا قتال، في يد حركة طالبان، من أن «الولايات المتحدة لم تزعم أنها تريد إنشاء دولة – أمة في أفغانستان».

قبل عشرين عاماً ارتعدت فرائص الأنظمة الدكتاتورية والمحافظة في منطقة «الشرق الأوسط الكبير» لأنها لمست عزماً في برنامج «تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان» الأمريكي، فعملت على تمتين دفاعاتها وترتيب هجماتها المضادة بهدف إفشال المشروع الأمريكي لهندسة الشرق الأوسط الكبير. من ذلك، مثلاً، ترتيب أجهزة المخابرات السورية لرحلات الجهاديين عبر مطار دمشق، ثم براً، باتجاه العراق بعد سقوط بغداد في قبضة الأمريكيين في ربيع العام 2003، ليلتحقوا ببقايا جيش نظام صدام حسين والجهاديين القادمين من مختلف البلدان ليحاربوا القوات الأمريكية، ليس لكونها قوات احتلال، بل لأن من شأن نجاح المشروع الأمريكي في العراق أن يشكل سابقة تهز عروش الدكتاتوريات المحلية.

غير أن تسهيل مخابرات أنظمة دكتاتورية لمرور الجهاديين كان يتطلب أولاً وجود الجهاديين بمعزل عن تلك الأنظمة، وفي النهاية وجود بيئة اجتماعية – أيديولوجية تنتجهم. بيئات مهمشة في البلدان العربية والإسلامية، وتيارات أيديولوجية إسلامية وقومية ويسارية، وأنظمة «ممانعة» بأجهزتها الاستخبارية وإعلامها، مدعومة أيضاً من يسار عالمي معاد للامبريالية، شكلت معاً قوة المقاومة ضد المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير. وكان رأس حربتها «المقاومة العراقية» التي سرعان ما تحولت إلى منظمة القاعدة في بلاد الرافدين بقيادة أيمن الظواهري. وستتحول لاحقاً إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش).

بالمقابل تفاءلت تيارات ديمقراطية ليبرالية، ضعيفة التمثيل الاجتماعي والنفوذ الإيديولوجي، ببرنامج المحافظين الجدد الطموح وأعادت صياغة جدول أعمالها بناءً على ذلك.

لكن الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وفشلها في إقناع أنظمة المنطقة بإصلاحات ديمقراطية ليبرالية، وفشلها في تنفيذ برنامجها «لبناء أمة» في العراق وأفغانستان، وانقلاب النتائج في الواقع على الأهداف الأمريكية المرسومة، كتقوية النفوذ الإيراني في العراق وعبر الإقليم، سرعان ما دفعت «المؤسسة الأمريكية» بجناحيها الديمقراطي والجمهوري إلى مراجعة تلك السياسة، منذ النصف الثاني من الولاية الثانية لجورج بوش الابن. ليأتي الرئيس أوباما ثمرة تلك المراجعة والمعني ببرنامج الانسحاب من الشرق الأوسط، ليس عسكرياً وحسب بل أيضاً بمعنى التخلي عن «تصدير الثورة الديمقراطية» إلى الشرق الأوسط الكبير.

المشاهد الرهيبة التي نقلتها وسائل الإعلام من مطار كابول ستبقى في ذاكرة الناس عقوداً من السنوات، تماماً كمشاهد اصطدام الطائرتين المدنيتين ببرجي التجارة العالمية في نيويورك، وقبلها فرار الأمريكيين من سايغون في العام 1975. ثلاث رضات قوية لمكانة الدولة العظمى في وجدان الأمريكيين، تقابلها مشاعر الشماتة والفرح من المتضررين من سياساتها الدولية. تمكنت الولايات المتحدة من تجاوز أعراض هزيمتها في فيتنام خلال عقد من الزمان، وقد ساهم التورط السوفييتي في أفغانستان، وهزيمتها أمام المجاهدين المدعومين من واشنطن، ثم انهيار النظام الشيوعي، في ذلك التعافي. وجاءت هجمات 11 أيلول في ذروة الهيمنة الأمريكية الأحادية التي سادت منذ سقوط جدار برلين في 1989.

الهزيمة الأمريكية الصريحة اليوم في أفغانستان تتعدى حدود ذلك البلد المنكوب إلى تقهقر الهيمنة الأمريكية في النظام العالمي، في وقت يشهد صعود الصين وانتشار روسيا خارج مناطق نفوذها التقليدية في جوارها الإقليمي، إضافة إلى قوى إقليمية أخرى كالهند وإيران وتركيا. لكن جميع هذه القوى الصاعدة ما زالت أسيرة المفهوم التقليدي للتوسع الامبراطوري بواسطة القوة العسكرية فقط، وتفتقر إلى جاذبية النموذج أو الهيمنة الثقافية.

أما الولايات المتحدة التي ما زالت القوة الدولية الأولى عالمياً فهي تملك مقومات أخرى غير القوة العسكرية، في الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا. أما «قوتها الناعمة» المتمثلة في نموذجها الحضاري فهي في انحدار وفقاً لفرنسيس فوكوياما: فالعطب الأمريكي هو في الداخل، في الاستقطاب الحاد في المجتمع الأمريكي الذي بلغ ذروته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي لم يعترف بنتائجها نصف الأمريكيين. وقبل ذلك أثناء ولاية «الرئيس الكذاب» دونالد ترامب. العنصرية ضد الملونين تنذر بمخاطر شديدة، واهتراء البنية التحتية في كثير من الولايات تشكل فضيحة في البلد الذي يفخر بإنجازاته التكنولوجية وثرواته الطائلة.

تطويق الصين وروسيا والمشروع النووي الإيراني هي الأهداف المعلنة اليوم في السياسة الخارجية الأمريكية. أهداف طموحة، وإن كانت أقل طموحاً بكثير من مشروع المحافظين الجدد. سؤال ما بعد كابول هو إلى أي حد تستطيع إدارة بايدن أن تحقق أهدافها الجديدة هذه؟ وهل انتهت الحرب على الإرهاب بهزيمة أمريكية مدوية أمام طالبان؟

كاتب سوري

القدس العربية

—————————–

خصوصيات ثقافية: من يهتم حقاً بنساء أفغانستان؟/ محمد سامي الكيال

تبرز قضية النساء دوماً لدى الحديث عن الحركات الإسلامية، بوصفها أحد أكثر النقاط حساسية وحضوراً، لدرجة يبدو فيها أن أغلبية المحددات، التي تعرّف الإسلاموية المعاصرة، في أذهان أنصارها وخصومها، تتعلق بالنساء، أو تنتهي عندهن بشكل من الأشكال: ماذا يلبسن وكيف يتصرفن؛ وهل يحقّ لهن العمل والتعليم والسفر؛ ما مدى الحضور المسموح لهن به في الحيز العام؛ وإلى أي مدى يمكن لهن التحكّم بأجسادهن في الحيز الخاص. ليس هذا شديد الغرابة، إذا تذكّرنا أن جانباً كبيراً من عبء الهوية الثقافية، والحفاظ على أساسيات النظام الاجتماعي، القائم أو المنشود، يتعلّق بالجسد الأنثوي أساساً، والحركات الإسلامية معنية للغاية بالهوية والضبط الاجتماعي.

إلا أن الانشغال بأوضاع النساء تحت الحكم الإسلامي بات يتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، خاصة في الدول الغربية، إذ صار إظهار التضامن مع النساء في أفغانستان وغيرها من الدول الإسلامية، أو إبداء المخاوف حول تدهور أوضاعهن وحقوقهن، تصرفاً مستهجناً إلى حد كبير، في الأوساط الأكثر «تقدمية» ولذلك أسبابه الوجيهة، من منظور معادٍ للمركزية الغربية: لا تحتاج النساء المسلمات إلى تعاطف فوقي أبيض، والأفضل أن يكفّ الغربيون عن لعب دور الوصي عليهن، وعلى غيرهن من الفئات غير الغربية. يمكن للنساء في العالم الإسلامي تحديد قضاياهن ومطالبهن بأنفسهن، وهن لسن مجبرات على التقيّد بمنظور غربي عن التحرر أو الحقوق، فضلاً عن أن الحرص المزعوم على حريات النساء كان، في كثير من الأحيان، أحد مبررات التدخل والإخضاع الإمبريالي. يترافق هذا مع العديد من النشاطات، جيدة الدعم والتمويل في معظم الدول الغربية، حول «النسوية الإسلامية» وأنماط متعددة من «النسوية التقاطعية» التي تقوّض مركزية خطاب المرأة البيضاء، لحساب إنشاءات متعددة، لنساء من ثقافات وأعراق مختلفة، يمكن القول، على الهامش، إن ما يجمعهن هو تلقيهن الدعم من جهات ومؤسسات غربية، حريصة على أن تتكلم النساء غير البيضاوات، وما أكثر تلك الجهات والمؤسسات!

يُفهم من هذا التطوّر في الثقافة السائدة في الغرب، أن الهوس بالنساء غير الغربيات لم ينته أو يتراجع، بل اتخذ أشكالاً جديدة، تنبني على أن تقوم نساء «ملونات» بأداء معين، هو الأداء المفترض بنساء الهويات المهمشة، لكي تتاح لهن المنابر والقدرة على الكلام، وبعض الدعم والتمويل، لكن ماذا عن النساء اللواتي لا تتيح لهن ظروفهن القيام بمثل هذا الأداء، وعلى رأسهن نساء أفغانستان، وأشباهها من الدول الإسلامية؟

لا يمكن لأحد بالتأكيد أن يتكلم بلسان هؤلاء النسوة، لكن ما يمكن قوله، بكثير من الثقة، إنهن لا يعانين من عوائق كي يعشن «ثقافتهن» وليست المركزية الغربية أكبر مشاكلهن، في ظل تحكّم المتطرفين ورجال الميليشيات. فلماذا كل هذا الإلحاح على التصدي لمركزية غربية مفترضة في هذا الظرف؟ وما انعكاساته على قضايا النساء، وغيرهن من الفئات المضطهدة، في الدول الإسلامية؟

استثنائية الغرب

«عبء الرجل الأبيض» تحوّل إلى «ذنب الرجل الأبيض» هذه أطروحة باتت معروفة إلى حد كبير، في أوساط نقّاد الصواب السياسي في الغرب، وتقوم على فكرة بسيطة، هي أن المركزية الغربية لم تعد كما كانت في العصر الكولونيالي، أي اعتبار أن على الغرب مسؤولية إيصال الحضارة إلى الشعوب المتوحشة والبربرية، بوصفه الجهة الأكثر حضوراً ووعياً في التاريخ؛ بل بات الرجل الأبيض، على العكس، سبب كل كوارث ومشاكل الكون، بما فيها الحروب والمجازر الجماعية، واضطهاد النساء والمشاكل البيئية، ما يفترض أيضاً أنه الجهة الأكثر حضوراً ووعياً بالتاريخ، لكن بحكم قيمة سلبي، بعد أن كان إيجابياً.

بهذا المعنى يبدو أن مناهضي المركزية المعاصرين لم يتخلّصوا من الذات الغربية المتضخّمة، بل ربما أكثر تمسّكاً بها من الكولونياليين القدماء، فعلى الأقل كان الأخيرون يعتبرون أن هنالك قوى يمكن اعتبارها نداً لهم وسط الشعوب «غير المتحضرة» تشكّل تهديداً حقيقياً عليهم، ولا بد من مواجهتها وإخضاعها، أما «تقدميو» اليوم فلا يعترفون إلا بفاعل واحد في التاريخ، هو الغرب، وكل ما يصدر من غير الغربيين هو ردات فعل على الاضطهاد والتهميش الأبيض.

إلا أن مشكلة هذا المنظور لا تقتصر على النظرة الأيديولوجية النرجسية للذات، بل تتعداها إلى افتراض استثنائية خاصة للغرب، لدى دراسة أي حدث اجتماعي أو تاريخي أو ثقافي، أو اتخاذ موقف سياسي بخصوص أي قضية، فكل ما هو غربي – حديث إخضاعي واستغلالي، ويشكّل حدثاً فارقاً، مغايراً من حيث الجوهر لكل ما سبقه وما يمكن أن يليه، وبالتالي فكل أنواع الاحتلال والغزو والإخضاع؛ الأنظمة القمعية؛ العنف والإرهاب؛ اضطهاد النساء؛ سلب الحريات الفردية والجماعية للبشر، لا تكتسب أهمية ملحوظة، ولا تستحق إدانة خاصة، إذا لم تصدر من جهة غربية أو مرتبطة بالغرب، وفي أحسن الأحوال تعتبر نتيجة لما فعله الرجل الأبيض في ما مضى، تتساوى في هذا مثلاً السياسات الإيرانية في الشرق الأوسط؛ العمليات الإرهابية في فرنسا؛ أوضاع النساء في ظل حكم طالبان؛ الخ.

استثنائية الغرب هذه تفترض ضمنياً سلباً لأهلية غير الغربيين، فمن هم غير قادرين على ارتكاب الشرور، ويتصرّفون دوماً بمنطق رد الفعل، وخلاصهم الوحيد إنهاء هيمنة الغربيين عليه، ولا بد من حمايتهم دوماً من تدخلاتهم وأحكامهم، ليسوا أكثر من كائنات دونية على مستويين: مستوى أخلاقي، إذ لا يمكن اعتبارهم أهلا لتعقّل أبعاد تصرفاتهم وخياراتهم الحياتية، وتحميلهم مسؤولية أفعالهم والنتائج التي تؤدي إليها؛ ومستوى سياسي، ففعلهم يكتسب المعنى فقط من خلال قياسه بفعل غربي سابق عليه أو مزامن له. دعك من أن الخيارات «الصائبة» محددة لهم سلفاً، فعلى المسلمين؛ النساء؛ الملونين أن يكونوا دوماً مناهضين لـ«الرجل الأبيض» وهذا ما يميّز المهمّش الجيد عن «الكاره لذاته».

النخب التابعة الجديدة

لا يتم فرض «الخيارات الصائبة» على غير الغربيين نتيجة لتأثير معنوي مجرّد لفكر يعتبر نفسه تقدمياً، بل أساساً عبر سلسلة معقدة من المؤسسات الثقافية والإعلامية والمدنية، والأخيرة لا تعريف واضح لها، باستثناء أنها «غير ربحية» و»غير حكومية» والصفتان غير دقيقتين؛ ومعنية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان وتمكين الفئات المهمشة، إلا أنها رغم كل هذا تعتبر نفسها مؤسسات غير سياسية، ما يثير كثيراً من علامات الاستفهام عن حقوق وحريات متعالية عن السياسة. وبالعودة لمسألة «الأداء» أي التمكين المؤسساتي لأشخاص ليسوا ذكوراً بيضاً، ليتصرفوا ويتكلموا تماماً كما هو مفترض ومتوقع من غير الغربيين، فإن البنية التحتية للأيديولوجيا السائدة خلقت نخباً تابعة جديدة، لا تقوم بتقليد الغربي في فكره وملبسه وعاداته، على غرار النخب التابعة في ما مضى، بل على العكس، تأتي قيمتها من أداء الاختلاف عنه بأفضل وجه، وإلا ستفقد دعمه.

تبدو هذه النخب المحلية – المعولمة معنية بأدائها هذا، الذي يمكن أن يدخلها إلى العالم البورجوازي الغربي، من ناحية القيم والأخلاقيات، بل حتى اللغة ومستوى الحياة، أكثر من اهتمامها بقضايا فعلية في مجتمعاتها، فليست الإسلاموفوبيا مثلاً ما يواجهه الناس في الدول ذات الأغلبية الإسلامية؛ وعنصرية الرجال البيض العجائز، آخر ما يعانيه من يتعرّضون لانتهاكات الميليشيات الطائفية؛ كما أن نسويات الموجة الثانية، المتهمات بمركزة نموذج المرأة الغربية، لا يؤثرن كثيراً أو قليلاً على أوضاع النساء في إيران أو أفغانستان.

خسرت دول عالمثالثية كثيرة حماس وجهود نخبها المحلية نتيجة سياسات الأداء تلك، وإذا كانت النخب القديمة، التي أنتجتها الكولونيالية، قد قادت ثورات استقلالية، وبنت دول ما بعد الاستعمار، فإن مصير النخب الحالية يبدو مؤسفاً بالمقارنة: البحث عن التمكين في مؤسسات ثقافية ومدنية «غير ربحية».

استعادة الكونية

ربما كانت النساء في أفغانستان وغيرها بحاجة فعلية إلى من يتكلم عن معاناتهن، بصرف النظر عن لونه ونوعه الجنسي، فإذا كانت القضايا التحررية من شأن الفئات المعنية بها حسب، ستتحول إلى ما يشبه صراعاً قبلياً، مفتقراً لأي معنى قابل للترجمة إلى لغة عمومية.

سابقاً لم يوفّر أصحاب قضايا التحرر، مثل المقاتلين الفلسطينيين والكُرد مثلاً، جهداً لأجل الحصول على تضامن ودعم دولي، ولم يجدوا مشكلة في أن تحوي معسكراتهم متطوعين شديدي البياض، فقضاياهم اكتسبت معناها من طرح كوني لمفهوم التحرر، لم يفترض استثنائية هوياتية خاصة للغرب، أو يعتبر الموقف السياسي كامناً بالضرورة في اللون والجنس والثقافة.

إلا أنه قد يكون الأفضل في أيامنا، لاستعادة المنظور التحرري الكوني، إيقاف تدخل النخب والمؤسسات الغربية في شؤون «المهمشين» أي أن يكفّوا عن تعليمهم كيف يجب أن يكونوا غير غربيين؛ وعدم مجاملة النرجسية الأخلاقية للبيض الكارهين للبياض، مهما كان لون جلدهم.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

بين فشل أميركا وفشل أفغانستان وفشلنا!/ حازم صاغية

لو كنت ممانعاً لواجهني الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان بمعضلتين:

الأولى تأخذ شكل الحيرة: من جهة، سيكون مُغرياً لي الحديث عن هزيمة أميركيّة مطنطنة تكرّر الهزيمة الفيتناميّة أواسط السبعينيّات. سيكون مغرياً أن أقول: «خرجت أميركا تجرجر أذيال الهزيمة»، أو «تمّ تمريغ رأس الإمبراطوريّة في الوحل»… عبارات تملأ الرأس وينتفخ لها الصدر!

من جهة أخرى، سيكون مُغرياً بالقدر نفسه أن أؤكّد أنّ أميركا افتعلت هذه الهزيمة كي تُضرّ بإيران والصين وروسيا. المُغري هنا توكيدُ صورتها «الشيطانيّة» بوصفها مصنعاً للمآكد والشرور.

الممانع النمطيّ لم تأخذه الحيرة. حلَّ المعضلة بأن روى «التحليلين» المتضاربين معاً: أميركا انهزمت لأنّها ضعيفة، وأميركا هزمت نفسها لأنّها شرّيرة.

المعضلة الثانية أنّ من يهزم أميركا يُفترض به أن يكون، وفق التصانيف الجاهزة، «حركة تحرّر وطنيّ». «طالبان» هي ما يصعب على يساريّ أو ماركسيّ أو قوميّ يصف نفسه بالعلمانيّة أن ينعتها بهذا النعت. ما العمل إذاً؟ نمتدح الهزيمة التي أُنزلت بأميركا وننسبها إلى «الشعوب» الغامضة، فيما نحيط بالكتمان الطرف المحدّد الذي أنزلها بها. يُترك للإسلاميّ الراديكاليّ، السنّيّ لا الشيعيّ، أن يحتكر قول العبارة كاملةً: المجد لهزيمة أميركا على يد طالبان.

هذا، على أيّ حال، ليس موضوعنا. فشل أميركا، بجميع التباساته وتعقيداته، وبتضارب تأويلاته واحتمالاته المستقبليّة، سيكون مادّة تعيش عليها طويلاً الجغرافيا السياسيّة وتستهلكها التحليلات الاستراتيجيّة. هذا بالطبع لا يقلّل بتاتاً من ضخامة الحدث الأفغانيّ أميركيّاً ودوليّاً، إلاّ أنّه يطرح علينا عنواناً أشدّ إلحاحاً، أو أقلّه، أشدّ مباشرةً. إنّه أفغانستان الطالبانيّة.

فعلى رغم ما يقال اليوم عن «مراجعاتها» و«تحوّلاتها»، وما يقوله قادة طالبان عن «تغيّرهم»، فإنّ السجلّ المعروف لا يحمل على الثقة بمستقبل أفغانيّ في ظلّ طالبان. الكثير الكثير ينبغي فعله قبل الاطمئنان إلى أمور ستّة على الأقلّ:

– أنّ ذاك البلد لن يُزجّ في مهبّ الفوضى الأهليّة والدمويّة ما بين إثنيّاته، وربّما داخل إثنيّاته نفسها. ما يُنقل عن وادي بنجشير يعزّز هذا التقدير.

– وأنّ علاقات أفغانستان مع جيرانها لن تكون بالغة التوتّر، وستكون منزّهةً عن الحروب التي تكمّل وتؤجّج النزاعات الأهليّة.

– وأنّ أوضاع النساء والفتيات فيها لن تتردّى، وأشكال العقاب لن يُعمَل بها مجدّداً.

– وأنّ النظام الذي سيقوم، إذا تمّ تجنّب الحرب الأهليّة، لن يكون (كما كان حتّى 2001) سجناً كبيراً لعموم الأفغان.

– وأنّ النازحين واللاجئين الذين هم اليوم سُدس مجموع السكّان لن تتزايد أعدادهم ولن يشكّلوا سبباً آخر لتسعير العنف والحروب في الداخل ومع الخارج. آلاف الذين يتدافعون اليوم، محاولين الهجرة أو الفرار، إيحاء مبكر بذلك.

– وأنّ صورة الإسلام في العالم، والأهمّ ما ينجم عن ذلك في ما خصّ أوضاع المسلمين في الغرب، لن يصبحا أسوأ حالاً، بفضل طالبان، وأنّ رايات «صراع الحضارات» لن تزداد ارتفاعاً وخفقاً، ومعها نظريّات «الاستثناء الإسلاميّ»، فضلاً عن «الاستثناء العربيّ».

هذا كلّه من دون، وربّما من قبل، أن تنبعث من أفغانستان «طليعة» أخرى كـ«القاعدة» وترتكب ما سبق أن ارتُكب في نيويورك وواشنطن. هذا قد لا يحدث حرصاً من النظام على بقائه وعدم تكرار إطاحته، كما في 2001، لكنّه أيضاً قد يحدث، بسبب الطبيعة الآيديولوجيّة لطالبان، وربّما المنافسات بين جماعات وأجنحة إسلاميّة مزايدة في تشدّدها.

ندع ذلك جانباً لنلاحظ ما يصعب أن لا يُلاحَظ. فرغم «التطمينات»، وهي على الأغلب ما يتطلّبه الاستقرار في السلطة، ترتسم بعض القضايا التي أثارها الانتصار الطالبانيّ الأخير ممّا يعنينا كعرب على نحو مباشر:

أوّلاً، تعلن عودة طالبان إلى كابُل أنّ الأمل بأفغانستان، وحتّى إشعار آخر، أمل ضعيف وضئيل، ويعلن الاحتفال العربيّ بتلك العودة أنّ البؤر الأفغانيّة في مجتمعاتنا ليست قليلة أو ضعيفة. نردّ ذلك إلى القهر والفقر والإحباط إلخ… هذا صحيح، لكنّ النتيجة الكارثيّة واحدة.

ثانياً، ترسم تلك العودة احتمال انسداد كبير: لا التغيير ممكن من الخارج، وعبر مشاريع «بناء الأمم» و«إقامة الديمقراطيّات»، وليس ممكناً أيضاً من الداخل، وأفغانستان تكثيف وربّما مستقبل لسواها. لقد هُزمت ثورات قامت في سبيل الحرّيّة، ووحدها طالبان انتصرت!

ثالثاً، طالبان ليست ضدّ «الاستعمار الغربيّ» أو «الإمبرياليّة الغربيّة». إنّها ضدّ الغرب. ضدّ حرّية النساء. ضدّ الدواء. ضدّ التعليم. ضدّ التنوير… العداء لها ليس موقفاً سياسيّاً، إنّه موقف حياتيّ وإنسانيّ. حيال ذلك، لا يعود الرأي بأميركا وسياستها سوى حاشية وتفصيل.

رابعاً، تعود طالبان إلى كابُل فيما «داعش» ومثيلاتها لم تُهزم. والحال أنّه في ظلّ أنظمة كنظام بشّار الأسد، وفي ظلّ سطوة الميليشيات الشيعيّة في العراق، والتجبّر العونيّ – «الحزب الهيّ» في لبنان، قد تدغدغ طالبان شعوراً سنّيّاً بإحباط عميق. ودوماً للإحباط، بغضّ النظر عن شرعيّة أسبابه أو عدم شرعيّتها، بطن خصب. فلنتذكّر التفاعل الشعبيّ مع الثورة الخمينيّة في 1979 أو مع غزو صدّام حسين للكويت في 1990…

هذا كلّه يقول كم أنّ فشل أفغانستان، وإلى حدّ بعيد فشلنا، مسألة وجوديّة صلبة وعميقة. فحين لا يُعنى الممانعون إلاّ بفشل أميركا، يكونون، في الحدّ الأدنى، يحتقرون منطقتنا كلّها، وبالأخصّ 38 مليون أفغانيّ. أمّا احتقار النفس فأمر مُسلّم به.

الشرق الأوسط

—————————

عودة طالبان بين التهويل والتهوين/ نبيل البكيري

بعد عشرين عاما تماما، تعود حركة طالبان إلى المشهد الأفغاني، جالبةً حول عودتها تفسيرات وتأويلات ونظريات كثيرة، بين قادحة ومادحة، فبين قادحة بها وبنصرها، ومهوّنة مما جرى من انسحاب أميركي، قائلة إنه أشبه بمسرحية تسلّم وتسليم، بين “طالبان” والأميركان، وأنه جاء نتيجة توافق واتفاق مسبق على الانسحاب الأميركي وتسلم “طالبان” الحكم، وفقا لدور مرسوم لها القيام به مستقبلا. وفي الطرف المقابل، ثمّة من يرى أن انسحاب أميركا وحلف الناتو من أفغانستان وسيطرة “طالبان” السريعة على البلاد بتلك الطريقة الدراماتيكية، هو انتصار تاريخي واستراتيجي كبير، لا يقل أهميةً وتأثيرا جيوسياسيا عن انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والذي كان أحد أهم عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي ومن ثم حلف وارسو، وتعزيز مقولة بايدن عن أفغانستان مقبرة للإمبراطوريات.

ولمقاربة هاتين الرؤيتين، بعيدا عن تهوين المنهزمين أو تهويل المنتصرين، فإن قراءة منصفة وموضوعية للمشهد العام الأفغاني قد تساعد على وضع الأمور في نصابها الصحيح، بعيدا عن أي شطط في التفسير وفهم ما جرى، لأن أي تحليلٍ لا يستند إلى حقيقة أن ما جرى في أفغانسان فعل طبيعي جدا وفقا لكل معطيات الفعل نفسه، ومقدّماته ونتائجه التي أفضت إلى هذا الحدث الكبير نتائج وتبعات جيوسياسية، ليس على المشهد الأفغاني الداخلي فحسب، ولكن على المشهد الدولي العام أيضا.

ينطلق فريق المهونين من الحدث الأفغاني وعودة “طالبان” من مسلّمة لديهم لا جدال فيها، أن أميركا هي الإمبراطورية التي لا تقهر ولا تهزم ولا يمكن أن يخطئ القائمون عليها في حساباتهم وتقديراتهم، وأنها القوة المطلقة في عالم اليوم، وهذا توهم وتصوّر يعوزهما الكثير من الدقة والموضوعية، فأميركا في الأخير هي محصلة جهود بشرية، تسري عليها سنن الكون التي لا تحابي أحداً، من الصعود فالتراجع والشيخوخة الخلدونية التي تطرأ على الدول كما تطرأ على البشر.

وبالتالي، أن تتصرّف أميركا بهذه الطريقة هو شيء طبيعي جدا، وتصوير ما جرى هزيمة كبيرة وقاسية لأميركا هو ليس افتئات على توصيف ما جرى بما يستحق من التوصيف، بل إن قول إنّ ما جرى لأميركا هزيمة مدوية، هو أقل ما يمكن أن يقال في ظل حالة الارتباك التي تعيشها الإدارة الأميركية، وتصريحات قيادات من الغرب و”الناتو” تقول إن ما جرى في أفغانستان هزيمة وفشل ذريع. ففي تصريح له، يقول الرئيس التشيكي موليس زيمان: “فشل الناتو في أفغانستان، شرعية بقائه على المحك”، ورأى أن على بلاده بناء قدراتها الدفاعية، بدلا عن تبديد أموالها في تحالفات كهذه. وهذا التصريح من رئيس دولة عضو في حلف “الناتو” ليس مجرد وجهة نظر صادرة من معلق أو محلل سياسي هنا أو هناك، وإنما من صانع قرار ضمن المنظومة الغربية كلها وفي قلبها “الناتو”.

ويقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير: “قرار الانسحاب من أفغانستان بهذه الطريقة لم يكن مدفوعا باستراتيجية كبرى، بل مدفوعا بالسياسة وفقا لشعار أحمق عن إنهاء الحروب الأبدية”. وبلير هنا، على الرغم من حرصه على إظهار الأمر سوء تقدير، فإن تصريحه، في المحصلة، يشي بالهزيمة ليس لأميركا وحدها، وإنما للغرب كله، وإن لم يصرح بذلك.

الأغرب في فريق المهونين هؤلاء أن أغلبهم ينتمون إلى دائرة الليبراليين والتقدميين العرب وبعض سلفييهم، وينطلقون بهذا الاندفاع متشرّبين تلك الصورة الذهنية التي كرّسها الإعلام الغربي عن “طالبان” طوال العشرين السنة الماضية، مجموعة من المتخلفين والمتوحشين الذين لا يجيدون فعل شيء سوى الإرهاب والقتل من أجل القتل، وهو تصوّر فيه كثير من المبالغات وتعمد التشوية والشيطنة لهذه الجماعة ومجتمعها، متناسين التاريخ النضالي الطويل للشعب الأفغاني، مقارع الإمبراطوريات. والحروب، قطعا، لا تتطلب فقط قوة تسليحية تكنولوجية ومالية فحسب، بل هي في صميمها قوة إرادة ووضوح قضية، وجماعة من المؤمنين بها والمناضلين في سبيل قضيتهم، وهذه من البديهيات السردية التاريخية لقصة الكفاح والنضال لدى كل الشعوب والأمم التي تناضل من أجل نيل حقوقها وكرامتها. و”طالبان” ليست بدعة في هذا السياق، بل هي في مقدمة هذه الحركات نضالا أو جهادا، كما تسمّيه أدبياتها الثقافية والدينية.

أما فريق المهولين أو المبالغين في عودة “طالبان” فيعتبرونها عودة مظفرة، حققت نصرا تاريخيا كبيرا، وأن هذا الانتصار التاريخي سيغير موازين المعادلة الدولية اليوم، كما فعل المجاهدون الأفغان مع الاتحاد السوفييتي سابقا بمساهمتهم في ضرب نظام القطبية الثنائية التي كانت سائدة حينها بين حلفي الناتو ووارسو. صحيحٌ أنّ ثمة وجهة نظر ما، في مثل هذا الطرح، وتشي به كل المؤشّرات في المشهد الراهن، لكن الحديث عن انتصار تاريخي يبقى متروكا للتاريخ نفسه، وحده من سيحكم بذلك، ليبقى السؤال المركزي: هل ستستثمر “طالبان” هذا الانتصار بانتصار سياسي كبير يحصد ثمار كل تلك التضحيات والجهاد الطويل في سبيل تحرير أفغانستان، أم أنها ستُبدّد كل هذا الانتصار، وكل تلك التضحيات في صراعات داخلية تُنسج خططها خارج الحدود، ويتم تطبيقها بالحرف من قبل “طالبان” وخصومها؟ ليس الانتصار الذي حققته “طالبان” اليوم وليد هذه اللحظة، وإنما هو محصلة صراع طويل امتد عقدين، خسرت فيهما “طالبان” معارك كثيرة، لكنها كسبت في النهاية الحرب الافغانية التي راح ضحيتها ما يقارب 341 ألف أفغاني وما يقارب 2442 جندياً أميركياً و448 جندياً بريطانياً، وغيرهم من جنود “الناتو” وأنفقت أميركا فيها أكثر من تريليوني دولار.

ليبقَ تقييم ما جرى في أفغانستان خارج سياق الصراعات الأيديولوجية الغبية، والتي تنطلق في تقييم النصر والهزيمة من زاوية قرب المنتصر أو المنهزم من هذا الطرف أو ذاك، أو موقفه من توجهاتها. وهنا يذهب كثير من النخب العربية، يسارية وإسلامية، إلى الحديث إن “طالبان” لم تحقق شيئا، وإن ما جرى هو اتفاق مسبق مع الأميركان، وكأنهم أتوا بتفسير فارق للأحداث، وأن محادثات سنوات في الدوحة لم يكونوا يعلمون عنها شيئا؛ تلك المحادثات التي كان عنوانها كيفية خروج الأميركان من أفغانستان.

في كل حال، ما يهمنا من كل هذا اليوم هو سؤال ماذا بعد؟ هل ستنعم أفغانسان بالسلام والازدهار والاستقرار وإخراجها من نفق الحروب الطويلة، ببناء دولةٍ تستوعب كل الأفغان، بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم المذهبية والإثنية؟ ليتسنى بعدها الحديث عن الانتصار الحقيقي، الكامن بالذهاب نحو مستقبل السلام والتنمية في هذا البلد الذي مزّقته الحروب، و دفع ضريبتها طويلا من أمنه واستقراره وتنميته، وهذا كله يتوقف على مدى فهم “طالبان” اللعبة الدولية، ومدى استفادتها من دروس التاريخ، وهذا ما يمكن التنبؤ به اليوم، وعلى الرغم من مؤشّرات كثيرة تدعو إلى التفاؤل، لكننا لا نستطيع أن نبني عليها شيئا في غير أوانه.

صحيحٌ أنّ ثمة مؤشرات تقول إنّ حركة طالبان اليوم غيرها في الأمس، في مقدّمتها تغليب روح الحوار والتشاور مع كل الفرقاء الأفغان، وعدم الاحتفاء بالانتصار، ودخول كل المدن والولايات الأفغانية من دون قتال، وفي مقدمتها كابول العاصمة، نتيجة تسليم الجيش والأمن الأفغاني السابق كل شيء لمسلحي “طالبان” وتجنب إدخال البلاد في حرب أهلية طاحنة، لا مهزوم فيها سوى أفغانستان، الشعب والوطن الذي طالت معاناته في حروبٍ لا تنتهي، وآن له أن يرتاح قليلا ويستأنف هذا الشعب العظيم طريقه نحو المستقبل، وكل هذا مرهونٌ اليوم بـ”طالبان” ورؤيتها إلى الدولة الأفغانية المقبلة، دولة الشعب الأفغاني، لا دولة الجماعة الواحدة.

العربي الجديد

—————————–

عقب أخيل طهران؟

مايكل يونغ

تناقش فاطمة أمان، في مقابلة معها، مدى تأثير التطوّرات الراهنة في أفغانستان على إيران المجاورة.

فاطمة أمان باحثة بارزة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة، تركّز أبحاثها على الشؤون الإيرانية والأفغانية وقضايا الشرق الأوسط الأوسع منذ أكثر من 20 عامًا. عملت أمان صحافية ومحللة، وكانت سابقًا باحثة أولى غير مقيمة في المجلس الأطلسي. وقدّمت المشورة للحكومة الأميركية وعددٍ من المنظمات غير الحكومية حول السياسات الإقليمية الإيرانية. تتحدّت أمان بطلاقة اللغتين الفارسية/الدرية والألمانية. أجرت “ديوان” مقابلة معها في شهر آب/أغسطس للتطرّق إلى موقف إيران حيال الأحداث الأخيرة في أفغانستان.

مايكل يونغ: يرى البعض أن إيران تعتبر انتصار طالبان في أفغانستان تهديدًا لها. هل هذا صحيح، وأي أشكال قد يتّخذ هذا التهديد؟

فاطمة أمان: كثيرةٌ هي الأمور التي نجهلها عن جيل طالبان الجديد الذي استولى على السلطة في أفغانستان مؤخرًا. صحيحٌ أن قيادة طالبان تضمّ شخصيات كانت جزءًا من حكومة طالبان في تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها تضمّ أعدادًا أكبر من الوجوه الشابة. لكن الهيكل التنظيمي للمجموعة غير واضح المعالم ويكتنفه الغموض. وأعتقد أن هذا ما يشكّل مصدر قلق لجميع الأطراف، وليس لإيران فحسب.

تعتبر طهران أن أحد أسوأ السيناريوهات لطالما تمثّل في وقوع الحكم في يد تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يُطلق على نفسه في أفغانستان اسم تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان. فذلك لن يشكّل تهديدًا للاستثمارات الإيرانية في أفغانستان وحسب، بل سيعرّض الحدود الشرقية لإيران إلى خطر شديد. وربما تكون الجمهورية الإسلامية قد خلُصت في العام 2015، مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان، إلى أن الحكومة الأفغانية لم تملك القوة الكافية لدحر هذا التهديد، ما دفعها على الأرجح إلى توطيد علاقاتها مع طالبان، وبذل جهود حثيثة لجمع طالبان والحكومة الأفغانية معًا على طاولة مفاوضات السلام.

أضف إلى ذلك أن تشكيل حكومة تضمّ حصرًا أفرادًا من طالبان، في ظل غياب آلية لتقاسم السلطة، لا يمكن أن يتماشى أبدًا مع المصالح الوطنية الإيرانية. لذا، سعت إيران إلى زيادة نفوذها داخل الحركة، التي تتألف من فصائل كثيرة، من خلال التقرّب من فصائل معينة، لكن نظرتها إلي طالبان ككل لا تزال مشوبةً بالشك. واقع الحال أن تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة طالبان أمر إيجابي لإيران، لأن أي حكومة تقودها طالبان حصرًا تنطوي على الكثير من الجوانب المجهولة والغامضة، وقد تعزّز نفوذ خصوم إيران العرب في أفغانستان، وتوقد جذوة الحرب الأهلية في البلاد، وتؤدي إلى بروز ميليشيات أخرى.

وعلى الرغم من أن إيران والصين وروسيا حمّلت القوات الأميركية مسؤولية الصراع في أفغانستان، يبقى أنها استفادت من وجود الولايات المتحدة في البلاد ومن مواجهات الجيش الأميركي مع الجماعات المسلحة هناك. ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة هي في صدد الانسحاب من أفغانستان، قد تلجأ الجماعات المسلحة والجماعات الإرهابية الأجنبية إلى ملء الفراغ الأمني الحاصل. لكن المُلفت أن جميع هؤلاء الأفرقاء الإقليميين يصفون قرار الانسحاب الأميركي بأنه “خطوة غير مسؤولة”.

يونغ: قد ترغب بعض دول الخليج في استخدام أفغانستان للضغط على إيران، تمامًا كما استخدمت إيران الوضع في اليمن ضد دول الخليج. هل تعتقدين أن هذا السيناريو ممكن، وكيف ذلك؟

أمان: أرى أن أفغانستان يمكن أن تكون عقب أخيل إيران. فمن أبرز أولويات إيران أمن حدودها الشرقية، لذا نفذّت الكثير من مشاريع إعادة الإعمار في أفغانستان في الولايات المتاخمة لإيران وليس في المناطق التي تسكنها أغلبية شيعية.

لكي يصبح السيناريو الأفغاني شبيهًا بالسيناريو اليمني، لا بدّ من اندلاع حرب أهلية داخل أفغانستان. لكن حتى إن حصل ذلك، ثمة اختلافات بين البلدين تحول دون تشابههما بهذا الشكل. فالحكومة المركزية الأفغانية لم تكن يومًا لعبة في يد إيران أو مرتبطة بها. علاوةً على ذلك، إذا افترضنا اندلاع حرب أهلية أفغانية، لا يمكن لإيران أن تنخرط بشكل مباشر في الحرب أو أن تستخدم سلاحها الجوي، كما فعلت السعودية في اليمن. فعلى عكس السعودية التي تمكنت من تشكيل تحالف للقتال في اليمن، من المستحيل أن تتمكن إيران من بناء تحالف مماثل لخوض حرب أفغانية.

لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن جغرافية كلٍّ من اليمن وأفغانستان مختلفة إلى حدّ كبير. فالأخيرة تقع على مقربة من أقوى دولتين في العالم عسكريًا، أي روسيا والصين، اللتين لا تريدان إطلاقًا حربًا أهلية بجاورهما.

في الوقت الراهن، تُعتبر المنطقة مشبَعة بالنزاعات، لذا لن تبقى أي حرب أهلية أفغانية محصورة ضمن حدود أفغانستان، بل ستشمل حتمًا باكستان وآسيا الوسطى إضافةً إلى إيران.

يونغ: هل تعتقدين أن مخاوف إيران الجديدة حيال حدودها الشرقية ستؤثر على سلوكها وسلوك حلفائها في العالم العربي؟

أمان: أقامت إيران قواعد عسكرية جديدة على طول حدودها الشرقية، وهي تراقب عن كثب الوضع في أفغانستان. يُضاف إلى ذلك أن مخاوف الجمهورية الإسلامية من حصول هجمات إرهابية داخل البلاد ازدادت إثر تفاقم حدّة التوترات في أفغانستان.

لطالما نظرت إيران إلى أقلياتها الدينية بعين الريبة وعاملتها في بعض الأحيان كأنها “طابور خامس”. وفي حال ارتفعت حدّة التوترات في أفغانستان وامتدّت الحرب الأهلية الأفغانية المحتملة إلى الداخل الإيراني، قد يزداد توجّس القادة الإيرانيين حيال تعاملهم مع الأقلية السنّية في البلاد. وغالب الظن أن أصدقاء إيران العرب لن يتمكنوا من مساعدتها في القضية الأفغانية.

يونغ: استخدمت إيران الميليشيات المتحالفة معها لتنفيذ أجندتها في دول مثل لبنان والعراق واليمن. وفيما يبدو أن طالبان تسيطر على الأراضي الأفغانية كافة، هل ستحاول إيران اللجوء إلى مثل هذا النهج هناك، ربما من خلال استخدام ميليشيا الهزارة “فاطميون” التي حشدتها للقتال في سورية؟

أمان: أولًا، لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار الهزارة في أفغانستان وكلاء لإيران. فهذه المجموعة العرقية، ولا سيما الشباب منها، لا تدعم مبدأ ولاية الفقيه، وهي الإيديولوجيا التي يرتكز عليها الحكم في إيران.

للأسف، أدّى إنشاء ميليشيا “فاطميون” إلى استفحال الانقسامات الدينية والإثنية في أفغانستان. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين جنّدتهم إيران في هذه الميليشيا لا يحاربون في سورية بالضرورة استنادًا إلى معتقداتهم الدينية، بل للحصول على مكاسب مالية. بعبارة أخرى، لا يبدي الكثير من هذه القوات حماسًا يُذكر للقتال نيابةً عن إيران.

وفي حال اندلاع حرب أهلية في أفغانستان، ستشارك فيها على الأرجح مجموعات متنوعة، وستعمل دول مختلفة على رعاية بعضها وتسليحه. في هذه الحالة، إذا اختارت ميليشيا “فاطميون” القتال داخل بلادها، فستفعل ذلك انطلاقًا من دوافعها الخاصة، من دون أن تُعتبر بالضرورة ذراعًا لإيران.

يونغ: هل يُرجّح أن تصبح أفغانستان نسخة إقليمية جديدة من سورية، حيث سيتعيّن على إيران مواجهة دول أخرى لديها مصالح في ما يحصل في البلاد؟ وإن كان الأمر كذلك، ما الاستراتيجية التي يمكن أن تعتمدها؟

أمان: تتمثّل أهمية أفغانستان بالنسبة إلى إيران في أمن الحدود، والمياه المشتركة عبر الحدود، وقضية الإتجار بالمخدرات، إذ إن إيران تُعدّ الطريق الرئيس لتهريب المخدرات من أفغانستان الى أوروبا. أضف إلى ذلك أن حماية الشيعة الأفغان لم تشكّل يومًا أولوية لإيران كما كان إنقاذ النظام السوري.

ثمة عبرة يمكن أن تستخلصها دول أخرى من تجربة أفغانستان، وهي أن أي حكومة يعتمد بقاؤها على وجود قوات أجنبية في البلاد، قد تنهار بسهولة بعد انسحاب هذه القوات. وهذا تحديدًا ما يجب أن يأخذه في الحسبان الروس المتواجدون في سورية والإيرانيون المتواجدون في العراق وسورية.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

——————

تفجيرات كابول: مشهد ختامي لفضيحة عالمية

رأي القدس

تقلص دور الولايات المتحدة الأمريكية، بعد السقوط السريع لمجمل أفغانستان وعاصمتها كابول، إلى خوض مفاوضات مع حركة طالبان لتمديد موعد الإجلاء الأخير، الذي يوافق نهاية الشهر الحالي، للآلاف من مواطني أمريكا والدول الغربية، ودفع ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن، حسب ما تقول صحيفة «واشنطن بوست»، إلى ابتعاث مدير المخابرات «سي آي إي»، وليام بيرنز، للاجتماع سرا مع نائب زعيم الحركة، ورئيس مكتبها السياسي، الملا عبد الغني برادار، في 23 من الشهر الجاري، وقد اضطر «البيت الأبيض»، بعد رفض «طالبان» طلبات أمريكا تمديد تاريخ الإجلاء الأخير شهرا آخر، إلى تأكيد الالتزام بموعد الإجلاء المعلن.

على خلفية واقع الانحلال المكثّف لسلطات النظام الأفغاني السابق وتبخّر جيشه، سارعت دول عديدة، بينها بريطانيا وهولندا وبلجيكا وبولندا، إلى إغلاق الباب شبه الموصد بإعلان إنهاء عمليات الإجلاء أمس، رغم إقرار بعضها، أن كثيرا من مواطنيها ما زالوا في أفغانستان.

تحوّل السقوط الكبير لأفغانستان في يد طالبان، إلى فضيحة، اكتملت أركانها مع ما تبع ذلك من حشود كبيرة تجمعت على أمل الهروب إلى الدول الراعية للتحالف، التي أقفلت باب الإجلاء تاركة خلفها أعدادا من مواطنيها، ونفضت يدها من أفغانستان والأفغانيين الذين ربطوا مصيرهم بمصير «التحالف الدولي» الواسع، من متعهدين ومتعاقدين ومترجمين، وكذلك كل من قاموا بمعارضة حركة طالبان، أو قاوموها عسكريا.

على وقع هذا المشهد الذي يمزج فجائعية المصائر المهملة والمتروكة لقدرها مع الفوضى العبثية للانسحاب المستعجل، طالبت دول غربية عديدة المحتشدين بترك موقع المطار و»انتظار مزيد من المعلومات»، وظهرت تحذيرات من مصادر غربية متعددة، وكذلك من ذبيح الله مجاهد، الناطق باسم حركة طالبان، بإمكانية وقوع هجمات إرهابية لتنظيم «الدولة الإسلامية».

مفهوم طبعا أن يستغل تنظيم «الدولة» الفوضى الكبرى الحاصلة، ولا شك أن وجود أعداد كبيرة من الراغبين في الخروج من أفغانستان يغري تنظيما كهذا بشن هجمات دموية، وعلى سبيل المزاودة مع حركات ذات شعبية أكبر، يستثمر قادة التنظيم المذكور في أعمال تفيض بالعنف المفتوح الذي يستهدف المدنيين، وهو أمر يشبه التخديم المجاني لخصومه السياسيين، ولتعميم صورة مرعبة عن الإسلام والمسلمين.

بسبب الطبيعة السرّية للتنظيم، وإمكانية استخدام استجاباته وردود فعله البدائية، بدأ خصومه، وأجهزة المخابرات، والسلطات على أنواعها، تشارك في تأليف «الأفلام» و»الحبكات» التي يشارك فيها، فعلا أو افتراضا، قد توافرت في قضايا الانسحاب والإجلاء وحشود المطار عناصر كافية لذلك التأليف.

من ذلك حديث وسائل الإعلام الغربية أن حركة طالبان قامت بإطلاق السجناء في المناطق التي تسيطر عليها، وأن مئات من عناصر «الدولة الإسلامية في خراسان» (اسم التنظيم في أفغانستان)، تم إطلاقهم من سجني باغرام وبول شارخي، شرقي كابول، وهو أمر ينافي المنطق، فتنظيم «خراسان» عدو لدود لحركة طالبان، فهل يعقل أن تطلق سراح أعدائها ليبدأوا بتنظيم هجمات ضدها؟

أيّا كان السبب والمسبب، فإن حصول تفجير قرب المطار وآخر قرب فندق قد يعطي التنظيم المتشدد دفعة دموية على الحساب، ولكنه سيساهم أيضا في إضفاء اللمسات الأخيرة على واقعة تاريخية محرجة لدول التحالف، وقد يريح حركة «طالبان»، أيضا، من مشهد الحشود الكبيرة التي تريد الهروب من حكمها!

————————

على أعتاب الصراع الإثني في أفغانستان/ شورش درويش

فيما العالم مأخوذ بالحدث الأفغاني، وانتصار حركة طالبان الساحق، والخلل المريع لعملية الانسحاب الأميركي وتهاوي الحكومة، تحوّلت سنوات الاحتلال العشرون إلى فاصلة بين زمنين طالبانيين على أفضل تقدير. غير أنّ التسليم الدوليّ بالخلاص إلى حكم طالبانيّ هادئ قد تبدّده الترجيحات التي تذهب إلى احتمالات تجدّد الحرب الأهلية، ودائماً على وقع خطوط التقسيم الإثني الحادّة والتباينات المذهبية والسياسيّة.

تطفو على السطح، في هذه الأثناء، الخلافات الإثنية بين الطاجيك والبشتون، ذلك أن مشاعر الغبن المتواصلة التي تستبد بالطاجيك لا تكاد تختفي حتى تظهر، فمن جهةٍ هو صراع على هويّة البلد، ومن جهة أخرى هو صراع على شكل السلطة المركزيّة التي يغلب عليها الطابع البشتوني بوصفها الأكثرية القومية قياساً إلى البقيّة. لا يغيب اسم خراسان عن ذهن الطاجيك على اعتباره الاسم الأقدم لأفغانستان، حيث إنّ اسمي أفغان وبشتون يعنيان الاسم ذاته، والمطابقة تعني أنها بلاد البشتون أو بلاد الأفغان، وهي نقطة لا تزال تؤرّق الطاجيك مذ نحل البريطانيون الاسم من المجموعة البشتونية التي كانت تحتكّ بها وتحاربها قبل أن يوقّعا معاهدة روالبندي عام 1919 التي وضعت حدّاً للحرب. وفيما كانت هناك رغبة في مباشرة عملية “التغريب” التي دشّنها أمان الله خان، عبر فرض الثياب الأوروبية على العامّة، ونزع الحجاب عن النساء وتقوية البشتونية وجعلها لغة رسمية، نجح التمرّد الذي قاده حبيب الله كالكاني في إطاحة حكم أمان الله، ما أنهى سيرة التغريب الأولى، لتستعاد أفكار التغريب بعد قليل على يد محمد نادر شاه، المتأثّر بالنظريات العرقيّة، لا سيّما النازية، والتأثر بثقافتها في بناء الأمّة طبق نظرية العرق الواحد واللغة الواحدة، حيث استمر في جهود بشتنة البلاد، واتباع خطّة ممنهجة لاستبدال لغة الطاجيك (الداري) بالبشتونية، واستبدال أسماء المناطق المحلّية والممرّات الحدودية إلى البشتونية، إضافة إلى حملة استيطانٍ عمدت من خلالها إلى إقامة مستوطنات بشتونية شمال البلاد، غير أنّ هزيمة النازية وفوات نظرياتها أفضيا إلى تراجع حدّة سياسات البشتنة.

تقارُب نسبة الإثنيّتين (الباشتون قرابة 42% والطاجيك 32%) يحتّم ظهور الحساسيات الإثنية في بلدٍ فشلت طبقاته الحاكمة في جهودها لبناء الدولة – الأمة، ولعل حالة الدعم الباكستاني للبشتون وفقاً للجواذب الإثنية تضاعف من حساسية الطاجيك، ذلك أن إسلام أباد في حاجةٍ متواصلة للإسناد “القوموديني” في سياق مواجهتها الهند، وهو ما دفع أوساطاً بشتونية في الثمانينيات إلى اقتراح كونفدرالية بين باكستان وأفغانستان باسم “إسلامستان”، على الرغم من أن الأخيرة كانت رافضة إقامة الباكستان عام 1947 لما له من دور في تذرير الحلم في إقامة دولة “بشتونستان” القومية.

لم يمهّد إعلان الجمهورية على يد محمد داود خان عام 1973، ثم استيلاء الشيوعيين على الحكم عام 1978، الطريق أمام إيجاد حل لمسألة التنوّع الإثني، لتتجدّد مسألة الانقسامات داخل حزب الشعب الديمقراطي (الشيوعي)، إذ انقسم الحزب إلى جناحين، الأوّل بملامح بشتونيّة حمل اسم “خلق” فيما كان الفصيل الآخر تحت سيطرة الطاجيك وحمل اسم “بارشام” (الراية)، وبقي الجناح الأول في الحكم إلى حين انهيار الجمهورية 1992 وتسلّم “المجاهدين” الحكم، والذي بدأ عهدهم مضطرباً وشديد الانقسام بين القطبين برهان الدين ربّاني (طاجيكي) وقلب الدين حكمتيار (بشتوني)، ما أفضى إلى تقسيم كابول على أربع قوى متناحرة، غير أن طرد ربّاني وأحمد شاه مسعود من كابول أفضى إلى قيام تحالفاتٍ على أسسٍ إثنية واضحة. ومع بروز حركة طالبان باتت مسألة الصراع تتخذ بعداً إثنياً أوضح، حيث الحركة توصف بأنها واحدة من تعبيرات المجتمع البشتوني، فيما حملت المعارضة (تحالف الشمال) ملامح طاجيكية. وإذا كان الأميركان خلال مرحلة الاحتلال قد فهموا ديناميات الصراع الإثنية وفق تصوّرات كلاسيكية، عبر الإبقاء على التوازن في المناصب الحكومية وداخل الجيش، إلّا أنهم لم ينجحوا في مسار القضاء على الزبائنيّة والفساد التي فرضها التنافس الإثني، وهو ما خلخل النسيج الضام للحكومة والمجتمع. وفي الأثناء، ومع سيطرتها على معظم البلاد، فإن حركة طالبان تحاول منح الطاجيك والأوزبك بعض المناصب في الحكومة المقبلة، إلّا أنّ هذه الإجراءات لا تلقى القبول داخل “طالبان” والطاجيك على حد سواء.

وبعيداً عن ميزان القوى الذي يشير إلى تفوّق حركة طالبان العسكري، وسعة محيطها القبلي والجغرافي، والدعم الإقليمي لها، وعدم رغبة الولايات المتحدة وروسيا والصين الانخراط في الصراع المقبل، فإنّ عنوان الصدام الإثني هو الطاغي على اللحظة الأفغانية المقبلة، وليست المطالب الطاجيكية المنادية بالفيدرالية واللامركزية للأقاليم حديثة العهد، إذ سبق لسياسيين طاجيك أن طرحوا مسألة فدرلة أفغانستان في ظل الاحتلال الأميركي، ولعل تصريحات أحمد مسعود أخيرا في معرض تصوّره للحل يسير في الاتجاه نفسه، حيث إن الحل يكمن في “اللامركزية والتمكين الإقليمي”.

قد يكون خيار اللامركزية هو المتبقي للطاجيك وسائر الأقليات الأخرى أمام الاستحكام البشتوني وتفرّد طالبان بالحكم، لكن اللامركزية في عرف الأكثريات العرقيّة لا تمرّ بسلام وعبر التفاوض والحوار. وعليه، الغالب على الظن نشوب حرب أهلية أخرى، وفقاً لاستقطابات إثنية مديدة، لكنها أكثر بروزاً هذه المرّة.

العربي الجديد

————————-

تفجير كابول وارتجاجاته في واشنطن/ فكتور شلهوب

أكثر ما هزّ وصدم واشنطن في تفجيري مطار كابول، أمس الخميس، أن عملية من هذا النوع كانت متوقعة، بل “محتومة”، ومع ذلك، فشلت التحذيرات والاحتياطات في إحباطها.

الإدارة الأميركية منذ بداية عملية النزوح في كابول طمأنت بأنها وضعت في الحسبان حصول تطورات طارئة، وتحدثت عن خطر إرهابي من تنظيم “داعش” مرجّح.

الرئيس جو بايدن نوه بالتدابير الأمنية المتخذة في محيط المطار تحوطاً لمثل هذا الاحتمال. وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن، بدوره، كرّر أن عملية النزوح الجارية محفوفة “بالمخاطر”. المستشار جيك سوليفان أقرّ هو الآخر بأن مثل هذا الخطر “حقيقي”.

وقبل أقل من ساعة من وقوع الانفجار، انتشر في واشنطن خبر منسوب إلى مصدر عسكري يعلن فيه أن الضربة باتت “وشيكة” وأن المعلومات عنها “موثوقة”، الكولونيل المتقاعد جاك جاكوبس، قال إن هذه المعلومات توفرت عن طريق “التنصت على المكالمات الهاتفية، وبعضها جاء من مصادر أفغانية” مررتها إلى جهات أميركية وأوروبية في كابول.

على الرغم من كل ذلك، حصل التفجير وكان له وقع الزلزال على البيت الأبيض. كلفته البشرية، معطوفة على حالة الفوضى المهينة في مطار كابول في الأيام الأولى، زادت من حشر الرئيس بايدن في الزاوية. وربما أصابت رئاسته بلطخة يصعب محوها. فيض الردود كان لغير مصلحته وإن كان لا يخلو من الكيدية السياسية. صقور الجمهوريين في مجلس الشيوخ ذهب بعضهم إلى حد الدعوة لاستقالته، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كافن مكارثي قال إن يديه صارت “ملطخة بالدماء”. وحتى الديمقراطيون أعربوا عن كثير من الخيبة والامتعاض، وإن المضمر.

 العملية أعادت فتح ملف الانسحاب “المتسرع” الذي جرى تسجيل مآخذ كثيرة على توقيته وتنفيذه. منها الإغلاق “المبكر” لقاعدة “باغرام” الجوية الهامة وما نتج عن ذلك من فقدان القدرة على “جمع المعلومات الاستخباراتية” اللازمة لضمان أمن المغادرة. كما أعيد تسليط الأضواء على موضوع “تسليم الأمن في محيط المطار إلى حركة طالبان” والغمز من زاوية تعويل الإدارة على “التعاون” معها، ولو أن هناك تسليم واسع بأنه لا علاقة لها بالتفجير.

جميع ذلك أعاد وضع الرئيس بايدن أمام خيارات صعبة لا يخلو أفضلها من خطر مضاعفة الخسائر. المطالبات تراوحت بين ضرورة الرد بصورة فورية وحازمة، مثل العودة بالقوة إلى “تشغيل قاعدة باغرام”؛ وبين النهي عن مثل هذا الخيار والتركيز على استكمال الانسحاب مع آخر الشهر وبأقل ما يمكن من الخسائر “لأن هذه الحرب انتهت” ولا مجال لتجديدها. الرئيس استقر في آخر النهار على الثاني الذي هو خياره الأصلي. أعلن عن تحمله المسؤولية مع التوعد بمحاسبة “داعش” في الوقت والمكان المناسبين. وثمة اعتقاد أن الرد قد لا يتأخر كحاجة للتنفيس عن الرئيس “المضغوط”.

أفغانستان خرّبت على بايدن بداية رئاسته الصاعدة. الاعتقاد السائد أنه هو خرّب على حاله بمخالفته للمألوف وللإجماع في ترجمة قرار مقبول ومطلوب من حيث المبدأ.

في المقابل، ثمة من يرى أنه من غير الإنصاف تحميل بايدن وحده مسؤولية انهيار عملية الانسحاب، فالخطيئة الأصلية وقعت يوم أعلنت الحرب على أفغانستان من دون “تعيين أهداف محدودة لها”، حيث حكم ذلك باستمرارها 20 سنة كانت بظروفها محكومة بأن تنتهي بشكل درامي – فوضوي.

على أية حال، الضرر وقع على بايدن، انعطبت رئاسته في أقل من أسبوعين. لكن الوقت ليس ضدها كلياً. خاصة إذا صحت حسابات المراهنة ولو جزئياً على “طالبان”. الأيام الخمسة الفاصلة عن موعد 31 أغسطس/آب المقرر للانسحاب ستبدو دهراً بالنسبة إلى البيت الأبيض، وقوع حادث آخر قد يكون ضربة قاضية. وهناك تخوف، في ضوء التوقعات الأمنية في كابول، من تكرار وقوع هجمات إرهابية أخرى.

العربي الجديد

———————————

أفغانستان:كيف أحيا ظهور فرع لداعش العلاقات الاميركية مع طالبان؟

قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية إن تنظيم “الدولة الإسلامية..ولاية خراسان”، الفرع الأفغاني لتنظيم “داعش”، الذي ظهر في أفغانستان عام 2015، لم يلقَ ترحيباً من قبل حركة طالبان، لكن كان له دور إيجابي في تنامي دور الحركة على الساحة الدولية وبدء دول عديدة في التقرب منها، بينها الولايات المتحدة.

وأشارت الصحيفة في تقرير تحت عنوان “خفايا الحرب بين طالبان وداعش”، إلى أنه “ما إن استولى مقاتلو طالبان على كابول منذ أسبوع، دخلوا السجون وحرروا مئات السجناء، ثم قتلوا زعيم ولاية خراسان في أفغانستان أبو عمر خراساني وثمانية أعضاء آخرين من جماعته”، مضيفةً أن “طالبان قبل استيلائها على البلاد، كانت تقاتل القوات الأميركية في أفغانستان، وبالتوازي، تشن حرباً منفصلة ضد ولاية خراسان المنافسة لها”.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين دفاعيين أن طالبان، وبمساعدة دول أخرى والقوات الأميركية في بعض الأحيان، انتصرت على ولاية خراسان في معركة دمج أجزاء من أفغانستان في خلافة أوسع نابعة من الشرق الأوسط، مشيرين إلى أنه تم طرد جيوب ولاية خراسان من أفغانستان بمقاومة قليلة من قبل مقاتليه الذين تفرقوا وفروا، بعد سيطرة طالبان على أفغانستان في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة.

وقالت الصحيفة: “الخميس، أرادت ولاية خراسان أن توصل رسالة بأن المعركة ما زالت مستمرة وهي دامية، إذ وقع انفجاران في محيط مطار كابول، حيث كانت طالبان والقوات الأميركية توفر الأمن للقوات الأجنبية والسكان المحليين الذين يسعون إلى الفرار”.

واتهم مسؤولون أميركيون تنظيم ولاية خراسان بالوقوف وراءالهجوم. ولاحقاً، أعلن ولاية خراسان مسؤوليته عن الهجوم، بحسب وكالة أعماق المحسوبة على “داعش”. وخلال مؤتمر صحافي بعد هجوم كابول، قال قائد القيادة المركزية الأميركية كينيث ماكنزي إن “الولايات المتحدة كانت تعتمد على طالبان لتفتيش الأفغان عند اقترابهم من المطار”، مضيفاً  “نحن نستخدم طالبان كأداة لحمايتنا قدر الإمكان”.

وأضافت الصحيفة إن استمرار وجود ولاية خراسان هو أحد الأسباب التي تجعل طالبان تتلقى دعماً دولياً من قبل دول عديدة، بينها الولايات المتحدة، التي تعتبر “داعش” تهديداً خطيراً. بدورها، تقول روسيا والصين وإيران إن طالبان هي الحجر الأساس للاستقرار في أفغانستان، وهو السبب الذي سيجعلهم يبقون على سفاراتهم في كابول بعد انسحاب الولايات المتحدة.

طالبان والقاعدة

وتابعت الصحيفة أنه “عندما دخلت الولايات المتحدة أفغانستان في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، كان لطالبان عدد قليل من الحلفاء، ووُجهت إليه انتقادات من الغرب بسبب إبقائه على إرهابيي القاعدة في البلاد، كما عارضته قوى إقليمية من بينها روسيا وإيران”، مشيرةً إلى أنه “رغم أن العلاقة الظاهرة كانت توحي بالتعاون بين طالبان والقاعدة، إلا أن طالبان كانت مستاءة من زعيم القاعدة أسامة بن لادن بسبب استخدامه أفغانستان كقاعدة عمليات في أواخر التسعينيات”.

ولفتت إلى جهاز كمبيوتر تم استعادته بعد الإطاحة بطالبان في عام 2001، أظهر أن مقاتلي القاعدة ينظرون إلى حلفائهم الأفغان بازدراء ويقولون إنهم غير قادرين على فهم القرآن. بدورهم، ألقى مقاتلو طالبان باللوم على بعض مقاتلي القاعدة في تفاقم المشاكل مع الغرب والمساهمة في عزل بلادهم.

وذكرت الصحيفة أن هجمات 11 أيلول/سبتمبر أثارت انقسامات جديدة وأجبرت مقاتلي طالبان والقاعدة على الاختباء. وقالت الباحثة الأكاديمية حول قضايا الإسلام ومؤلفة كتاب “القاعدة في أفغانستان” آن ستينرسن إنه “بعد أن قتلت القوات الأميركية بن لادن عام 2011، كشفت الوثائق التي تم العثور عليها من مخبئه في باكستان عن ضعف الاتصال بين زعيم القاعدة وزعيم طالبان الملا محمد عمر”، لافتةً إلى أن “العلاقة بينهما في ساحة المعركة، حيث قاتل كلاهما القوات الأميركية، كانت أكثر متانةً”.

ونقلت عن قائد سابق في طالبان قوله إن الحركة استغرقت سنوات لإعادة تنظيم صفوفها بعد عام 2001، فيما شنت القاعدة أول هجوم ناجح على القوات الأميركية في مدينة غزنة عام 2004، باستخدام عبوات ناسفة بدائية الصنع. وأضاف أنه “بحلول عام 2009، بدأت كلٌ من طالبان والقاعدة في دمج أعضائهما، وشن المقاتلون حملة إرهابية مشتركة ضد الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة وقوات التحالف، عبر التخطيط لهجمات وتفجيرات واغتيالات”.

طالبان وداعش

ولفتت الصحيفة إلى أنه “مع اضمحلال دور القاعدة وتقليص دورها في المنطقة، برز داعش عام 2015، الذي استولى على أراضٍ في سوريا والعراق، ودعا المقاتلين للانضمام لإنشاء مقاطعة خراسان، وهي منطقة تاريخية تشمل أجزاء من أفغانستان وإيران ودول الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى، مضيفةً “انضم إلى التنظيم مقاتلون متمردون من طالبان ومسلحون آخرون من وسط وجنوب آسيا، تطوع بعضهم للقتال في سوريا والعراق”.

وظهرت بعدها خلافة داعش في أفغانستان داخل ولايتين: ننجرهار الشرقية وجوزجان الشمالية، بحسب الصحيفة، التي أشارت إلى أن التنظيم لم يلقَ ترحيباً من طالبان، التي اعتبرت ولاية خراسان عائقاً. وقال الخراساني في مقابلات أجريت قبل وفاته بفترة وجيزة، إن “داعش كانت لديه أهداف عالمية، بينما سعت طالبان لاستعادة السيطرة على أفغانستان من دون أن تبدي استعدادها لمساعدة الجماعات الإسلامية خارج البلاد”. وأضاف الخراساني أن “قيادة داعش مستقلة، وأهداف داعش مستقلة.. لدينا أجندة عالمية، ولذلك عندما يسأل الناس من الأولى في تمثيل الإسلام والمجتمع الإسلامي بأسره، فنحن بالطبع أكثر تميزاً”.

وبعد ظهور ولاية خراسان، بدأت دول عديدة في التفكير على أن طالبان قد تكون “رادعاً محتملاً” ضد طموحات داعش. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في الحكومة الأفغانية أن “بروز داعش كعدو دولي جديد أدى إلى تعزيز دور الحركة وتنامي دورها على الساحة الدولية والدبلوماسية، بعد أن سعت لسنوات إلى إزالة وصمة الإرهاب عنها”.

وقالت الصحيفة إن “الولايات المتحدة عرضت الاعتراف الدولي على طالبان خلال مفاوضات في الدوحة، أدت إلى الإفراج عام 2020 عن 5000 سجين من السجون الأفغانية”، مشيرةً إلى أن هؤلاء السجناء انضموا إلى ساحة المعركة وساعدوا في تعزيز قوة طالبان، لافتةً إلى أنه “كجزء من الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الدوحة، وعدت طالبان بمنع الجماعات المتشددة من مهاجمة الغرب”.

ونقلت الصحيفة عن الأستاذ في جامعة جورج تاون والمتخصص في مجال الإرهاب والتطرف بروس هوفمان قوله إنه “بعد أن كانت طالبان مصدراً للقلق.. ظهرت فجأة رغبة في إيجاد أرضية مشتركة معها”.

المدن

————————-

بايدن يلتزم بالمصالح المشتركة مع طالبان:تنظيم”خراسان”سيدفع الثمن

ارتفعت حصيلة ضحايا الهجوم المزدوج الذي استهدف محيط مطار كابل إلى 90 قتيلاً. ونقلت شبكة “سي.بي.إس نيوز” الأميركية عن مسؤول في وزارة الصحة الأفغانية قوله إن عدد القتلى “ارتفع إلى 90، بينهم رجال ونساء وأطفال”، فيما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية ارتفاع عدد قتلى قوات المشاة البحرية إلى 13 قتيلاً.

وعقب الهجوم أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن لدى بلاده مصالح مشتركة مع حركة “طالبان” نافياً وجود معلومات من الميدان عن تواطؤ الحركة مع تنظيم “داعش” بولاية خراسان، بعد تبني التنظيم أحد التفجيرين اللذين هزا محيط مطار كابل.

وقال بايدن إن بلاده ستخطط لتوجيه ضربة تستهدف تنظيم “داعش” في أفغانستان في الوقت المناسب، وأن التنظيم الذي وصفه بالعدو لن يردع واشنطن عن تنفيذ الضربة، مضيفاً أن من مصلحة طالبان مغادرة القوات الأميركية في الوقت المحدد.

وأشار إلى أن فرع “داعش” المحلي، وهو ما يسمى ب”ولاية خراسان”، كان يخطط لسلسلة هجمات على الأميركيين في أفغانستان، ولهذا السبب اتخذ القرار بالحد من الفترة الزمنية لمهمة القوات الأميركية في البلاد.

وأضاف أن القوات الأميركية ستلاحق قادة “داعش” المسؤولين عن هجوم كابل أينما كانوا، وذلك من دون عمليات عسكرية واسعة النطاق، ولكن في حال احتاجت القوات الأميركية على الأرض إلى قوات إضافية، فإن واشنطن سترسلها إلى هناك.

ونبه إلى أن الوضع على الأرض في أفغانستان لا يزال يتطور، مؤكداً استمرار بلاده في تنفيذ ما وصفه بالالتزام المقدس تجاه عائلات الجنود الأميركيين. وشدد الرئيس الأميركي على أن عمليات الإجلاء من أفغانستان ستتواصل مجدداً التزامه بإنجاز الانسحاب من كابل في الموعد المقرر في 31 آب/أغسطس.

وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن 13 جندياً أميركياً من مشاة البحرية قتلوا وأصيب 18 آخرون، كما أصيب في التفجير عدد من مقاتلي طالبان الذين كانوا يتولون تأمين المطار.

فيما نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول في “طالبان” أن ما لا يقل عن 28 من عناصر الحركة لقوا مصرعهم بهجومي الخميس. وقال: “فقدنا أشخاصاً أكثر من الأميركيين”. وأضاف أنه ليس هناك مبرر لتمديد مهلة انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان بعد 31 آب.

وكان تنظيم “داعش” أعلن مسؤوليته عن الهجوم. وقالت وكالة أنباء أعماق التابعة للتنظيم عبر حسابها على قناة “تليغرام” أن “مقاتلاً من الدولة الإسلامية تمكن من اختراق كافة التحصينات الأمنية واستطاع الوصول إلى تجمع كبير للمترجمين والمتعاونين مع الجيش الأميركي عند مخيم باران قرب مطار كابل وفجّر حزامه الناسف وسطهم، مما أسفر عن سقوط نحو 60 قتيلاً وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح، بينهم عناصر من طالبان”.

كما نقلت قناة “فوكس نيوز”  عن مصادر أن الهجمات قد تكون منسقة ولا تزال مستمرة مع وجود مئات من عناصر “داعش” بالقرب من المطار.

من جهتها، نفت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي صحة تقارير بشأن إنهاء الولايات المتحدة رحلات الإجلاء الجمعة بعد تفجيري كابل، وأضافت أنه لا يوجد موعد نهائي لأي التزام بإجلاء أي أميركي يريد الخروج من أفغانستان حتى بعد الانسحاب العسكري.

وقالت ساكي في مؤتمر صحافي عقدته في البيت الأبيض، إنه لا يمكن إجلاء كل أفغاني يريد مغادرة البلاد قبل انسحاب الجيش الأميركي. وأضافت أن واشنطن لا تثق بطالبان ولا تعتبرهم أصدقاء، موضحة أن التنسيق مع الجماعة ضروري لمواصلة عمليات الإجلاء.

——————————

تفجيرات كابول: “داعش” يفتتح زمنه الأفغاني

تفجيرات كابول رسالة بالغة الدلالة ليس لـ”طالبان” وحسب، انما للعالم بأن احتمالات أن يستأنف “داعش” زمنه بعد انقطاع لسنوات…

إحدى أكثر وسائل التجنيد في “داعش” نجاعة واستعمالاً هي الإعلان عن افتتاحه زمناً وولاية للقتال و”الجهاد”. تفجيرات كابول هي إعلان “داعش” أن زمناً لـ”الجهاد” قد افتتح. زمن قررت واشنطن أنها خارجه، وملأت الفراغ “طالبان” ببشتونها وعشائرها وأعرافها وقوانينها، وكل هذا يمثل دعوة شديدة الإغراء لجماعة مثل “داعش” لتفتتح زمناً، قد لا يكون بالضرورة موازياً أو مطابقاً لزمنها العراقي الذي كانت باشرته عام 2014، في ظل انكفاء الأميركيين في حينها وتصدر القوى الشيعية التجربة العراقية الدموية، لكنه قد لا يقل دموية عنه.

وتجربتا “داعش” في العراق وفي أفغانستان، وإن انطوتا على ضعف في التشابه، إلا أن ثمة ما يمكن القياس عليه بما أننا حيال تنظيم واحد تولى في الأولى وباشر في الثانية استثماراً في عناصر الانفجار.

 وهنا علينا أن نعود إلى تفجيرات كابول بوصفها دعوة موازية إلى الانخراط في المجزرة. جاذبية التنظيم تكمن في “فعاليته” على ما يردد أسراه للمحققين. كلما نفذ عمليات وتفجيرات، ارتفع منسوب الافتتان به. هذا ما سبق أن خبرناه في العراق وفي سوريا. والافتتان ليس عراقياً أو سورياً، بل هو كوني، وهو ما دفع رياضيين فرنسيين وموسيقيين بريطانيين ومسلمين أوروبيين للالتحاق به في دولة الخلافة، وهذا ما دفعه هو، أي “داعش” إلى الاستثمار بإنتاجاته البصرية التي تفنن فيها في عرض الفظائع التي ارتكبها كوسيلة جذب لمن يخاطبهم القتل، وما أكثرهم في هذا العالم. فحين سئل صدام الجمل وهو أحد أمراء التنظيم الذين أسرتهم السلطات العراقية، لماذا نشر صوراً لنفسه وهو يحمل رؤوساً مقطوعة، أجاب أن التنظيم طلب منه التقاط الصور كي يرسلها إلى خلاياه في الخارج!

وهنا تلوح وظيفة أخرى للتفجير والقتل المصور، وهي الردع وبث الرعب في الناس، ويتحول الرعب بدوره إلى طاقة تجنيدية تستقطب كل راغب بالانتقام أو بتسجيل حضوره في هذا المشهد العنيف، لا سيما في ظل كل عناصر الإغراء هذه.

في هذه اللحظة، يصح البناء على تجربة التنظيم في العراق لاستشراف مستقبله في أفغانستان. تفجيرات كابول هي الإعلان الأول عن استئناف الزمن العراقي والسوري لكن في أفغانستان. وفي هذه اللحظة، تصاب الصدوع الاجتماعية والطائفية والعشائرية بارتعاشة مؤداها أن ثمة فرصة للانقضاض، وتجد الأمراض لنفسها قنوات تصريف جديدة. وإذا كان الشيعة هم هدف الارتعاشة في العراق في ظل الحرب المذهبية في ذلك البلد، فإن “طالبان” لا تقل عنهم إغراء لمن ركبه الصدع. بيئة عشائرية متنازعة لألف سبب وسبب، وشيوخ “الجهاد” على طرفي الانقسام جاهزون لمدهما بالفتاوى على نحو ما حصل بين تنظيم الدولة و”القاعدة” في العراق وسوريا. وانقسامات عشائرية وقومية وسلطة جديدة وضعيفة.

تفجيرات كابول هي إعلان “داعش” أن زمناً لـ”الجهاد” قد افتتح.

دولة “طالبان” في أفغانستان لن تكون سلطة مركزية قوية، فثمة مساحات هائلة للتحرك في الجغرافيا الصعبة وفي الانقسامات العشائرية والقومية، خصوصاً إذا عرفنا أن “ولاية خرسان”، وهو الاسم الذي اختاره التنظيم لفرعه الأفغاني يضم قوميات أخرى كالطاجيك والأوزبك، ولهؤلاء امتدادات خارج أفغانستان، والأفغان منهم يشعرون بأن مجيء “طالبان” يعني تصدر البشتون على القوميات الأخرى.

المشهد شديد الإغراء لـ”داعش”، وفرص الاستثمار كبيرة، والشقاق الأفغاني يتغذى من عشرات المصادر، لكن أهمها هو الانسحاب الأميركي الذي سيدفع تنظيماً مثل “داعش” طليقاً في هذا البر العشائري الهائل.

وقياساً على تجاربنا مع التنظيم، تلوح منطقة قد تكون غير مفكر فيها لجهة قدرته على تجنيد أفغان. فالدولة التي انهارت في أفغانستان خلفت مجتمعاً كبيراً من أهل تجربة الحكم، هم اليوم أيتام يشعرون بانقلاب الأوضاع عليهم، وليس مشهد المحتشدين في مطار كابول سوى عينة صغيرة عنهم. ولطالما أجاد “داعش” الاستثمار بأيتام الأنظمة. في تونس مثلاً، يشكل أبناء بيئة نظام زين العابدين بن علي من الذين وضعتهم الثورة على هامشها، معظم من انخرط مع التنظيم من التونسيين. 

تفجيرات كابول رسالة بالغة الدلالة ليس لـ”طالبان” وحسب، انما للعالم بأن احتمالات أن يستأنف “داعش” زمنه بعد انقطاع لسنوات، كبيرة ولن تكون أفغانستان مسرحه الوحيد، وهنا الأمر مختلف عن العراق، فإذا ما قرر العالم أن ينخرط بقتال “داعش” مجدداً، فهو هذه المرة سيفعلها إلى جانب “طالبان”، وهذا سيكون منتهى المفارقة! ومثلما خبرنا قتال الجيش الأميركي إلى جانب الخبراء الإيرانيين خلال معركة الموصل، قد نعاين مشهداً موازياً لقتال الجنود الأميركيين إلى جانب مقاتلي “طالبان” في أفغانستان… من يدري. 

درج

——————————

===========================

تحديث 28 آب 2021

————————-

بوادر عصيان بعد هزيمة أمريكا في أفغانستان!!/ محمد عبد الحكم دياب

منذ إنشاء طالبان لـ«إمارة أفغانستان الاسلامية» عام 1994، وهي طرف في الحرب الأهلية الأفغانية، وعندما عادت بعد عشرين عاما ملأت الدنيا وشغلت الناس. وكانت بقيادة الملا عمر، إلى أن أعلن ناطق باسم المخابرات الأفغانية حسيب صديقي عن وفاته في يوليو 2015؛ في مستشفى بكراتشي في أبريل 2013 في ظروف غامضة»!!. وطالبان مُكَوِّن من البشتون حاز شهرة كبيرة عقب الاجتياح السوفييتي لأفغانستان عام 1979، ويشکل البشتون أكبر ثاني مجموعة عرقية باکستانية؛ منتشرة فی الأوساط الحکومية وأروقتها، ويقدر إجمالي عددهم 40 مليون نسمة، ونظراً لغياب الإحصائيات الرسمية الدقيقة منذ عام 1979 فإن النقاش يدور حول رقم 60 قبيلة بشتونية وأکثر من 400 عشيرة..

ولم تتحقق الوحدة السياسية للبشتون فی السابق إلا قليلاً، وكان لهم حضور موثر وقت الهيمنة البريطانية والروسية، وسيطروا علی البلاد في حقب مختلفة، واستولوا على العاصمة كابول في سبتمبر 1996م، وإعلان «الإمارة الإسلامية في أفغانستان»؛ ونُقِلَت العاصمة إلى قندهار، واستمر حكم طالبان حتى 2001؛ وأطاح به الغزو الأمريكي نهاية نفس العام؛ كرد على هجمات 11 سبتمبر، ولم تنل حكومة طالبان اعترافا دوليا باستثناء اعتراف ثلاث دول هي: باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وخرجت على إدارة حامد كرزاي المدعومة من واشنطن، ومن قوات «إيساف» التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأعادت طالبان تنظيم صفوفها، ووصل عددها نحو 200 ألف مسلح.

أربكت عودة طالبان العالم، وهناك ما يشبه الإجماع في الصحافة الغربية بأن واشنطن لم تتعرض لهذا الإذلال منذ حرب فيتنام؛ ذلك لسهولة تمكين طالبان من السيطرة على القرى والمدن الأفغانية بعد غياب دام لعقدين من الزمن، وطرح معلقو ومحللو الغرب أسئلة واستفسارات تبحث في أسباب «الكارثة» وسبب الانتصار الطالباني السهل، فكتبت صحيفة «تاجس أنتسايجر» السويسرية، ومقرها زيورخ: «طالبان باغتت الغرب». وحنثت بوعودها الخاصة بالمرأة أو الصحافة، وحتى خدمة الشعب والبلاد.

وأضافت: «من السذاجة تصديق ما صرحت به طالبان، وقد أظهر ماضيها أن كلمات ما أسمته الصحيفة بـ«إسلاميي العصر الحجري» فكانت كلمات بلا معنى؛ لا يريدون برلمانا، ولا انتخابات، ولا حرية دينية، وإنما يريدون أميرا وملالي يحكمون باسم الشريعة المناسبة لهم، وحمَّلت مسؤولية ما حدث على الحكومة الفاسدة، والسبب الأهم هو ما قالت إنه مبالغة الولايات المتحدة وشركائها الغربيين في تقدير تأثيرهم على أفغانستان طوال 20 عاما؛ ضخوا خلالها مبالغ فلكية من الأموال لبناء المنظومة الأمنية القادرة. وقدرر جو بايدن أن عودة طالبان للحكم تحتاج ما لا يقل عن عام ونصف العام، لكنها عادت خلال أسبوع ونصف الأسبوع، وفاجأت الولايات المتحدة والغرب والعالم عموما بشكل تام» حسب الصحيفة.

وأدّلَت صحيفة «فرانكفورتر ألغماينه» الألمانية بدلوها بشكل مغاير؛ وتطرقت إلى «تعامل الغرب باستعلاء» مع الأفغان، وحتى في ساعات الفشل، مازال بإمكان السياسيين الغربيين الاختباء وراء أمريكا، وتوجيه الاتهام لجو بايدن. ففي الأيام الأخيرة دعا الرئيس الأمريكي الأفغان إلى القتال من أجل أنفسهم. وكان الكل يعلم أن ذلك مجرد أماني صعبة المنال. وأضافت الصحيفة: «كلما طال بقاء قوات الغرب، زاد اعتماد القوات الحكومية عليها. وعند انسحابها ينهار البنيان. واستعلى الغرب بشكل ميئوس منه في أفغانستان. وهذا اعتراف واجب، لكنه لا يُبرر الهروب من المسئولية. ويتعين على أمريكا وأوروبا الاعتراف بأن تواجد القوات هناك كان كافياً لتأبيد حالة الجمود مع طالبان. ولم تكن تلك بالاستراتيجية لكن أي شيء آخر (كان) يعني الفشل»!!.

وأكدت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية على«الفضيحة التي لحقت بالغرب، وطعنت في مصداقيته وأخلاقياته! وأشارت إلى: «النهاية المصحوبة بالرعب؛ كشفت عدم اكتراث الحكومات الغربية بمصير الأفغان؛ خاصة الذين عملوا كمترجمين. وبدلاً من مساعدة الموظفين المحليين في الوصول لبر الأمان، تاهت الحكومة الألمانية في سراديب بيروقراطية وغرقت في مناقشات تفاصيل الاختصاصات؛ مثل الولايات المتحدة، وكان المهم عند برلين هو البحث عن مهرب. وبهذا تلطخت مهمة أفغانستان الفاشلة؛ بأكثر مما يفعله سوء التقدير والهزائم العسكرية»!!.

وزادت الصحيفة بالقول: «الولايات المتحدة والغرب لحقتهم الفضيحة؛ حين أرادوا فرض قيمهم وسيطرتهم في واحدة من أصعب مناطق العالم، وفشلوا بعد ذلك بسبب التقديرات الخاطئة. وعدم القدرة على التحمل. وأخيرا اكتمل ما كان يلوح في الأفق، وهو أن أمريكا، في بداية الألفية الجديدة تحمست بشدة لإعادة صياغة العالم، وأرادته على هواها؛ ثم تعود لديارها، وقد تبقى لفترة إضافية أطول».

وحاولت صحيفة «تايمز» اللندنية الرد علي سؤال عن عواقب هذه الهزيمة بالنسبة لآمال الغرب في البقاء في عصر التنافس بين القوى العظمى!!. ويشير المعلقون الصينيون إلى أن أفغانستان عُرفت منذ فترة طويلة كمقبرة للإمبراطوريات، وأعقب الانسحاب الروسي في عام 1989 انهيار الاتحاد السوفييتي. «ومن ناحية أخرى، قد يشعر الغرب بالارتياح، فلم ينج من كارثة فيتنام فحسب، بل وانتصر أيضا في الحرب الباردة»!!.

وتابعت تايمز ردها: «إذا أراد الغرب فرض نفسه خلال منافسته مع الصين، الخصم الأقوى بكثير، فعليه إقناع حلفائه وشركائه بأن نموذجه الاقتصادي والسياسي لا يستحق الدفاع عنه، بل ما زال الغرب مستعدا أيضا للدفاع عنه. وهذه المهمة ستزيد من صعوبتها مشاهدُ اليأس في أفغانستان» وأدى لهبوط شعبية جو بايدن، وأشار إلى ذلك «أليكسي زابرودين» في صحيفة «إزفيستيا» الروسية (20/ 08/ 2021) وتناول انعكاس الانتصار الطالباني على وضع الولايات المتحدة الداخلي، وتَعَرَّض لاستطلاعات رأي انخفض فيها تأييد الرئيس الأمريكي فور انتقال السلطة إلى طالبان. لنحو 45 – 46٪.

وتم الاستشهاد برأي رئيس الجامعة الأمريكية في موسكو، إدوارد لوزانسكي؛ وهو أن الرأي العام ومخاوفه يتأثران بـ«فشل الولايات المتحدة وعارها العالمي، الذي تبثه الإذاعات وشاشات التلفزيون في كل مكان». و«حتى الصحافة المؤيدة لبايدن تتناوله بحدة. وساد الاعتقاد أن ما حدث كان كارثة. والتعبير عن الاستياء من الحكومة شيء، والفُرجة على الإهانة الوطنية شيء آخر» وقال لوزانسكي في (إزفستيا): «عندما تُمَس كرامة البلاد، فذلك يؤثر على الرأي العام».

ومثل الوضع في أفغانستان فشلا تاما للإدارة الحالية منذ وصولها إلى السلطة. وسوف تُجرى الانتخابات النصفية العام القادم (2022). ويعمل الجمهوريون على استعادة سيطرتهم على مجلس الشيوخ وزيادة حصتهم في مجلس النواب. وقـد تساعدهم الكارثة الأفغانية في هذا الأمر، وبالفعل يدفع الجمهوريون العجلة الأفغانية بقوة، حتى إن الرئيس السابق دونالد ترامب يدعو الديمقراطيين إلى الاستقالة. وعلى الرغم من أن جو بايدن لن يترك البيت الأبيض الآن، إلا أن الدعم الذي يحتاجه خصومه متاح.

وخلص لوزانسكي إلى: «لو أجريت الانتخابات اليوم، لكان لدى الجمهوريين بالتأكيد فرص للفوز» والسؤال المؤجل هو أين تل أبيب مما يجري؟، وتناول ذلك الكاتب الروسي «إيغور سوبوتين» الثلاثاء الماضي (24/ 08/ 2021) في مجلة «نيزافيسيمايا غازيتا» عن الأمل الذي تعلقه تل أبيب على استعادة واشنطن لكرامتها المُهْدَرة أمام طالبان سيكون خصما من الحساب الإيراني، ويَحْمِل رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت معه «خطة ردع» ضد إيران يقدمها للرئيس الأمريكي خلال زيارته لواشنطن، المقررة، أثناء كتابة هذه السطور.

واستشهد بما جاء في عمود الصحافي الصهيوني «بن كاسبيت» المنشور بالنسخة الغربية من «المونيتور» وتأكيد مصادر مخابراتية بأن الوضع الحالي في أفغانستان يوفر فرصا جيدة للدولة الصهيونية لإقناع الولايات المتحدة بالتشدد مع إيران. وحسب رأي هذه المصادر فالصدمة التي أصابت الإدارة الأمريكية والجمهور الأمريكي قد يكون لها «تأثير معاكس تماما» فالفشل الأمريكي المذل في أفغانستان قد يجبر واشنطن على استعراض قوتها في أماكن أخرى، بما في ذلك «الشرق الأوسط»!!، وماذا عن الموقف من الصهاينة العرب والمسلمين؛ الناطقين باللغة العربية، ووالحاملين لجنسيات عربية وإسلامية؟، وهذا مبحث آخر.

كاتب من مصر

لقدس العربي

——————————

من أفغانستان للعراق: دروس لا يريد أحد تعلّمها؟

رأي القدس

اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية الهجمات التي جرت في محيط مطار كابول أول أمس «الأخطر» ضد قواتها منذ سقوط مروحيّة في هذا الشهر نفسه من العام 2011، وليست مصادفة أبدا أن طالبان، في ذلك العام قبل عشر سنوات، قد خرجت من معاقلها القوية واقتربت من حدود العاصمة كابول.

بهذا المعنى، فإن الإدارات السياسية والعسكرية الأمريكية، كانت مستمرة في ارتكاب الخطيئة نفسها، التي اضطرت للإقرار بها مجبرة لاحقا، وأنها، بعد أن دفّعت الشعب الأفغاني أكلافا هائلة، وخسرت بدورها، هي وحلفاؤها، آلاف الجنود ومئات المليارات، قررت الانسحاب بكلفة إضافية من الإهانة، كي تتعرّض أيضا لضربة عسكرية كبيرة توقع الرئيس الأمريكي جو بايدن، وإدارته، إلى مأزق جديد قد يدفعه لأعمال عسكرية لا يعلم أحد متى تنتهي.

مفيد التذكير تاريخيا، أن تنظيم «الدولة الإسلامية – ولاية خراسان» الذي قام بالهجمات الأخيرة على المدنيين، وعلى الجنود الأمريكيين، وعلى عناصر حركة طالبان، لم يكن موجودا حينها، وأنه بدأ بالظهور عام 2013.

يمكن أيضا، من دون افتئات كبير، تحميل مسؤولية ذلك للسياسات الأمريكية، التي قررت، ردا على هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، احتلال أفغانستان ثم العراق، حيث قامت عمليا بهندسة العراق على صورة أفغانستان، وبعد الإنجاز الذي قامت به في تشكيل نخبة سياسية عراقية جاهزة للحكم ومرتبطة بها (وبعضها كان على علاقة بإسرائيل) وتحضير أشباه عراقيين لحامد كرزاي.

لقد أدت مضاعفات احتلال أمريكا للعراق إلى فتح الأبواب لنشوء تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي استولى على الموصل بعملية خاطفة، ثم استولى على أجزاء كبيرة من سوريا، وشكّل تهديدا لدول الإقليم، تحوّل إلى مركز استقطاب وإلهام للحركات السلفية المسلحة التي رفعت رايته في آسيا وأفريقيا، أو قامت بعمليات إرهابية عالمية متأثرة بأدبياته، ومنها «ولاية خراسان» التي بزّت طالبان و»القاعدة» وكافة الحركات السابقة في عنفها ومتابعة حرب التنظيم المفتوحة ضد العالم أجمع.

جدير بالتفكّر تاريخيا، كيف أن محاولة أفغنة العراق الفاشلة، قد انتهت إلى إعلان قادة مجموعات مسلحة أفغانية ولاءها لتنظيم نشأ في بلد عربي قامت باحتلاله، وذلك بعد 12 عاما من الإدراج العجيب للعراق في رد واشنطن الانتقامي على عملية اتهم بها تنظيم أسسه سعودي (من أصول يمنية) مقيم في أفغانستان، حيث وافقت طالبان حينها على محاكمته على أراضيها، واضطرّت في سبيل احتلالها لبلد عربيّ لا صلة له البتة بـ»القاعدة» لفبركة الملف النووي للعراق.

من المدهش، أنه بعد هذا السياق التاريخي المرعب، وبسبب العملية الأخيرة فيما تتجهز الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء عمليات الإجلاء، أن يقوم «خبراء» أمريكيون، بمطالبة إدارة بايدن «بالانتقام من طالبان، حتى لو لم تنفذ هي الهجوم» وأن يقوم «بتوسيع المحيط الأمني للمطار بصورة كبيرة من خلال ضخ المزيد من القوات الإضافية» وهو، باختصار، استعادة للسيناريوهات الأمريكية التي قادت إلى كل هذا الجحيم الذي سنعاين، ولفترة طويلة، آثاره في أفغانستان والعراق.

القدس العربي

——————–

أفغانستان: تمنياتنا وعقلنا/ بيار عقيقي

خرجت تحليلاتٌ شتّى خلال الأسبوعين الأخيرين لمناقشة تطورات أفغانستان. قد يحلو لبعضهم الذهاب في مخيلته، لا في إطار قراءته الوقائع السياسية والعسكرية ضمن مفهوم جيوبوليتيكي ما، بل في إطار تلبية أمانيه، إلى حدّ يُصبح معها سماع أو قراءة منهجية تفكير مضحكة، لا تشبه أياً من المنطق. في السابق، كان أنصار هذه الفئة أقليةً في عالم أكثر واقعية، إلا أنهم تحوّلوا إلى أكثرية تدريجياً. لا يعود السبب إلى تراجع أصحاب التفكير الواقعي، بل إلى تطرّف أصحاب الفكر الأيديولوجي، دينياً كان أم سياسياً، بشكلٍ لا يسمح لعقلانية التفكير بالبروز. ومع أن مثل هذا السلوك معروفٌ منذ القدم، إلا أن تطوّره أصبح مدعاة للقلق، ومبعثاً لإثارة المخاوف حول منهجية التفكير وطُرُقُه وتأثيراته السلبية على المستقبل، خصوصاً مع تطور وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت.

في الملف الأفغاني مثلاً، يتحدّث عديدون عن صدام حركة طالبان والولايات المتحدة، بينما على أرض الواقع حرس الثنائي مطار حامد كرزاي في كابول، قبل انفجاري أول من أمس الخميس. يقول بعضهم عن الانسحاب الأميركي من هناك: “سيُغيّر وجه العالم وسيُحطّم أميركا”، بينما تتحدّث الحركة عن علاقاتٍ مستقبليةٍ مع الولايات المتحدة، وعن عدم السماح ببقاء البلاد قاعدة لشنّ الهجمات على الأميركيين، وصولاً إلى لقاء مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وليام بيرنز، مع رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان، عبد الغني برادر، في كابول يوم الإثنين الماضي.

دائماً، على الإنسان أن يفصل بين تمنياته والواقع، لأن مزجهما سيؤدّي إلى تشكيل أدوات تفكير غير منطقية ولا سليمة، وسينعكس ذلك بتشكيل خوارزمية نفسية ـ اجتماعية في تعاطيه مع محيطه الضيّق (العائلة)، مروراً بالمحيط الأكبر (مكان السكن)، وصولاً إلى المحيط الواسع (العمل، الزملاء، الحياة الاجتماعية..). هذا النوع من التفكير، المبني على تغليب التمنّيات على القراءات الواقعية، سيؤدّي إلى تطرّف الشخص في الانفعالات الناجمة عن موقف أو رأي أو حدث متعلق بموضوع ما. لنفرض مثلاً أن هناك شخصين يتابعان ملف أفغانستان. سيقول أحدهما: أميركا هُزمت شرّ هزيمة أمام “طالبان” واندحرت ذليلة. أما الآخر، فسيذهب في تحليله إلى مكان مختلف، بالقول إن أميركا رمت قنبلة في قلب الوسط الآسيوي ستُنهي أدوار دول محدّدة.

في الحالتين، أخرج الشخصان تمنياتهما في أفغانستان إلى العلن، لكن الواقع مغاير تماماً. يبدأ الأمر بفهم سلوك الولايات المتحدة أولاً، المعاكس لأدبيات “الربح والخسارة” البديهية، بل تتعدّاها إلى كيفية “الخروج من الباب للدخول من الشباك”. خرج الأميركيون من سايغون ـ فيتنام في 1975، لكنهم عادوا من المدخل الاقتصادي، محقّقين اختراقات واسعة في الخواصر الصينية. وثانياً، علينا فهم تفكيرنا، نحن القاطنين في الشرق الأوسط، الذين نردّد نظرياتٍ محدّدة أو نعلك مفاهيم غير واقعية في سياق ما، ونبقى مقتنعين بها، على الرغم من عدم صوابيتها، فقط لأنها تلتقي مع رغبتنا لا عقلنا.

ليست المشكلة في تصديق أمثال هذه الفئة من الناس أو في إقناع الجمهور، بل في أن التطور المتسارع في تقنيات التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي يسمح في تشكيل خبر غير موجود، مع إبراز تفاصيله، وبناء الحراك السياسي عليه، وصولاً إلى تحقيق النتيجة الأساسية من تركيبه. في الواقع، تطوير هذه التقنيات من دون تحصينها من الأخبار غير الصحيحة، سيؤدّي إلى ترسيخ دور الشائعة التي تسقط عادة في اليوم التالي من تردادها بسبب سرعة اتضاح عدم حقيقتها، إلا أنها مع هذه التقنيات ستُصبح أكثر إقناعاً، تحديداً حين تُرفق بتحليل ما، خصوصاً لدى جمهورٍ ليس مطلوباً منه تغيير رأيه إذا كان مقتنعاً، بل عدم إهانة عقله في أثناء بحثه عن الحقائق، ويرفض تلقائياً كل أنواع التحليل المبني على تخيلاتٍ، لا وقائع، في سياق عملية فرز عقلية.

العربي الجديد

—————–

إيران بين الحذر والتحفّز تجاه طالبان/ محمود الريماوي

تتعامل طهران مع انتصار حركة طالبان واستلامها الحكم في أفغانستان المجاورة بحذرٍ يخالطه قدر كبير من الأمل، على غرار دول أخرى، مثل الصين وباكستان وروسيا وتركيا والهند، مع اختلاف البواعث لدى كل من هذه الدول. وتكمن مصادر الحذر الإيراني في عوامل متعدّدة، يتقدّمها العامل الأيديولوجي الذي يعني الكثير لطهران، فلئن أعلنت “طالبان” أفغانستان إمارة إسلامية، فإن هذه الإمارة المتجهة إلى إرساء حكم ديني ذات صبغة سنّية، وطهران معنية بتخفيض الوزن السياسي والاستراتيجي للقوى السنّية في العالم، لا زيادته، وذلك في محاولتها إظهار أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي طليعة من يمثل المسلمين في العالم، وهي مرجعيتهم وملاذهم. هذا على الرغم من أن “طالبان” لم تكن، خلال فترة حكمها السابقة (1996 ــ 2001) معنية بافتتاح المعاهد الدينية أو زيادة بناء المساجد، غير أن من الواضح أن رجال الدين، أو على الأقل الملتزمين دينياً، هم المؤهلون لإدارة دفّة الحكم راهناً، وفي الأمد المنظور في أفغانستان، إذ إن الحركة ذات مرجعية دينية، ولا تحتكم إلى فكر “دنيوي”. أما طهران فإنها لا تجد غضاضة في الجمع بين الاعتبارات البراغماتية والعقائدية. ومغزى ذلك أن العائق المذهبي، على الرغم من أهميته بالنسبة للمسؤولين فيها، لا يمنع التعاون مع الطرف الإسلامي الآخر. وكما هو الحال في التعاون مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة، ومن دون أن تكف طهران عن محاولات إنشاء جماعاتٍ تتبع عقائدياً ومذهبيا لها.

الأمر الثاني الذي يثير حذر طهران، كما غيرها، أن كابول الجديدة باتت محكومة من جماعات مقاتلة ومتمرسة في القتال، وأن أي خلاف سياسي معها يسهل أن يقود إلى احتكاك عسكري. ورجال الدين أنفسهم قادة عسكريون، خلافاً لرجال الدين “المدنيين” الحاكمين في طهران، على الرغم من عسكرتهم المجتمع عبر الحرس الثوري والباسيج. والأمر يحتاج إلى التريث قبل أن ينتقل زعماء “طالبان” إلى الحياة المدنية، ويزاولوا السياسة مثل غيرهم. يُضاف إلى ذلك غياب الأجسام السياسية (الأحزاب خصوصاً) عن الحياة في أفغانستان، إذ إن التقسيمات القبلية والعرقية هي التي تشكل قوى الدفع والتدافع في المجتمع.

الأمر الثالث أن “طالبان” ما زالت تحت تأثير نشوة النصر على الولايات المتحدة، وليست في هذه المرحلة في وارد التنازل لأحد، بعد أن رفضت التنازل للقوة العظمى، وتتعامل مع الآخرين من موقع القوة. الأمر الرابع أن طهران تدرك مدى الحذر في أفغانستان منها، فإيران تضم مهاجرين أفغاناً يقدّر عددهم بمليونين ونصف مليون نسمة، كما أنها أعلنت استعدادها لاستقبال لاجئين أفغان جدد بعد وصول “طالبان” إلى الحكم، وحدّدت ثلاث محافظات حدودية لاستقبالهم فيها. وقد يشكّل هؤلاء جميعاً قنبلة على الحدود، بالنظر إلى النهج الإيراني في توظيف كتلة اللاجئين لخدمة سياستها. وبين اللاجئين هناك أعداد كبيرة ممن ينتمون إلى قبيلة الهزارة الشيعية، ووظفت طهران الشبيبة منهم في مليشيات (بالذات مليشيا فاطميون)، قاتلت وما زالت تقاتل في سورية المعارضة السورية المسلحة، بل تفيد تقارير بأن طهران دفعت بشبان أفغان إلى القتال إلى جانبها في الحرب مع العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي. ومع إقرار حق هؤلاء اللاجئين بالعودة الطوعية إلى بلادهم وفي ظروف آمنة، إلا أن احتمال تجييشهم من إيران يبقى هو المحذور الماثل. على أن ذلك كله لن يوقف التطلع الإيراني نحو أفغانستان التي تشاطرها حدود طويلة، تبلغ نحو ألف كيلومتر، فطهران تستثمر في الأزمات والصراعات، وليس في الظروف السلمية والطبيعية. ومن المفارقات أن طهران رحبت في عام 2001 بزوال حكم “طالبان” والهيمنة الأميركية على ذلك البلد، وبعد نحو عشرين عاماً رحّبت بانتصار “طالبان” والهزيمة الأميركية.

الأمر الخامس أن طهران تتوجس من تأثيرات دول مهمة أخرى، مثل باكستان وتركيا والسعودية وقطر، على الحكم الجديد في أفغانستان، وخصوصاً في مجالات الإعمار وبناء البنى التحتية، في وقتٍ ما زالت تعاني فيه من آثار العقوبات الاقتصادية. وقد يشكل التزوّد بالنفط الإيراني الخاضع للعقوبات ورقة ثمينة بيد طهران، بيد أنه بداية محفوفة بالمحاذير للحكم الأفغاني الذي يسعى إلى تقديم نفسه للعالم نظاماً سياسياً مسؤولاً. ومعلوم أن إيران التي تشكو من شحّ في المياه (خرجت احتجاجات في عدد من المحافظات قبل أسابيع على خلفية الشكوى من النقص في المياه) قد عرضت على كابول مقايضة النفط بالماء، علماً أن أحد الأنهر الأفغانية الطويلة (هلمند) يصل إلى الأراضي الإيرانية، هذا في وقت نشطت فيه الهند ببناء سدود في الأراضي الأفغانية في فترة الحرب، فكيف في مرحلة صمت المدافع.

لهذه العوامل، تبدو طهران على جانب من الحذر في التعامل مع الوضع الأفغاني الجديد، غير أنها، في الوقت نفسه، تجد أن هناك عناصر مشجّعة تدفعها إلى التقارب مع “طالبان”، وفي مقدمها العامل السياسي، ممثلاً بمناوأة الولايات المتحدة، وما ألحقته “طالبان” من ضربة معنوية (ومادية) قاصمة بأميركا. ومن المنتظر أن تغذّي طهران هذا العداء، وتسعى إلى إدامته، من أجل الحفاظ على أرضية مشتركة، هذا على الرغم من حاجة “طالبان” لرفع العقوبات عنها وعن قادتها، وكذلك الحاجة إلى الاعتراف الدولي بالنظام السياسي الجديد. وبينما هنأ خطيب جامع زاهدان السني والمقرب من السلطات الايرانية، مولوي عبد الحميد، “طالبان” بالانتصار الكبير، فإن متحدّثاً باسم الخارجية الإيرانية، هو سعيد خطيب زاده، لم يتردّد في القول، نيابة عن الأفغانيين، إن أمن أفغانستان من أمن إيران.. مع الدعوات إلى تشكيل حكومة ائتلافية، تضم جميع المكونات. ويتبع ما تقدم أن هذا التطوّر يعزّز القناعة الإيرانية بأن الولايات المتحدة في طور الانسحاب وتقليص النفوذ العسكري والاستخباري، وهو ما يمثّل لطهران فرصة لمدّ نفوذها، وخصوصاً في الدول الضعيفة اقتصادياً، أو التي تشهد نزاعات أو غير المستقرّة أوضاعها، وأفغانستان نموذج “مثالي”.

عامل آخر يُثير تفاؤل طهران، وهو أنه عبر علاقات نشطة مع “طالبان”، فإنه يسعها التغلغل عبر أفغانستان، وتزخيم الصلات مع جماعة الهزارة، أعراق أخرى، مثل الطاجيك، ومحاولة ربطها بإيران بمختلف الوسائل، واستخدامها جسراً إلى بسط النفوذ أو ممارسة الضغوط على كابول، حسب مقتضى الظروف. علاوة على عامل ثالث، سوف تتهافت عليه دول أخرى، من بينها الصين وروسيا، وذلك بالخوض في مغامرة الوصول إلى المعادن الثمينة النادرة، والسعي إلى تعدين الخام منها، ومحاولة عقد اتفاقيات اقتصادية في أقصر الآجال الممكنة، تشمل هذه المعادن. وعامل الوقت على جانبٍ من الأهمية، فثمّة فراغ في السلطة والإدارة في هذا البلد، وسوف تسعى دول شتى إلى أن يتم إشغال هذا الفراغ بما يخدم مصالح هذه الدول، ومن بينها إيران.

————————–

هزيمة أميركا الأفغانية ونصر روسيا السوري/ بسام مقداد

النصوص التي ينشرها المجلس الروسي للعلاقات الخارجية تحمل طابعاً معرفياً إستشارياً بالنسبة لمؤسسات إتخاذ القرارات. وكان من شبه المستحيل أن يمر الحدث الأفغاني، الذي أقام العالم ولم يقعده بعد، من دون أن يقول هذا المجلس كلمته. ولم تترك هذه الكلمة لخبير أو كاتب سياسي أو سفير سابق عضو في المجلس، بل قرر مديره أندريه كارتونوف تولي هذا الأمر، وقام بعقد مقارنة بين هزيمة أميركا الأفغانية وما يسميه نصر روسيا السوري. فقد نشر في 24 من الشهر الجاري نصاً بعنوان “دروس تدخلين عسكريين.  لماذا نجحت روسيا في سوريا وفشلت الولايات المتحدة في أفغانستان”.

يقول كارتونوف بأن المقارنة صعبة بين الحملتين، حيث أنهما مختلفتان جداً من حيث الحجم والمهمات وخصائص العمليات العسكرية. فمقارنة بالأعداد الضخمة من القوات الأميركية والحليفة التي شاركت في العملية الأفغانية، اقتصرت العملية الروسية في سوريا على مشاركة الطيران الحربي ووحدات قليلة العدد من الشرطة العسكرية. وفي ما يتعلق بالخسائر البشرية، تكبد التحالف الدولي في أفغانستان أكثر من 3 آلاف قتيل 80% منهم من الأميركيين، في حين أن الخسائر الروسية هي “أقل بمرات”، من دون أن يذكر أي أعداد. وإذا كانت الحملة الأميركية قد قدرت تكاليفها خلال 20 سنة بين 1و2 تريليون دولار، فقد تراوحت كلفة الحملة الروسية خلال 6 سنوات ما بين 10 و 15 مليار دولار، وفق التقديرات المختلفة، وهو ما يقل ليس عن تكاليف الولايات المتحدة فحسب، بل وعن تكاليف الكثيرين من صغار شركائها.

لكن التكاليف الهائلة لم تساعد الأميركيين. فعلى الرغم من تدمير معاقل القاعدة وفرار من بقي على قيد الحياة من طالبان إلى باكستان في الأشهر الأولى للعملية العسكرية، إلا أن المهمات التي وضعتها القيادة الأميركية للحملة منذ 20 عاماً لم  تتحقق، وجاء إنسحاب التحالف الدولي سريعاً وليس عملية إجلاء مدروسة جيداً.

يجزم كارتونزف بأن روسيا، وباعتراف ألد أعداء موسكو، قد أحرزت النصر في سوريا. لكنه يستدرك فوراً ويخفض من لهجته الجازمة بالقول “على أي حال، هي بالتأكيد منتصرة في الوقت الراهن”. ويذكّر بأنه لم يكن لدى روسيا أية أفضليات عسكرية تقنية أو جغرافية بالمقارنة مع الولايات المتحدة، بل على العكس.

يرى الرجل في العمليتين الأميركية والروسية نموذجين للعمل العسكري، ويوجز في أربعة أسباب الفشل الأميركي والنجاح الروسي، ويأتي في طليعتها الإختلاف في الأهداف. فعلى الرغم من إعلان الدولتين أنهما تحاربان الإرهاب العالمي، إلا أن أهداف العمليتين كانت مختلفة جداً. فموسكو أتت إلى سوريا العام 2015 لإنقاذ الدولة السورية ممثلة بالرئيس بشار الأسد ومحيطه المقرب إليه، اي أنها جاءت للمحافظة على الوضع السياسي القائم في سوريا.

أما الولايات المتحدة فقد جاءت إلى أفغانستان العام 2001 لتغيير الوضع القائم راديكالياً، وإقامة نظام سياسي جديد، تحقيقاً لمخطط طموح في بناء دولة عصرية مدنية في بلد يفتقد الشروط الموضوعية لبناء ناجح للدولة.

ثاني هذه الأسباب يراه كارتونوف في الإختلاف بين التحالف من أجل القيم كما في حال التحالف الغربي الأميركي في أفغانستان، والتحالف من أجل المصالح كما في حال روسيا وتركيا وإيران في سوريا. ويستنتج الرجل أن التضامن المبني على القيم، وليس على المصالح، ليس أساساً موثوقاً جداً للقيام بعملية عسكرية طويلة الأمد.

السبب الثالث يراه الرجل في الإختلاف في طبيعة العلاقة التي تربط حركة طالبان بأفغانستان، وتربط المجموعات الإرهابية بسوريا. فقد واجهت روسيا في سوريا مجموعات إرهابية دولية بشكل اساسي، تنظر إلى سوريا كواحد من مواطئ القدم الممكنة من أجل التخطيط لعملياتها وتنفيذها. فإذا كانت تقاتل اليوم في سوريا، يمكنها غداً الإنتقال إلى العراق أو ليبيا أو أي نقطة في العالم ينشأ فيها وضع ملائم لها.

أما طالبان فهي حركة أفغانية كلياً، لا مكان آخر يذهب إليه مقاتلوها الذين عملوا بكل قواهم للعودة إلى أفغانستان، حين اضطروا للفرار إلى باكستان في بداية الحملة الأميركية. فالحافز للقتال لدى الإسلاميين “الدوليين” ولدى الإسلاميين “القوميين” مختلف، فإذا كان لدى “الدوليين” أرجل، فلدى “القوميين” جذور.

السبب الرابع يراه مدير المجلس الروسي في حسن إعداد العملية الروسية في سوريا على نحو “أفضل بكثير” من إعداد العملية الأميركية في أفغانستان. والفضل في ذلك يعود للخبراء الروس المستعربين والدبلوماسيين والعسكريين وممثلي المخابرات الروسية، الذين كانوا يعرفون جيداً الوضع في سوريا وفي البلدان المحيطة بها.

أما تصور الولايات المتحدة عن أفغانستان فقد تشكل خلال المجابهة مع الإتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، وتبين أنه بعيد عن الواقع.

يعتبر المجلس الروسي للعلاقات الدولية إحدى أدوات “القوة الناعمة” لروسيا في العالم، وإُقيم لدراسة وإختبار مشاعر النخب والمجتمع باتجاه إندماج روسيا في الفضاء الأوروبي، كما جاء في تعريف google الناطق بالروسية له. لكن توجه المجلس للإندماج في الفضاء الأوروبي( وهو أمر مشكوك فيه جداً) يجعل من الصعب تقبل كلام مديره عن إنتصار روسي في سوريا، ووقائع الأرض تطيح به يومياً. ولذلك يعود للحديث عن “نقاشات في محلها وليس في محلها”، وعن “تحفظات كبيرة” على النصر الروسي في سوريا وكيف يتجلى على الأرض.

كان كارتونوف قد كتب بمناسبة مرور عشر سنوات على الكارثة السورية في آذار/مارس المنصرم نصاً بعنوان لافت”سوريا: في منتصف دورة طويلة”، تعرض فيه أيضاً إلى مسألة “إنتصار” روسيا في سوريا. قال الرجل في حينه بأن روسيا هي منتصرة من وجهة النظر التكتيكية ، وفي ما يتعلق بتدني كلفة العملية العسكرية على الموازنة الروسية، والتي جعلت موسكو سريعاً اللاعب الخارجي الرئيسي على المسرح السوري. لكنه أشار إلى أنه، وبعد مضي خمس سنوات على مشاركتها في الصراع السوري، ليس لدى موسكو إستراتيجية للخروج من هذا الصراع. كما أشار أيضاً إلى أن مستوى تأثير موسكو على النظام في دمشق يبقى سؤالاً مفتوحاً، فليس من الواضح من يحرك الآخر “الكلب أم الذنب؟”.

وتساءل عن ما ينتظر سوريا خلال السنوات العشر التالية حتى العام 2031، وقال “لنبدأ بما لن يحدث على الأرجح في المستقبل المنظور”. في طليعة ما لن يحدث في مستقبل سوريا المنظور هو إستعادة وحدة الأراضي السورية، لكن هذا لايعني برأيه حذف المسألة من برنامج العمل اليومي. ورأى بأنه، مهما كان عليه تطور الأحداث لاحقاً، لا ينبغي السماح بالتقسيم النهائي لسوريا، وذلك لما له من نتائج سلبية على الدول المجاورة وعلى الشرق الأوسط ككل.

الأمر الثاني الذي لن يحدث في مستقبل سوريا المنظور، يراه كارتونوف في عدم العودة الكاملة للاجئين والنازحين السوريين إلى أماكن سكنهم. فالجزء الأكبر منهم سوف يبقى في أماكن التهجير الحالية في الشرق الأوسط وأوروبا، مما يحول الشتات السوري إلى شبه بالفلسطيني.

كما يرى بأنه لن يكون هناك مخطط لإعادة إعمار سوريا بكلفة تتراوح بين مئة ومئتي مليار دولار، ليس لدى أوروبا والخليج، في ظروف الأزمة الإقتصادية ووباء كورونا، إمكانيات مالية لتغطيتها. ويقول بأن المطر من ذهب لن يتساقط على دمشق، “حتى لو اختفى بشار الأسد عن المسرح السياسي”.

أما الأمر الرابع الذي يبشر به كارتونوف السوريين، فهو بقاء نظام الأسد واستمراره في “إجتراح معجزات الصمود”، رغم المشاكل الإقتصادية المتفاقمة والعقوبات الجديدة والصراع المتواصل على السلطة في دمشق نفسها”.

حيال هذه الإستعصاءات الأربعة، يرى كارتونوف أن مهمتين ملحتين في سوريا الآن: مهمة الحد الأدنى في عدم السماح بتصعيد جديد للصراع، ومهمة الحد الإقصى في تحفيز دمشق للشروع في إصلاحات حذرة، حتى لو كانت محض إقتصادية. 

المدن

————————–

أفغانستان قبل لبنان/ مهند الحاج علي

لم يجد أدوارد لوس، أحد كتاب الفايننشال تايمز، سوى عبارة “إنها لحظة جيمي كارتر”، لوصف الأزمة السياسية للرئيس الأميركي جو بايدن بعد الفشل الذريع في الانسحاب بسلام من أفغانستان بعد 20 عاماً من الحرب.  لوس كان يشير في مقارنته الى عملية فاشلة، لا بل كارثية، للجيش الأميركي بإسم “مخالب النسر” في 24 نيسان (أبريل) عام 1980، كان الهدف منها تحرير الرهائن الأميركيين في طهران.

بعث الرئيس الأميركي حينها كارتر ثماني مروحيات عسكرية لإيران، وصلت منها خمس فقط، إذ أُصيبت واحدة بمشكلة تقنية، وعلقت أخرى بعاصفة صحراوية، وتعطلت مروحة أخرى نتيجة انشقاقات. لكن القادة العسكريين نصحوا كارتر باتخاذ قرار بوقف العملية وسحب القوات، وفعل ذلك، لكن وخلال الانسحاب وقع حادث اصطدام أودى بحياة 8 جنود.

لطخت هذه الحادثة إدارة الرئيس كارتر وقضت على فرصه بالفوز بدورة ثانية. اليوم، وبعد اعتداءات تنظيم “الدولة الاسلامية-خراسان” في مطار كابل وسقوط 13 جندياً أميركياً وعشرات الأفغان قتلى، على الرئيس الأميركي جو بايدن بذل مجهود كبير للنجاة من وضعه الحالي. هذه الوضعية تُقيد بايدن، وتحد من قدرته على تنفيذ استراتيجيته بالسياسة الخارجية دون عراقيل. هذا واضح في الملف الإيراني على سبيل المثال، إذ تعرض بايدن لسيل من الانتقادات، وبات هناك في الحزب الديموقراطي من فقد الثقة بقدرة الرئيس على إدارة ملفات خارجية حساسة. الأرجح أن العودة للاتفاق النووي مع ايران، باتت مهمة أكثر صعوبة مع مظاهر الضعف والفشل الذريع في أفغانستان.

وهذا سينعكس على المنطقة بأسرها، ومنها لبنان، وهو مسرح للتوترات الإيرانية-الأميركية. والوضع الأفغاني غالباً ينعكس على لبنان بأشكال أخرى. أولاً، سيطرة “طالبان” على كابل، ونزوح عشرات الآلاف رفع الأزمة الأفغانية في سلم الأولويات الأوروبية. لم يعد لبنان مصدر قلق رئيسياً بالنسبة للجانب الأوروبي، بل باتت الأولوية هي أفغانستان، إما لناحية تخصيص موازنات طارئة للتعاطي مع الأزمة هناك، أو لجهة التركيز على اجتراح سياسة جديدة لمكافحة الإرهاب ومخاطره من هذا البلد، لتجنب اعتداءات  11 أيلول جديدة، وصعود آخر لتنظيم “داعش”.

حتى إن دبلوماسيين أوروبيين في بيروت حاولوا مع عواصمهم خلال الأسبوع الماضي اثارة الأزمة اللبنانية والحاجة لمعونات إنسانية أو تدخل سياسي، تفاجأوا بسماع إجابة بأن الأولوية أفغانية، والتركيز هو على ما يحصل في كابل، وليس في بيروت. ذاك أن الموازنات الأوروبية تخضع لسياسات تقشف في المساعدات الدولية، نتيجة الانكماش الاقتصادي بعد جائحة الكورونا. وإذا لم تتحول الأزمة اللبنانية إلى حرب أو موجات نزوح جماعية، سيُواصل الاهتمام الأوروبي بها انخفاضه.

التركيز الدبلوماسي الآن هو على تطوير الحماية الذاتية، إذ ستتحول أغلب البعثات خلال سنوات قليلة الى محميات مع اكتفاء ذاتي خدماتياً، تماماً كحال السفارة الأميركية، نتيجة فشل الدولة في توفير الخدمات الأساسية، واحتمال تردي الوضع الأمني مع ارتفاع وتيرة التدهور الاقتصادي والاجتماعي. خطط الاجلاء جاهزة، وهناك سفارات أوروبية خفضت عديدها، تحسباً.

انتصار حركة “طالبان” بهذه الطريقة، وتداعيات الأزمة الأفغانية يقللان من الاهتمام بالأزمة اللبنانية، والأرجح أن تسقط من قائمة الأولويات في الدعم الإنساني. حتى في مجال العقوبات، بات مستبعداً أن يُعاقب الاتحاد الأوروبي سياسيين لبنانيين على الفشل في تشكيل الحكومة أو العرقلة في تنفيذ الإصلاحات. كانت بريطانيا تقترح الغالبية الساحقة من العقوبات سابقاً (على سوريا)، وهي خرجت، في حين يبدأ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد شهور قليلة معركة الانتخابات الرئاسية المقرر اجراؤها في العاشر من نيسان (أبريل) المقبل. الساحة اللبنانية مفخخة بخيبات الأمل، ومن الأفضل تجنبها.

خلاصة الأمر أن لبنان ليس على طاولة أحد اليوم، وبات من ضرائب التأخر في تشكيل حكومة وبدء الإصلاحات، تراجع الاهتمام، وبروز أزمات أكثر الحاحاً.

المدن

———————–

أربعة أخطاء لبايدن في أفغانستان/ جويس كرم

خروج أميركا وبهذا الشكل الفوضوي من أفغانستان يعود لأخطاء فادحة ارتكبها الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بداية عهده، وهي قد تكون كفيلة اليوم بتقويض أجندته الخارجية أو ما هو أسوأ بإجبار أميركا على العودة إلى المستنقع ألأفغاني مع صعود داعش-خراسان.

بايدن، الذي عارض كنائب للرئيس في 2009 زيادة القوات في أفغانستان، أراد نقلة استراتيجية بإنهاء الحرب اليوم. لا جدل في أن حرب أميركا الأطول يجب الخروج منها بعد عشرين عاما وأكثر من 2.5 تريليون دولار، إنما الانسحاب بهذا الشكل العشوائي والدموي والمدمر لهيبة أميركا كان يمكن تفاديه ومسؤوليته أولا وأخيرا تقع على بايدن.

أربعة أخطاء ارتكبها بايدن أوصلت إلى تفجيرات بوابة آبي وقرب فندق بارون الخميس والتي راح ضحيتها 13 جندي أميركي (أكبر عدد منذ 2011) و90 أفغاني بينهم أطفال دون عمر الخمس سنوات. هذه الأخطاء منذ بداية عهد بايدن في 21 يناير حتى اليوم، هي:

1- الإبقاء على زلماي خليل زاد مبعوثا: في بداية التعيينات في إدارته، ارتأى بايدن ووزير خارجيته توني بلينكن الإبقاء على عراب اتفاق طالبان ورجل دونالد ترامب، زلماي خليل زاد مبعوثا للحرب في أفغانستان. خليل زاد وهو من مواليد مزار الشريف، عمل منذ 2018 على تطبيع علاقة أميركا بالحركة الجهادية الأفغانية طالبان وتوسط مع باكستان لإخراج زعيمها الملا عمر باردار من السجن. وهو أقنع ترامب في 2020 بصفقة مع الحركة ومقاتليها بهرولة أميركا خارج أفغانستان وبغض النظر عما تؤول إليه المصالحة السياسية بين الأفغان أنفسهم. صفقة خليل زاد- طالبان لا تشمل حتى طلاقا بين الحركة وتنظيم القاعدة.

خليل زاد هو أيضا خصم سياسي لأشرف غني رئيس أفغانستان السابق، وسبب محوري لتأزم العلاقة بين واشنطن وكابل منذ تعيينه في المنصب في 2018.

2- هذا يقود للخطأ الثاني لبايدن وهو تلاعب الحكومة الأفغانية بالادارة الأميركية: أن تسقط كابل على يد طالبان في ساعات صدم واشنطن التي توقعت هكذا سيناريو خلال شهور وليس قبل انسحابها. أحداث كابل، الانهيار الأمني للقوات الأفغانية وهروب غني إلى دبي هو طعنة بالظهر من الرئيس السابق لواشنطن. بلينكن قال الأحد الفائت أن غني أكد له عشية سقوط كابل أنه “سيحارب للموت” فيما المواقع الأفغانية تتحدث عن صفقة وقعها غني مع طالبان، سهلت خروجه محملا بملايين الدولارات. كيف يمكن لأميركا ألا تعرف ذلك؟

انهيار كابل في 15 أغسطس وزوال والطوق الأمني الأفغاني جعل أميركا رهينة لطالبان ورجال حقاني لإتمام انسحابها في أسبوعين.

3- الخطأ الثالث هو في استعجال الانسحاب. حجة بايدن هنا هو أن ترامب وبصفقة خليل زاد مع طالبان وضع جدول الانسحاب ليكون في مايو الفائت ولم يكن بالإمكان تعديله من دون مواجهة طالبان وزيادة عدد القوات الأميركية وبالتالي تم تأجيله ثلاثة أشهر. إنما أي حركة جهادية تفرض اليوم على دولة عظمى جدولا دفاعيا؟

ناهيك عن ذلك، فخيار إبقاء 2500 جندي والحفاظ على واقع التوازن بين كابول وطالبان كان خيارا على الطاولة ورفضه الرئيس الأميركي.

4- استعجال الانسحاب كان بحد ذاته هو لحصد مكاسب سياسية لبايدن في قاعدته الحزبية اليسارية وحتى مع أقصى اليمين الذي يؤيد الانسحاب. الرئيس الأميركي كما سلفه ترامب اختار أن يقود السياسة الخارجية بنمط شعبوي.

إنما تجرع حجم الفوضى في الساحة الأفغانية كان كبيرا على الرأي العام الأميركي بين صعود طالبان ودموية داعش وتلاشي هيبة واشنطن. هذا كله انعكس سلبا على شعبية بايدن التي تتهاوى بمعدل 44 في المئة بعدما ناهزت الـ60 في المئة لدى توليه المنصب.

صور طالبان وهي تقود مقاتلات أميركية ويعتمر مجاهديها بذلة القوات الأميركية تلخص صورة خروج بايدن من أفغانستان، وتستدعي النظر فيما أبعاد التوازن الدولي ومرحلة ما بعد “باكس أميركانا” إلى عهد سياسات الفوضى وتوقيع الصفقات مع مجموعات مسلحة طالما اليسار واليمين الشعبوي يصفق لذلك.

الحرة

اتبة وصحافية مقيمة في واشنطن

—————————–

==================

تحديث 30 آب 2021

———————-

ما الذي جرى تماماً في أفغانستان/ وائل السواح

منذ الحرب الكونية الأخيرة، ربحت الولايات المتحدة كلّ معركة خاضتها، ولكنها خسرت كلَّ الحروب. حرّرت القوة العسكرية الأميركية الكويتَ من الاحتلال العراقي (1991)، وأطاحت حركة طالبان في أفغانستان (2001) والدكتاتور العراقي صدّام حسين (2003) وقتلت أسامة بن لادن (2011)، ولكنها خسرت الحرب في فيتنام أمام الشيوعيين، وأهدت العراق إلى الإيرانيين على طبقٍ من فضّة، وخسرت حربها الأخلاقية في سجن غوانتانامو، ثمّ أعادت أفغانستان إلى راديكاليي حركة طالبان الذين منعوا التعليم وألغوا العقول وحظروا الإعلام ورجموا النساء.

وحين قال الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مخاطبا قدامى المحاربين الأميركيين في فيتنام في عام 2011: “دعونا نتذكّر أنكم ربحتم كلَّ معركة كبرى في تلك الحرب. كلَّ واحدة” كان صادقا في ذلك، فقد ربحت الولايات المتحدة بالفعل كلّ المعارك الكبرى في فيتنام، بما في ذلك معركة تيت الشهيرة التي بدا أن الشيوعيين كانوا سيحققون الربح فيها. ولكن كان على الرئيس أوباما أن يضيف: “ومع ذلك خسرنا تلك الحرب”.

الكارثة الكبرى التي وقعت في أفغانستان قبل أيام جديرةٌ بأن نتوقف عندها مليا، ونتأمّل الأسباب التي أدّت إليها. بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لوّح مقاتلو “طالبان” ببنادق الكلاشينكوف، وهزّوا قبضاتهم في الهواء ابتهاجا بغزوة نيويورك. وحين أرسلت إدارة الرئيس جورج بوش تحذيرا جادّا لهم لتسليم أسامة بن لادن، أو يغامرون فتقصف بلادهم “قطعا صغيرة”، رفضوا ذلك بتبجّح. ثم سرعان ما تلاشى التبجّح بمجرّد أن بدأت القنابل الأميركية في السقوط. في غضون أسابيع قليلة، فرّ عديدون من عناصر “طالبان” من العاصمة كابول، مذعورين من أزيز طائرات B-52 العملاقة. وسرعان ما أصبحوا قوة مستنفدة، متبعثرين عبر المنحدرات الجبلية القاحلة في أفغانستان.

وفي الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، بدأ قادة “طالبان” في التواصل مع حامد كرزاي، الذي سيصبح قريبا الرئيس المؤقت لأفغانستان: كانوا يريدون عقد صفقة. وإذا صدّقنا الصحافية الأميركية، أليسا روبن، التي كانت تغطي الحرب في أفغانستان في تلك السنة، فإن الوسطاء كانوا يتنقّلون جيئة وذهابا بين كرزاي ومقرّ زعيم طالبان، الملا محمد عمر، في قندهار، بحثا عن طريقة للاستسلام. ويتذكّر بارنيت روبين، الذي عمل مع الفريق السياسي للأمم المتحدة في أفغانستان في ذلك الوقت: “لقد هُزمت طالبان تماما، ولم يكن لديهم مطالب باستثناء العفو”. وكان رأي كرزاي أن من شأن قبول استسلام “طالبان” أن يمنع المسلّحين من لعب أي دور مهم في مستقبل أفغانسان ويجنّب هذا البلد الانقسام. ولكنّ وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، من صقور الليبرالية الجديدة، لم يكن في حالة مزاجية للتوصل إلى اتفاق. كان منتشيا بالنصر وواثقا أن باستطاعته أن يقضي على “طالبان” مرّة وإلى الأبد. وفي مؤتمر صحافي عقده رامسفيلد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، صاح بصوت هادر أن الولايات المتحدة “لا تميل إلى التفاوض بشأن الاستسلام”، وأن الأميركيين ليسوا مهتمين بترك الملا عمر يمضي أيامه في أي مكان في أفغانستان، بل تريد القبض عليه أو قتله. غير أنها لم تفعل. عاش الملا عمر نحو أربع عشرة سنة، في أفغانستان، وقيل إنه عاش مختبئا قرب قاعدة أميركية في جنوب أفغانستان حتى وفاته، على عكس ما كان الأميركيون يردّدون من أنه غادر إلى باكستان. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك، بل إنها، كما ستفعل في العراق لاحقا، لم تستثمر في البنية التحتية والاقتصاد الأفغانيَّين، كما لم تبدأ ببناء مؤسسة عسكرية أفغانية قوية قادرة على الدفاع عن المكاسب التي حقّقها الأفغانيون بعد سقوط “طالبان”، من حرية التعليم والعمل والتنقل والتعبير وتمكين المرأة التي عادت لتصبح محامية وصحافية وقاضية وسياسية وشرطية.

في هذا الوقت، لجأت “طالبان” إلى باكستان، وأعادت تنظيم قواتها ومجالسها في مدينة كويتا ومن ثمّ كراتشي، لتعود بعد سنوات قليلة إلى أفغانستان، بسبب الفراغ الكبير الإداري والضعف الاقتصادي وفساد الحكومة الأفغانية. كانت الحكومة متركّزة في العاصمة كابول، بينما كانت الأقاليم تحت رحمة رجال أقوياء، من حلفاء أميركا، كانوا يقاتلون ويطاردون “القاعدة” وفلول “طالبان” من دون أن تكون لديهم القدرة ليحكموا تلك المناطق، ويحققوا فيها تنمية حقيقية. وما ساعد “طالبان” على العودة أنها، بعد أن رفض رامسفيلد عقد تسوية معها، بقيت تعتبر نفسها الحكومة الأفغانية الشرعية، التي تمّ إسقاطها بواسطة غزو خارجي “كافر”، وبقي جزء من الأفغانيين يشاطرونها هذا الرأي، لأن الحكومة والمجتمع المدني الوليد فشلا في التواصل معهم. 

وفي 2003، وجدت إدارة الرئيس بوش نفسها في مستنقعٍ مرعب، حين دخلت العراق وأسقطت الدكتاتور صدّام حسين، وسرعان ما غرقت القوات الأميركية في الدماء، ما تسبّب به أبو مصعب الزرقاوي ومئات الإرهابيين الذين تدفّقوا أفواجا من الحدود السورية والسعودية إلى العراق ليغرقوه في زمن قالح من العفن الطائفي والإرهاب الذي سيؤسس لاحقا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

ووجدت إدارة الرئيس بوش نفسها مضطرّة لسحب جزء كبير من قواتها واستخباراتها وخبرائها من أفغانستان إلى العراق، ما سمح لحركة طالبان، وقد أعادت التقاط نفاسها، بتنظيم فلولها، بالعودة إلى أفغانستان. وفي 2006، عادت “طالبان” لتكون قوّة عسكرية لا يُستهان بها، وبدأت توجّه ضربات صاعقة للقوات الأميركية والحكومية الأفغانية. وحين سلّم الرئيس بوش المكتبَ البيضاوي للرئيس أوباما، كان الأخير يدرك أنه قد بدأ يخسر الحرب هناك، وكان الرأي في دوائر واشنطن أنه لا بدّ من إرسال مزيد من القوّات إلى أفغانستان، لتثبيت أركان الحكومة والدفاع عن القوات الأميركية، على أن ذلك لم يجدِ فتيلا. وبعد سنوات، صار أوباما على ثقة من أنه لا حلّ سياسيا لتلك الحرب، فلا مسلحو حركة طالبان قادرون على الربح ولا القوات الأميركية قادرة على إلحاق هزيمة كاملة بهم.

وجاء الرئيس دونالد ترامب بألعابه البهلوانية المعروفة، فبدأ مفاوضات مباشرة مع “طالبان” في الدوحة، من دون أن يشرك مع الطرفين الحكومة الأفغانية، فبدا بذلك وكأن الولايات المتحدة قوّة احتلال تتفاوض مع قوّة تحرّر وطنية. وأعلن ترامب أنه سيسحب قواته من أفغانستان بحلول مايو/ أيار الماضي. ثمّ جاء الرئيس جو بايدن، وفي جعبته قرار بسحب كلّ جيوشه من العالم، وإعادتهم إلى أرض الوطن.

لقد ارتكب الأميركيون في أفغانستان الخطأ نفسه الذي ارتكبوه في فيتنام سابقا وفي العراق لاحقا. أهملوا التنمية والوظائف، ودعموا جزءا من الأمّة في مواجهة جزء آخر، ولم يبنوا جيشا قويا يدافع عن المكتسبات التي حقّقها الشعب من الانتصار الأول في المعارك الأولى، وغضّوا الطرف عن الفساد الذي استشرى في الحكومة، فكان طبيعيا أن تعود “طالبان” إلى الساحة، وأن تحقّق انتصارات عسكرية، وأن يتقبلها بعض الأفغان بترحاب، وقد عانوا إهمال الحكومة لهم. وكان طبيعيا أيضا أن ينهزم الجيش الأفغاني شرّ هزيمة، وأن ينسحب بدون قتال، طالبا السلامة وتاركا وراءه كلّ الأسلحة التي قدّمها له الأميركيون، بعد أن أحسّ، ومعه المدنيون، أن الرئيس بايدن قد غدر بهم، وسحب قوّاته من دون أن يتأكّد من أنه يترك البلاد في أيد أمينة.

لا أعرف إدارة أمهر من الإدارات الأميركية المتعاقبة في تحويل الانتصارات إلى هزائم، وفي تقويض الفرص الكبيرة. حين وصل الأميركيون إلى أفغانستان استقبلهم الأفغانيون استقبال الفاتحين، وكان في وسعهم الاستفادة من ذلك لبناء دولة عصرية ديمقراطية، وشاملة كلّ أبنائها، ولكنهم أنفقوا هذا الرأسمال بسرعة باتخاذ قراراتٍ طائشة، وبدعم أشخاص فاسدين في الحكم. ولئن ذكّر ذلك بشيء، فإنه يذكّر بالفرصة التاريخية التي فوّتها الرئيس أوباما على نفسه وعلى الولايات المتّحدة، حين رفض أن يتدخّل بفاعلية في الحدث السوري، وأن يسهم في تحويل سورية إلى دولة ديمقراطية معاصرة تكون صديقة للغرب وراغبة في السلام، ومستوعبة كلّ السوريين. بدلا من ذلك، ظلّ يؤجّل اتخاذ موقف شجاع وحاسم إلى أن ذهبت سورية إلى مستنقع الدم والفساد والتقسيم والتطرّف.

العربي الجديد

————————

هل يحدُث الانسحاب الأميركي من سورية قريباً؟/ سميرة المسالمة

اتسم الموقف الأميركي من الثورة السوريّة غالباً بعدم الوضوح، والافتقاد إلى الحسم، وترك الصراع الجاري في سورية للقوى الأخرى، روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية، إما تعبيراً عن اللامبالاة، لأن سورية لم تكن يوماً في دائرة النفوذ الأميركي المباشر، أو بغرض توريط تلك الأطراف الدولية والإقليمية في هذا البلد، ما أطال أمد الصراع، وزاده تعقيداً، الأمر الذي دفع السوريون، وما زالوا، ثمنه باهظاً.

الراجح أن تلك الاستراتيجية خدمت إسرائيل التي استثمرت الأوضاع الحاصلة في العراق وفي سورية، وكذلك صعود النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، بحيث أضحت الدولة الأكثر استقراراً وأماناً في الشرق الأوسط، وأيضاً باعتبارها، من وجهة نظر أطرافٍ عديدة، رسمية وشعبية، ليست هي الخطر في المشرق العربي، وإنما إيران في الدرجة الأولى.

على أية حال، تمثلت أيضاً هذه الاستراتيجية التي كان البيت الأبيض قد اعتمدها في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، بالحفاظ على ديمومة الصراع في واقعٍ لا غالب فيه ولا مغلوب، لا من جهة المعارضة ولا من جهة النظام، وبقيت معتمدةً في عهد دونالد ترامب. والظاهر أنها لن تكون معتمدة، على الأرجح، بكامل استراتيجيتها، في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، لأنها استنفدت بعد تحقيق أغراضها، في استنزاف الأطراف الأخرى، إلا أن التغير الحاصل في السياسة الأميركية يقتصر، حتى الآن، على الرغبة بالعودة إلى الاتفاق النووي عبر مباحثات فيينا المتعثرة، وعلى تصعيد اللهجة ضد إيران، وعدّها مصدر القلاقل في سورية ولبنان.

وبشأن ما يتعلّق بوجود الولايات المتحدة في سورية، تتناقض التصريحات الأميركية المعلنة أخيراً مع ما كان مسؤولون أميركيون عديدون قد أكدوه سابقاً، ومفاده بأن القوات الأميركية باقية في سورية حتى بعد إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإلى حين تحقيق التسوية السّياسيَّة، بما في ذلك ممانعة التطبيع مع النظام، وممانعة إعادة الإعمار، وتحقيق نوعٍ من التغيير السياسي، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، إذ بات التأكيد الآن فقط على دورها في الحرب على “داعش” متجاهلة أدوارها الأخرى، ربما لرغبةٍ كامنة في أن تتابع انسحابها من كامل المناطق المشتعلة، بعد أن مهّدت الطريق فيها لحرائق يصعب إخمادها، كما هو الحال في أفغانستان بعد عشرين عاماً من وجودها ومعاركها فيها، والمبالغ الطائلة التي تدّعي أنها صرفتها على تدريب جيش وطني تبيّن أنه مجرّد “جيش من ورق”.

اللافت أن الولايات المتحدة، في تركيزها على إيران، باعتبارها خطراً يتهدّد مصالحها، ووجودها في المنطقة، باتت تتعاطى مع ذلك من مدخل منعها من الوصول إلى القدرة على إنتاج سلاحٍ نووي، وتحجيم نفوذها خارج حدودها، أي في العراق وسورية ولبنان واليمن، بما في ذلك مليشياتها العسكريّة، والنظر إليها بصفتها أحد مصادر نشوء الجماعات الإرهابية في المنطقة، أي أنها باتت تتصرّف، ولو شكلياً، بناءً على رؤية ترى أن معالجة مشكلات المنطقة، أي فرض الاستقرار في سورية والعراق ولبنان، ومكافحة الإرهاب، لا بُدَّ أن تمرّا من باب تقليم أظفار إيران النووية فقط، وإجبارها على تغيير أدوارها، سواء في الملف السوري أو في العراق، وصولاً إلى الحرب اليمنية، وانتهاء بتدجين مليشياتها في لبنان، بما يؤدّي إلى إعادة توزيع جديد للأدوار في المنطقة.

بيد أن ذلك لا ينبغى أن ينسينا أن إيران أدّت مهمّتها على أتمّ وجه، في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، من وجهة النظر الأميركية (وإسرائيل)، إذ غيّرت فعلياً أولويات المنطقة التي كانت قد اعتادت عليها خلال عقود عديدة، وأعادت تصنيف قضاياها وأنعشت تقسيماتها الدينيّة والطائفية. واللافت أنه في ظل تنامي الخطر الإيرانيّ، لم تعد مواجهة إسرائيل أولوية لدى الأنظمة العربية، بل كادت القضية الفلسطينية ألا تبقى عربية، بعد أن صادرتها إيران ووظّفتها لصالحها، باحتلالها ما يسمّى محور المقاومة والممانعة، وصعود أداتها اللبنانية، أي مليشيا حزب الله، في لبنان وسورية.

على ذلك، ليس الإعلان عن سياسات أميركية جديدة في المنطقة إلا بمنزلة اعتراف أميركي بانتهاء الدور الحالي الموكل لإيران، من دون أن يعني ذلك إزاحتها من المشهد نهائياً، حيث المطلوب فقط تحجيم دورها وتحديد مساحة حركتها إلى حدودها، الأمر الذي يشكّل مصلحة للولايات المتحدة (ولإسرائيل)، فالولايات المتحدة لا تريد إيران ذات قدرات نووية، ولا إيران التي تستطيع تهديد منابع النفط أو تقويض استقرار دول الخليج العربي، ولا إيران التي تدعم الإرهاب والمليشيات المسلحة، ولا إيران التي يمتد نفوذها من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، ولا إيران التي يمكن أن تنافس المكانة الإقليميّة لإسرائيل.

المسألة الآن معرفة كيفية تعامل إيران مع هذه التطورات الجديدة، أو هل ستقاومها؟ وإلى أي درجة؟ لأنه بناء على ذلك، يمكننا معرفة مدى وطريقة التعامل الدولي مع إيران لوضعها عند حدّها. وفي ذلك كله، يبدو أن الولايات المتحدة تعيد، في كلّ مرة، جدولة الأولويات حسب ما يتفق والدور الذي ترغب به، وهي فيما يتعلق بسورية لا ترى الخطر إلا من خلال إيران، ما يعني أن وصولها إلى حلٍّ مع إيران قد يُلغي أي رغبة أميركية في الوجود في شرقي الفرات، ما يستدعي من القوى التي تتحامى بها إعادة النظر في مصدر قوتها وشرعيته، حتى لا تُصاب بهلع الأفغان وتهاوي الأمل بما بنته على مر سنوات قتالها مع “داعش”.

باختصار، على كل من يحتمي بغير شعبه أن يعتبر مما حدث مع الأفغان، والحال ليس بعيداً عن السوريين، فقد بنت الولايات المتحدة أدوارها على مصالحها، وهي لن تتأخّر في استكمال خطواتها التي تراها تتوافق معها، حتى على حساب إسرائيل ربيبتها التاريخية، فكيف عن حلفاء جدد قد تتبدّد مصالحها معهم في حال نفّذ النظام السوري متطلباتها التي مرّرتها عبر وسطاء النظام إليها؟

العربي الجديد

—————————

أميركا التي خرجت ولم تعد/ ساطع نور الدين

ملعونة أميركا في الغزو كما في الرحيل. مهزومة أيضاً، بلا شك. مذمومة طبعا على ما خلفته من خسائر بشرية هائلة، ومن دمار وخراب، لن تدفع ثمنه أبداً، ولن تعتذر حتى. لن تعوض المتضررين ولن تساعدهم. جل ما تفعله هو ان تمدّ جسراً جوياً، لترحيل المتعاونين مع قواتها ومنحهم حقوق الاقامة والجنسية الاميركية.

في حالتي الغزو، أو الرحيل، لا يجوز أن تكون اللعنة على أميركا واحدة. المشهد الافغاني نموذجي، يختزل ذلك السلوك الاميركي التقليدي، في كل مكان في العالم.. لكنه، في الاصل وفي الجوهر، يوجه رسالة الوداع الى العالم الاسلامي والعربي، التي لا مجال بعدها للقاء. حسم الاميركيون أمرهم أخيراً، وقرروا محو ذلك العالم من ذاكرتهم تماماً. ليس هناك تفسير آخر، لذلك المشهد، الذي لا يقاس اليوم بحجم الخسائر في الارواح الاميركية والافغانية، ولا طبعا بحجم الهزائم السياسية والاقتصادية لأي من البلدين.

يخطىء كثيراً من يتجاهل ذلك التفسير، الذي لا تنكره أميركا ولا تخفيه، بل هي تفخر به، وتعتبره شرطاً ضرورياً لإعادة تأهيل أميركا من الداخل على المستويات السياسية والاجتماعية وعلى صعيد البنى التحتية التي تقرر إنفاق 2،5 تريليون دولار عليها. الاستثناء الايراني لهذه القاعدة، او لتلك السياسة الاستراتيجية الاميركية، مؤقت وعابر: لا يريد الاميركيون توريث إيران نفوذاً ودوراً يفوق حجمها وحقها الطبيعي في الشرق الاوسط، كما فعلوا لدى خروجهم من العراق العام 2011، كما لا يودون طبعا السماح بتحويلها الى قوة نووية في منطقة ملتهبة أصلاً.. يمكن ان تشكل خطراً ما على مستقبل دولة إسرائيل النووية، مع علمهم أن القدرة النووية الايرانية هي مشكلة روسيا والصين أكثر مما هي مشكلة أميركا.

من هذه الزاوية الضيقة ربما تسلل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، لشن هجومه الاخير على أميركا، بناء على معطيات الماضي، التي تدين الاميركيين بلا أدنى شك، وعلى مجريات الحاضر التي يظهر فيها المفاوض الاميركي مع إيران بأعلى درجات الخبث والنفاق والاحتيال. أما عن المستقبل، فإن السيد لا يملك منه سوى التقدير بأن التسوية، أو المصالحة التاريخية الاميركية الايرانية آتية لا محالة. وعندها لكل حادث حديث. طبعا، ثمة في طهران، من يريد الايهام بأن المقاومة الايرانية خاصة (والشيعية عموماً) هي التي تجبر الاميركيين على الفرار من العالم الاسلامي، ويريد تتويج المفاوضات النووية بنصر إيراني لا يمحى، حتى ولو كان من دون يورانيوم مخصب ومن دون مفاعلات نووية.

في الحسابات اللبنانية، كان من التقليدي أن يحيل السيد، بوصفه الناطق الرسمي بإسم السلطة اللبنانية، اسباب الكارثة الداخلية الى أميركا، وسفارتها وسفيرتها في بيروت. هو لا يستطيع أن يضع الملامة على اي من الرؤساء الثلاثة ، ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي. فللحزب شراكة مع كل منهم، وحصة في قراراتهم وحضور في صراعاتهم. وهو لا يزال يعتقد أن توجيه غضب الجمهور اللبناني نحو أميركا قليل الاضرار كثير المكاسب. مع العلم ان ذلك الجمهور يعرف جيداً أن مكامن الكارثة ومصادرها داخلية، وتكاد تكون جينية، مستمدة من التكوين اللبناني الذي يقدّس السوق السوداء، في جميع التعاملات التجارية وغير التجارية، ويعتبرها شطارة ومهارة. 

لكن تلك الاحالة لم تمر مرور الكرام في واشنطن. ثمة من سأل عن أي دور أميركي في لبنان يتحدث نصر الله؟ عن أي تدخل؟ عن أي وظيفة تؤديها السفارة والسفيرة في هذه المرحلة؟ من هو المسؤول الاميركي الذي خالف التعليمات وأجاز العمل في لبنان؟ المؤكد أنه ليس الرئيس جو بايدن، الذي لم يعد يتذكر أين يقع لبنان، ولا وزير الخارجية انتوني بيلنكن الذي لا يعرف لبنان أصلاً، ولا حتى مدير وكالة الاستخبارات الاميركية وليام بيرنز الذي زار لبنان سراً قبل أسبوعين وناقش مع قادة الجيش والاجهزة الامنية سبل إحتواء التوتر على الحدود الجنوبية، والحؤول دون إشتعال حرب جديدة، لا تخدم أحداً لا في لبنان ولا في إسرائيل.

شتم أميركا وإتهامها، حلال بلا أدنى شك. التدقيق في جذور الازمة يمكن ان يؤدي حتما الى العثور على تورط أميركي، وعلى مسؤولية ما يتحملها الاميركيون، الذين غادروا لبنان نهائياً قبل أكثر من خمس عشرة سنة ( في أعقاب حرب العام 2006) ولم يعودوا. وبات التواصل معهم حتى من قبل حلفائهم السابقين شبه مستحيل.. ولم يبق من صلات لبنانية مع اميركا، سوى تلك التي يقيمها الدولار المسموح تداوله رسميا في المقاصات اللبنانية المتعددة. أما بقية عمليات التجارة والتهريب والتخزين، للسلع الحيوية، فلا شك أنها تصيب الاميركيين والعالم كله بحيرة لا مثيل لها.

الأدق والأجدى من إتهام الاميركيين بالمسؤولية عن النكبة التي تحل بلبنان الآن، هو التسليم بأنها فوضى ما بعد رحيلهم النهائي من العالمين العربي والاسلامي. وهي ظاهرة عامة تتجلى اليوم بأصدق صورها في افغانستان، خاتمة حروب الاميركيين على المسلمين والعرب، التي إنتهت الى صراع محلي بين أقصى التطرف وأقسى التشدد.. يرجى أن يحسم بسرعة لكي تتمكن شعوب أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا، من بلورة تجاربها البديلة، في الحكم المستقل عن الاحتلال الاجنبي والاستبداد الديني.    

المدن

————————–

سقوط كابول: “يوم فرح وعز وانتصار”…لماذا فرح إخوان مصر بعودة “طالبان”؟/ هاني محمد

ترتبط الحركة مع جماعة الإخوان بعلاقة تاريخية، فالجماعة كانت المسؤول الأول عن جمع التبرعات والعطايا للمقاتلين الأفغان في العالم العربي، وقد وجدت في سيطرة “طالبان” مخرجاً من الأزمة القاسية التي تمر بها منذ سقوط إخوان مصر حتى الإطاحة بـ”إخوان تونس”.

“هذا يوم فرح وعز وانتصار، حيا الله خيرة رجال الأفغان”… لم يكن هذا تصريح جهادي أو إرهابي سابق أو عائد من أفغانستان في عهود وأزمنة سابقة، إنما تعليق القيادي الإخواني يحيى موسى، مؤسس حركة “حسم”، المصنفة تنظيماً إرهابياً لدى الولايات المتحدة، والمتحدث باسم وزارة الصحة المصرية في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، على سقوط كابول في أيدي مقاتلي “طالبان”.

ترحيب وجوه إخوانية بصعود “حركة طالبان” إلى الحكم مرة أخرى يتزامن مع حملة دعائية هائلة تروّج فكرة أن الحركة بدأت بتقبل من كانت تهدر دمه سابقاً وباتت تسمح بتعليم النساء.

لم يكن تصريح يحيى موسى سوى رأس جبل الجليد، الذي يمتلئ سعادة وانتعاشاً بصعود حركة دينية أنعشت أحلام الجهاديين وحاملي الرايات السود في جميع أنحاء العالم باعتبار حلمهم في الحكم المطلق صار ممكناً، ولأن حركة زميلة “طالبان” قد نالته أخيراً وإن بعد حين، ومن بين هؤلاء إخوان مصر الذين حققوا الحلم “موقتاً” قبل سقوطهم مباشرة.

والمفاجأة أن ذوي التوجه الإسلامي الذين يبايعون “طالبان” ويبيّضون صفحتها حالياً، هم أنفسهم الذين هاجموا منهجها القاسي قديماً، وكان واحداً منهم فهمي هويدي، الكاتب الصحافي المصري، المعروف بتوجهاته الإسلامية. يروي في كتابه “طالبان: جند الله في المعركة الغلط“، الذي صدر بعد 3 سنوات من وصول “طالبان” إلى الحكم، الانتهاكات التي مارستها الحركة في نسخة حكمها الأولى، وإجبار الناس على نوع معين من التدين بقوة الشرطة، وإصدار قائمة محظورات على الناس الالتزام بها، وإنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاقبة المتجاوزين عقوبات فورية، وتجريف كشف وجوه النساء، وتحريم البرقع الإيراني، الذي يبرز الوجه، ومنع سائقي الأجرة من توصيل النساء، وتحريم الموسيقى في أي مكان، وسجن من يملك شريطاً غنائياً، وتحريم حلق اللحى، وإيداع من يحلق لحيته السجن حتى تنمو مجدداً، وجعل الصلوات في المساجد إجبارية بنصّ قانوني، وإغلاق مدارس البنات.

تغيَّر كل شيء.. الفصيل الذي كان عدواً لـ”طالبان”، ورأى أن تجاوزاته الدينية والسياسية تشوه جميع الإسلاميين في العالم وتخلى عنه لحساب تنسيقه مع الأميركيين مطلع القرن الجاري، يهروّل شبابه إلى “طالبان” الآن ويدافعون عنها، وبعضهم يتمنّى أن يخضع لحكمها ويعيش بمناطق سيطرتها.

“طالبان” الأب الروحي للجماعات الإسلامية

سبب سعادة بعض أنصار جماعة الإخوان بصعود “طالبان” التي ترتّب الأوراق المبعثرة الآن لتستعيد دولتها العميقة التي بعثرتها واشنطن، هو تحقيق حلم “دولة الخلافة” وأستاذية العالم الذي يجمع كلَّ تلك الحركات والتنظيمات والجماعات إلى جانب عشرات القواسم المشتركة، التي تذيب كلَّ الخلافات العابرة التي يمكن حلها حين “يتمكّن” الإسلاميون من الأرض… وهو ما دفع المقربين من الإخوان في كل الاتجاهات لتهنئة “طالبان”، ليصبح ذلك “تأييداً غاشماً” يستطيعون من خلاله تحقيق أي استفادة أو الحصول على جزء من كعكة النصر (الذي يعتبرونه نصراً للدين والتنظيمات الدينية وليس لجماعة بعينها)، وفي مقدمهم الشيخ أحمد الريسوني، رئيس “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، والقيادي الإخواني الليبي علي الصلابي، الذي ردَّد مقولة الملا محمد عمر، رجل “طالبان” الأول، لحظة سقوط الحركة، “لقد وعدنا الله بالنصر ووعدنا جورج بوش بالهزيمة وسنرى أي الوعدين أصدق”.

لماذا فرح الإخوان بعودة “طالبان”؟

ترتبط الحركة مع جماعة الإخوان بعلاقة تاريخية، فالجماعة كانت المسؤول الأول عن جمع التبرعات والعطايا للمقاتلين الأفغان في العالم العربي، وقد وجدت في سيطرة “طالبان” مخرجاً من الأزمة القاسية التي تمر بها منذ سقوط إخوان مصر حتى الإطاحة بـ”إخوان تونس”، وطالما لم يعد هناك حل، رفعوا شعار “طالبان هي الحل”، وسط دعوات بالجهاد المسلح، فهم يعتبرون أنّ الحركة الأفغانية حين تمسَّكت بسلاحها تمكَّنت من فرض نفسها على المجتمع الدولي، استشهاداً بتصريحات وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي قال إن “طالبان انتصرت، ومن ثم وجب على الجميع الجلوس معها”.

كان القيادي الإخواني الفلسطيني عبد الله عزام صاحب الفضل على “طالبان”، عبر دوره البارز في تأسيس مكتب “خدمات المهاجرين العرب” في مدينة بيشاور الباكستانية عام 1984، وجمع المكتب تبرعات من عشرات البلاد الغربية على رأسها الولايات المتحدة لدعم المقاتلين الأفغان في معاركهم، فضلاً عن تجنيد الشباب وتدريبهم وإلحاقهم بمعسكرات القتال في أفغانستان، لكن المهلِّلين الآن لا يعرفون ما حصل في ما بعد.

سقوط “حركة طالبان” عام 2001 ألهم قيادات الإخوان بـ”خيانة جديدة“، وعلى رغم كل الصفات والأفكار المشتركة بين الإخوان و”طالبان”، انحازت الجماعة إلى الولايات المتحدة في حربها ضد الحركة، أملاً بتولي السلطة، ومنذ ذلك اليوم يقدّم إخوان أفغانستان أنفسهم باعتبارهم الفصيل الديني الأكثر حضوراً في المشهد، وهو ما يبشِّر بنزاع متوقع بين الحركة والجماعة في المستقبل القريب، فكلاهما يملك رغبة في الهيمنة على المشهد.

ولدى الإخوان في أفغانستان من الإمكانات ما يدعو “طالبان” إلى التحالف معهم، فعام 2002 أعلنت 30 قيادة إخوانية تأسيس كيان سياسي في أفغانسان، وأطلقت عليه اسم “الجمعية الأفغانية للإصلاح والتنمية الاجتماعية” في العاصمة كابول، وبفضل انحيازها للولايات المتحدة، حصلت على موافقة من وزارة العدل سريعاً، وأنشأت 35 فرعاً، وبدأت تضع خططاً للتأثير في الطبقات الاجتماعية المختلفة. أنشأت عشرات المدارس، و4 معاهد لتعليم الفتيات، و8 مدارس لتدريس العلوم الشرعية وداراً للعلوم الإسلامية وأول قناة فضائية أفغانية وإذاعة ومجلات وصحفاً ومواقع إلكترونية كـ”إصلاح مللي” و”معرفة” و”صوت الإصلاح” و”رسالة الإصلاح” وجمعية المساعدات الإنسانية ومستشفيات وعيادات.

يملك الإخوان “دولة موازية” داخل أفغانستان، ويعملون منذ سقوط الرئيس المصري السابق محمد مرسي على تعبئة أنصارهم ودعوة المجتمع الدولي إلى التدخُّل، وساهمت السنوات الماضية في تغذيتهم بعلاقات واسعة مع “طالبان”، ربما حلَّ الوقت المناسب الآن للطرفين لاستثمارها. الإخوان يريدون العودة إلى المشهد ولديهم في أفغانستان مؤسسات قائمة لا تملكها “طالبان” حتى الآن، والأخيرة تريد جمع الأطراف المختلفة لتحصل على اعتراف دولي، وقد تؤدي دورها باعتبارها “الأب الروحي للجماعات الإرهابية في العالم” وتجمعهم مجدداً على أرضها لتهديد العالم بتصدير المجاهدين، حال سقوطها.

الأول هو “الكفيل”، كلاهما يدير أعماله من قطر، وعلى مقربة من مكتب حركة “طالبان” في الدوحة ستجد مقار قيادات الإخوان، ولعبت الدوحة دور الوسيط بين “طالبان” والولايات المتحدة على مر السنوات الماضية حتى توصلت إلى اتفاق يسمح للحركة بالعودة، وهو ما حدث كثيراً مع الإخوان لإعادتهم إلى المشهد وإعانتهم.

لعبت قطر دوراً محورياً في سياستي “طالبان” والإخوان، وهو ما جعلها “الحاكم الأول” لهما ليس من باب التمويل وحسب، إنما أيضاً من باب “الود السياسي” الذي يكنانه لقطر باعتبارها “الوسيط الناجح الوحيد”. دور الوسيط، حاولت الرياض وأبو ظبي لعبه في قضية “طالبان”، لكنهما فشلتا بسبب ضغوطهما المستمرة على الحركة لتقديم تنازلات، حتى تولت قطر إدارة ملف المحادثات وأحدثت تحولاً كبيراً في أفكار الحركة وسياساتها، فهناك رأى قادة “طالبان” المولات والحياة الحديثة وتأثروا بالانفتاح القطري على العالم حتى انعكس ذلك على سياساتهم الحديثة.

العامل الثاني هو “كراهية أميركا“، فالحركة التي انطلقت من أفغانستان نمت على كونِ الولايات المتحدة هي “العدو الأوحد” الذي يعطل مسيرة الإسلام السياسي، وذلك النمو كان على مستوى المقاتلين، والآن لديهم عدو واحد يرون أن أصابعه هي التي تدير العالم، وتسند الأنظمة المستبدة.. هو الولايات المتحدة.

الثالث هو السقوط المدوي لجميع حركات الإسلام السياسي منذ سقوط “داعش”، حتى التي تمارس السياسة، تم إسقاطها على أيدي رؤساء مدعومين إماراتياً كالرئيس قيس سعيد في تونس، ويرى الإخوان أن “طالبان” يمكن أن تساعدَهم في إعادة بناء أنفسهم، والعودة إلى المشهد من جديد، كما أنها تمنحُهم قبلة حياة للمساومة بعدما تخلّت عنهم تركيا وأغلقت قنواتهم، وتقدمت قطر لتذويب الجليد مع مصر والإمارات والسعودية، ومنذ ذلك اليوم، يبحث الإخوان عن بديل… وأخيراً، وجدوه.

ووسط بحثهم عن “ملاذات أخرى آمنة” لعناصر وقيادات الجماعة المطلوبين في مصر، استقرت مجموعات على نقل بعض الفضائيات للعاصمة البريطانية، لندن، ونقل موقع “العربية” عن مصادر، أنّ قيادياً بارزاً طرح فكرة جديدة، في أحد الاجتماعات، وهي نقل العناصر الإخوانية إلى أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية وسيطرة “طالبان”، واستغلال تولي تركيا حماية مطار حامد كرزاي الدولي في كابول.

وبحسب “العربية“، يستند القيادي البارز إلى الدعم الذي قدمه الإخوان لـ”حركة طالبان” والجهاديين في أفغانستان في فترات تدهور أوضاعها، فقد قدمت سابقاً “دعماً مادياً وإغاثياً وإنسانياً”، وعرضت الفكرة على قيادات أعلى، وبدأ التشاور بين قيادات التنظيم الدولي ومسؤولي “حركة طالبان” وأطراف تركية “شبه رسمية”. وربما تكون الهجرة الإخوانية إلى أفغانستان – إن حدثت – ميلاداً جديداً لأولاد حسن البنا (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين) في أحضان تلاميذ الملا عمر، مؤسس “حركة طالبان”.

لم تكن الحالة السياسية والدينية في مصر متدهورة إلى حدِ القلق من مصيرٍ مشابه لشكل الحياة الذي تفرضه “طالبان”. كان الإخوان أكثر تساهلاً وتسامحاً وتقبلاً للملابس المكشوفة، فكان الزيّ الرسمي الذي يصدّره الإخوان لفتياته “لفات رأس” قصيرة تبرز الصدر قليلاً على عكس “طالبان” التي تفرض “البرقع” زياً موحداً للنساء. كان ذلك “حيلة” انتخابية لجذب الأصوات، لكن ما لا يستطيع أحد نفيه، أنّ الإخوان كانوا أكثر انفتاحاً على المستوى الرسمي، إلا أنّ بعض مريدي الجماعة وأنصارها ورجالها كانوا بالغي التشدد.

بينما يتصايح أنصار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمقولة أنه أنقذ مصر من مصير أفغانستان، يمكن القول إنه لم يحدث سوى اشتباكات في سياق الخلاف السياسي وقمع الاحتجاجات، على عكس “طالبان”، التي وجدت شخصاً يحمل علم أفغانستان، فأوسعته ضرباً. وعلى رغم إيمان الإخوان بمشروعهم فقط، لم يكونوا يسيئون للعلم المصري، وعلى رغم أن تحقيقات كثيرة أثبتت أنهم كانوا مسلحين، لكن لم يكونوا ميليشيات شديدة الخطورة تحمل المدافع والرشاشات علناً، وتسير بها في الشوارع، كما يحدث في حالة “طالبان”.

والأهم من ذلك، أنه كان لدى الإخوان برنامج مدني، ورؤية للدولة المدنية، وإن كانت متأثرة بالنموذج التركي الذي يقوده رجب طيب أردوغان، ولم تتحول القاهرة إلى قندهار طوال عام حكمهم. ولكن هل كان الأمرُ كله خدعاً ومؤامرات وكلاماً معسولاً لأجل الوصول إلى “التمكين” ثم الانقلاب على الدولة المدنية؟

لا أحد يستطيع أن يجزمَ بصحة ذلك من عدمه، لكن مراقبي مشهد قيادات الإخوان ذوي اللحى، وليس السياسيين، وشبابهم يرصدُ ميلاً شديداً إلى الهيمنة والعنف والحكم بالقوة، حتى إن بعض الشباب الإخواني كان يرافق قوات الشرطة في قمع المتظاهرين وتحديداً بعد الإعلان الدستوري الذي صدر في آذار/ مارس 2013 وعرف بـ”دستور الجنة والنار”. تلك النزعة سربت إلى الأقباط رعباً من التجربة، فأقدم حوالى 200 ألف قبطي إلى الهجرة في عام واحد، على رغم أنه في عهد الرئيس الأسبق، حسني مبارك، لم يكن عدد المهاجرين يتجاوز 30 ألفاً.

الصورة التي أصبحت عليها كابول جعلت السيسي في نظر أنصاره بطلاً بعيد النظر، أنقذ بلاده من حكم ديني “محتمل”، وبالنسبة إلى الفريق الآخر، فهو لم ينقذ مصر إنما استعجل الحصول على السلطة، فلأسباب أخرى، يُستبعَد- حتى اللحظة – سيناريو أفغانستان، ويروق لكل طرف أن يرى السيسي بحسب توجهه السياسي.

لعبت قطر دوراً محورياً في سياستي “طالبان” والإخوان، وهو ما جعلها “الحاكم الأول” لهما ليس من باب التمويل وحسب، إنما أيضاً من باب “الود السياسي”

القاهرة… والهرولة إلى “طالبان”

أمَّا مصر “الرسمية” فلا تفكر في الإخوان ومواقفهم وتعاطفهم مع “طالبان” من عدمه، تريد فقط أن تنشئ علاقة سياسية مع “طالبان”، لا تشوبها شوائب ولا تؤثر فيها مواقف القاهرة من الإخوان.

أشارت مصادر إعلامية لـ”درج”، إلى أن السلطات المصرية تفرض على الصحف والقنوات تناولاً إخبارياً بعيداً من التحليلات والوقائع المسيئة لـ”طالبان” وتمنع ترجمة القصص الصحافية التي تشوه الحركة، وقد وضعت “خطاً أحمر” هو الإساءة إلى قادة الحركة، أو إظهارهم بصورة الإرهابيين، حتى إن الإعلامي البارز المحسوب على النظام المصري، أحمد موسى، استضاف الدكتور محمد نعيم، الناطق باسم المكتب السياسي لحركة طالبان، على هواء قناة “صدى البلد” المصرية، وأجرت مواقع وصحف حوارات مع قيادات في =”طالبان” تمهيداً لنوع من تطبيع العلاقات التدريجي.

يتماشى ذلك مع توجه مصر، خلال الأشهر الماضية، للتهدئة مع أنقرة والدوحة (الكفيل السياسي لـ”حركة طالبان”)، على عكس الإمارات التي تتخذ موقفاً مضاداً لأي توجه قطري أو تركي.

درجات

—————————

بعد سقوط كابول: أعداء أميركا في كماشة الجهادية العالمية/ محمد خلف

تعيش الجهادية المسلحة والحركية فورة جديدة وتكتسب انتعاشاً واضحاً مع فوز “طالبان” وهزيمة القوات الأميركية وتحتفل المواقع الإسلامية على الانترنت والتجمعات السلفية في أوروبا والمواقع الإسلامية بهذا الانتصار الجلل الذي تعتبره إلهياً.

لا تخفي الدول المجاورة لأفغانستان ومن بينها أعداء ألداء لواشنطن قلقها من انهيارات أمنية وتداعيات جيوبوليتيكية ستنجم لا محالة عن الانسحاب الأميركي، بعد 20 سنة من حرب طويلة ومؤلمة وفاشلة أنفقت خلالها الإدارات الأميركية المتعاقبة أكثر من تريليون دولار.

العالم كله يراقب بذهول تداعيات الانسحاب الأميركي- الأطلسي الذي سيبقى حاضراً بما يرافقه من مشاهد معيبة ومثيرة للغضب في أوساط مصدقي الغرب وشعاراته بالدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية في العالم. هذا الفشل المريع الذي يحدث للمرة الثانية بعد العراق، بل وللمرة الثانية بعد الذي حصل ويحصل منذ عشر سنوات في ليبيا من حرب أهلية انفجرت بعد انسحاب “حلف شمال الأطلسي”، من دون أن يجمع ملايين الأسلحة التي وزعها بالتنسيق مع قطر من أيدي شعب وقبائل منفلتة، يكشف بوضوح عقم الفهم الغربي لذهنية هذه المجتمعات وثقافتها.

أهذا هو السبب إذاً في عجز الولايات المتحدة المريع والفاضح في تطبيق المشروع الذي كان أطلقه جورج بوش وإدارة المحافظين الجدد قبل عشرين عاماً لبناء الأمم والمجتمعات النموذجية الجديدة، والذي حمل عنوان “نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط الكبير”؟

الأميركيون ومعهم حلفاؤهم الأوروبيون والأطلسيون أظهروا فشلهم وانتهازيتهم في اللحظات الحاسمة. المشاهد التي تنقلها شاشات القنوات التلفزيونية الدولية تتكرر وتعيد إلى الذاكرة الجماعية الفشل الذي رافق الانسحاب الأوبامي من العراق عام 2011، وتداعياته التي تكللت بعودة تنظيم “القاعدة” وانبثاق “داعش” على أطلالها، ومن ثم سقوط البلاد بقبضة ميليشيات شيعية إيرانية الصنع لا تقل إجراماً ودموية وتدميراً عن أبو بكر البغدادي وقبله أبو مصعب الزرقاوي.

ما فعله الرئيس الأميركي جو بايدن هو إتمام سحب القوات الأميركية حتى قبل أن يفرض على “طالبان” التفاوض مع الحكومة في كابول لتشكيل حكومة انتقالية تقوم على تقاسم السلطة وتأمين انتقال سلس للحكم يحمي المؤسسات الديموقراطية والحريات العامة والمكتسبات التي حققها الشعب الأفغاني، من حق النساء في التعليم والعمل والتعددية السياسية وحرية التعبير والصحافة وبناء منظمات المجتمع المدني، وكان سلفه دونالد ترامب أبعد هذه الحكومة من مفاوضات الدوحة ذاعناً بشكل أحمق لشروط “طالبان”. هل نسينا أن مستشاره للأمن القومي جون بولتون احتج على مسار المفاوضات، وأداء الوفد الأميركي وتمت معاقبته بطرده من طاقم التفاوض ومن ثم من منصب المستشارية؟

السؤال الأهم الآن هو هل ستعود أفغانستان عاصمةً للإرهاب المعولم بعدما كانت الحاضنة الأهم والأكبر لكل جماعات العنف والتطرف قبل عشرين عاماً؟

تزدحم وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الاسلامية، ويتسابق كتاب الممانعة للتعبير عن فرحتهم بالانتصار “العظيم” على الامبريالية والصهيونية وأعتى جيوشها أي الأميركي والأطلسي، وتنقل قناة “الجزيرة” لحظة بلحظة انتصارات “طالبان” ومظاهر الفرح العارمة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تحتفل بالانتصار الإلهي الذي طال انتظاره.

كل هذا يبشر بانتعاش الجماعات الإسلامية الأخرى المتطرّفة مثل “داعش” و”القاعدة” وخلاياها وأنصارها وعناصرها المنتشرين في دول العالم.

تحريض الإيغور؟

السؤال الآخر الذي يتردد في وسائل الإعلام الدولية وعلى لسان المحللين الأميركيين والأوروبيين هو:هل الخروج الأميركي- الأطلسي سيؤدي إلى إعادة تصنيع الإرهاب في هذه الدولة الملاصقة لأعداء أميركا المترصين بها منذ عقود وفي مقدمهم الصين العدو الصاعد اقتصادياً وعسكرياً وتنظيمياً؟ بكين تراقب ما يحصل بقلق على حدودها. بكين تكتم حتى الآن تيقنها من أن هذا الانسحاب الأميركي سيستهدف آجلاً أم عاجلاً أمنها الوطني، لا سيما مع وجود الجماعات الجهادية المسلحة في أفغانستان، وتلك التي تنتظر الانقضاض عليها، بتحريك المسلمين أي أقلية الإيغور، التي يصل تعدادها إلى 50 مليون نسمة يعيشون في مقاطعة شينجيانغ الصينية على الحدود الدولية مع أفغانستان.

إحدى أقوى واخطر الجماعات المسلحة، هو “الحزب الإسلامي التركستاني“، وهو منظمة مسلحة انفصالية تدعو إلى إنشاء دولة إسلامية في إقليم شينجيانغ. وينشر هذا الحزب الذي يمتلك ميليشيات مسلحة من حين إلى آخر مقاطع فيديو توثق وجوده في أفغانستان. وتنتشر كتائب من هذه الميليشيا الجهادية في سوريا وبالتحديد في المناطق التي تقع تحت سيطرة تركيا، وهي تقاتل النظام السوري منذ 10 سنوات. انتصار “طالبان” ينذر ببدء هجرة قادة هذا الحزب والكثير من مقاتليه أينما كانوا إلى أفغانستان. وتتعزز مخاوف الصين من تحولها إلى هدف للمتشددين، بعد مقتل تسعة مواطنين صينيين في تموز/ يوليو الماضي، إثر انفجار في حافلة تقل العمال إلى موقع بناء سد في جبال باكستان الشمالية، وجهت فيه الاتهامات إلى المسلحين القوميين البلوش.

روسيا المستهدفة والجهادية والمخدرات

روسيا مستهدفة أيضاً على رغم أنها لا تريد التورّط مجدّداً في أفغانستان كما ورد على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، لكنها لا تريد أن تتلقّى الإرهاب الذي ارتبط بـ”داعش” و”القاعدة”، لا في عقر دارها، ولا في دول آسيا الوسطى مثل تركمانستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرغستان. الدول الأساسية في الجيرة المباشرة.

ولهذا سارعت إلى عقد اجتماع في بداية آب/ أغسطس، مع زعماء خمس دول في وسط آسيا، بما فيها البلدان المجاورة لأفغانستان في الشمال وهي أوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان. وأعرب المجتمعون عن قلقهم إزاء تطورات أفغانستان وانعكاساتها على أمن منطقة آسيا الوسطى، كما أعلنوا أنهم سيواجهون هذا التحدي معاً، لمحاربة جماعات اسلامية جهادية سرية ترتبط بعلاقات مع “القاعدة” و”داعش” ودول ومخابرات وشبكات مصالح تمولها لتقويض الاستقرار ونشر التطرف الإسلامي في المنطقة، وفي القوقاز كله.

روسيا أجرت أيضاً مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة مع الطاجيك والأوزبك بالقرب من الحدود مع أفغانستان .وبرأي المحلل الروسي في مكتب معهد “كارنيغي” الأميركي في موسكو ديمتري ترنين، فإن “المشكلة الأساسية بالنسبة إلى روسيا ليست فقط طالبان أو المجموعات الجهادية أو داعش أو الجماعات المماثلة التي تعبر الحدود إلى آسيا الوسطى. المشكلة الكبرى هي المخدرات، وما يعنيه تحول أفغانستان إلى بؤرة لانتاج المخدرات وتهريبها”. ووفقاً لما ذكرته صحيفة “نيزافيسمايا غازيتا” الروسية، فإن “مشكلة المخدرات الأفغانية تستفحل وتنمو بشكل غير عادي، بعدما أصبح حوض بحر قزوين واحداً من أهم طرق تهريب الهيرويين وغيره من المواد المخدرة إلى روسيا، ومنها إلى دول أخرى، وبات توزيع هذه المخدرات في روسيا وانتشارها بشكل مفزع بين الشباب من الجنسين مشكلة كبيرة تؤرق الدولة وأجهزتها والمجتمع بأكمله”.

فقد ثبت بالإحصاءات الرسمية أن عدد ضحايا المخدرات المهربة من أفغانستان إلى روسيا يصل سنوياً إلى حوالى 30 ألف شخص، علماً بأن المصيبة ذاتها موجودة في الصين التي تدخلها كميات من مخدرات أفغانستان شبيهة بقرينتها في روسيا، ومن المتوقع أن تزداد هذه القضية تعقيداً.

من الواضح أن إدارة بايدن الديموقراطية قلبت الطاولة الأفغانية على رؤوس كل القوى الاقليمية فها هي الهند وباكستان وإيران، تتأهّب وتستنفر طاقاتها وجيوشها لمواجهة التهديدات والتحديات المقبلة لا محالة، منها ما له علاقة بأفغانستان، ومنها ما يقع في خانة العداء المباشر بينها على نسق العداء بين الهند وباكستان.

باكستان صانعة “طالبان”

باكستان هي الأخرى اضحت مهددة على رغم أنها التي مولت وسلحت ونظمت صفوف “طالبان”، بإشراف مباشر من جهاز الاستخبارات العسكرية طيلة العشرين عاماً المنصرمة وقبلها بالطبع، إلا أنها اصبحت الآن عارية أمام إرهاب “داعش” و”طالبان” الباكستانية التي تشن العداء لنظام إسلام آباد.

ومن المتوقع أن تؤجج سيطرة “حركة طالبان” المشاعر الدينية المحافظة والمتطرفة في باكستان التي تنظر إلى عناصر “طالبان” الباكستانية كأبطال يعزز نجاحهم فرص الحكم الديني المتشدد في ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان المسلمين في العالم. وقال مسؤول باكستاني كبير، “سوف يتشجع جهاديونا؛ سيقولون: إذا كانت هزيمة أميركا ممكنة، فمن هو الجيش الباكستاني ليقف في طريقنا؟”.هنا يكمن الانتقام الأميركي من عبث إسلام اباد بالأمن والاستقرار الإيراني طيلة العقدين الماضيين، بالانسحاب من أفغانستان.

 فالجميع كان مرتاحاً عندما قامت الولايات المتحدة بمهمّة أثبتت استحالة الانتصار الساحق، لكنها حاربت “القاعدة” و”طالبان” بغية احتواء الإسلام المتطرّف والإرهاب ووقف تهديده للامن القومي والمصالح الأميركية في العالم.

أفغانستان بؤرة الجهاد المعولم مجدداً

تجاهلت الاتفاقات الأميركية في الدوحة موضوع طاقة “طالبان” وقدرتها على احتواء حركة المجموعات الإسلامية الأخرى عبر الحدود الأفغانية، وما إذا كانت مشاريع تلك المجموعات ضمن مسؤوليتها بعد الانسحاب. باحثون في شؤون الجماعات الجهادية المسلحة يتحدثون عن وجود تفاهمات بين “طالبان” و”داعش”- منها اتفاق عام 2019- قوامه  ألاّ يسعى تنظيم “داعش” إلى أي سلطة ونفوذ في المسألة الداخلية الأفغانية، في المقابل، لن تقيّد “طالبان” حركته من أفغانستان إلى الأراضي المجاورة. وبحسب تقديراتهم، فإن لتنظيم “داعش” 5000 مقاتل في 9 قواعد في أفغانستان مملوءة بالسلاح والذخيرة.

السؤال الأصعب هو، هل “داعش” لا يمانع سيطرة “طالبان” على أفغانستان، ويتعاون معها بوساطة حليفه جلال الدين حقاني (أحد رموز الجهاد الأفغاني)، أم يريد أن يكون منافساً للحركة في تشييد اعمدة نظام للخلافة الإسلامية يتبنى الشريعة الإسلامية ليكون امتداداً لمشروعه في العراق وسوريا الذي قوضته الولايات المتحدة؟ يتفق المحللون على أن ما يريده تنظيم “داعش” من أفغانستان اليوم هو أن تكون قاعدته الجديدة لغاياته الاستراتيجية في دول آسيا الوسطى، والصين، وبحر قزوين. وبحسب مصادر تراقب تحركات “داعش”، هناك مؤشرات إلى حشد المقاتلين من سوريا والعراق وليبيا وحتى من الجهاديين الأوروبيين الذين عادوا إلى بلدانهم، وتجنيد آخرين جدد للتوجّه إلى أفغانستان حيث ستكون القاعدة الجديدة للإرهاب المعولم.

إيران المهددة بالعدو الأيديولوجي

لطالما سعت إيران خلال السنوات الأخيرة إلى نوعٍ من الاتفاقات مع “طالبان” لأسباب متعدّدة، تجارية وأمنية، وبشكل أساسي إقامة تعاون مشترك وتنسيق استخباراتي” لمنع حركة “داعش” من تقويض الأمن القومي في الأقاليم السنية في إيران. هل تثق إيران بالوعود التي تقدمها “طالبان” بأنها لن تسبب مشكلات لها ولجيران أفغانستان؟

يتفق محللون على أن معطيات الأحداث والتطورات في المستقبل القريب قد تفرض أوضاعاً مختلفة. طهران تخشى من تحول أفغانستان إلى بؤرة جديدة للجهاد السني المسلح، لا سيما أن العداوة الطائفية- الايديولوجية المتبادلة بن الجانبين ما زالت قوية بغض النظر عن الابتسامات الديبلوماسية الخادعة بين الجانبين، فأحدهما يعتبر الآخر كافراً بالمفهوم المذهبي. إضافة إلى أن علاقتهما تتخللها حياكة مؤامرات ونصب كمائن قاتلة متبادلة، وما كان يجمعهما في فترة محددة، هو العمل المشترك لتقويض المشروع الأميركي في أفغانستان.

يرى مراقبون أن أحد أهداف الانسحاب الأميركي وتسليم أفغانستان لـ”طالبان”، هو ربما إرغام الملالي على تحويل قسم كبير من موارد الحرس الثوري المالية والعسكرية واللوجستية من العراق واليمن و لبنان وسوريا وغزة إلى أفغانستان. ويبدو أن معطيات تشير إلى أن هذا ما يحدث، إذ أشارت معلومات إلى أن إيران تزمع نقل كتائب عدة من ميليشيا “فاطميون”، التي شكلتها قبل سنوات من لاجئين شيعة من أفغانستان وباكستان للقتال إلى جانب قوات بشار الأسد في سوريا، إلى أفغانستان لحماية ما تسميه الاقلية الشيعية “الهازارا”، في سيناريو مشابه لما سوقته في سوريا عن حماية مقام السيدة زينب.

إيران تعي جيداً الفخ الذي نصبته لها واشنطن بالانسحاب، انتقاماً لدورها في تقويض مشروعها في العراق، ومواصلتها استخدام ميليشياتها لتقويض دورها في الشرق الاوسط والعبث بهيبتها الدولية. الآن “طالبان” تحتل حدودها مع باكستان، الجهاديون والمخدرات واللاجئون سيتدفقون على حدود البلدين الطويلة. انظروا إلى الاحتجاجات الضخمة التي تشهدها المدن السنية ضد آيات الله ونظام طهران منذ أسابيع، إنها الجولة الأولى في الانتقام الأميركي لأرواح مئات الجنود الأميركيين، الذين قتلتهم إيران بأياد عراقية طيلة العقدين الماضيين.

الهند في حضن الإرهاب المعولم

الهند هي الأخرى قلقة من استخدام “داعش” وإخوته، قاعدته الجديدة لتأجيج المسلمين في كشمير، وهي لا تخشى من “طالبان” و”داعش” وأخوتهما، فقط، بل من باكستان التي تمنع أي علاقات طبيعية مع أفغانستان، وظلت طيلة السنوات الماضية تضع حواجز وألغاماً أمام علاقات متميزة بين البلدين.

أيام عصيبة تنتظر الهند بعدما وقعت أفغانستان تحت السيطرة الكاملة لصنيعة باكستان، “طالبان”، التي استثمرت في تأسيسها وتسليحها وديمومة وجودها المليارات من الدولارات وتنتظر الآن الحصول على عوائد هذا الاستثمار.

القضية الأخرى المهمة تتمثل كما تدلل التطورات الراهنة في حتميّة فشل كل تلك المحاولات الديبلوماسية والكلام عن المصالحة واقتسام السلطة في أفغانستان، وتشكيل حكومة وطنية واسعة، فـ”طالبان” تعرف مدى قوتها وهي التي تفرض شكل الحكم والنظام ومحتواهما، وهي التي تقرر دور الآخرين، إن كان يمكن أن يكون لهم أي دور.

انتعاش الجهادية

تعيش الجهادية المسلحة والحركية فورة جديدة وتكتسب انتعاشاً واضحاً مع فوز “طالبان” وهزيمة القوات الأميركية وتحتفل المواقع الإسلامية على الانترنت والتجمعات السلفية في أوروبا والمواقع الإسلامية بهذا الانتصار الجلل الذي تعتبره إلهياً.

يقول أسفنديار مير، المحلل الأمني لجنوب آسيا في “المعهد الأميركي للسلام”، “إنه مزيج خطير عندما ترتفع التهديدات فيما تتضاءل جهود مكافحتها”، مضيفاً: «التهديد قائم، ونحن نتحدث عن تصعيد من هذه النقطة فصاعداً».

انهيار الجمهورية الأفغانية بعد رحيل الولايات المتحدة ستكون له أهمية إقليمية كبيرة مثل غزو ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر، أو انسحاب القوات السوفياتية وسقوط النظام الشيوعي الذي كانت تؤيده موسكو. «هذا تحول مزلزل من شأنه أن يغير وجه السياسة برمتها في هذا الجزء من العالم بأساليب يصعب التنبؤ بها».

يتوقع مير “أن يكون الخطر المباشر إقليمياً- في جنوب آسيا ووسطها- لأن الجغرافيا والإمكانات تجعل الواقع مكشوفاً والخطر قائماً”.

مع انطلاق الانسحاب الاميركي قبل أشهر بدأت تتجلى بوضوح التحركات الجهادية في المنطقة، إذ تلقت المصالح الصينية في باكستان ضربة بالفعل. ففي نيسان/ أبريل، انفجرت سيارة مفخخة في فندق فاخر يستضيف سفير بكين في مدينة كويتا الباكستانية، وهي ليست بعيدة من معاقل «طالبان» وجماعة خراسان في مناطق مختلفة في أفغانستان.

وراهناً، أسفر انفجار قنبلة في حافلة متجهة إلى سد ومشروع كهرومائي في داسو، بالقرب من الحدود الباكستانية مع الصين، عن مصرع 12 شخصاً، بينهم تسعة مواطنين صينيين. ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث. وباتت مشاريع بقيمة 60 مليار دولار في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان على المحك، وهي جزء أساسي من مبادرة «الحزام والطريق» الأوسع نطاقاً، والتي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ، إلى جانب مصالح التعدين الصينية الكبيرة داخل أفغانستان.

بعد عشرين عاماً من الحرب العالمية على الإرهاب، بدأت عملية صناعة الإرهاب وإنتاج الإرهابيين، وبعدما كان العدو الإرهابي يتمثل في تنظيم “القاعدة” التي كان عدد مقاتليها بالالاف، نشهد حتى الآن كيف أنه خلال العقدين الماضيين نمت الحركة الجهادية وتوسعت من مجموعة صغيرة في أفغانستان إلى شبكة عالمية واسعة ممتدة على نطاق العالم، تتمتع بقدرة جذب تنظيمية وايديولوجية وإعلامية. تراجعت الحركة لتعود أقوى مما كانت، ولهذا فهي لن تتوقف عن حمل السلاح ما دام خصومها خائفين، مرتبكين، والنتيجة المؤلمة أن كل طرف، أي هذه الجماعات والدول التي تحاربها، يلجأ إلى الإرهاب لمكافحة الإرهاب الذي يتعرض له. ويتجاهل الجميع الأسباب الفعلية التي تعيشها المجتمعات والدول في الشرق الأوسط الكبير التي أصبحت كلها فاشلة بسبب اللاعبين المحليين ومنظومات الفساد السياسي وضعف الحوكمة والكراهية والصراع المذهبي والاثني والديني والثقافة الدينية المستندة إلى الدوغما المتأصلة في الوعي الجماعي. هؤلاء اللاعبون يرتبطون بشبكات مافيا ومصالح في أحيان كثيرة، تكون لها امتدادات إقليمية ودولية ذات مشاريع متضادة تدفع أثمانها في النهاية بيئات هؤلاء اللاعبين المجتمعية. هكذا إذاً توسع التطرف الديني- الجهادي المسلح وانتشر بكثافة مكتسباً مصطلحاً جديداً هو الجهاد العالمي المسلح إلى درجة أنه أصبح بمثابة شركة معولمة تنتج علامات تجارية متعددة تتواءم مع كل دولة وبيئة وتستعين بوسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات المتطورة لسياسات “الماركتينغ” المعاصر.

درج

—————————–

انتصار طالبان إذ يلثم قروح “الهزائم السُنية”/ رستم محمود

فيما يُمكن تسميتها بمنطقة جنوب وشرق المتوسط، التي تضم تركيا إلى دول بلاد الشام والعراق، وبشكل استثنائي في دولة اليمن، كان الاحتفاء بما حققته حركة طالبان في أفغانستان خلال الأيام الماضية يمتاز بخاصيتين ذات دلالة: فمن جهة كان هذا الاحتفاء فائضاً، اندمجت فيه قوى سياسية وطبقات نخبوية وقواعد شعبية كثيفة، بكثير من التهليل والتبريك، فاق كل أشكال الاحتفال التي حدثت في البُلدان الأخرى من العالم الإسلامي، بما في ذلك أفغانستان نفسها!

الخاصية الثانية كانت تكمن في وضوح الشرخ الطائفي/المذهبي في هذا الاحتفاء، إذ ظهر جلياً كيف أنه بمعنى ما مُجرد “فرح سُني”، مقابل مزيج من الامتعاض والدهشة والاستنكار العمومي الذي أصاب أبناء الجماعات الدينية والمذهبية المُسلمة الأخرى.

المبتهجون في هذه المنطقة نفسها، كانوا قد راكموا طوال عقد كامل مضى حساً دفيناً بالاستهداف والهزائم السياسية والميدانية التي تعرضوا لها، كـ”طائفة سُنية”.

فمن لبنان إلى العراق، مروراً بسوريا واليمن والمناطق الفلسطينية، وإلى حد ما في مصر نفسها، كان ثمة نوع من الوعي الديني/الطائفي الذي يقول إن الطائفة السُنية مُستهدفة في هذه المناطق، ومحاولة مستديمة لتحطيمها سياسياً وعسكرياً، وإخراجها من الفاعلية والدور، وإلى حد بعيد تحطيم مناطقهم وتنفيذ سياسات من التغيير الديموغرافي بحقهم، كما كان يشعر ذلك النوع من الوعي.

هذا الوعي بالمظلومية السُنية تكثف خلال هذه المرحلة بشكل استثنائي لدى القوى السياسية والجماعات المسُلحة ذات النزعة الدينية في هذه البُلدان، وتسرب منها إلى نسبة عالية من القواعد الاجتماعية المؤيدة لها.

حيث أن هذه القوى السياسية الدينية وجماعاتها المُسلحة تحولت من مُجرد تنظيمات دينية إسلامية، في خطاباها وديناميكيات فعلها ووعيها لنفسها، تحولت إلى تنظيمات وجهات سُنية في تلك الخصائص، حيث صار “التسنن” يشكل جوهر عالمها الداخلي، والمؤشر الذي تتخذ حسبه سياساتها ومواقفها.

هذا التحول داخل هذه التنظيمات السياسية وقواعدها، من مؤسسات وأحزاب وجماعات دينية إسلامية إلى قوى ومؤسسات وأحزاب سُنية حصراً، بدأ بالتشكل منذ أوائل الثمانينيات، مع الحرب العراقية الإيرانية وأحداث حركة الإخوان المسلمين ضد النظام في سوريا وصعود القوى الشيعية اللبنانية في أوائل الثمانينيات، ولعقدين كاملين بعد ذلك، عاشت المنطقة توازناً مُرعباً بين هذه الجماعات السُنية ونظيراتها الأخرى.

لكن، ومنذ إسقاط النظام العراقي الأسبق عام 2003، ومع أحداث الربيع العربي والتمدد الإيراني إلى مختلف الدول ومساهمته في محاربة وهزيمة التنظيمات الإسلامية/السُنية عسكرياً، صارت هذه التنظيمات تستشعر بمُظلومية هائلة، وتخلق في سبيلها ولأجلها رافعتين ومقولتين جوهريتين في خطابها ووعيها لنفسها.

تقول الأولى إن أبناء الطائفة السُنية، وقواهم السياسية، مُستهدفون من قِبل الدول والسياسات الغربية في هذه المنطقة، بالذات من قِبل استراتيجية الولايات المُتحدة الأميركية في المنطقة، لأن أبناء السُنة هؤلاء وقواهم السياسية يشكلون جوهر وأصالة الهوية الدينية والثقافية المناهضة لذلك الغرب وتدخلاته في المنطقة، ولهم تاريخ مديد في الوقوف في وجه ذلك الغرب، ولأجل ذلك يمارس هذا الغرب نوعاً من الثأر التاريخي منهم.

أما الرافعة الثانية فكانت تقول إن أبناء المذاهب والطوائف المُسلمة من غير السُنة، الشيعة والعلويين والزيديين بالأساس، والإسماعيليين والدروز بدرجة أقل، أنما شركاء ومناصرون وحلفاء موضوعيين غير مُعلنين لذلك الغرب في معادته تلك. حيث كانت سردياتهم مُتخمة بعدد لا نهائي من الحكايات والمقولات التي تدل كيف أن تلك المعاداة الغربية موجودة منذ أمد بعيد، وكيف أن أبناء تلك الجماعات الدينية المسلمة غير السُنية مساهمة في ذلك. وطبعاً كانوا يضيفون النُخب العسكرية و”العلمانية” إلى ذلك التحالف المُعادي، حسب رأيهم.

المقولتان السُنيتان الراهنتان كانتا نسخة متحولة لما كان قد حملن عموم المسلمين تجاه الغرب وعلاقته بمسيحيي منطقتنا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لكن راهناً صار ضد التشكيلات المُسلمة “غير المركزية، بعد اضمحلال المسيحيين وصعود هؤلاء الأخيرين.

أحداث السنوات العشرة الماضية، في لبنان سوريا العراق واليمن، وإلى حد ما في مصر، حيث اعتبرت التشكيلات السياسية والعسكرية ذات السمات السُنية نفسها وقد تعرضت لـ”هزائم وانكسارات” ماحقة، واعتبرت إن تلك “الهزائم والانكسارات” أنما تأتت من ذلك التآمر الغربي وتحالفها الموضوعي مع الجماعات الإسلامية غير السُنية.

أوجد ذلك جروحاً غزيرة في الذات الجمعية للجماعات والقواعد الاجتماعية السُنية، مع استجرار للمرارة وشعوراً باستحالة الفكاك من تلك الهزائم المتتالية. خصوصاً أنها كانت تملك وعياً تاريخياً بالمركزية والسطوة التي تملكها الجماعات ذات الأغلبية العددية والغلبة الثقافية والروحية والسياسية.

أحداث أفغانستان قلبت الطاولة على كُل الجروح والمرارة والشعور بالحصار.

فالوعي السُني اعتبر ما جرى في أفغانستان دلالة على أن أضعف التشكيلات العسكرية/السياسية السُنية، وبالرغم من حرب مستعرة ضدها لعقدين كاملين، اشتركت فيها مُختلف القوى الدولية بالتحالف من أنظمة الحُكم العسكرية الإقليمية، وبالرغم من شراكة أبناء الجماعات الدينية الأفغانية غير السُنية في تلك الحرب، أنما لم تنجح في المُحصلة تحطيم الذات السياسية لهذه الجماعة السُنية، وتمكنت هذه الجماعة الهامشية من تحقيق “انتصار” بالضربة القاضية، وحققت نصراً عسكرياً وسياسياً ونفسياً استثنائياً لجماعة سُنية ما، يُمكن له أن يُعطي طاقة وأملاً لباقي الجماعات والتشكيلات السُنية في المنطقة، يقول إنه ثمة ما هو مُمكن غير هذه الوقائع الجاثمة.

ما حدث في أفغانستان يمنح هذه الجماعات الإسلامية/السُنية غبطة واحتفاء بالذات، ولأن تلك المشاعر تأتي بعد سنوات كثيرة من الشعور بالاستهداف والهزيمة، فأنها كانت مشاعر هيجانية وطافحة، ولأجل ذلك بالضبط، فأنها تغاضت عن بعض المُعطيات التي اعتبرتها مُجرد تفاصيل هامشية، مثل دور طالبان التاريخي والتقليدي في ربط الإسلام السُني بالتطرف والعنف والإرهاب، ومثل أن طالبان ستدفع ملايين الأفغان للفرار من بلادهم، وهؤلاء البؤساء أنما هُم أناس من أبناء الجماعة السُنية، وغيرها من الأفعال المتعلقة بتدمير بلد مثل أفغانستان وتحطيم مستقبل شُبانه ونسائه، واستقطاب التنظيمات المُتطرفة من جميع أنحاء العالم.

إنها غبطة الذات الجريحة، الصماء والعمياء، ولا تعرف من الكلام والتعابير إلا الزغاريد.

الحرة

—————————-

ثمن عدم الاعتراف بالخطيئة الأصلية/ هشام ملحم

معظم الجدل الحاد في الأوساط السياسية والإعلامية في واشنطن بشأن التطورات الأخيرة في أفغانستان، وخاصة عقب الهجوم الإرهابي الذي استهدف عملية إجلاء الرعايا الأميركيين والأجانب من مطار كابل، يتمحور حول الأخطاء والخطايا التي ارتكبت أولا خلال تنفيذ الانسحاب العسكري الأميركي، وثانيا بعد سقوط كابل في أيدي قوات طالبان، والهرولة الأميركية لتنظيم عملية الجلاء.

التركيز على أسلوب الانسحاب وإجراءات الجلاء والهفوات اللوجستية سمح لكل من له رأي في واشنطن، وما أكثرهم، ويقدر على الوصول إلى استوديو تلفزيوني لأن يصدر الأحكام القاطعة، والتحدث أحيانا بذلك النوع من الثقة المطلقة التي ترقى إلى مستوى إصدار الفتاوى السياسية، والادعاء أن له الحق بقول الكلمة الفصل في الموضوع.

خلال هذا الطقس الغريب، الذي يسمى بالإنجليزية cognitive dissonance التنافر المعرفي، وتكثر فيه المواقف المتناقضة خاصة حول كيفية تنفيذ الانسحاب وخطايا تنفيذ عملية الجلاء، ضاعت الخطيئة الأصلية، أي قرار احتلال أفغانستان لعشرين سنة خلال ولايات 3 رؤساء أميركيين، وكبار مستشاريهم السياسيين والعسكريين.

السبب الأساسي والمباشر لغزو أفغانستان في أكتوبر 2001، بعد أسابيع قليلة من هجمات سبتمبر الإرهابية كان معاقبة تنظيم “القاعدة”، ونظام طالبان الذي وفّر له الملجأ، كما أوضح آنذاك الرئيس جورج بوش الابن. وهذا ما يفسر التأييد الشامل لغزو افغانستان في أوساط الرأي العام والأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية في البلاد.

ولكن هذا الهدف المباشر والأولي، الذي يستطيع كل أميركي أن يستوعبه ويتفهمه، سرعان ما استبدل بقرار أخطر، يعكس طموحا سرياليا وخياليا للرئيس بوش وبعض مساعديه، أي محاولة بناء دولة حديثة من الصفر.

هذه هي الخطيئة الأصلية التي أوصلتنا إلى الانهيار المخزي لهذا الصرح الهش في أفغانستان، حين ذاب الجيش الأفغاني مثل مكعبات الجليد تحت شمس أغسطس الحارة، وما لحقه من “مؤسسات” الدولة الأفغانية المبنية على الرمال، وما نتج عنه من سفك دماء مئات الأفغان المدنيين، والعسكريين الأميركيين يوم الخميس الماضي.

ما لا يمكن استيعابه فكريا أو سياسيا أن غطرسة القوة التي انطلق منها صنّاع القرار الأميركيون منذ وصول القوات الأميركية إلى أفغانستان، هو إخفاقهم الكارثي في تعلّم أي درس من دروس هزيمة الغطرسة الإمبريالية للإمبراطورية البريطانية في أفغانستان في القرن التاسع عشر، أو – وهذا هو الدرس الأهم – هزيمة الغطرسة الإمبريالية السوفياتية في جبال أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.

بعض اللاعبين وصنّاع القرار الحاليين، من أميركيين وأفغان، كانوا آنذاك في السلطة، في الكونغرس الأميركي على سبيل المثال، أو شاركوا عسكريا في هزيمة الاحتلال السوفياتي، وسارعوا في التعجيل بتفكيكه.

هناك انتقادات شرعية وعقلانية للطريقة السريعة التي نفذت بها إدارة الرئيس بايدن الانسحاب العسكري، وكيفية تنظيم عملية الجلاء، ولكن الادعاء بأن المشكلة الأساسية هي كيفية تنفيذ الانسحاب أو طبيعة عملية الجلاء، وتجاهل أو تناسي حقيقة أن جوهر الكارثة في أفغانستان هو تركة احتلال طويل استمر لعشرين سنة، يمثل تقصيرا خطيرا في تحكيم العقل، وتقصيرا عميقا في تحليل الواقع الأفغاني على مدى عقدين من الزمن.

كما يمثل أيضا إخفاق المخيلة في تحليل الفارق الضخم بين الطموحات الأميركية الخيالية في أفغانستان والقدرات المادية والمعرفية التي جلبتها أميركا معها إلى تلك الأرض القاحلة، العصية تاريخيا على طموحات القوى الخارجية التي غزت أرضا عصية حتى على البحار، لتعيد صياغتها وفقا لرؤاها الغريبة.

ما نراه اليوم من جدل بشأن أفغانستان هو صدى للجدل الحاد الذي شهدته الأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية عقب غزو العراق، عندما قررت إدارة الرئيس بوش الابن، بعدما تبين أن حجتها الأساسية لغزو العراق – التخلص من أسلحة الدمار الشامل، كانت باطلة ولا أساس لها من الصحة، أن تبقي على قواتها في العراق.

آنذاك قررت إدارة بوش البحث عن الديمقراطيين العراقيين، القليلين جدا، لوضع الأسس لدولة حديثة بدستور جديد يضمن تمثيل مختلف مكونات المجتمع وبرلمان ينتخب بنزاهة وحياة سياسية مفتوحة ومتسامحة.

وعندما بدا واضحا أن هذه الطموحات غير واقعية، أو ستكون مكلفة وتتطلب احتلالا طويلا، لن يكون مقبولا أو مرحبا به مثل الاحتلال الأميركي لليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية،  بدأت الانتقادات من مختلف الأطراف في الولايات المتحدة تركز على الأخطاء والهفوات التي ارتكبتها إدارة بوش خلال الأشهر الأولى التي أعقبت الغزو، مثل تسريح الجيش العراقي، واستئصال حزب البعث من مؤسسات الدولة، وعدم توقع انهيار الوضع الأمني فور سقوط بغداد وضبط عمليات النهب، والاستثمار سياسيا بشخصيات عراقية معارضة ذات تاريخ مشبوه مثل أحمد الجلبي وغيره.

هذه الانتقادات تجاهلت أيضا أن فكرة غزو دولة متوسطة الحجم، غزت جارين لها خلال عقد من الزمن، وتعيش في حالة توتر شديد مع بعض جيرانها واضطرابات سياسية ونزاعات إثنية ومذهبية داخلية منذ 1980، ويحكمها أكثر نظام قمعي في تاريخ العراق الحديث، هو ضرب من الغطرسة المجنونة.

خلال الجدل الراهن سمعنا من دبلوماسيين متقاعدين خدموا في أفغانستان، والعراق، انتقدوا الرئيس بايدن بحدة، وطالبوا ببقاء عدد محدود من العسكريين الأميركيين إلى أجل مفتوح، كأنهم سيكونون قادرين على إنقاذ البلاد من براثن طالبان، أو سيعيشون في مناخ آمن وفي مجتمع صديق.

التجارب العسكرية المؤلمة التي مرت بها الولايات المتحدة، منذ هزيمتها في حرب فيتنام، كانت بمعظمها في المنطقة الممتدة من أفغانستان في الشرق، حتى ليبيا في الغرب.

وهذه تشمل حربي أفغانستان والعراق (الأكثر كلفة بشريا وماليا منذ فيتنام)، والتدخل العسكري في ليبيا لإسقاط نظام معمر القذافي خلال العقدين الماضيين، والتورط العسكري في لبنان والصومال في النصف الثاني من القرن الماضي.

هذه الحروب والتدخلات العسكرية جرت في دول اعتقد المخططون الأميركيون أنهم يعرفوها، وأقنعوا أنفسهم بأن أهدافهم – الأولية على الاقل – قابلة للتحقيق.

في لبنان والصومال انسحبت القوات الأميركية بعد نكسات وهجمات إرهابية مكلفة ومحرجة.

في ليبيا، بقي التدخل العسكري محصورا بالغارات الجوية ولم يؤد إلى تورط برّي. ولكن ما جرى في حربي أفغانستان والعراق، أن الطبقة السياسية/العسكرية رفضت الاعتراف على مدى 20 سنة بالخطيئة الأصلية والتوبة السريعة، وقررت في حالات عديدة إخفاء الحقائق عن الشعب الأميركي، كما يتبين من كتابة تاريخ الحربين من قبل المحللين العسكريين في وزارة الدفاع الأميركية، والتمسك بمسلمات بالية حول هذه المجتمعات وقدرة واشنطن على تغييرها.

لا أحد يستطيع أن يقول بأي نوع من الثقة، في هذا الوقت المبكر الذي لا تزال فيه التطورات على الأرض في أفغانستان تتلاحق بسرعة، كيف ستؤثر تطورات الأسابيع الأخيرة على مكانة وسمعة إدارة الرئيس بايدن وقدرتها على مواصلة تنفيذ سياساتها الداخلية، من مواصلة مكافحة فيروس كورونا إلى الاستثمار الكبير في إعادة بناء البنية التحتية ومواصلة إنعاش الاقتصاد الأميركي، وما إذا كانت هذه التطورات ستؤثر سلبا على بايدن وحزبه الديمقراطي في الانتخابات النصفية في خريف 2022، أو حتى في انتخابات الرئاسة في 2024.

هناك رأي يقول إن بايدن تعثر في أفغانستان ولكنه لم يكب، وإذا نجح في مكافحة فيروس كورونا ونجح في تمرير خطته لإعادة بناء البنية التحتية، فإنه سينجح في تخطي الهفوات التي أحاطت بالانسحاب من أفغانستان، لان أغلبية الشعب الأميركي أيدت فكرة الانسحاب من أفغانستان، وإنهاء أطول حرب في تاريخ البلاد.

هذا الرأي يقول أيضا إن التاريخ سوف ينصف بايدن، لأنه تحلى بالشجاعة وقرر إنهاء حرب عبثية حاول سلفاه أوباما وترامب إنهاءها، لكنهما لم يتحليا بالجرأة الكافية على اتخاذ القرار الحاسم.

الحرة

————————-

خراسان…الجهاد الآسيوي إلى الواجهة/ مصطفى فحص

في نهاية تسعينيات القرن الماضي تكودرت الحركات الجهادية المسلحة في جمهوريات آسيا الوسطى، وكان وادي فرغانة قاعدة إعدادها وانطلاقها

كان ما سوف يكون، ومن تفاجأ بسرعة الاعتداء الإرهابي على مطار كابل خانته الذاكرة وأخطأ في تقديرالموقف، ومن ظنوا أنه سيتأخر في الإعلان السريع عن عودته، أخطأوا أيضا في قراءة الجغرافيا أولا، بالرغم من أنها ثابتة وواضحة ومتصلة من وادي فرغانة إلى كابل ومتصلة بحدود تصل إلى قرابة 2200 كلم بين أفغانستان وثلاثة من جمهوريات في آسيا الوسطى (قرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان) التي تتشارك حدوديا في وادي فرغانة الشهير، الذي حاول الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين ضرب تجانسه الإثني ضمن سياسات ضرب القوميات في الفضاء الإسلامي جنوب روسيا.

ما كان ليس إلا إعلانا  أن ضوابط الإمارة الجديدة ليست بيد من أوكلت إليهم، وبأنهم ليسوا متماسكين ولا ممسوكين، وما تناقضاتهم إلا مساحات عقائدية وجغرافية وسياسية ومخابراتية ستستخدمها جهات إقليمية ودولية في لعبة أشبه باللعبة الكبرى على حدود الصين وروسيا وإيران وباكستان، حيث تتناقض التحالفات وتُعقد المصالح، فلا الموانع الأيدولوجية ولا المواقف السياسية ستمنع تغيير التحالفات وتبادل الخدمات.

في نهاية تسعينيات القرن الماضي تكودرت الحركات الجهادية المسلحة في جمهوريات آسيا الوسطى، وكان وادي فرغانة قاعدة إعدادها وانطلاقها، مستفيدة من البيئات الحليفة في أفغانستان وباكستان، التي شكلت لها محطة أساسية في حركتها من جمهوريات آسيا الوسطى وصولا إلى مناطق شمال القوقاز الروسية، فمرونة الحركة التي تمتعت بها هذه الحركات الجهادية الراديكالية الآسيوية مكنتها من القيام بنشاطات أمنية وعسكرية ضد حكومات آسيا الوسطى، واستهداف مصالح حيوية روسية وغربية، ما دفع إلى مواجهة شرسة معها وتعرضها لعملية تفكيك وحصار أدت إلى تراجعها وغيابها عن المشهد، خصوصا بعد احتلال أفغانستان والتدخل الأميركي المباشر في آسيا الوسطى.

بعد سنوات من العمل السري وإعادة التجميع، عادت جماعة خراسان لتبرز من جديد في سوريا في ظل تنظيم داعش، وتعرضت لهجمات أميركية عدة كان أبرزها سنة 2015 حيث قتل في الغارة قادة من الصف الأول في جناحها العسكري، وقد عُرفت هذه الجماعة بشراستها وممارستها عنفا قد يفوق ما شهده العالم على يد تنظيم داعش.

الأزمة المقبلة التي ستظهر مع هذا التنظيم هي المقاربات العقائدية والسياسية لقادته المتأثرين جدا بطبيعة مناطقهم التي أتوا منها، وهذا ما سيفتح العالم على نمط جهادي جديد سيُعرف بالجهاد الآسيوي، الذي سيعمل ضمن معادلة تجمع ما بين الحركة التكتيكة لتنظيم القاعدة التي كانت أشبه بحركة ثورية جهادية عالمية متنقلة، وبين البحث عن حاضنة عقائدية كدولة داعش، وهذا سيكون متوفرا ما بين باكستان وأفغانستان حتى لو عارضت حركة طالبان ذلك .

الجهاد الآسيوي الراديكالي الذي قدم نفسه باسم داعش خراسان أعلن قراره السريع ملء الفراغ الجهادي الذي قد تتركه حركة طالبان في هذه الفترة نتيجة التعهدات الدولية بعد تسلمها الحكم، وهو أصر أن يظهر بهذا المظهر العنفي وتجاوز التزامات طالبان حتى يحرر نفسه من تعهداتها ويستفيد من صراع تياراتها خصوصا تلك التي ترفض الارتباط بفكرة الإمارة وتنحو نحو العمل الحركي غير المرتبط بجغرافيا محددة.

من هنا يبدو أن صراع الخيارات داخل طالبان، إضافة إلى خراسان بشقيها القاعدي والداعشي يعزز الاعتقاد أن تسمية التنظيم أو “التنظيمين” ستعطيه مساحة جغرافية واسعة للعمل، مسندة إلى ظهير ثابت في إمارة طالبان، لكنه سيستفيد من تجربة ما كان يسمى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في اختراق الحدود والعمل المفتوح في مساحة التسمية حيث الأرض الخصبة والمؤهلة، نتيجة فشل تجربة الحكم الوطني تحت شعار علمانية الدولة أو “أنظمة الحكم غير المعرَّفة” التي أظهرت اهتمامها بالهوية الإسلامية لشعوب آسيا الوسطى لكنها فشلت في بناء مجتمعات وطنية بسبب الفساد والاستبداد في واحدة من أسوأ التجارب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

وبناء عليه، سيؤرق تنظيم خراسان جمهوريات آسيا الوسطى ومصالح الدول الكبرى خصوصا الصين وروسيا، وستتحول إلى جاذب جديد للجهاديين الذين ينتظرون فرصة لإعادة التجمع في بيئة آمنة والانتقام من دول شاركت في تعقبهم وقمعهم، لذلك فإن ممرات طريق الحرير وطرقها وخطوط الطاقة والنقل وسكك الحديد والتبادل التجاري من الصين وإليها عبر آسيا الوسطى وروسيا وباكستان وإيران وتحديدا مساحة ما كان يعرف تاريخيا بخراسان الكبرى التي تضم أجزاء من إيران وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان ستتحول إلى بؤر نزاع متنقل وعدم استقرار تستنزف كل جهة أو دولة دفعت واشنطن إلى ارتكاب جريمة  الانسحاب من أفغانستان.

———————————–

إيران وعودة طالبان: كيف تقرأ طهران الفرص والتحديات؟/ محمد خواجوئي

تناقش هذه الورقة القراءة الإيرانية لمجموعة من المتغيرات التي فرضتها الحالة الأفغانية وعودة حركة طالبان وتحاول الإجابة على مجموعة من الأسئلة التي تفرضها، وأهمها: ما التطورات التي شهدتها العلاقات بين إيران وحركة طالبان؟ وما الفرص والتحديات التي يضعها تسلُّم طالبان السلطة مجددًا، أمام إيران؟

جعل سقوط حكومة محمد أشرف غني في أفغانستان، يوم الأحد 15 أغسطس/آب 2021، على إثر الزحف الخاطف لقوات حركة طالبان ودخولها إلى كابل، الدول الجارة لأفغانستان بما فيها إيران، تواجه متغيرات جيوسياسية جديدة.

إن إيران التي كانت تعتبر نظام حكم طالبان تهديدًا لها، عام 2001، وواكبت “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، للإطاحة به، أعربت الآن، وفي عام 2021، عن ارتياحها لانسحاب القوات العسكرية الأميركية، وانتهجت بشكل متزايد سياسة التواصل مع طالبان خلال السنوات الأخيرة، في خطوة تهدف للحفاظ على تأثيرها في أفغانستان في الظروف الجديدة ولتضمن أن تأتي نتائج التطورات في أفغانستان بأقل الأثمان بالنسبة لطهران.

تسعى هذه الورقة إلى مناقشة هذه المتغيرات، وتحاول الإجابة على مجموعة من الأسئلة التي تفرضها، وأهمها:

    ما الأسس التي بُنيت عليها العلاقات بين إيران وأفغانستان؟

    ما التطورات التي شهدتها العلاقات بين إيران وحركة طالبان؟

    ما المبادئ التي ارتكزت عليها مواقف إيران من سقوط حكومة أشرف غني وعودة طالبان مجددًا للسلطة؟

    ما الفرص والتحديات التي يضعها تسلم طالبان السلطة مجددًا أمام إيران؟

العلاقات بين إيران وأفغانستان: مزيج من التقارب والتباعد

تشترك إيران، الجارة الغربية لأفغانستان معها بحدود يصل طولها إلى 936 كيلومترًا. وفضلًا عن القرب الجغرافي الذي يجعل الحالة الأمنية لكلا البلدين متقاطعة معًا، فالروابط الاقتصادية والقواسم التاريخية والثقافية واللغوية المشتركة، جعلت الطرفين، يتأثر أحدهما بالآخر.

وشهدت العلاقات بين إيران وافغانستان، على مدى العقدين الأخيرين، وبعد سقوط نظام حكم طالبان، عام 2001، مزيجًا من التقارب والتباعد. وبشكل عام، يمكن تصنيف القضايا الرئيسية في العلاقات بين البلدين حسب الحالات التالية:

1-الوجود العسكري الأميركي: على الرغم من أن إيران واكبت عملية الإطاحة بنظام حكم طالبان عام 2001 على يد أميركا، إلا أنها اعتبرت استمرار الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان شأنه شأن العراق، يشكِّل تهديدًا لها، وقد ألقت هذه القضية بظلالها على الدوام، على العلاقات بين إيران وأفغانستان على مدى العقدين الأخيرين.

2- طالبان: شكَّل نوع العلاقة بين إيران وحركة طالبان، على الدوام، إحدى القضايا الرئيسية للعلاقات بين طهران وكابل. وقوبل تنامي الاتصال والعلاقات بين إيران وطالبان خلال السنوات الأخيرة، بعض الأحيان، باحتجاج من حكومة أفغانستان، واتُّهمت إيران في بعض الحالات، بدعم هذه الحركة تسليحيًّا. بينما تعتبر إيران تواصلها مع طالبان، يصب في خانة دعم ورفد السلام والاستقرار في أفغانستان.

3- القاعدة و”تنظيم الدولة”: إن إحدى القضايا التي أثَّرت دائمًا على العلاقات بين إيران وأفغانستان، هي تحركات المجموعات الأصولية الإسلامية الدولية وعلى رأسها “القاعدة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) في أفغانستان. وكانت إيران تتوجس من أن تنفذ هذه المجموعات، عمليات تمس الأمن الإيراني. وإن قيل: إن إيران حاولت في فترات زمنية بعينها، ومن خلال التواصل مع القاعدة وحتى استقبال بعض قادتها على أراضيها، التحكم بها من أجل درء وصد خطرها عن إيران، كما سعت على الجانب الآخر للتواصل مع طالبان في خطوة لاحتواء “تنظيم الدولة” وتحييد خطره.

4- الاقتصاد: شكَّل أحد المجالات للتقارب والتعاون بين طهران وكابل. وقد قدمت المؤسسات المختلفة للبلدين، أرقامًا وإحصاءات متفاوتة عن قيمة الصادرات الإيرانية إلى أفغانستان، بيد أن المخرج المشترك لجميع هذه الأرقام، هو أن إيران تحتل موقع الصدارة في تصدير السلع إلى أفغانستان. وقالت دائرة الإحصاء في أفغانستان، في فبراير/شباط 2020: إن إيران، هي الدولة الأولى في تصدير السلع إلى أفغانستان في ضوء صادرات بلغت قيمتها مليارًا و247 مليون دولار(1). كما أعلنت إيران، في مارس/آذار 2021، أن ما نسبته 6.7 بالمئة من مجمل الصادرات غير النفطية الإيرانية، ذهب إلى أفغانستان(2).

5- اللاجئون الأفغان: تفيد التقديرات أن حوالي مليوني ونصف المليون لاجئ ومهاجر أفغاني ممن سُجِّلوا أو لم يُسجلوا في السجلات الرسمية والدوائر ذات الصلة، يقيمون في إيران(3). وفيما تقول إيران، إن استضافتها لهؤلاء اللاجئين، هو عمل إنساني، عبَّرت السلطات الأفغانية في بعض الفترات عن قلقها من طريقة التعامل مع اللاجئين الأفغان في إيران، وأثارت هذه القضية، دائمًا جدلًا في العلاقات بين البلدين(4). 

6- السياسة المائية (هيدروبوليتيك): لقد شكَّلت القضايا المتعلقة بالمياه، إحدى المسائل المثيرة للجدل والمُسبِّبة للتباعد في العلاقات بين إيران وأفغانستان. وثمة نهران مشتركان بين البلدين، هما: “هيرمند” و”هريرود” ينبعان من أفغانستان. وكانت إيران تحتج دائمًا على أفغانستان لكونها لا تسمح بالحصص المائية بالتدفق على إيران؛ الأمر الذي تسبَّب بشحِّ المياه والجفاف في المناطق الشرقية لإيران(5).

7- المخدرات: تتصدر أفغانستان قائمة الدول المنتِجة للمخدرات في العالم(6). والكثير من هذه المخدرات، يُهرَّب عبر الحدود الإيرانية إلى أوروبا، في حين أن إيران تدفع أثمانًا مالية وإنسانية باهظة في مكافحة تهريب المخدرات، وهذا الأمر تحول إلى تحدٍّ يلقي بظلاله على العلاقات بين إيران وأفغانستان(7).

العلاقة بين إيران وطالبان: من المواجهة إلى التعامل

مرَّت العلاقة بين مسؤولي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وطالبان، خلال العقدين المنصرمين بتقلبات وصعود وهبوط واسعيْن؛ من الحقبة التي قُتل فيها موظفو القنصلية الإيرانية في مزار شريف على يد طالبان والاقتراب من حافة الانزلاق في مواجهة عسكرية، وصولًا إلى الأشهر والسنوات الأخيرة حيث سافر قادة طالبان إلى إيران بشكل سري وحتى علني أحيانًا، واعتبرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذه الحركة جزءًا من الواقع السياسي الأفغاني.

وفي أغسطس/آب 1998، دخلت قوات طالبان إلى مدينة مزار شريف وقُتل على إثر ذلك 10 دبلوماسيين إيرانيين ومراسل إيراني واحد. وحمَّلت إيران طالبان مسؤولية مقتل هؤلاء الأشخاص، رغم أن طالبان نفت في السنوات اللاحقة، أن يكون لها ضلع في هذا الحادث(8).

وفي أعقاب مقتل الدبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف، وُضعت القوات الإيرانية، في حالة تأهب لمهاجمة أفغانستان وخوض حرب من العيار الثقيل، لكن هذه الحرب لم تندلع البتة بفضل الأمر الذي أصدره القائد الأعلى، آية الله علي الخامنئي(9).

وبعد انطلاق هجوم قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا على طالبان، عام 2001، انخرطت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا التحالف بصورة غير علنية وغير مباشرة، وواكبت العملية في سبيل الإطاحة بنظام حكم طالبان.

وأیدت إيران مؤتمر بون، في ديسمبر/كانون الأول 2001، لتجاري عملية بناء الدولة الأفغانية بعد الإطاحة بنظام حكم طالبان، وسعت بعد ذلك أيضًا لتمتين العلاقات مع الحكومة الأفغانية وكذلك رفع مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن القلق من تنامي قوة الولايات المتحدة داخل الجارة الشرقية، دفع بإيران للتواصل مع مجموعة طالبان التي كانت تعد أهم قوة مناهضة لأميركا في أفغانستان. وتفيد بعض التقارير بأن بعض قادة ومقاتلي طالبان ممن لم يتسنَّ لهم الهروب إلى باكستان، فرُّوا إلى إيران منذ الأيام الأولى لسقوط طالبان.

وأشارت بعض الوثائق السرية للجيش الأميركي والتي نشرتها “ويكيليكس” على موقعها، عام 2010، حول الحرب في أفغانستان، إلى دور طهران في “تقديم الدعم السري المالي والتسليحي والتدريبي وإيواء متمردي طالبان في أراضيها” بهدف “محاربة قوات التحالف في أفغانستان”(10).

وفي مؤتمر “الصحوة الإسلامية” الذي عُقد في طهران، في سبتمبر/أيلول عام 2011، إبَّان الثورات العربية، شارك وفد من طالبان برئاسة طيب آغا إلى جانب الوفد الأفغاني الذي ترأَّسه برهان الدين رباني، رئيس المجلس الأعلى للسلام آنذاك(11).

وضمَّ وفد طالبان آنذاك في عضويته كلًّا من مولوي حمد الله نعماني ومولوي نوك محمد ومولوي شمس الدين؛ إذ كان مقررًا أن يلقي مولوي نوك محمد، كلمة. بيد أن برهان الدين رباني الذي دُعي لإلقاء كلمة أيضًا، أبلغ القائمين على المؤتمر أن هذا الإجراء يعني اعتراف إيران، رسميًّا، بطالبان بوصفها قوة موازية في أفغانستان؛ ما يلقي بظلاله على العلاقات بين البلدين. وأخذ القائمون على المؤتمر بهذه التوصية، فيما غادر ممثل طالبان المؤتمر(12).

وبعد عامين، أي في يونيو/حزيران 2013، دُعي وفد مكون من ثلاثة أشخاص من المكتب السياسي لطالبان في قطر برئاسة طيب آغا إلى طهران، ضمَّ فيمن ضم كلًّا من شير محمد عباس استانكزي ومولوي شهاب الدين دلاور. والسبب الرئيسي لدعوة طالبان في تلك الفترة، يعود إلى تصاعد القلق بشأن مستقبل أفغانستان مع اقتراب عام 2014، لاسيما لدى دول الجوار الأفغاني وبلدان المنطقة(13).

لكن في مايو/أيار 2015، بثت وكالات الأنباء الإيرانية نبأ مفاده أن وفدًا مؤلَّفًا من ممثلي المكتب السياسي لطالبان برئاسة طيب آغا، قد سافر إلى طهران. وجرت هذه الزيارة بالتزامن مع تزايد الآمال حول مفاوضات طالبان مع الحكومة الأفغانية.  

ويُقال: إن طيب آغا، كان المساعد الإعلامي لـ”الملا عمر” زعيم طالبان ومترجمه آنذاك، وكان واحدًا من عدد محدود ممن يتواصلون مباشرة مع الملا عمر. وتولَّى طيب آغا، رئاسة اللجنة السياسية لطالبان، والتي كان من واجبها تحديد الأهداف السياسية لطالبان وتوسيع ارتباطها مع الدول الأجنبية.

والتقى ممثلو طالبان، في اليوم الأول من زيارتهم لطهران، المسؤولين الأمنيين بالجمهورية الإسلامية الإيرانية لتبادل وجهات النظر حول القضايا الإقليمية. لكن لم يُنشر مزيد من التفاصيل عن هذه اللقاءات(14).

وفي أعقاب ظهور تنظيم الدولة في أفغانستان، عام 2015، زادت إيران من تعاونها مع طالبان بهدف حماية حدودها. إن هذا التعاون الخفي، أسهم بحدِّ ذاته في توطيد العلاقات الدبلوماسية أيضًا.

واتضحت ملامح العلاقة بين طالبان وإيران، عندما قُتل “الملا أختر منصور” زعيم طالبان آنذاك، في مايو/أيار 2016، في هجوم شنَّته مسيَّرات أميركية وهو في طريق عودته من إيران إلى باكستان(15).

وفي ذروة النقاشات التي دارت حول زيادة الارتباط بين إيران وطالبان، نقلت وسائل إعلام أفغانية، في يوليو/تموز 2016، عن ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي باسم طالبان، قوله: “على الرغم من أن طالبان لا تملك ممثلًا لها لدى طهران، لكنها تعمل على تنظيم علاقاتها الجديدة مع إيران”. كما قال المتحدث باسم طالبان، في أواخر أكتوبر/تشرين الأول، لصحيفة “الشرق الأوسط”: إن مجموعته قد أقامت مع إيران “علاقات وشبكات جديدة”، بيد أن تصريحاته هذه نُفيت على الفور، من قبل المتحدث باسم الخارجية الإيرانية(16).

ومع ذلك، أكد السفير الإيراني لدى أفغانستان، محمد رضا بهرامي، في ديسمبر/كانون الأول 2016، وجود اتصالات بين طهران وطالبان، وقال: “إننا نتواصل مع طالبان، لكن ليست هناك علاقات. إن تواصلنا مع طالبان، يجري بهدف المراقبة والإشراف الاستخباراتي”(17).

وفضلًا عن هذه الاتصالات، نُشرت في تلك السنوات، تقارير تحدثت عن تقديم إيران الدعم التسليحي لمجموعة طالبان. وقال الجنرال شريف يفتلي، رئيس أركان الجيش الأفغاني، في سبتمبر/أيلول 2017، إنه يملك وثائق تشير إلى أن إيران وضعت أسلحة ومعدات عسكرية بتصرف مجموعة طالبان، غربي أفغانستان(18). وكانت هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها أرفع مسؤول بالجيش الأفغاني عن “وثائق” تُظهر دعم إيران لمجموعة طالبان، عسكريًّا وتسليحيًّا بغرب أفغانستان. 

كما قال محمد معصوم ستانكزي، رئيس الأمن الوطني الأفغاني، في فبراير/شباط 2018: إن إيران وروسيا أقامتا علاقات مع طالبان وتدعمانها، بذريعة أن هذه المجموعة تحارب تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)(19). وردًّا على تصريحات رئيس الأمن الوطني الأفغاني حول علاقات إيران مع مجموعة طالبان، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية: إن إيران لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وإن بث تصريحات “متناقضة” من قبل القطاعات الأمنية الأفغانية، نابع من بعض القضايا الداخلية لأفغانستان(20). وبعد شهر، زعم جان بيس، السفير الأميركي لدى كابل، أن إيران تقدم عن طريق الحرس الثوري، دعمًا لوجستيًّا، لطالبان في أفغانستان(21).

حصل هذا بينما أعلنت إيران مرارًا وتكرارًا أن تواصلها مع طالبان، يجري بعلم من الحكومة الأفغانية، كما نفت تقديمها الدعم العسكري لهذه الحركة. وقال علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، خلال زيارته لكابل، في ديسمبر/كانون الأول 2018، ولقائه حمد الله محب، مستشار الأمن القومي الأفغاني: إن الحكومة الأفغانية على علم بمجمل اتصالات ومحادثات إيران مع طالبان، وهذا المسار سيستمر(22).

إلا أن العلاقات بين إيران وطالبان، بدأت تطفو على السطح اعتبارًا من عام 2019. ففي يناير/كانون الثاني لهذا العام، تحدث بهرام قاسمي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عن زيارة قام بها وفد من طالبان إلى طهران وإجرائه محادثات مع عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون السياسية.

وقال: إن الهدف الرئيسي من هذه المحادثات هو “التوصل إلى آلية لرفد الحوار بين المجموعات الأفغانية وحكومة هذا البلد بهدف المضي قدمًا بعملية السلام”.

وأضاف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية: إن إيران بوصفها الجارة و”البلد المهم الذي يضطلع بدور في المنطقة، كانت لديها الرغبة بعد المحادثات مع حكومة كابل، في أن تضطلع بدور في إحلال الاستقرار في أفغانستان، وهذا لا يعني تشابه وتوحد المواقف والتوجهات مع هذه المجموعة”(23).

أما طالبان، فقد أكدت زيارة وفد لها إلى طهران، وقالت: إن الهدف من زيارة وفدها الموفد إلى الدول الجارة لأفغانستان والمنطقة بما فيها إيران، يتمثل في كسب “الدعم السياسي والأخلاقي للدول، وكذلك تعاونها من أجل وضع نهاية للاحتلال واستتباب السلام والأمن في أفغانستان”(24).

وفي ذلك الحين، أعلن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مقابلة مع قناة تليفزيونية هندية، أنه من غير الممكن ألا تضطلع طالبان بأي دور في الحكومة المستقبلية في أفغانستان. لكنه استدرك إن هذا الدور لا يجب أن يكون السائد والمسيطر. كما أكد وزير الخارجية الإيراني إن بلاده ومن أجل صون أمنها أقامت “ارتباطا استخباراتيا وغير رسمي ومحدود” مع حركة طالبان(25).

وبعد نحو تسعة أشهر، أي في سبتمبر/أيلول 2019، زار وفد من طالبان مؤلَّف من أربعة أشخاص، برئاسة عبد السلام حنفي، من أعضاء المكتب السياسي لطالبان في قطر، طهران والتقى حسب المتحدث باسم الحركة، وزير الخارجية وسائر كبار المسؤولين الإيرانيين.

ودار الحوار بين أعضاء المكتب السياسي لطالبان ومسؤولي الجمهورية الإسلامية الإيرانية حول موضوعات بما فيها المحادثات بين الأطراف الافغانية وتوقف محادثات السلام بين طالبان وأميركا.

وأكد سهيل شاهين المتحدث باسم مكتب طالبان في الدوحة هذه الزيارة، وقال: إن عملية السلام في أفغانستان والتطورات الأخيرة وتقدم وحماية المشروعات الاقتصادية الإيرانية في أفغانستان والآليات الكفيلة بإحلال السلام المستديم، كانت من الموضوعات التي نوقشت مع المسؤولين الإيرانيين(26).

أما صديق صديقي، المتحدث باسم الرئاسة الأفغانية، فقد غرَّد على موقعه على “تويتر” بعد زيارة وفد طالبان إلى طهران في انتقاد سافر لكن من دون الإتيان على ذكر إيران، يقول: “إن طالبان تمثل خطرًا جادًّا على أمن المنطقة والعالم. إن استضافة هذه المجموعة، يخالف جميع المبادئ والعلاقات بين الدول، لاسيما بالنسبة للحكومة الأفغانية التي تدعو دائمًا إلى علاقات طيبة مع دول الجوار”(27).

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، استقبل محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني في طهران، الملا برادر ، رئيس المكتب السياسي للحركة. وذكرت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية أن هذا اللقاء تناول قضايا مثل: “تشجيع الأطراف الأفغانية على الحوار فيما بينها، وتشجيع التوصل إلى مقاربة للقضايا عن طريق الحوار ودعم جميع القوى الأفغانية للتوصل إلى قاسم مشترك للتعاون في طرد القوات الأجنبية وإقرار الأمن في أفغانستان في فترة ما بعد انسحاب القوات الأجنبية منها”(28).

وفي يناير/كانون الثاني 2020، أصدرت طالبان بيانًا وصفت فيه “مقتل قاسم سليماني” قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، على يد الأميركيين بـ”المغامرة الكبرى”، وحذَّرت من مغبة ذلك. وأظهر هذا الموقف، تقاربًا في المواقف الإقليمية لإيران وأفغانستان والنفوذ الهائل لفيلق القدس في أفغانستان(29).

وبعد سنة، أي في يناير/كانون الثاني 2021، بلغت العلاقات بين المكتب السياسي لطالبان ووزارة الخارجية الإيرانية، أَوْجَهَا؛ إذ قام الملا عبد الغني برادر، رئيس المكتب السياسي لطالبان في الدوحة آنذاك، بزيارة إلى طهران بدعوة من وزارة الخارجية الإيرانية والتقى خلالها محمد جواد ظريف وكذلك ممثل إيران الخاص لشؤون أفغانستان، وأجرى محادثات بخصوص عملية السلام في أفغانستان. اللقاء الذي أثار حفيظة الحكومة الأفغانية تجاه إيران.

كان الموضوع الوحيد الذي لقي صدى في وسائل الإعلام الإيرانية حول زيارة وفد طالبان السياسي إلى إيران، هو توجهاتهم المشتركة تجاه وجود القوات العسكرية الأجنبية على الأراضي الأفغانية.

وقال وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، خلال لقائه الوفد السياسي لطالبان: إن إيران تدعم حكومة إسلامية ذات قاعدة عريضة تضم جميع الأعراق والمذاهب والأطراف. بينما كان ظريف قد أعلن قبل شهر من ذلك أن طالبان لا تزال تُعتبر مجموعة إرهابية من وجهة نظر القانون الإيراني(30).

وفي السابع من يوليو/تموز من العام الجاري، وفي بحبوحة تقدم قوات طالبان في المدن الأفغانية المختلفة، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية أن اجتماع الحوار بين الأطراف الأفغانية، قد استضافته الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمشاركة ممثلي الحكومة الأفغانية والشخصيات الرفيعة للجمهورية والوفد السياسي الرفيع لطالبان(31).

ويبدو أن دافع إيران من التقارب والتفاعل مع طالبان، له مدلولاته المختلفة، وأهمها:

     السعي لاستثمار طاقات طالبان في المواجهة مع واشنطن.

    احتواء المخاطر المحتملة لطالبان على الأمن الإيراني.

    استخدام طاقات طالبان لاحتواء مخاطر مجموعات مثل تنظيم الدولة.

     التوسط بين طالبان والحكومة الأفغانية بهدف خفض منسوب التدهور الأمني.

موقف إيران من عودة طالبان إلى السلطة

كانت إيران واحدة من الدول التي أبدت ردَّة فعل سريعة على سقوط حكومة أشرف عني. وشكَّل دعم الانتقال السلمي للسلطة في أفغانستان واحترام مطلب وإرادة الشعب الأفغاني والتركيز على المصالحة والحوار الشامل والإعراب عن الارتياح لانسحاب العسكريين الأميركيين، المحاور الرئيسية لموقف السلطات الإيرانية من تطورات الأسبوع الأخير في أفغانستان.

وبعد ساعات من سقوط حكومة أشرف غني ودخول قوات طالبان إلى كابل، أعلن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، يوم الأحد 15 أغسطس/آب، دعم بلاده لـ”تشكيل مجلس تنسيق” من أجل “الانتقال السلمي” للسلطة وإرساء “المصالحة” في أفغانستان.

وغرَّد ظريف على حسابه على “تويتر” قائلًا: “إن العنف والحرب، مثلهما مثل الاحتلال، لا ولن يُعتبرا السبيل لتسوية مشاكل أفغانستان أبدًا. إن مبادرة الإخوة في مجلس التنسيق وباقي القادة الأفغان، يمكن أن تمهد للحوار والانتقال السلمي إلى السلام المستديم. إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستواصل جهودها من أجل المصالحة في أفغانستان”(32).

وكان ظريف يقصد بـ”مجلس التنسيق”، مجموعة مكونة من عدد من القادة السياسيين الأفغان، تأسست على أيدي حامد كرزاي، الرئيس الأفغاني السابق، وعبد الله عبد الله، رئيس مجلس المصالحة الوطنية، وقلب الدين حكمتيار، زعيم الحزب الإسلامي بأفغانستان، وذُكر أن الهدف منه هو: “الحد من الفوضى والإدارة الأمثل للامور المتعلقة بالسلام والانتقال السلمي للسلطة”.

إن الموقف السريع الذي اتخذه ظريف وإشارته إلى “انتقال السلطة” مؤشر على أن إيران قد قبلت بواقع تجاوز أفغانستان لحكومة أشرف غني ودخولها مرحلة جديدة، رغم بعض هواجسها وقلقها واعتباراتها، وقد تكون هيأت نفسها من قبل لمثل هذا الوضع.

وغرَّد علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، يوم الاثنين، 16 أغسطس/آب، على “تويتر” مؤكدًا أن إيران “وكما الأعوام الـ40 الماضية، تدعم الشعب الأفغاني ومطالبه وإرادته”(33).

أما الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، فقد عبَّر بعد يوم واحد من سقوط حكومة أشرف غني عن ردَّة فعله تجاه التطورات الأفغانية الجديدة، واللافت فيها أكثر من أي شئ آخر هو الترحيب بانسحاب أميركا من أفغانستان والتأكيد على ضرورة “الوفاق الوطني” بين “المجموعات الأفغانية”، وكذلك التأكيد على “الأمن والاستقرار” و”علاقات الجوار” بين البلدين.

وقال رئيسي في لقاء جمعه مع محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني: إن الهزيمة العسكرية والانسحاب الأميركي من أفغانستان، يجب تحويلهما إلى فرصة لإعادة إحياء الحياة والأمن والسلام المستديم في أفغانستان.

وأضاف: إن إيران ستبذل جهدها من أجل إحلال الاستقرار الذي يمثِّل اليوم الحاجة الملحَّة الأولى لأفغانستان، وتدعو بوصفها الدولة الجارة والشقيقة، جميع المجموعات لبلوغ التوافق الوطني.

وتابع رئيسي: إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترى أن سيادة إرادة الشعب الأفغاني المظلوم، أسهمت دائمًا في استتباب الأمن والاستقرار، مضيفًا أن إيران، وفي ظل الرصد الذكي للتطورات الافغانية، متمسكة بعلاقات الجوار مع أفغانستان(34).

وخلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه مستشار النمسا “سباستيان كورتس” مع الرئيس الإیراني، رئيسي، يوم الاثنين، 23 أغسطس/آب 2021(، وردًّا على سؤال مستشار النمسا حول موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التطورات الأخيرة في أفغانستان، قال رئيسي: لو ألقينا نظرة على تاريخ أفغانستان المعاصر لوجدنا أن هذا البلد لم ينعم يومًا بالراحة منذ تدخل الأميركيين في شؤونه.

وأضاف الرئيس الإيراني: نحن نعتقد بأنه يتعين على جميع التيارات الأفغانية أن تقف عند انسحاب الولايات المتحدة، باعتباره منعطفًا في تاريخ هذا البلد وأن تُجمع على آلية تضمن سيادة أفغانستان(35).

وبالتزامن مع الإعلان عن مواقف كبار مسؤولي الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التطورات الجديدة في أفغانستان، والتي تنطوي بشكل ما على قبول يشوبه الحذر للظروف الجديدة، فإن إيران وعلى عكس العديد من الدول التي أغلقت سفاراتها في كابل بعد دخول طالبان إليها، أبقت مثلها مثل دول أخرى بما فيها روسيا والصين وباكستان على سفارتها مفتوحة في العاصمة الأفغانية.

وقال سعيد خطيب زادة، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، يوم الثلاثاء، 17 أغسطس/آب: إن السفارة الإيرانية في كابل وقنصليتها في هرات، لا تزالان مفتوحتين وتعملان(36).

إن الإبقاء على السفارة الإيرانية في كابل مفتوحة، مؤشر على المساعي الإيرانية لمواءمتها تولي طالبان السلطة.

الفرص والتحديات المحتملة لعودة طالبان إلى السلطة بالنسبة لإيران

    الفرص

1.إن انسحاب القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان، يمكن أن يفرز فرصة مهمة لإيران ونصرًا استراتيجيًّا. إن الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة، لاسيما أفغانستان والعراق، تحول إلى واحد من مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية، ودعمت إيران في هذا السبيل، دائمًا المجموعات والتيارات المناهضة للوجود العسكري الأميركي. وبالنسبة لإيران بوصفها بلدًا يرى أنه يقف في خط المواجهة مع أميركا ويعتبر نفسه على رأس محور المقاومة في مواجهة أميركا، فإن الانسحاب العسكري الأميركي من جارتها الشرقية، يمثل نصرًا استراتيجيًّا. وعلى الرغم من أن طالبان تختلف مع إيران من الناحية الأيديولوجية، فإنهما يتقاطعان في الموقف من حيث المواجهة مع أميركا. وتسعى إيران على الأرجح، للإفادة من فراغ الوجود العسكري الأميركي لصالحها.

2. إن إحدى فرص تسلم طالبان السلطة، بالنسبة لإيران، تتمثل في قدرات هذه الحركة على احتواء “تنظيم الدولة” الذي تعتبره إيران دائمًا أنه يشكِّل تهديدًا ضدها. إن وجود هذا التنظيم قد تنامى خلال السنوات الأخيرة في أفغانستان، وكانت قوات طالبان في مواجهة مع “تنظيم الدولة”(37). إن أحد دوافع إيران للتواصل مع طالبان، هو السعي لاحتواء داعش. ويتزايد هذا الاحتمال من أن طالبان، ومن أجل اكتساب الثقة الدولية، يجب أن تتعظ بتجاربها السابقة، وتبتعد عن مجموعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة اللذين يريان أن نشاطاتهما عابرة للحدود السياسية. إن هذه الظروف تؤدي إلى أن تتحول طالبان إلى قوة لاحتواء هذه التنظيمات على الحدود الشرقية لإيران.

3. إن وجود طالبان في السلطة، لاسيما إن ترافق مع تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة تشارك فيها جميع الأطياف، يمكن أن يسهم في وضع نهاية للصراع الذي استمر خلال السنوات الأخيرة بين طالبان والحكومة والذي أفضى إلى زعزعة الأمن والاستقرار في أفغانستان. إن تمتع أفغانستان بالأمن يمكن أن يكون بطبيعة الحال لمصلحة إيران التي تربطها مئات الكيلومترات من الحدود المشتركة مع أفغانستان فضلًا عن أثره في مجال مكافحة المخدرات وخفض مستويات التهريب.

4. إن تسلم طالبان السلطة، وانحسار الاضطرابات في أفغانستان، يمكن أن يحول هذا البلد إلى ممر مهم بين الصين وإيران، وهذا يشكِّل فرصة بالنسبة لإيران التي تراهن في ظل العقوبات على علاقاتها مع الصين.

    التحديات

1.إن أول تحدٍّ قد تمر به إيران يتراوح بين الاعتراف وعدم الاعتراف بطالبان كقوة مهيمنة في أفغانستان. وتفضِّل إيران أن يجري تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة في أفغانستان، تكون طالبان جزءًا منها، لا أن تستولي على السلطة برمتها. لكن إن لم تكن طالبان جاهزة لتقاسم السلطة مع المجموعات الأخرى، وتنفذ وعودها بتشكيل الإمارة الإسلامية، فعندها ستمر إيران بصعوبة الاعتراف من عدمه بهذه الحكومة. إن عدم الاعتراف بحكومة طالبان يمكن أن يزيد من مستوى التهديد الأمني القادم من أفغانستان، ضد إيران، ويبدد إمكانية تعاطي وتواصل إيران مع طالبان، ويحول دون تحرك إيران في المساحة الأفغانية. ومن جانب آخر، فإن الاعتراف بحكومة طالبان، يمكن أن يسيء إلى صورة الجمهورية الإسلامية، في الداخل، وكذلك ببنية حماة إيران في أفغانستان، لاسيما لدى الوسط الشيعي وعرقيتي الطاجيك والهزارة.

2. إنْ ترافق تسلُّم طالبان السلطة مع معارضات في الداخل الأفغاني في المستقبل، واتجه هذا البلد نحو حرب أهلية، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تفشي الفوضى وعدم الاستقرار. إن عدم الاستقرار هذا، يمكن أن يُنتج تهديدًا موجهًا لإيران ويحوِّل حدودها مع أفغانستان إلى مساحة تتحرك فيها الميليشيا أو حتى مجموعات مثل داعش، وهذا يمكن أن يزعزع الأمن في مناطق شرق إيران.

3. إن تدفق اللاجئين الأفغان على إيران يعد واحدًا من التحديات المهمة التي تواجهها إيران. إن بعض هؤلاء اللاجئين يدخلون إلى إيران خوفًا من طالبان، والبعض الآخر، يمكن أن يلجؤوا إليها في حال اندلعت حرب أهلية وتفشَّى عدم الاستقرار. وقد شهدت إيران إبَّان الحرب الأهلية في أفغانستان في عقد التسعينات من القرن الماضي، تدفق اللاجئين الأفغان عليها. وهناك في الوقت الحاضر حوالي مليوني ونصف المليون لاجئ أفغاني يعيشون في إيران إن بصورة شرعية أو غير شرعية. إن التحاق عدد أكبر بهذه الأعداد في الوقت الذي يمر به الاقتصاد الإيراني بظروف غير مسبوقة وعقوبات مفروضة، يمكن أن يُصعِّب الأمور على إيران.

4. إن أحد التحديات والهواجس التي تواجهها إيران على خلفية تغير تشكيلة السلطة في أفغانستان، هو تضرر التبادل الاقتصادي بين البلدين في ظروف العقوبات المفروضة على إيران. وتبلغ حصة إيران من تصدير السلع إلى أفغانستان نحو 17 بالمئة، وهي أعلى نسبة في هذا المجال(38). ومن جانب آخر، فإن أفغانستان تعد أحد منافذ تنفس الاقتصاد الإيراني في فترة العقوبات. وتفيد التقارير المختلفة، بأن جزءًا من توفير الأوراق النقدية بالدولار لإيران، يجري عن طريق أفغانستان ومحلات الصرافة فيها(39). وثمة احتمال أن يؤدي تسلم طالبان السلطة إلى الإضرار بهذا التبادل، أو أن تتراجع حصة إيران من الصادرات إلى أفغانستان في ظل تنامي قوة بلدان مثل الصين وباكستان. ومن جهة أخرى، فإن تحسن العلاقات بين أفغانستان وباكستان يمكن أن يزيد من التبادل التجاري بينهما، وهذا يضر بدوره بموانئ جنوب شرق إيران التي يجري عبرها ترانزيت السلع من وإلى أفغانستان.

5. إن أحد التحديات الأخرى التي قد تمر بها إيران من جرَّاء الظروف المستجدة في أفغانستان وبالتوازي مع تسلم طالبان السلطة، هو تراجع نفوذ الشخصيات والتيارات القريبة من إيران في هيكلية السلطة ومراكز صنع القرار في أفغانستان. لاسيما إن لم تكن طالبان مستعدة لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة وشاملة تضم جميع المكونات العرقية والسياسية في أفغانستان.

النتيجة

اعتمدت إيران خلال السنوات الأخيرة، استراتيجية ثنائية الاتجاه في أفغانستان. فمن جهة، دعمت الحكومة المركزية وسعت لتوسيع العلاقات الثنائية، ومن جهة أخرى، كانت بصدد وضع العراقيل والعقبات أمام توسع نطاق النفوذ الأميركي في أفغانستان وذلك عن طريق التواصل والتعاطي مع المجموعات المناوئة لأميركا وعلى رأسها طالبان.

وقد واجهت إيران لاسيما خلال السنة ونصف السنة الأخيرة، حقيقة أن طالبان باتت قوة على الأرض في أفغانستان، وأن احتمالات نهوض طالبان مجددًا وخوضها السلطة من جديد، آخذة بالتزايد. وفي الوقت الذي كانت العديد من القوى بما فيها روسيا والصين وأميركا وباكستان، تقيم تواصلًا وارتباطًا مع طالبان، فإن إيران رأت أن من الضروري أن تحافظ على تواصلها أيضًا لكي تكون، إن حصل تغير في الساحة الأفغانية، قادرة على قطع هذا المسار بأقل الأثمان.

إن آفاق التطورات في أفغانستان ضبابية ولا تتسم بالشفافية اللازمة. ومن غير الواضح بعد ما إذا كانت طالبان ستتشبث بالسلطة بمفردها أم أنها مستعدة لإشراك الأحزاب والمجموعات العرقية الأخرى معها.

وتتبع إيران في الوقت الحاضر -شأنها شأن الدول الأخرى- سياسة الصبر والتريث، وفي الوقت ذاته تسعى من خلال الحفاظ على قنوات الاتصال، لحفظ قدرتها على ترك بصماتها.

إن إيران تفضِّل بناء التوازن، وألا تستأثر طالبان بالسلطة بمفردها وتتحول إلى قوة بلا منازع، بل أن تكون طالبان جزءًا من السلطة كي يجري تقييدها وتعديل قوة التيارات الموالية للغرب. إن إيران تعتبر هذا الوضع يخدم أمنها.

نبذة عن الكاتب

محمد خواجوئي

صحفي ومحلِّل سیاسي في إيران.

مراجع

    بی بی سی فارسی: ایران مقام اول را در صدور کالا به افغانستان گرفت (احتلت إيران المرتبة الأولى في تصدير البضائع إلى أفغانستان)، 6 اسفند 1398، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2021(:

https://bbc.in/3D8DCw5

    ایرنا: افزایش ۶.۲ درصدی صادرات غیر نفتی کشور (ارتفاع صادرات إيران غير النفطية بنسبة 6.2٪)، 19 اسفند 1399، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(:https://bit.ly/3sNG4na

    ایرنا: وزیر افغان:۲.۵ میلیون افغان با مدرک و بدون مدرک در ایران زندگی می‌کنند، (وزير أفغاني: 2.5 مليون أفغاني يعيشون في إيران بتصريح أو بدونه)، 21 بهمن 1399، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3mrN2x0

    بی بی سی فارسی: مشکلات مهاجران افغان در ایران از مسایل مورد بحث هیات بلند پایه افغانستان در تهران (مشاكل المهاجرين الأفغان في إيران تکون من القضایا التي یناقشها الوفد الأفغاني في طهران)، 1 تیر 1399، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(:  https://bbc.in/385ZkTb

    آنا: ایران به حق‌آبه رودخانه هیرمند اعتراض کرد (إيران تحتج على حصتها من نهر هلمند)، 18 خرداد 1400، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(:https://bit.ly/3mr4Po0

    UNODC: Afghanistan Opium Survey 2020: April 2021: https://bit.ly/3ybeVLN

    صدا و سیما: مبارزه با مواد مخدر و هزینه‌های آن (مكافحة المخدرات وتكاليفها)، 9 مرداد 1398، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(:  https://bit.ly/388wYaQ

    آفتاب: طالبان در تهران: ما دیپلمات‌های ایرانی را در مزار شریف نکشتیم (طالبان في طهران: لم نقتل دبلوماسيين إيرانيين في مزار الشريف)، 14 بهمن 1399، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(:  https://bit.ly/3DcICjx

    خبرآنلاین: چرا ایران از حمله به افغانستان در دوره دولت اصلاحات منصرف شد؟ (لماذا امتنعت إيران عن مهاجمة أفغانستان في فترة الإصلاح)، 8 مرداد 1398، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3sFj49K

    رادیو فردا: سفیر ایران در کابل، وجود تماس میان جمهوری إسلامی و طالبان را تأیید کرد (السفير الإيراني في كابول يؤكد وجود اتصالات بين الجمهورية الإسلامية وطالبان)، 20 آذر 1395، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3j7FlKf

    همشهری آنلاین: هیأت سیاسی طالبان در تهران (وفد طالبان السياسي في طهران)، 29 اردیبهشت 1394، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(:https://bit.ly/3j8oJC0

    وحید مژده، آیا داعش طالبان را به ایران نزدیک می سازد؟ (هل تسبب داعش أن تقترب طالبان من إيران؟)، بی بی سی فارسی، 8 خرداد 1394، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bbc.in/3sSCjgl

    المصدر نفسه.

    دویچه وله: هیئت سیاسی طالبان به تهران سفر کرده است (الوفد السياسي لطالبان یزور إيران)، 29 اردیبهشت 1394، (تاريخ الدخول: 18  أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3kgpHvh

    قدس آنلاین: رهبر طالبان یک هفته قبل از کشته شدن در ایران بود (حضور زعيم طالبان في إيران  قبل أسبوع من مقتله)، 17 خرداد 1395، (تاريخ الدخول: 19  أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3jcspCZ

    رادیو فردا: سفیر ایران در کابل، وجود تماس میان جمهوری إسلامی و طالبان را تأیید کرد (السفير الإيراني في كابول يؤكد وجود اتصالات بين الجمهورية الإسلامية وطالبان)، 20 آذر 1395، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3j7FlKf

    المصدر نفسه.

    یورونیوز: ارتش افغانستان: ایران به طالبان سلاح می دهد (الجيش الأفغاني: إيران تعطي أسلحة لطالبان)، 15 شهریور 1396، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/2UE2KcI

    بی بی سی فارسی: رئیس امنیت ملی افغانستان: ایران و روسیه تاحدودی به طالبان کمک می‌کنند، 15 بهمن 1396، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bbc.in/3sHwv9m

    اطلس پرس: سخنگوی وزارت خارجه ایران: در امور داخلی افغانستان دخالت نمی کنیم (المتحدث باسم الخارجية الإيرانية: لا نتدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان)، 17 دلو (بهمن) 1396، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3y52UYk

    بی بی سی فارسی، سفیر آمریکا در کابل: ایران برای طالبان پشتیبانی لجستیکی فراهم می‌کند (السفير الأميركي في كابول: إيران تقدم دعمًا لوجيستيًّا لطالبان)، 6 فروردین 1397، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bbc.in/3mpwHsx

    ایرنا: پیشبرد فرایند صلح با سفر دبیر شورای عالی امنیت ملی به کابل (دفع عملية السلام إلى الأمام بزيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي إلى كابول)، 6 دی 1397، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3zebXrf

    تسنیم: سخنگوی وزارت خارجه: با هیئت طالبان دیروز در تهران مذاکره کردیم (المتحدث باسم الخارجية: تحدثنا مع وفد طالبان في طهران أمس)، 10 دی 1397، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3B1KDwU

    پانا: طالبان: سفر به تهران در راستای جلب حمایت سیاسی کشورهای منطقه است (طالبان: زيارة طهران تهدف إلى كسب التأييد السياسي لدول المنطقة)، 11 دی 1397، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3kgXyED

    ایرنا: ظریف: آینده افغانستان را مردم این کشور مشخص می کنند (ظريف: مستقبل أفغانستان يحدده الشعب الأفغاني)، 19 دی 1397،  (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3glBUOj

    ایسنا: سفر هیات طالبان به تهران به رهبری عبدالسلام حنفی (وفد طالبان يتوجه إلى طهران برئاسة عبد السلام حنفي)، 26 شهریور 1398، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/2Wez0Ug

    صبح کابل: صدیق صدیقی: میزبانی ایران از طالبان خلاف اصول بین‌المللی است (صديق صديقي: استضافة إيران لطالبان مخالفة للمبادئ الدولية)، 26 شهریور 1398، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3DcTWw0

    ایرنا: جزئیات ابتکار تهران برای صلح افغانستان (تفاصيل مبادرة طهران للسلام في أفغانستان)، 21 تیر 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(:https://bit.ly/388N2tc

    عصر ایران: پیام تسلیت طالبان برای ترور سردار سلیمانی (رسالة تعزية من طالبان في اغتيال اللواء سليماني)، 15 تیر 1398، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/2WeziKQ

    تسنیم: ظریف در دیدار با طالبان: از یک دولت فراگیر إسلامی با حضور همه طرف‌ها حمایت می‌کنیم (ظريف في لقاء مع طالبان: نؤيد دولة إسلامية شاملة بوجود كل الأطراف)، 12 بهمن 1399، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/383h81r

    وزارت امور خارجه ایران: (عقد اجتماع الحوار الأفغاني الذي استضافته الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الكلمة الافتتاحية للدكتور محمد جواد ظريف وزير الخارجية )، 16 تیر 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3Da0RpF

    ایرنا: ظریف: ایران به کوشش خود برای مصالحه در افغانستان ادامه می دهد (ظريف: إيران تواصل مساعيها للمصالحة في أفغانستان)، 24 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3AW9q5A

    ایسنا: شمخانی: پشتیبان مردم افغانستان و خواست و اراده آنها هستیم (شمخاني: نؤيد الشعب الأفغاني وإرادته)، 25 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/38ly1EN

    ریاست جمهوری إسلامی ایران: رئیس جمهور: شکست نظامی و خروج آمریکا از افغانستان باید به فرصتی برای احیای زندگی، امنیت و صلح پایدار در این کشور تبدیل گردد (رئیس الجمهوریة: إن الهزيمة العسكرية والانسحاب الأميركي من أفغانستان، يجب تحويلهما إلى فرصة لإعادة إحياء الحياة والأمن والسلام المستديم في أفغانستان)، 25 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://president.ir/fa/130611

    ریاست جمهوری إسلامی ایران: گروه‌های مختلف افغانستانی در تعامل با هم از فرصت خروج آمریکایی‌ها برای ایجاد حکمرانی فراگیر بهره بگیرند (يتعين على جميع التيارات الأفغانية أن تقف عند انسحاب الولايات المتحدة، باعتباره منعطفًا في تاريخ هذا البلد وأن تُجمع على آلية تضمن سيادة أفغانستان)،  1 شهریور 1400، (تاريخ الدخول: 23 أغسطس/آب 2021(: https://president.ir/fa/130719

    تسنیم: خطیب‌زاده: سفارت ایران در کابل باز و فعال است (خطيب زاده: السفارة الإيرانية في كابول مفتوحة وفعالة): 26 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/3B55Beu

    جو سامرلد، رابطه میان طالبان و داعش چیست؟ (ما هي العلاقة بين طالبان وداعش؟)، ایندپندنت فارسی، 26 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/3j9NVIj

    احمد بخشی، ایران و افغانستان: اشتراکات، مشکلات و چشم انداز روابط (إيران وأفغانستان: المشترکات، والمشاكل، وآفاق العلاقات)، 3 تیر 1400، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3zaZLrr

    تجارت نیوز: زنگ خطر برای دلار/ ارتباط مالی با طالبان ممکن است؟ (جرس إنذار للدولار/هل العلاقات المالية مع طالبان ممكنة؟)، 24 مرداد 1400، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2021(: https://bit.ly/3B1CTer

———————————

الانهيار الأفغاني … أوروبا تخشى دفع الثمن/ أسعد عبود

الانهيار الأفغاني كشف مجدداً العجز الأوروبي عسكرياً. أميركا هي التي قررت الحرب قبل عشرين عاماً وأوروبا التحقت بها. وأميركا نفسها هي التي قررت الانسحاب من دون التشاور مع شركائها، على رغم أنهم دفعوا أثماناً بشرية ومادية خلال العقدين الماضيين.

لم يكن في وسع القادة الأوروبيين سوى توجيه انتقادات مبطنة وغير مباشرة لقرار الرئيس الأميركي جو بايدن الانسحاب بهذه السرعة من أفغانستان، في وقت سقطت حكومة كابول قبل 15 يوماً من الموعد المحدد لسحب آخر جندي أميركي من هذا البلد في 31 آب (أغسطس) الجاري. واتخذت الأمور منحى مأسوياً مع تكدس الرعايا الأجانب والأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأطلسية في مطار كابول، تمهيداً لإجلائهم في سباق مع الوقت، بعد دخول “طالبان” إلى العاصمة الأفغانية بلا قتال.

اليوم، يتساءل القادة الأوروبيون جدياً، هل “أميركا عادت” فعلاً؟ وفق ما كان يكرّر بايدن في خطبه منذ اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض، في شعار يناقض شعار الرئيس السابق دونالد ترامب “أميركا أولاً”، والذي ألحق أضراراً بالغةً بالعلاقات عبر ضفتي الأطلسي.

المسار الذي سلكته قضية أفغانستان، لا يدل على أن بايدن يكترث أكثر من ترامب لمسألة التشاور مع الحلفاء في الملفات الدولية التي تشكل تحدياً مشتركاً للولايات المتحدة والحلفاء على حد سواء. الانسحاب “المتسرع” من أفغانستان على حد وصف الكثير من المسؤولين الأوروبيين، غذى الشكوك لدى زعماء أوروبا بمدى التزام واشنطن فعلاً، بالقضية الأوكرانية على سبيل المثال، في حال تطورت الأمور إلى مواجهة مع روسيا. هل أميركا مستعدة للوقوف إلى جانب أوكرانيا وعدم تركها فريسة لطموحات فلاديمير بوتين؟

وبعد الانهيار الأفغاني وتسلّم “طالبان” الزمام، ستتحمل أوروبا عبء موجات لجوء جديدة. وتسري مخاوف من أن عودة “طالبان”، ستشجع التنظيمات الجهادية الأخرى على شن هجمات على أهداف في دول أوروبية، فضلاً عن أن أفغانستان قد تعود لتشكل ملاذاً لتنظيم “القاعدة” بينما تنظيم “داعش” موجود فيها منذ سنوات من خلال “ولاية خراسان” التي بايعت التنظيم.

إذاً، أوروبا تخشى أن ينعكس عليها الانسحاب الأميركي من أفغانستان، مزيداً من اللاجئين والتعرض لهجمات إرهابية. وما يزيد في قتامة المشهد، أن الدول الأوروبية الرئيسية: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لا تستطيع أن تتنكب دوراً عسكرياً مستقلاً في أفغانستان من دون أميركا.

ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، قالها بصراحة أمام البرلمان الأسبوع الماضي، إن “الغرب لا يمكنه المضي بهذه المهمة التي تقودها الولايات المتحدة (في أفغانستان) من دون خدمات لوجستية أميركية، ومن دون القوة الجوية الأميركية ومن دون قوة أميركا”.

أمام هكذا واقع، من المفترض أن يحفّز ما جرى في أفغانستان، القادة الأوروبيين، على المضي في خيارات عسكرية مستقلة عن الخيارات الأميركية، كي لا يدفعوا أثماناً باهظة نتيجة القرارات الأميركية التي يبدو أنها تتجه أكثر نحو عدم الأخذ في الاعتبار مصالح الحلفاء الأكثر قرباً من الولايات المتحدة.

واللافت، أن بايدن بعد الحدث الأفغاني، أرسل نائبته كمالا هاريس في جولة على آسيا لتطمين شركاء أميركا هناك بأن واشنطن لن تتخلى عن التزاماتها حيال منطقة آسيا – المحيط الهادئ، في مواجهة الصعود الصيني. أما بالنسبة إلى أوروبا، فاكتفى بايدن بمكالمات هاتفية مع زعمائها.

وهكذا تغدو أفغانستان فرصة أمام أوروبا كي تثبت أن في إمكانها التكيف مع التجاهل الأميركي المتزايد. ولا يمكن ترجمة ذلك إلا باعتماد توجّه نحو ما بات يطلق عليه في الغرب “الاستقلال الذاتي” عسكرياً، درءاً لتبعات القرارات الصادرة من البيت الأبيض.

سيكون الدرس الأفغاني، نقطة إنطلاق لمراجعات أوروبية جدية للعلاقات مع الولايات المتحدة.

النهار العربي

—————————–

 متى تبصر النور حكومة “طالبان”؟

أكد قيادي بارز في “طالبان” أن الحركة في المراحل الأخيرة من إعلان حكومة ‏جديدة كان من المتوقّع أن تضم جميع أعضاء مجلس الشورى الحالي‎.‎

ويدير القائد الأعلى لـ”طالبان” هبة الله أخوند زاده، المشاورات في قندهار وهي ‏المدينة المعروفة بأنها مسقط رأس “طالبان”، إلى جانب نائبيه سراج الدين حقاني ‏رئيس شبكة حقاني، والملا محمد يعقوب نجل مؤسس “طالبان” الملا عمر.‏

وقال شير محمد عباس ستانيكزاي، قيادي بارز آخر في “طالبان”: “في الوقت ‏الحالي، تتشاور قيادة طالبان مع مختلف الجماعات العرقية والأحزاب السياسية ‏داخل البلاد بشأن تشكيل حكومة يجب قبولها داخل أفغانستان وخارجها والاعتراف ‏بها‎”‎‏.‏‎ ‎

أضاف المتحدث باسم “طالبان ذبيح الله مجاهد، لإذاعة “صوت أميركا” أن العملية ‏‏”شارفت على الاكتمال”‏‎.‎

وتابع: “كلفت القيادة نائب الرئيس سراج الدين حقاني والنائب الآخر الملا محمد ‏يعقوب بوضع اللمسات الأخيرة على أسماء مجلس الوزراء”، مشيرا إلى أن ‏‏”الموافقة النهائية على الأسماء ستأتي من أخوند زاده نفسه”‏‎.‎

وذكر أن مجلس الوزراء يمكن أن يضم أكثر من 26 عضوا وقد يضم أشخاصا ‏بخلاف أعضاء مجلس القيادة‎.‎

يشار الى أن مجلس الشورى هو أهم هيئة لاتخاذ القرار بالنسبة لطالبان ويرأسه ‏أخوند زاده نفسه‎.‎

لن تكون حكومة شاملة

وبينما تزعم “طالبان” أن الحكومة ستكون شاملة، أوضح المتحدث باسمها أن تقاسم ‏السلطة ليس من أولويات الحركة في الوقت الحالي. وقال: “لا اتفاق مع أي زعيم ‏سياسي على ضمه إلى الحكومة. أريد أن أوضح أن تركيزنا ليس على مشاركة ‏الحكومة مع الآخرين”‏‎.‎

ولفت إلى أن الحركة كانت تسعى للحصول على آراء “الوجوه المعروفة، العلماء، ‏قادة المجاهدين السابقين” حول نظام الحكم الجديد‎.‎

وعقد مجلس الشورى اجتماعه الرسمي الأول في كابول في القصر الرئاسي في 21 ‏آب (أغسطس)، وترأّسه حقاني ويعقوب بشكل مشترك. ومنذ ذلك الحين، يعقد ‏أعضاء مجلس الشورى وكبار المسؤولين اجتماعات غير رسمية بشكل شبه يومي‎.‎

وقال القائد البارز: “قرر مجلس الشورى من حيث المبدأ أنه إذا أكملت الولايات ‏المتحدة خروجهم بحلول 31 آب (أغسطس)، فإن الإمارة الإسلامية (اسم طالبان ‏لأفغانستان بعد سيطرتهم) ستعلن مجلس الوزراء”. ‏

وتابع: “يرى أمير المؤمنين (لقب قائد الحركة) أنه إذا تم الإعلان عن حكومة في ‏وجود القوات الأميركية فإنها ستثير العديد من التساؤلات”‏‎.‎

وأكد أن مجلس الشورى طرح أيضاً فكرة أن إعلان مجلس الوزراء يجب أن يأتي ‏من أخوند زاده نفسه في خطاب متلفز على المستوى الوطني. واستدرك قائلا: “إذا ‏كان أمير المؤمنين لا يريد الظهور على الملأ، فيمكنه ترشيح صديق مقرب وقائد ‏كبير للإعلان”‏‎.‎

موعد الإعلان

ووفق المسؤول البارز، فقد رأى مجلس الشورى أنه “يجب إعلان الحكومة في ‏الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر)، وأن يكون اسم حكومة طالبان الجديدة هو إمارة ‏أفغانستان الإسلامية، لكن هذا القرار يتطلب موافقة من أخوند زاده نفسه”‏‎.‎

كما كشف زعيم “طالبان” أنهم يعتزمون الحفاظ على الجيش الوطني سليما وإدراج ‏مقاتليهم في المؤسسة. ومن المقرر أن تتّخذ القرارات بشأن العلم والدستور الوطني ‏من قبل الحكومة الجديدة‎.‎

في مشاوراتهم الداخلية، ناقش أعضاء الحركة أيضاً إمكانية جعل سراج الدين ‏حقاني أو الملا يعقوب “رئيس شورى الوزراء”، وهو منصب يعادل منصب رئيس ‏الوزراء. خلال حكومة “طالبان” الأخيرة في أفغانستان من عام 1996 إلى عام ‏‏2001، شغل الملا محمد رباني هذا المنصب‎.‎

ويناقش أعضاء مجلس الشورى أيضا إمكانية أن يصبح حقاني رئيساً للوزراء ‏ويعقوب وزيرا للدفاع لأنه يرأس حاليا اللجنة العسكرية لطالبان‎.‎

وبخلاف تشكيل الحكومة، قال المسؤول إن المناقشات الداخلية تركزت بشكل كبير ‏على الأمن في العاصمة كابول‎

النهار العربي

————————-

الجوار الأفغاني: ماذا بعد الانسحاب؟/ علي حمادة

قيل الكثير وكتب الكثير عن الانسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان، الذي حصل  ويحصل (حتى يوم غد) في ظل فوضى عارمة لا مثيل لها، ولم تعشه أميركا حتى خلال الانسحاب من فيتنام في عام 1975. قيل الكثير وكتب الكثير حول سوء إدارة عملية الانسحاب، وضعف إدارة الرئيس جو بايدن، وتضعضعها، فضلاً عن القصور الكبير الذي تميزت به قيادة بايدن شخصياً، ناهيك عن الفشل المتكرر في الظهور الإعلامي، بما طرح جدياً إشكالية الرئيس الضعيف، أو قل الرئيس الذي يفتقر الى القدرات القيادية اللازمة ليكون رئيس القوة العظمى الأولى في العالم. ولعل التفجيرات التي استهدفت محيط مطار كابول في عز عملية الانسحاب وأدت الى مقتل ثلاثة عشر جندياً اميركياً وأكثر من مئة مواطن أفغاني وجهت ضربة قاصمة لرئاسة الرئيس بادين، ولهيبة الولايات المتحدة تحت قيادته، نظراً لمسوؤليته كقائد أعلى عن أي خطأ أو خلل يحصل في ظل إدارة عملية دقيقة كالانسحاب الأميركي المتعجل.

أكثر من ذلك، قيل الكثير وكتب الكثير عن الأضرار الكبيرة التي لحقت بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين أو في حلف “الناتو”، الذين لم تتم استشارتهم أو التنسيق معهم عند بدء عملية الانسحاب، وتم إبقاؤهم خارج الصورة حتى مع توالي سقوط المدن الأفغانية بيد “حركة طالبان”، وصولاً الى سقوط العاصمة كابول وهروب الرئيس الأفغاني أشرف غاني مع بعض المقربين الى دولة الإمارات العربية المتحدة. مع هذا كله، ومع الأضرار الجسيمة التي لحقت بصورة الولايات المتحدة، وبالنظرة الى الإدارة الحالية التي يعتقد أنها من الناحية المعنوية قد لا تتمكن من النهوض من كبوتها خلال الأعوام الأربعة المقبلة، لا سيما أن الرئيس جو بايدن، وهو ثمانيني بدأ يظهر علامات مقلقة على مستوى قدراته القيادية، علماً أنه جرى تقديمه خلال الحملة الانتخابية ضد الرئيس السابق دونالد ترامب كشخصية تتفوق على منافسها على ثلاثة مستويات: الأول أنه إذا انتخب سيمثل عودة الكفاءة الى البيت الأبيض، والثاني أنه صاحب خبرة تكونت خلال أربعة عقود في السياسة الخارجية الأميركية وهو يمثل “عودة أميركا الى العالم”، والثالث أنه رجل متعاطف مع القضايا الإنسانية. في الانسحاب الكارثي من أفغانستان تعرضت عناصر القوة المفترضة في شخص الرئيس بايدن الى أضرار كبيرة في الرأي العام الأميركي، وفي الوسط الإعلامي الذي خاض معركته بشراسة لا مثيل لها، ولدى الحلفاء في الخارج. وأخيراً وليس أخراً، أدت الكارثة الأفغانية الى انتعاش خصوم أميركا عبر العالم، لأنها بثت فيهم شعوراً بأن أميركا ضعفت الى حد بعيد.

لن نطيل في الحديث عن الانسحاب، لكن لا بد الآن من التفكير في مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغاستان والنتائج السريعة لما حصل، إقليمياً. فبالنسبة الى دول الجوار الأفغاني أن الانسحاب الأميركي يترك فراغاً استراتيجياً كبيراً، بعد عقدين من الزمن كانت هذه الدول تبني استراتيجياتها الإقليمية على قاعدة الوجود الأميركي في أفغانستان الذي كان يمثل عنصر ضبط كبيراً وحاسماً للعديد من التنظيمات المتطرفة، أو يمنع أن تتحول الأراضي الأفغانية الى معابر لمشكلات تتصل بالأمن الداخلي لهذه الدول. هكذا كان الحال مع دول المدى الحيوي الروسي الذي يتألف من الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. وهكذا كان الحال مع الهند التي كانت ترى في حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غاني حليفاً يساهم في حماية “ظهرها ” في منطقة كشمير الحدودية من محاولات باكستان التسلل اليها لتهديد استقرار الاحتلال الهندي لنصف كشمير. اما الصين فقد كانت تتقاطع مع الولايات المتحدة المسيطرة على أفغانستان في اعتبار التنظيمات الإسلامية لمسلمي إثنية الإيغور في شينجيانغ إرهابية، مما منعها من استخدام الأراضي الأفغانية للقيام بأنشطة تعتبرها الصين عنصرَ تهديدٍ لأمنها واستقرارها. أما ايران بالرغم من عدائها المعلن للأميركيين فقد كانت تعتمد كسائر دول الجوار الأفغاني على الوجود الأميركي هناك كمصدر “استقرار” نسبي على حدودها الشرقية، كون هذا الواقع حمّل واشنطن مسوؤلية هذه الحدود، ومثل الموقف الأميركي – الإيراني في معاداة التنظمات السنيّة المصنفة متطرفة نقطة تقاطع بين أميركا في أفغانستان وإيران التي لطالما اعتبرت حدودها الشرقية مع باكستان وأفغانستان حدوداً يصعب الإمساك بها، وقد صنفت حدوداً “سيّالة” بمعنى أنها غير مضبوطة.

كان الوجود الأميركي طوال عشرين عاماً في أفغانستان يمثل حالة من “الستاتيكو” الذي أراح الإيرانيين بصرف النظر عن العلاقات الأميركية – الإيرانية التي شهدت تقلبات حادة في السنوات القليلة الماضية. وأما بالنسبة الى باكستان الدولة الجارة الراعية التاريخية لـ”حركة طالبان” فبالرغم من أنها كانت تشتكي من سياسة حكومة الرئيس أشرف غاني في كابول، ولكنها أيضاً وجدت في حالة “الستاتيكو” الاستراتيجي الذي أرساه الوجود الأميركي شيئاً من الاستقرار في حده الأدنى. وقد برعت باكستان في تنفيذ سياسة متعددة الأوجه اتسمت بتوسيع هوامش المناورة بين واشنطن، وبكين، وموسكو، مع استمرار العلاقة المميزة مع حركة “طالبان” في أفغانستان، بالرغم من حذرها الشديد تجاه “طالبان باكستان” أصحاب النزعة الانفصالية البشتونية كل ما تقدم يفيدنا بأن عقدين من الوجود الأميركي في أفغانستان كانا مفيدين لجميع دول الجوار، لا سيما للقوى الكبرى مثل الصين وروسيا، حيث تحملت واشنطن عنهما عبء المحافظة على استقرار أفغانستان، وحالة “الستاتيكو” في منطقة واسعة تجاوزت حدود أفغانستان وصولاً الى الهند جنوباً، والصين شرقاً، روسيا شمالاً، وإيران شرقاً. اما اليوم فالوضع تغيّر، وبات عبء الحفاظ على “الستاتيكو” والاستقرار، والأمن على عاتق الدول المشار اليها، بعدما تحررت الولايات المتحدة من الأعباء تاركة خلفها هذا الفراغ الذي يفترض أن تقوم هذه الدول بتعبئته.

تعبئة الفراغ الاستراتيجي الذي تركه الأميركيون ليس بالأمر السهل، وقد استبقت دول الجوار بدءاً من روسيا والصين وايران التحولات من خلال إحياء علاقات مباشرة مع  حركة “طالبان” التي كان واضحاً أنها ستكون لها الغلبة في البلاد بعد مغادرة الأميركيين.

بالطبع كانت المفاجأة عندما استطاعت “طالبان” أن تبسط سيطرتها على البلاد كلها بما فيها العاصمة كابول في الثالث عشر من آب (أغسطس)، أي قبل سبعة عشر يوماً من الموعد الذي حدده الرئيس الأميركي جو بايدن لجلاء آخر جندي أميركي من أفغانستان. كانت كل التقديرات تشير في مطلع العام الحالي الى أن “طالبان” ستحتاج عدة أشهر لبسط سيطرتها على البلاد، وقد تحتاج الى التفاوض مع حكومة أشرف غاني لإقامة حكم مشترك، وحكومة انتقالية. وفي ما بعد تفاوتت التقديرات الاستخبارية الغربية حول موعد حسم “طالبان” للوضع بين بضعة أشهر، وأسابيع قليلة. وكانت المفاجأة، انهيار حكومة الرئيس أشرف غاني، بعدما انهار الجيش الأفغاني دفعة واحدة في أقل من عشرة أيام. هذا الأمر كانت دول الجوار احتاطت له، كل على حدة. فروسيا أقامت اتصالات سرية، ثم رسمية وعلنية مع “طالبان”، حيث زار وفد رسمي منها موسكو للقاء وزير الخارجية سيرعي لافروف في شهر تموز  (يوليو). هكذا حصل بالنسبة الى الصين وايران اللتين كثفتا التواصل مع “طالبان” لوضع أجندة لعلاقات مرحلة ما بعد استيلاء الحركة على أفغانستان، وذلك على الصعد الأمنية، والدبلوماسية، والاقتصادية. وقد أفلحت الصين التي استقبلت وفداً رسمياً كبيراً من الحركة نهاية شهر تموز (يوليو) الماضي، في وضع أسس لعلاقات اقتصادية مقبلة في أفغانستان تحت حكم “طالبان” في سياق مشروع “طريق الحرير” الذي تقوم به، وتصر على الحركة أن تمنع أي تحرك من نشطاء مسلمي الإيغور الذين تصنفهم إرهابيين. أما روسيا فقد أرست علاقات مقايضة أمنية مستقبلية مع “طالبان” بحيث تمنع الحركة أي تحركات من أراضيها تهدد أمن واستقرار الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى المجاورة في مقابل منع هذه الأخيرة أي تحركات من جماعات أفغانية تعمل من داخل حدودها لاستهداف حكم الحركة. وإيران التي استقبلت هي أيضاً وفداً رسمياً من “طالبان” في طهران، أعادت قبل أيام إحياء خط امدادات المحروقات بينها وبين أفغانستان، وتسعى الى تطوير علاقات تجارية في الأسواق الأفغانية. كل ذلك يجري تحت بند الضمانات الأمنية المتبادلة بين “طالبان” من جهة، ودول الجوار من جهة أخرى.

هكذا يرحل الأميركيون، وتجهد دول الجوار في إقامة ترتيبات مع “طالبان” في محاولة لإقامة “ستاتيكو” جديد يحل مكان “الستاتيكو” الأميركي الذي تطوى صفحته يوم غد الثلثاء. لكن “الستاتيكو” المنشود يحتاج الى الكثير من أجل أن يشكل قاعدة لاستقرار إقليمي لا يزال بعيدَ المنال.

النهار العربي

———————————

الانسحاب من أفغانستان: انطلاق العصر الأمريكي/ بلال خبيز

سيمر وقت طويل نسبيًا قبل أن تستقر معادلات الربح والخسارة دوليًا وإقليميًا في ما يتعلق بأفغانستان. هناك رابح أكيد حتى اللحظة، هو حركة طالبان، التي يمكن القول إنها باتت الطرف الوحيد المرشح للهيمنة على المشهد الأفغاني. يعينها على تصدرها هذا المشهد رغبة دول الجوار في تجنب الغوص في الرمال المتحركة الأفغانية بعد تجربتين فاشلتين للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.

أكيد حتى اللحظة، هو حركة طالبان، التي يمكن القول إنها باتت الطرف الوحيد المرشح للهيمنة على المشهد الأفغاني

إنما ورغم وضوح هذا الربح، يجدر بنا ألا نظنه ربحًا سهلًا. فالفشل الأمريكي في فرض منطق واشنطن على أفغانستان، لا يعني على الإطلاق أن انسحاب القوات الأجنبية سيجعل من أفغانستان مزدهرة ومستقرة. الفشل الأمريكي يقع هنا بالتحديد. لم تنجح قوات أقوى دولة في العالم، وإدارييها وأموالها، في جعل أفغانستان مزدهرة ومستقرة. ولذلك تنسحب من هذه البلاد تاركة الأفغان يقررون مستقبلهم بأيديهم. وإذ يعي قادة طالبان كمية الصعوبات التي تواجههم في إدارة البلاد على نحو يؤمن استقرارها في المستقبل، فإنهم لا ينفكون يرسلون إشارات متواصلة للولايات المتحدة بأنهم ليسوا أعداء لها. هذا الأمر شهدنا نسخته في فيتنام من قبل. فرغم أن المعارك آنذاك أسفرت عن انتصار الفيتكونغ، إلا أن السنوات اللاحقة لهذا الانتصار شهدت نوعًا من الانضباط الفيتنامي تحت مضلة المصالح الأمريكية ورعايتها.

ما تقدم يمكن رده إلى دروس التاريخ. لكن ما سيأتي قد لا يكون متناسبًا مع هذه الدروس.

لا شك أن الإدارة الأمريكية المقررة إدارة الظهر لمشكلات تلك المنطقة تواجه نوعًا من الارتباك جراء تداعيات الانسحاب. لكن هذا الارتباك، في ظني، يصيب ما هو أوروبي في الإدارة الأمريكية وليس ما هو أمريكي. وهذا أمر ينبغي التدقيق فيه مليا قبل إطلاق الأحكام السريعة الخاصة بالربح والخسارة.

أزعم أن الخاسر الأكبر في أفغانستان، هو القارة الأوروبية. تلك القارة التي اعتمدت طوال العقود الماضية، على القبضة الأمريكية لتحقيق استمرارية ما للأفكار والقيم التي انبنت عليها القارة العجوز. وحدث، ولمرات كثيرة، أن ترددت الولايات المتحدة في الاستجابة لتنفيذ الأجندة الأوروبية، وقد تبدى هذا التردد بوضوح خلال أزمة يوغوسلافيا السابقة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. وشهدنا مثل هذا التردد الأمريكي مع دخول الأزمة السورية، منذ السنوات الأولى من العقد السابق، أطوارها الدموية. حيث لم يكن في وسع المعارضين لنظام بشار الأسد التيقن من طبيعة الدعم الذي قد تؤمنه الإدارة الأمريكية. التي كانت قطعًا غير معجبة بنظام بشار الأسد، لكنها لم تكن مستعدة للإعجاب بمعارضته. في ليبيا، كان الأمر أيضًا مشابهًا. فبعد تدخل حاسم من قبل إدارة باراك أوباما ساعد في إسقاط نظام معمر القذافي، سرعان ما أدارت واشنطن ظهرها لكل ما يجري في تلك البلاد، تاركة القوى الإقليمية تقرر بالدم والفوضى، ما تراه مناسبًا لمصالحها في تلك البلاد.

ما تقدم من إشارات لا يخرج من إطار السياسة المباشرة. لكن المتمعن في ما يجري في أمريكا قد يفاجأ بالسرعة التي تغادر فيها واشنطن مسرح هذه السياسة التي ورثت أصولها من القارة الأوروبية. ما زال الفكر الاستعماري هو الذي يحكم أوروبا وما زالت واشنطن تراعي هذا الفكر لأنها لا تملك حتى اللحظة بديلًا فكريًا يحل محله. لكن واشنطن القوية والقادرة، تنحو كل مرة إلى الانسحاب من تبعات هذه الأفكار وكلفتها التي تقع معظم الوقت على عاتقها. وهذا يحصل منذ عقود وفق السيناريو نفسه والخطاب إياه: لا مصلحة لنا في فييتنام، ولا سبب يدعونا لإنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين من أجل دمقرطة فييتنام وضمان استقرارها وتقدمها. وهذا يمكن جره طردًا على سوريا والعراق ومصر وليبيا وأفغانستان ويوغوسلافيا وأوكرانيا، إلى دول أخرى كثيرة. لكن الانسحاب الأمريكي الذي يحصل لا يؤدي إلى هزيمة واشنطن وتقوقعها، بل يؤدي غالبًا إلى خروج الدول التي انسحب منها الأمريكيون من قائمة الدول التي تملك مستقبلًا، ما لم تعمد هذه الدول إلى الخضوع تمامًا للشروط الأمريكية بملء إرادتها. يستوي في هذا الميزان الصين وفييتنام وتايوان، وقد تجلس أفغانستان وإيران وروسيا على كفته في المستقبل القريب. والحال، تنسحب أمريكا من أفغانستان لكي تتم نصرها وتوفيه شروطه الكاملة، لكن المهزوم دائمًا والذي يصبح أمنه ومستقبله مهددًا هو القارة الأوروبية، التي تنظر بعين الريبة والخوف والقلق إلى كل انسحاب أمريكي من أي منطقة من العالم، بوصفه خسارة صافية لها. وإذا ما حدث أن نجحت دولة من هذه الدول في إنشاء تعاون مستقر مع واشنطن، كحال تركيا مثلًا، تتحول القارة الأوروبية برمتها إلى خصم معلن لهذه الدولة.

القرن الأمريكي بدأ على الأرجح منذ عدة عقود فقط. قبل ذلك كانت واشنطن عبارة عن شريك أول لأوروبا التي ما زالت تحسب أن أفكارها وقيمها تدير العالم. اليوم ثمة تحولات جذرية في النظام العالمي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ولن يطول بنا الوقت لنكتشف أن هذه التحولات صارت قانونًا راسخًا. وأن أول المتضررين منها هم شركاء أمريكا في القارة العجوز.

الترا صوت

————————–

====================

تحديث 31 آب 2021

——————————

كابول:خروج آخر جندي أميركي وطالبان تحتفل بالنصر

أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أن الولايات المتحدة أنهت سحب آخر جندي أميركي من أفغانستان، بعد نحو عشرين عاماً من دخولها للبلاد في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

وأعلن البنتاغون في بيان، أن “آخر أميركيين غادرا كابول ليل الاثنين هما سفير الولايات المتحدة في كابول روس ويلسون والقائد الميداني للقوات الأميركية في أفغانستان كريس دوناهو”.

ونشرت القيادة المركزية الأميركية صورة ليلية لآخر ضابط أميركي غادر أفغانستان، وقالت: “بمغادرة دوناهو تم استكمال المهمة الأميركية لإجلاء المواطنين الأميركيين، والأفغان من حاملي تأشيرة الهجرة الخاصة، بالإضافة الى الأفغان المعرضين للخطر”.

    صورة لـ اللواء في الجيش الأميركي “كريس دوناهيو”، قائد الفرقة المجوقلة الـ 82، والذي يعتبر اخر عنصر من القوات الأميركية يغادر أفغانستان. وبمغادرته تم استكمال المهمة الأميركية (لإجلاء المواطنين الأميركيين، والأفغان من حاملي تأشيرة الهجرة الخاصة، بالإضافة الى الأفغان المعرضين للخطر) pic.twitter.com/6xIddGuoiw

    — U.S. Central Command (@CENTCOMArabic) August 30, 2021

وقال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي في مؤتمر صحافي: “أنا هنا لأعلن أننا أنجزنا انسحابنا من أفغانستان”، مضيفاً “لم نتمكن من إجلاء كل من كنا نريد إجلاءهم”، مشيراً إلى أن عمليات الإجلاء انتهت قبل حوالى 12 ساعة من الموعدد المحدد لمغادرة الجنود الأميركيين، “لكن قواتنا ظلت حتى اللحظة الأخيرة في مطار كابول جاهزة لإجلاء كل من استطاع الوصول إلى المطار”.

وأضاف أن جهود الإجلاء ستتم الآن عبر الطرق الدبلوماسية، متوقعاً استمرار الاتصالات مع طالبان من بلاده وبقية دول العالم. وأشار إلى أنه “منذ 14 آب/أغسطس وحتى ليل الإثنين، أجلت طائرات الولايات المتحدة وحلفائها أكثر من 123 ألف مدني من مطار حامد كرزاي”.

بدوره، أعلن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أن عمل الولايات المتحدة في أفغانستان لم ينتهِ بمغادرة قواتها، مضيفاً أن واشنطن ستستخدم وجودها وعلاقاتها في قطر لإدارة دبلوماسيتها في أفغانستان للمرحلة القادمة.

وقال بلينكن إنه يعتقد أن أقل من 200 أميركي لا يزالون في أفغانستان، مشيراً إلى أنه سيتم العمل على نقلهم، وكذلك نقل الأفغان الراغبين في المغادرة بعد موعد الانسحاب النهائي في 31 آب.

وأضاف أن واشنطن ستعمل مع حركة طالبان إذا أوفت بتعهداتها، متابعاً: “مستعدون للتعامل مع أي حكومة مستقبلية تلبي طموحات الشعب الأفغاني واحترام النساء والأقليات”. وذكر أن طالبان تعهدت بمحاربة الجمعات الإرهابية و”سوف نحاسبها على التزامها لكن هذا لا يعني الاعتماد عليها. سوف نراقب المسألة بأنفسنا”.

وتعهد بلينكن أيضاً باستمرار تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الأفغاني والاستمرار في “المساعي الدبلوماسية بالتنسيق مع حلفائنا لمصلحة الشعب الأفغاني”.

طالبان تحتفل

وأطلق مقاتلو طالبان النار في الهواء احتفالاً بانتصارهم على الولايات المتحدة وعودة الحركة إلى الحكم. وقال المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد في تصريحات الثلاثاء من مدرج مطار كابول بعد سيطرة الحركة عليه: “نهنئ أفغانستان.. إنه نصر لنا جميعاً”.

وأضاف أن “الهزيمة الأميركية درس كبير لغزاة آخرين”، مؤكداً أن الحركة تريد علاقات جيدة مع الولايات المتحدة والعالم، وأنها ترحب بعلاقات دبلوماسية جيدة معهم جميعاً.

الجمهوريون يهاجمون بايدن

وعقب إعلان البنتاغون، قالت رئيسة الحزب الجمهوري رونا مكدانييل في بيان، إن الرئيس الأميركي جو بايدن “خلق كارثة وخذل الأميركيين ومصالحنا”، مضيفةً أن ما حصل في كابول “يُثبت ما كنا نعرفه أصلاً.. جو بايدن غير قادر على أداء دور القائد الأعلى للقوات المسلحة، والولايات المتحدة والعالم هما أقل أماناً بسببه”.

بدوره قال زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفن مكارثي إن بايدن  ترك “أميركيين تحت رحمة إرهابيين”.

وردّ بايدن بأن إنهاء المهمة العسكرية كان أفضل سبيل لحماية أرواح الجنود، وتأمين خروج المدنيين الذين يريدون مغادرة أفغانستان في الأسابيع والأشهر المقبلة. وأكد في بيان نشره البيت الأبيض، أن طالبان قدمت تعهدات بشأن الممر الآمن، وأن العالم سيلزمها بالوفاء بالتزاماتها.

ومن المتوقع أن يلقي بايدن خطاباً الثلاثاء، يوضح فيه قرار عدم تمديد وجود القوات في أفغانستان إلى ما بعد 31 أغسطس/آب، وهو الموعد الذي حدده بايدن للخروج من أفغانستان.

ويُنهي انسحاب أخر جندي أميركي في أفغانستان أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في التاريخ قتل خلالها أكثر من 2400 جندي أميركي. وتتجه الأنظار حالياً إلى الطريقة التي ستتصرف بها طالبان في أيامها الأولى في السلطة، مع التركيز الشديد على ما إذا كانت ستسمح لأجانب وأفغان آخرين بمغادرة البلاد.

المدن

—————————-

آخر الأميركيين المغادرين من أفغانستان..من هو؟

آخر الأميركيين المغادرين من أفغانستان..من هو؟ آخر جندي أميركي يغادر أفغانستان (الجيش الاميركي)

نشر حساب القيادة المركزية في الجيش الاميركي في “فايسبوك”، صورة تظهر ضابطاً في وحدة قتالية أميركية، يغادر أفغانستان، قائلة انه آخر الجنود المغادرين بعد قرار الانسحاب من البلاد.

وأوضحت القيادة المركزية أن الضابط هو اللواء في الجيش الأميركي كريس دوناهيو، مشيرة الى انه “قائد الفرقة المجوقلة الـ82”. ويعد دوناهيو، آخر عنصر من القوات الأميركية يغادر أفغانستان.

وأظهرت الصورة الملتقطة في الليل، المايجر جنرال دوناهيو يسير نحو طائرة الاجلاء الاخيرة، وهي طائرة شحن من طراز C-17 كانت تتوقف في مطار حامد قرضاي الدولي في كابل في العاصمة الافغانية. وبها تطوي الولايات المتحدة صفحة أطول حرب خارجية خاضتها منذ العام 2001.

وبمغادرة دوناهيو، استكملت المهمة الأميركية لإجلاء المواطنين الأميركيين، والأفغان من حاملي تأشيرة الهجرة الخاصة، بالإضافة الى الأفغان المعرضين للخطر، حسبما أفاد الجيش الأميركي في منشوره.

—————————

===================

تحديث 01 أيلول 2021

———————-

اللحظتان الكارثيّتان في سياسات التدخّل الأميركيّة/ حازم صاغية

حين شنّت الولايات المتّحدة حرب العراق، وكانت سبقتها حرب أفغانستان بعامين، أرفقتْها بفائض آيديولوجيّ وبنقص عسكريّ. القوّات المقاتلة التي توجّهت إلى بغداد كانت أقلّ وأصغر ممّا تتطلّبه مهمّات القتال. التحالف الذي بناه لهذا الغرض جورج دبليو بوش كان هزيلاً جدّاً بقياس التحالف الجبّار الذي بناه والده جورج بوش لإخراج الجيش العراقيّ من الكويت. لماذا ضعف الاكتراث هذا؟ الجواب في فائض التفاؤل الآيديولوجيّ: «صدّام حسين مجرّد قشرة على سطح المجتمع العراقيّ الذي لا يريد إلاّ الديمقراطيّة. ما إن ندخل إلى العراق حتّى يغمرنا العراقيّون بالزهر والأرزّ. هناك سوف يتكرّر ما حصل في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية حين انهار النظامان الفاشيّان وقامت الديمقراطيّة برعاية وهندسة أميركيّتين. هناك سوف يتكرّر ما حصل في أوروبا الوسطى والشرقيّة بعد الحرب الباردة حين راحت البُلدان، ومن دون أيّ قتال، تدخل في الديمقراطيّة أفواجاً. هناك سوف نبرهن للعالم أنّ القيم والمصالح يمكنها، في ظلّ «إمبرياليّة إنسانيّة»، أن تتكامل. سيكون العراق مسرحاً لديمقراطيّة لن تلبث أن تغدو نموذجاً لشعوب الشرق الأوسط. هكذا نودّع، وإلى الأبد، الإرهاب الذي لا يُنعشه إلاّ الاستبداد».

الحجج والنظريّات هذه استُنفرت كلّها وكانت تستعجل الذهاب إلى بغداد على نحو يجعل أيّ تحفّظ يبدو كلاماً مشبوهاً. الرحلة آمنة جدّاً. تعالوا، أيّها الأوروبيّون، وشاركونا المغامرة المضمونة.

أمّا الحديث عن طوائف العراق وإثنيّاته ونزاعات التاريخ العراقيّ الحديث فلم يُرِد أن يسمعه أحد في واشنطن. الحديث عن مدى استعداد المنطقة، بحكّامها وشعوبها، للتعايش مع تطوّر كهذا كان مصيرُه التجاهلَ نفسه. الحديث عن أنّ سنوات الحصار التي سبقت الحرب دمّرت الطبقة الوسطى العراقيّة التي تتطلّبها الديمقراطيّة بدا أيضاً غير مُستحبّ.

الجميع نظروا بعين واحدة وأغلقوا الأخرى. أمّا حين كان الإصرار على أداء الرحلة البغداديّة يصطدم بقلّة البراهين فكان يُستنجَد بالكذب. كذبة كولن باول في مجلس الأمن، عن سلاح الدمار الشامل، دخلت معاجم الأكاذيب التاريخيّة.

في وقت لاحق، تبيّن أنّ النيّة في بناء النموذج الجديد في العراق سبقت جريمة 11 أيلول/ سبتمبر نفسها. الحماسة كانت تسابق الحماسة، والمتحمّسون من ثوريّي «المحافظين الجدد» تعهّدوا أنّ التاريخ، الموضوع في جيوبهم، لن يخذلهم أبداً.

سيناريو التفاؤل التاريخيّ الساذج لم تُكتب له الحياة. الطوائف والإثنيّات كشّرت بسرعة عن أنيابها. المقاومة صارت مادّة التنافس والمزايدة بين متطرّفين سنّة ومتطرّفين شيعة. بعض الجوار لاذ بالصمت والتفرّج، فيما لاذ بعضه بإرسال العبوات ودعم الإرهابيّين. إيران بدت الطرف الذي كسب الحرب.

هكذا، وفي غضون أسابيع، بدأت الولايات المتّحدة تنتقل من الحرب لبناء الأمّة وإقامة الديمقراطيّة إلى الحرب على الإرهاب. وسريعاً ما صار العراقيّون يُعامَلون بالقسوة التي تُمارَس على كائن ميؤوس من إصلاحه. سجنا أبو غريب وبوكا باتا نُصبي المرحلة الجديدة، وهذا قبل الاتّكال على طائرات الدرون العمياء.

العراقيّون الذين رُسموا قبلاً بوصفهم أكثر الشعوب عشقاً للديمقراطيّة وانتظاراً لها باتوا يُرسمون بوصفهم أكثر الشعوب احتضاناً لإرهاب متأصّل في طباعهم. ومثلما استدعت النظرة الأولى تسريع الدخول، صارت النظرة الثانية تستدعي تسريع الخروج، خصوصاً أنّ الرأي العامّ الأميركيّ يلحّ، هو الآخر، في طلب المغادرة. هذه الوجهة أخذت أشكالاً كثيرة، لكنّ شكلها الأصفى بالتأكيد يبقى الانسحاب الذي شهدته أفغانستان قبل أيّام.

لقد أدّى هذا التفكير الرغبويّ دخولاً وخروجاً إلى التأرجح الدائم بين أمْثَلة الشعوب وبين العنصريّة حيالها. الأمْثَلة يواكبها مستشارون عرب «يمينيّون» متفائلون بقدرة أميركا على إقامة الديمقراطيّة وإحقاق الحقّ وفعل الخير، وهم يبرّرون كلّ قسوة على الطريق المفضية إلى جنّة حتميّة. شعار هؤلاء: ادخلوا وتدخّلوا في أسرع وقت ممكن وافعلوا كلّ ما يمكن فعله.

أمّا عنصريّة الطور الثاني فيرفدها، من موقع الضدّ، عرب «يساريّون» و«ما بعد كولونياليّين» يرون أنّ شرور المجتمعات كلّها من صنع أميركا حصراً، وأنّ الشرّ أمّ السلع الأميركيّة. شعار هؤلاء: اخرجوا وانكفئوا في أسرع وقت ممكن وبكلّ ما أوتيتم من قوّة، وحين تخرجون ينقشع الخير العميم الذي تطفح به شعوبنا. بين هذين الصوتين لا يحلّ سوى صمت الشعوب والنُخَب الذي يقطعه، بين الفينة والأخرى، ضجيج صاخب. وهما صمت وضجيج بارعان في تضليل السامع الغريب بعد تضليل النفس العميقة.

«اهجموا كيفما كان»، صرخة الجمهوريّين التي لا تلبث أن تليها «اخرجوا كيفما كان»، صرخة الديمقراطيّين. كثير من التفاؤل في الحالة الأولى، وكثير من التشاؤم في الحالة الثانية، لكنّ الباحث عمّن يشبه غِرترود بِلّ أو فرِيَا ستارك، وعمّن يقول الكلام الصعب والمعقّد والعارف، وعمّا يقع بين الهجوم والانسحاب من رماديّ السياسة والدرس والتفاوض والمناورة واللعب على التناقضات فلن يجد إلاّ القليل.

الشرق الأوسط

———————–

أفغانستان بعد 20 سنة: الحصاد الدامي والحصيلة العجفاء

رأي القدس

بدت مشاهد مطار كابول بعد انسحاب آخر جندي أمريكي أبعد عن تصوير خاتمة 20 سنة من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة تحت شعار «الحرب على الإرهاب» وأقرب إلى مشهد سوريالي من التخريب والتدمير والتعطيل والتعثر والتعجل، لقوة كونية غازية تنسحب على عجل وارتباك واختلال. إنها أيضاً تترك وراءها ذلك الحصاد الدامي (75 ألف عسكري وشرطي أفغاني، و71 ألف أفغاني مدني، و3500 في صفوف الجيش الأمريكي وقوات من 42 دولة أجنبية) والكلفة المادية الباهظة والجسيمة (قرابة 822 تريليون دولار في قطاع المعدات العسكرية وحدها) والحصيلة العجفاء التي أثبتت انقلاب السحر على الساحر (غزو البلد لإسقاط طالبان، والانسحاب منه بعد إعادة تسليمه إلى طالبان).

ولقد شاءت مفارقات التاريخ أن يرحل آخر جندي أمريكي غازٍ على مبعدة أيام قليلة من الذكرى العشرين لهجمات 11/9 الإرهابية التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر البنتاغون في واشنطن، وكانت الذريعة الأولى التي استخدمها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن لغزو أفغانستان، بالتضامن والتكافل مع الحلف الأطلسي ووحدات عسكرية من عشرات الدول حلفاء واشنطن.

كذلك يشاء التاريخ إلزام أربعة من رؤساء أمريكا المسؤولين عن أطول حروب الولايات المتحدة، بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، أن يبصروا بأمّ العين مشاهد الحشود والإذلال والإخلاء واليأس وإراقة الدماء في مطار كابول بعد سقوط العاصمة في قبضة طالبان وفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني. ولم تكن أقل مرارة وخيبة وإحساساً بالهزيمة حصة تلك الغالبية التي مثّلت أمريكياً عادياً وقع بدوره ضحية أوهام «الحرب على الإرهاب» فهلل للاحتلال الأمريكي وساند صانعيه وأعاد انتخابهم قبل وقت طويل من فوات الأوان.

الدرس الأول خلف هذا الحصاد الدامي وهذه الحصيلة العجفاء هو أن عمر أي غزو خارجي قصير مهما طال بالطبع، ولكنه أيضاً يحمّل الغازي عواقب ليس بعضها أقل أذى لضحايا الغزو أنفسهم، حتى إذا كانت غالبية الساسة الأمريكيين أدنى استعداداً لأخذ العظة من دروس التاريخ، أو من تجارب مريرة متعاقبة في فيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق. والمستقبل الوشيك سوف يكشف ما إذا كانت أوهام القوة الكونية العظمى قد وًضعت على محك الهزائم والإخفاقات بما يتيح تفادي تكرار الماضي، أم أن غطرسة «الشرطي الكوني» سوف تتواصل في أذهان هذه الإدارة أو تلك ومعها تتضخم أكثر فأكثر عقائد التدخل العسكري والاجتياح والإخضاع.

وكان رئيس جمهوري هو بوش الابن قد بدأ الحرب في أفغانستان ضد نظام طالبان، ورئيس جمهوري آخر هو ترامب قد اعترف بالحركة رسمياً بعد 19 سنة، وكان رئيس ديمقراطي هو أوباما أول الواعدين بالانسحاب، ورئيس ديمقراطي هو بايدن آخر مستكمليه، وبالتالي ليس ثمة فارق جوهري بين الحزبين في إشاعة أوهام الغزو وتجميل محاسنه. وخلاصة المغزى القاسي أن شاغل البيت الأبيض، الراهن أو المقبل، ملزم بالتعاطي مع الحصيلة والحصاد، ولكن عبر سلطة طالبان ذاتها التي اعتُبرت الداء وتُرى اليوم مالكة الدواء.

القدس العربي

————————

أفغانستان وأسطورة العجز الأمريكي/ جلبير الأشقر

نادراً ما طغت النزعة الانطباعية، أي النزعة إلى الحكم على الأمور من خلال الانطباعات السطحية، مثلما طغت إزاء المشهد الأليم لألوف الأفغانيين والأفغانيات يستميتون في الهروب من المصير المظلم الذي ينتظر بلادهم، وقد سيطرت عليها «إمارة إسلامية» لا تضاهيها في نظرهم سوى «الدولة الإسلامية» سيئة الذكر التي اختبرناها في منطقتنا، والتي باتت فعّالة في أطراف دائرة بالغة الاتساع، تشمل أفريقيا جنوب الصحراء وصولاً إلى الموزمبيق من جهة، وآسيا الوسطى، ولاسيما أفغانستان نفسها، من الجهة الأخرى.

ولم تعد تُحصى التعليقات التي نعت القوة الأمريكية في ضوء انسحاب القوات الأطلسية الكارثي من أفغانستان، سواء أكان النعي مصحوباً بالنحيب على إخفاق حامي الديار، أم بالتهليل باندحار «الشيطان الأكبر». بل تكاثرت لدى الفريق الثاني التصريحات العنترية وكأنهم أصبحوا جميعاً من الطالبان، في قوس طريف امتدّ من أوساط «الممانعة» برمّتها إلى «هيئة تحرير الشام». هذا ومن المعلوم أن الجماعة الأخيرة مخوّلة أكثر من الممانعين بالتماثل مع الطالبان، وذلك لانحدارها من تنظيم «القاعدة» الذي تربطه علاقة وطيدة بحكام أفغانستان القدامى والمتجدّدين، علاقة كانت هي بالأصل سبب الغزو الأمريكي المطارد لجماعة أسامة بن لادن بعد تنفيذها عمليات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر قبل عشرين عاماً.

والحقيقة أن من يتغنّى بالمشهد الأفغاني من باب العداء لأمريكا إنما يمارس ما تسمّيه اللغة الإنكليزية «تفكير رَغبي» (wishful thinking). ويبلغ التفكير الرغبي والتفكير الانطباعي أقصاهما عند المعادلة بين أفغانستان وفيتنام، بإغفال حقائق لا بدّ من التذكير ببعضها. فقد تعدّى عدد الجنود الأمريكيين في فيتنام، عند ذروته في عام 1969، نصف مليون جندي، وقد سقط منهم ما يفوق 58.000 قتيل خلال السنوات الثماني التي خاضت فيها أمريكا حربها هناك. أما عدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان فقد بقي دون عشرين ألف خلال أحد عشر عاماً من أعوام الانتشار الأمريكي العشرين، ولم يبلغ سوى تسعين ألفاً عند ذروته في 11-2010، بينما لم يسقط من الجنود الأمريكيين طيلة عشرين سنة من الحرب الأفغانية سوى ما يقل عن 2.500 (بمن فيهم الجنود الثلاثة عشر الذين لقوا حتفهم من جراء العملية الانتحارية التي نفّذها الدواعش قبل أيام). أما العدد المتبقي من القوات الأمريكية في أفغانستان عندما قرّر الرئيس الأمريكي جو بايدن إتمام انسحابهم في نهاية آب/ أغسطس، فقد ناهز 2.500، لا أكثر.

هذا للقول إن الصمود البطولي للمقاومة الشعبية الفيتنامية في وجه الاحتلال الأمريكي ومقدار القوة العظيم الذي كرّسته واشنطن لكسر شوكتها لا تجوز معادلتهما بانتشار الطالبان في مناطق ريفية لم تكن أمريكا تحاول التحكم بها أصلاً، بعد أن تبيّن أن حلفاءها المحليين عاجزون عن الإمساك بها، ومن ثم انتشار الطالبان في المدن التي انسحبت منها القوات الأمريكية وحليفاتها الأطلسية بقرار سياسي.

إن الصمود البطولي للمقاومة الشعبية الفيتنامية في وجه الاحتلال الأمريكي ومقدار القوة العظيم الذي كرّسته واشنطن لكسر شوكتها لا تجوز معادلتهما بانتشار الطالبان في مناطق ريفية لم تكن أمريكا تحاول التحكم بها أصلاً

والحال أن واشنطن أدركت منذ سنوات أن لا جدوى من بقائها في أفغانستان إذ إن كلفة السيطرة المستدامة على البلد تفوق المصلحة الأمريكية في البقاء فيها. فقد عيّن باراك أوباما سنة 2014 موعداً لانتقال أمريكا من خوض القتال في أفغانستان، بعد الطفرة التي قرّرها هو نفسه تمهيداً لذلك إثر وصوله إلى الرئاسة، إلى الاكتفاء بالإشراف على القوات الأفغانية ومساندتها بشتى وسائط القصف. وقد خفّض أوباما عدد الجنود الأمريكيين الإجمالي إلى حوالي سبعة آلاف في عامي 2015 و2016. وبعد طفرة محدودة جديدة في السنتين الأوليين لعهد دونالد ترامب، بما أوصل التعداد إلى 14.000، عاد الانتشار الأمريكي إلى الانخفاض حتى بلغ الحضيض خلال الأشهر الأخيرة.

وتبقى الهزيمة التي مُنيت بها أمريكا في العراق أعظم بكثير من فشلها الأفغاني، حيث تراوح عدد جنودها في بلاد ما بين النهرين بين 120.000 و170.000 في السنوات الممتدة من اجتياح عام 2003 حتى وصول أوباما إلى الحكم في عام 2009، وقد بدأ هذا الأخير الاستعداد لإجلاء الجنود الأمريكيين الذي استُكمل في نهاية العام 2011، وقد سقط منهم في العراق ثلاثة أضعاف ما سقط في أفغانستان. والحال أن للعراق أهمية استراتيجية واقتصادية تفوق بكثير أهمية أفغانستان في المنظور الأمريكي، بما يفسّر اختلاف حجم المجهود الحربي الأمريكي في البلدين والفرق بين محاولة واشنطن التحكم بالعراق مباشرة واتكالها على قوات محلّية حليفة في أفغانستان منذ البداية، على غرار ما فعلت لاحقاً في العراق وسوريا عندما عادت لتحارب داعش في عام 2014.

في الواقع، كانت حربا العراق وأفغانستان اللتان شنّتهما إدارة جورج دبليو بوش إثر اعتداءات أيلول/ سبتمبر قبل عشرين عاماً، كانتا خروجاً عن الدرس الذي استخلصه البنتاغون من الهزيمة الفيتنامية، وقد عادت فعزّزته الهزيمة العراقية. هذا الدرس هو أن على أمريكا أن تتفادى انتشار قواتها في بلدان تشهد حالة حرب مستدامة، وأن تكتفي بالضرب من بعيد مستخدمة تفوّقها الهائل بالطاقة التدميرية والتكنولوجيا الحربية، وذلك على نطاق يتراوح بين تنفيذ ضربات محصورة، بل اغتيالات فردية لقادة أعداء، وتدمير بلد ما تدميراً كاملاً مثلما فعلت إدارة بوش الأب في العراق في عام 1991. فإن لجوء أوباما بعد خلافته لبوش الابن إلى استخدام كثيف للطائرات المسيّرة وحذو ترامب وبايدن حذوه، وقيام هذين الأخيرين بقصف مواقع داخل سوريا بالصواريخ، كل منهما في بداية عهده بتوازٍ لافت للنظر، إن هذه الممارسات إنما هي نماذج مما ستقوم عليه الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بصورة متعاظمة. ومن يدرك هذا الأمر يتفادى الوقوع في مطبّ استبدال أسطورة أمريكا التي لا تُقهر بأسطورة أمريكا العاجزة.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

————————–

كابول – غزة – إدلب: انتصارات – انكسارات/ موفق نيربية

لا يبدو أن الهجمات الأخيرة على مطار كابول ستغيّر من الأمر شيئاً. وربّما يكون» الردّ القوي» الذي توعد به الرئيس الأمريكي قوياً، إلا أنه لن يستطيع ردّ القضاء، أو تغيير حقيقة ما يجري وسوف يكون.

لا شكّ في أن طالبان انتصرت في أفغانستان.. لا شكّ أيضاً في أن الولايات المتحدة حققت ما يشفي غليلها قليلاً أو كثيراً، ممّن وجّهوا ضربة برجي مركز التجارة العالمي، وآلاف الضحايا الأمريكيين في قلب نيويورك، إذا توجّه تفكيرنا بطريقة حقوقية، لا تزر فيها وازرة وزر أخرى، ويتركّز الغضب على «القاعدة» وأسامة بن لادن، وحتى طالبان، التي كانت حامية ومؤجرة بن لادن سكنه ومقرّه، فقد ترى المؤسسة الأمريكية أنها قد عاقبتها بما يكفي على تلك الحماية والإيجار، لعشرين عاماً، صبرت فيها طالبان واعتكفت، ودرست الأمور بعين مختلفة في درجة حدّتها على الأقل.

انسحبت الولايات المتحدة بناءً على اتفاق إدارة ترامب مع طالبان، مع غطاءٍ شفّاف بأن اتفاقاً مع الحكومة الأفغانية على تقاسم وترتيب السلطة والحكم سوف يلحق بذلك. وابتدأت تلك المفاوضات متأخّرة في الدوحة، لا تستطيع سباقاً مع عملية الانسحاب ذاتها، التي كان لسرعتها وتسارعها أن فكّكت لحمة الدولة والجيش بسرعة قياسية، حتى بدا كأن الناس ترجو أخيراً من طالبان أن تدخل كابول حتى تضمن الأمن، وتضمن أيضاً تأمين عملية الانسحاب ذاتها. ولكنّ غدر داعش خراسان كان بالمرصاد، لو كان غدراً. لن يستطيع جهد طالبان لتحديث صورتها أن يقنع أحداً، على الرغم من أن هنالك تغيّراً بالفعل بعد تجربة مرّة وطويلة مضت بين الجبال والكهوف، مع مصرف ومنتجع أتاحته إيران، خصوصاً مع احتدام مناكفات الاتفاق النووي والعقوبات الأمريكية، وتعارضات الجمهوريين والديمقراطيين. وبالضرورة والطبيعة سوف تعود أفغانستان في حضن طالبان ملاذاً لـ»القاعدة» و»داعش» وغيرهما. ولم تكن تفجيرات المطار مجرّد شفاء للغليل، بل هي إعلان لتلك العودة وتبشير بها، حتى في وجه طالبان نفسها لو تطلّب الأمر ذلك. ذلك» الانتصار» لاقى صدى كبيراً بين السلفيين الجهاديين والإخوان المسلمين في كلّ مكان، كلّاً يدّعي وصلاً بليلى، ولا بدّ من أن أوّل الأصداء جاءت من غزّة.. في القطاع المكلوم المتكوّم على سندان حماس، بانتظار المطرقة الإسرائيلية بين فينة وأخرى. وحماس ابنة شرعية لجماعة الإخوان المسلمين بجوار مركزها في مصر، كما أن طالبان ابنة شرعية للجماعة الإسلامية ومركزها الباكستاني. عاشت مرحلة طويلة تتجنّب اللجوء إلى المقاومة المسلحة، متفرّغة للدعوة والعمل الخيري والتربوي، حتى عصر الانتفاضة الأولى، التي يبدو أنها أقنعت بنجاح سلميّتها إخوان غزة أن يحملوا السلاح أخيراً، ويؤسسوا «حركة المقاومة الإسلامية»، بالكود الناجح «حماس»، ويبدأ مسار جديد يستجلب اتّهامات بالإرهاب تعقّد محاولات الجمع اللاحقة ما بين حكم غزة الطامح إلى حكم الضفة أيضاً، و»المقاومة» التي لم تجد طريقاً في تلك السنوات، إلّا طريق التفجير أو العمليات الاستشهادية/ الانتحارية. رأت حماس في سياسة المقاومة/ التأزيم مع إسرائيل أداة قادرة على دعم أسلوب الحكم الذي استنبطته، والذي يحاول تلبية متطلبات الديمقراطية الانتخابية والحاكمية في وقت واحد، تحت ظلال السلاح. كانت قادرة على الجمع بين كلّ التعدّديات الأخرى على النسق نفسه: بين تعليمها «الحكومي» وتعليم «الأونروا» وتعليمها «الأيديولوجي»؛ وبراغماتية الهضيبي والتلمساني، مع كفاحية السيد قطب المتفجّرة؛ بل إنها استطاعت أيضاً الجمع بين تأييد نظام الحكم «الشيعي» في إيران والحكومة التركية» السنية»، وحافظت على علاقة إيجابية – غالباً- مع نظام آل الأسد في سوريا، ومثلها مع الحكومة في قطر؛ واحتفظت من ثمّ في الخزانة ذاتها باللباس الأوروبي لأيام الأسبوع والجلباب الأبيض والعمامة لخطبة الجمعة.

لا يمكن الحكم أيضاً بشكل قاطع على مدى الجدية في إنجاز تقارب عملي مع منظمة التحرير وفتح والسلطة الوطنية، لإنهاء الانقسام المتنوع الأبعاد ما بين غزة والضفة، الذي يفتك بالفعالية الفلسطينية ويشلّها. بعض المظاهر الجدية تلك تتنحّى جانباً في معظم الأوقات أمام شهوة الحكم وطموحاته، رغم احتجابها وراء الأيديولوجيا والتاريخ. كيف ترى حماس باباً جديداً للتمكين والاستقواء في انتصارات طالبان، أمر يحتاج إلى تأمّل ومعالجة، لن تكونا صعبتين بعد اليوم، حتى تحت ضغط التوتّر والغربة والأزمات المتوالدة لاحقاً. ربّما يكون النموذج الأفغاني، الذي أجبر الولايات المتحدة على التعامل باحترام معه، باباً لبرامج مشابهة لاحقة، تنفخ في غزة ودمارها حتى تعطي لها شكل الدولة بعد الدويلة.

و»دويلة» أخرى هلّلت في المنطقة لذلك الانتصار، هي هيئة تحرير الشام، التي تحكم إدلب في سوريا، مستفيدة من نموذج غزة مع بعض الاختلافات. فليست الحدود جاسئة في إدلب مع النظام السوري المتهالك والواقع تحت وطأة من نصروه من الميليشيات والدول، كما هي في غزة مع إسرائيل ذات الحول والطول؛ وليست «حكومة الإنقاذ» التي تحكم إدلب بكفاءة وتجربة حكومة غزة؛ ولا يفيض الدعم التركي في غزة بتأثير تعقيد السياسات الخارجية وحساسياتها مع إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، كما يفيض في إدلب، ليتوضّع عسكرياً في عشرات نقاط المراقبة حول المحافظة الرازحة تحت قبضة هيئة تحرير الشام.

وللتذكير هنا، فإن تلك الهيئة هي تقمّص آخر لجبهة النصرة، التي هي ابنة شرعية بدورها لمنظمة «القاعدة»، رغم تغيير ثوب قائدها مؤخراً أبو محمد الجولاني إلى لباس غربي أنيق، ومحاولة تغيير صورتها وصورته لتكون مقبولة أمام العالم، بعد جهود كبيرة قادتها تركيا للقيام بعملية» التحوّل» هذه. بخلاف بيان النصرة في تحيته انتصار طالبان، قال أحد «شرعييها»: قبل عشرين عاماً كان الحزن يعتصر قلوبنا عندما حصل الانهيار في أفغانستان، والآن تغيّرت المعادلة بفضل الله ثم بتضحيات وصبر طالبان، ومن ورائهم شعب عظيم معطاء» «ولا شكّ في أن الكثير من الدروس قد استفادتها الحركة من جديد، الفرحة تغمرنا بنصر الله هنالك، ونتوسّل إلى الله بأسمائه الحسني وصفاته العلا، أن تعمّ الفرحة بلاد الشام والعراق وسائر أنحاء أمتنا المكلومة المظلومة». كما اعتبر شرعي تونسي آخر للجبهة «أن ما بعد تحرير أفغانستان ليس كما قبله. طالبان قررت إعادة رسم سياسة العالم من جديد». وكذلك «إن قيام حكومات إسلامية تقيم شريعة الله بعد قرن من الظلام الحالك، أصبح أمراً واقعاً لن يستطيع الغرب نكرانه».

«بعد قرن من الزمان»، يمكن إجراء حساب ببساطة، ليعود بنا إلى مرحلة انهيار الأمبراطورية – الخلافة – العثمانية. ليعود ويعيد التأكيد على أحلام باستعادتها، تأسست على أساسها دعوة الإمام حسن البنا، وأدّت إلى نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين. وهذه لم تبق على حالها مع الزمن، بل تفاعلت مع حداثة العصر، فقاومتها وتمثّلت بعض تفاصيلها، ورفضتها وقبلت بها.

ولن تستطيع تلك «النهضة» أن تستمر على حالها، لأنها وصلت إلى الجدار لتختار: بين الانتفاض على الذات أو الغرق بلا عودة في مثلث برمودا الصحراوي الجديد. وهنالك من هو متربّص في الزاوية في طهران يصدّر ثوراته إلى ما حوله، وهناك خصوصاً حزب الله – إيران الصغيرة – يوزّع مقاتليه وصواريخه ونتراته ومفاجآته.

كاتب سوري

——————————

عن فشل أميركا وفشلنا/ مروان قبلان

بخروج آخر طائرة نقل عسكرية أميركية من مطار كابول، ليل أول من أمس الاثنين، تكون الولايات المتحدة قد أسدلت الستار على سلسلة حروبٍ ومغامراتٍ فاشلة في العالم العربي – الإسلامي، استغرقت 20 عاماً، وكلفَّت الكثير. خلال هذه الحقبة، تراوحت الأهداف الأميركية في ما سمّي “الشرق الأوسط الكبير” بين القضاء على “الإرهاب” ونشر الديمقراطية، عبر بناء نموذجٍ يُحتذى، إلى تأمين مصادر الطاقة، واحتواء الخصوم (روسيا والصين وإيران). وبسبب سوء الإدارة وسوء التقدير وسوء الفهم، لم تفشل واشنطن في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف فحسب، بل جاءت النتائج عكسيةً ومدمّرة، فطريقة خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، وقد جرى تصويرها على نطاق واسع، بما في ذلك من الإعلام الليبرالي الأميركي، هزيمة مذلّة لأكبر قوة، ستؤدّي، على الأرجح، إلى انتعاش الفكر الجهادي وانتشاره، كما حصل بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قبل ثلاثة عقود. أما بخصوص الديمقراطية، فالولايات المتحدة لم تفشل فقط في بناء ديمقراطيةٍ واحدةٍ في العالم العربي – الإسلامي منذ تدخلها فيه عام 2001، بل صار الوضع أسوأ مما كان عليه عندما أطلقت واشنطن حملتها (crusade) لـ”دمقرطة” العرب والمسلمين. ليس أن سياسات واشنطن في العراق وأفغانستان لم تحوّل البلدين، على الرغم من كل الأموال التي ضخّتها، إلى نموذج ألمانيا واليابان، كما وعدت! بل تركت وراءها نظم حكم تعدّ، بحسب تقارير دولية مختلفة، من بين الأكثر فسادًا. في أفغانستان، انهار النظام الذي صمّمته واشنطن مكافأة لحلفائها من الطاجيك والأوزبك والهزارة، الذين ساعدوها في هزيمة “طالبان” حتى قبل خروج القوات الأميركية، في حين ما زال نظام المحاصصة الطائفية الذي أنشأه بول بريمر يقاوم إرادة شباب العراق في التغيير، بفضل إيران ونفوذ مليشياتها. لم يقتصر الفشل الأميركي في العالم العربي – الإسلامي على فعل التدخل، بل جاوزه إلى فعل عدم التدخل، حين وقفت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة (وما زالت) تتفرّج على الحلم الديمقراطي العربي – الإسلامي يذبح، حيث تُركت الشعوب العربية – الاسلامية وحدها، لتلقى مصيرها المحتوم في مواجهة أسوأ صنوف الاستبداد، في إيران (2009)، وسورية (2011 – 2021)، ومصر (2013)، وغيرها.

إذا تركنا قضية القيم والمبادئ جانبًا، وركّزنا على المصالح التي تعيها واشنطن أكثر، نجد أن الفشل هنا لا يقل عنه هناك. إذ تردّد النخب الفكرية والسياسية الأميركية اليوم كلامًا فحواه تناقص الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج والشرق الأوسط في الحسابات الأميركية في ضوء تحول الولايات المتحدة، بفضل تقنيّة النفط الصخري، إلى أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، وهذا يحتّم على واشنطن تخفيف التزاماتها في المنطقة، والانتقال إلى التركيز على التحدّيات التي تمثلها الصين ومنطقة شرق آسيا. وبلغ الأمر بالرئيس السابق دونالد ترامب أن دعا الدول التي تشتري نفط الخليج إلى إرسال سفنها العسكرية لحمايته، فواشنطن ليست مضطرّة، كما قال، لحماية نفط يستخدم في تشغيل مصانع الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

هناك طرحٌ آخر مكمل، يزداد حضورا في واشنطن هذه الأيام، ومردّه التعب والإنهاك من فشل السياسات الأميركية في المنطقة. يرى أصحاب هذا الطرح أن العالم العربي – الإسلامي يمثل ثقب العالم الأسود، ويجب تركه وشأنه، إذ لا فائدة تُرجى من أي جهدٍ أو محاولةٍ لإصلاحه. هذه الطروحات، إذا جرى تبنّيها، ستوجّه ضربة كبرى لموقع الولايات المتحدة ومصالحها بوصفها قوة عظمى، وسوف تلقي العالم العربي – الإسلامي في أحضان الصين، وتُحبط جهود احتوائها. لقد تمكّنت الصين من تحقيق اختراقين كبيرين في العالم الإسلامي: مع باكستان التي غدت أهم حلفائها الإقليميين، ومع إيران التي وقعت معها، مطلع العام الجاري، اتفاقية تعاون استراتيجي مدتها 25 عاما، يتوقع أن تتطوّر أكثر في عهد إبراهيم رئيسي. وإذا استمر التفكير الأميركي الحالي، هناك احتمال أن تحقق الصين في المدى المتوسط اختراقاتٍ باتجاه العالم العربي وتركيا. فالمصالح الاقتصادية المتزايدة لدول الخليج مع الصين لن تلبث أن تتحوّل إلى مصالح أمنية – دفاعية، يُساعد عليها تشابه نظم الحكم وثقافته (رأسمالية – أوتوقرطية). وقد باتت لدى تركيا أيضا مصالح كبيرة مع الصين، إلى درجة تلزمها الصمت تجاه انتهاكات حقوق المسلمين الإيغور. هنا فقط تكتمل فصول الكارثة الأميركية في العالم العربي – الإسلامي، وتكتمل معها فصول فشلنا في بناء دول تحقق ذاتياً ثلاثية الأمن والرخاء وحكم القانون.

العربي الجديد

———————

أفغانستان ليست العراق أو سوريا/ روبرت فورد

يتساءل بعض المراقبين ما إذا كانت أفغانستان تعد نموذجاً لسياسة بايدن في الشرق الأوسط، أم لا. نُشر في مقال بموقع «فورين بوليسي» في 19 أغسطس (آب) أن العراقيين يشعرون بالقلق من أن بايدن قد يتخلى عن العراق أيضاً. كما طرح مقال نُشر بتاريخ 29 أغسطس في موقع «ناشيونال نيوز» الإماراتية التساؤل نفسه. وإنني أحث القراء على تجنب المقارنات البسيطة وتذكّر السبب الرئيسي الذي غادر بايدن لأجله أفغانستان، ولماذا العراق قضية مختلفة.

أوضح بايدن أسباب مغادرته لأفغانستان في تصريحات بالبيت الأبيض في 16 أغسطس. كان أمام إدارة بايدن الجديدة خياران واقعيان فقط لسياستها في أفغانستان في الربيع الماضي. تعلق أحد الخيارات بإلغاء اتفاقية الانسحاب التي أبرمها دونالد ترمب مع «طالبان» عام 2020، ما يعني انتهاء حالة وقف إطلاق النار بين القوات الأميركية وحركة «طالبان»، مع استئناف القتال العنيف مجدداً. وعندما غادر ترمب البيت الأبيض، لم يكن الجنود الأميركيون الموجودون في أفغانستان، والبالغ عددهم 3500 جندي، يكْفون لاحتواء هجوم جديد لـ«طالبان». وقد رأينا تواً مدى قوة حركة «طالبان».

إذا كان بايدن قد ألغى اتفاق ترمب، لَكان لزاماً عليه إرسال آلاف الجنود الأميركيين الإضافيين إلى أفغانستان. ولم يكن هناك سوى قليل من الدعم لدى الشعب الأميركي لقبول تصعيد كبير وجديد. يملك بايدن خبرة طويلة من العمل بالكونغرس، ومن توليه منصب نائب الرئيس ومعرفته بخطط الجنرالات الأميركيين. وشكك في أن التصعيد الذي وافق عليه أوباما عام 2009 سوف ينجح في إرساء السلام بأفغانستان، ونعلم من التاريخ أن بايدن كان مُحقاً. وقد رفض بايدن أي تصعيد، واختار بدلاً منه الانسحاب الكامل. والتركيز على التهديدات الناشئة من الصين وروسيا جعل قراره بتجنب التصعيد في أفغانستان أيسر كثيراً.

وعلى النقيض من أفغانستان، لا يواجه بايدن أي حاجة إلى تصعيد كبير في العراق وسوريا. «طالبان» خصم أكثر قوة وخطورة من شراذم «داعش» أو الميليشيات العراقية الموالية لإيران. بالإضافة إلى ذلك، وفي عهد بايدن، لدى المهمة العسكرية الأميركية في العراق وسوريا هدف محدد بمساعدة القوات المحلية على محاربة «داعش»، ليس أكثر. حتى إن أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية صرح في مقابلة أُجريت معه في يوليو (تموز) بأن الولايات المتحدة ليست في «حرب مفتوحة» مع الميليشيات الموالية لإيران بالعراق. وهذه رسالة مختلفة تماماً عن نوعية رسائل الحرب الأميركية ضد «طالبان» لما يقرب من 19 عاماً. وتأمل واشنطن في أن ينجح رئيس الوزراء الكاظمي في تعزيز قوة الحكومة ببغداد، وهي مستعدة لدعمه، لكنها لا تتوقع إرسال قوات قتالية كبيرة للدفاع عن بغداد ضد «داعش» أو ضد الميليشيات الموالية لإيران.

ويتعين علينا تذكر أنه من دون الوجود العسكري الأميركي في العراق لا يمكن أن يكون هناك وجود عسكري أميركي في شرق سوريا، إذ إن جميع الإمدادات تأتي من كردستان العراق. والهدف العسكري الأميركي في شرق سوريا أقل وضوحاً منه في العراق، لأن هناك هدفاً أمنياً مباشراً بهزيمة «داعش»، وهدفاً جيو – استراتيجياً أكثر غموضاً يتمثل في منع إيران وروسيا من السيطرة على شرق سوريا. على العكس من أفغانستان، فإن الوضع في شرق سوريا مستقر نسبياً من الناحية العسكرية، ولا يجد بايدن ضرورة للتصعيد. ومن المحتمل ارتفاع ضغوط الميليشيات الموالية لإيران في العراق أو سوريا بمرور الوقت، ولكن حتى الآن، لا تزال المخاطر على الجنود الأميركيين طفيفة.

وأخيراً، فإن السياسة في واشنطن، على النقيض من أفغانستان، تقف بقوة ضد الانسحاب من العراق وسوريا. أولاً، وافق الحزب الجمهوري مع ترمب على اتفاق عام 2020 بشأن الانسحاب من أفغانستان، وبالتالي امتلك بايدن الغطاء السياسي المطلوب. (إذا راقبت انتقادات سياسة بايدن في أفغانستان داخل الولايات المتحدة، فإن كثيراً من الجمهوريين والديمقراطيين ينتقدون التخطيط السيئ الذي أدى إلى انسحاب غير منظم، لكنهم يتفقون على أن الولايات المتحدة كان يلزمها الانسحاب إن عاجلاً أو آجلاً). وبالمقارنة، يعتقد معظم المراقبين في واشنطن أن الانسحاب الأميركي من العراق، خصوصاً سوريا، سيكون مكسباً استراتيجياً لإيران وروسيا، وسيرفع من حدة الانتقادات ضد بايدن للغاية، خصوصاً بعد أزمة أفغانستان. والقلق الإسرائيلي من الوجود الإيراني في سوريا له ثقله السياسي أيضاً في واشنطن.

بالإضافة إلى ذلك، تزداد المخاوف من صعود جديد في الجماعات الإرهابية بعد الانسحاب من أفغانستان، وانسحاب بايدن من العراق وسوريا سوف يعزز التصورات بأن إدارة بايدن تتجاهل خطر الإرهاب. وأخيراً، وهذا جديد ومهم، هناك لوبي الآن في واشنطن يدعم الأكراد ويؤيد مطالبهم بحقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقوبل قرار ترمب بالانسحاب من سوريا عام 2019 بانتقادات شديدة من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، وإذا أعلن بايدن عن قرار مماثل، خصوصاً بعد أفغانستان، فإن الانتقادات ستكون أكبر. فعلى المستوى السياسي، وعلى النقيض من أفغانستان، فمن الأكثر أماناً بالنسبة لبايدن أن يحافظ على الوجود الأميركي الحالي في العراق وسوريا، وأن يُحيل بايدن هذه الحروب الصغيرة إلى الإدارة الأميركية المقبلة.

الشرق الأوسط

—————————

قسد تترقب..هل تنسحب واشنطن من سوريا بعد أفغانستان؟

قالت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إن قوات قسد المتمركزة في شمال شرق سوريا والمدعومة من الولايات المتحدة، في حالة ترقب وقلق بعد انسحاب الجنود الأميركيين من أفغانستان، رغم التطمينات الأخيرة بأن لا تغيير للوجود الأميركي في سوريا.

وأشارت الصحيفة إلى أن قوات قسد لم تنسَ “الذكريات المؤلمة” للانسحاب الأميركي السابق قبل 3 سنوات، حين أعلن دونالد ترامب بشكل مفاجئ انسحاب 2000 جندي أميركي تحالفوا مع قسد ضد تنظيم “داعش”.

ولفتت الصحيفة إلى أنه “على الرغم من تحذير ترامب حينها من سحب كامل الجنود، إلا أنه قام بعدها بسحب نصفهم، وبذلك مهد الطريق أمام تركيا، الخصم الأكبر لقسد، للسيطرة على جزء من المنطقة”.

وقالت إن “الخطوة الأميركية وُصفت بأنها خيانة للأكراد، الذين خسروا آلاف المقاتلين خلال الحملة التي يشنها التحالف الأميركي ضد داعش”. وقال قائد قسد مظلوم عبدي حينها: “لا يزال حوالى 900 جندي أميركي متمركزين في مناطق واسعة من شمال شرق سوريا.. إنهم جزء من القتال المستمر ضد داعش، الذي يقدر التحالف الدولي عدد عناصره بين 8000 و 16000 في سوريا والعراق”.

ولفتت “واشنطن بوست” إلى أن الانسحاب الأميركي الجزئي جاء بعد أن أعطى ترامب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لعملية تركية عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا.

وتابعت أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن سعت في الأشهر الأخيرة إلى طمأنة مظلوم وقادة آخرين في قوات قسد، فأرسلت قائد القيادة المركزية الجنرال كينيث ماكنزي، ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، إلى المنطقة للتحدث معهم. ونقل مسؤولون أميركيون وآخرون من قسد عن الإدارة الأميركية قولها إن الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية لا تزال قوية وأن الجنود الأميركيين لن يغادروا.

ونقلت الصحيفة عن مظلوم قوله إنه يتوقع استقراراً نسبياً في شمال شرق سوريا “إذا وفت الولايات المتحدة بتعهداتها”، مضيفاً “نشعر الآن أن لدينا دعماً سياسياً وعسكرياً أقوى، أكثر مما كان لدينا من الإدارة السابقة”.

وتابع مظلوم خلال مقابلة في قاعدة عسكرية في وقت سابق من شهر آب/أغسطس: “بعد الانسحاب من أفغانستان، نقل إلينا مسؤولون أميركيون رسالة مفادها بأنه لن تكون هناك تغييرات حول وجودهم في سوريا”.

وقال: “أعلم أن هدف الولايات المتحدة في سوريا هو محاربة الإرهابيين، لكن الوجود الأميركي يجب أن يستمر حتى يتم التوصل إلى حل للأزمة السورية”، مضيفاً أنه “إذا استطعنا إقناع الولايات المتحدة بهذا الأمر، نستطيع القول إن المستقبل سيكون إيجابياً”. وحين سُئل مظلوم ما إذا كانت واشنطن ستقبل بطرحه، أجاب: “آمل ذلك”.

وقالت الصحيفة إن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يواصل تقديم المعلومات الاستخبارية وتنفيذ الضربات الجوية لدعم قوات قسد، مشيرةً إلى أن ميزان القوى في الحرب السورية متعدد الجوانب ويعتمد على الوجود الأميركي، مضيفةً أن التحالف يقوم أيضاً بتسيير دوريات بالتنسيق مع قوات قسد ضمن مناطق حقول النفط.

ونقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا هو فرصة لقوات النظام أو القوات الروسية أو التركية للتقدم. وأضاف المسؤولون أن الوجود الأميركي يمنع القوات الإيرانية من إنشاء “جسر بري” يسمح لها بتزويد حليفها “حزب الله” اللبناني بالأسلحة بسهولة أكبر.

في المقابل، أشارت الصحيفة إلى أنه “في مناطق شمال شرق سوريا، قلة هم الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة ستُبقي قواتها إلى أجل غير مسمى”. وقالت إنه “بعد 10 سنوات من الحرب، تصر قوات قسد والسلطة المحلية على أن حل الصراع السوري يجب أن يشمل تسوية سياسية تعترف بحقوق الأكراد في المنطقة”.

———————-

قطر تدعو طالبان لتوفير ممر آمن في أفغانستان

أعلنت قطر الخميس، أنها سهّلت عملية إجلاء ونقل أكثر من 40 ألف شخص من العاصمة الأفغانية بأمان إلى الأراضي القطرية، بالتنسيق مع الدول المعنية والأطراف الموجودة في أفغانستان.

وقالت وزارة الخارجية القطرية في بيان، إن معظم الذين تمّ إجلاؤهم حلوا ضيوفاً في دولة قطر لبضعة أيام قبل أن يكملوا طريقهم إلى وجهاتهم النهائية، وأكدت أن جهود الإجلاء ستتواصل في الأيام المقبلة بالتنسيق مع الشركاء الدوليين.

وأضافت أن جهود الإجلاء تأتي في سياق التزام دولة قطر تجاه الشعب الأفغاني الشقيق وحقه في العيش بكرامة وأمان، وأن الفئات التي تم إجلاؤها تتضمن العائلات والنساء والأطفال، بالإضافة إلى الأقليات.

وأوضح البيان أنه بناءً على طلب عدد من المجموعات الدولية، بما فيها المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإعلامية والمؤسسات التعليمية، قامت دولة قطر بإجلاء الآلاف من الموظفين الأفغان مع عائلاتهم، بالإضافة إلى عدد كبير من الطالبات من جميع أنحاء أفغانستان، كما سهلت دولة قطر “إجلاء عدد من مواطني الدول الصديقة كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا.

ووفق بيان وزارة الخارجية القطرية، فإن الدوحة تعمل بالتنسيق مع جميع الأطراف المعنية لتسهيل عمليات الإغاثة والإجلاء بصفتها وسيطاً وشريكاً دولياً يعتد به، وهي تتابع التطورات في أفغانستان عن كثب، ولن تدخر جهداً في دعم الشعب الأفغاني من خلال الدبلوماسية والحوار والمشاريع التنموية لتحقيق الاستقرار والازدهار في أفغانستان.

وفي السياق، قال وزير الخارجية القطرية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني خلال مؤتمر صحافي مع نظيرته الهولندية سيغريد كاغ في الدوحة الأربعاء، إن قطر تعمل على إخراج الأجانب والأفغان الذين يودون مغادرة أفغانستان.

وشدد آل ثاني على “أهمية حرية التنقل وضمان ممر آمن عند عودة مطار كابول إلى التشغيل وألا يكون هناك أي تحديات أمام من يريد الدخول والخروج إلى أفغانستان”.

كما طالب “بأهمية احترام حقوق المدنيين في أفغانستان وضرورة توحيد الجهود الدولية في الملف الإنساني”، مبيناً أن قطر “ساهمت في مساعدة الدول الحليفة والصديقة لإجلاء رعاياها من أفغانستان، ونحث طالبان على مسألة حرية التنقل ووجود ممر آمن لخروج ودخول الأفراد”.

وأوضح أن المقاربة للتواصل مع “طالبان تمت بالاتفاق مع شركائنا في المنطقة والعالم وهي استكمال لدورنا الحيادي في ملف الحوار الأفغاني”.

وحول مسألة الانتقال السياسي في أفغانستان، أكد الوزير القطري على أنه “يجب أن يكون سلمياً وأن يتم بسلاسة”.

من جهتها، شكرت وزيرة الخارجية الهولندية، قطر على “الدور المهم الذي تلعبه في الساحة الدولية بكل ما يتعلق بأفغانستان وملفات أخرى”، مضيفة “سنعزز التواصل من أجل التوافق السياسي في أفغانستان واحترام حقوق المرأة والأقليات الدينية”.

وتابعت “نحتاج من طالبان أفعالاً بخصوص ما تعهدت به لا سيما في ملف الحقوق”. ولفتت إلى أنها “ناقشت مع وزير الخارجية القطرية إمكانية نقل سفارتنا من كابول إلى الدوحة”.

والثلاثاء، تلقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني اتصالا هاتفياً من وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن استعرضا خلاله العلاقات الإستراتيجية بين البلدين وأوجه تعزيزها.

ووفق وكالة الأنباء القطرية، فقد جرى خلال الاتصال استعراض آخر تطورات الأوضاع في أفغانستان. وأعرب وزير الدفاع الأميركي عن شكر الولايات المتحدة للشيخ تميم على جهوده في دعم السلام بأفغانستان وتسهيل عمليات إجلاء المدنيين منها.

وتوالت رسائل الشكر من قبل زعماء ومسؤولين غربيين لدولة قطر على دورها الفعال في إحلال السلام بأفغانستان وتسهيل عمليات إجلاء دبلوماسيين أجانب ومدنيين منها. وقال النائب الديمقراطي الأميركي إريك سوالويل إن الرئيس جو بايدن أدرك أهمية الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وقطر بعدما كاد سلفه دونالد ترامب أن يدمرها خلال الأزمة الخليجية الأخيرة.

وأضاف سوالويل في تغريدة، أنه “مع هبوط آخر طائرات إجلاء الجنود الأميركيين من أفغانستان في قطر أفكر كيف كنا على وشك خسارة قطر كقاعدة في منطقة الخليج، فترامب كاد أن يفسد العلاقة معها أثناء الحصار”.

وفي السياق، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن ينسق حالياً مع المسؤولين في قطر لتقديم الخدمات القنصلية من الدوحة بعد إيقاف عمل السفارة الأميركية في كابل. وأضافت أن “وجودنا في الدوحة يتيح لنا التواصل مع الأميركيين الذين ما زالوا في أفغانستان”.

وتابعت: “الجزء الأكثر تحديداً الذي نعمل به مع القطريين والأتراك الذين هم شركاء مهمون هنا، إعادة تشغيل الجانب المدني من المطار”. وتابعت “وبالتالي يصبح ممكناً ليس فقط إجلاء الناس، بل تقديم المساعدات الإنسانية من خلال برامج مثل برنامج الغذاء العالمي”.

المدن

————————-

آخر مكالمة بين بايدن وغني:سقوط أفغانستان ليس حتمياً

كشف تفريغ لمكالمة هاتفية اطلعت عليه وكالة “رويترز” عما دار في آخر مكالمة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الأفغاني السابق أشرف غني قبل سقوط أفغانستان بيد حركة “طالبان”. وتضمنت المكالمة مناقشة الزعيمين للمساعدات العسكرية والاستراتيجية السياسية، وتنظيم المراسلات التكتيكية، لكن لم يكن أي منهما مدركاً أو مستعداً لسقوط البلاد في يد طالبان.

وعرض بايدن خلال المكالمة مساعدات في حال تمكن غني من أن يوضح علناً أن لديه خطة للسيطرة على الأوضاع المتدهورة في أفغانستان، وقال بايدن: “سنواصل تقديم دعم جوي مكثف إذا علمنا ما هي الخطة”.

كما نصح بايدن، غني بأن يحصل على موافقة أفغان نافذين على إستراتيجيته العسكرية حينها، ثم وضع “شخصية مقاتلة” لتقود تلك الجهود، في إشارة إلى وزير الدفاع الجنرال بسم الله خان محمدي.

وأشاد بايدن في المكالمة التي جرت في 23 تموز/يوليو، بالقوات المسلحة الأفغانية التي دربتها ومولتها الحكومات الأميركية المتعاقبة، وقال لغني: “من الواضح أن لديك أفضل جيش، لديك 300 ألف جندي مسلحين جيداً، مقابل 70 أو 80 ألفاً، وهم بالطبع قادرون على القتال جيداً”.

لكن بعد أيام، بدأ الجيش الأفغاني في التقهقر في أنحاء البلاد وعواصم الأقاليم من دون قتال يذكر في مواجهة طالبان.

كما ركّز بايدن على ما وصفه بأنه نظرة الحكومة الأفغانية للمشكلة، قائلاً: “أحتاج لأن أقول لك وجهة النظر والمفهوم السائد حول العالم وفي أجزاء من أفغانستان، أعتقد أن الأمور لا تسير بشكل جيد في ما يتعلق بالقتال ضد طالبان.. وهناك حاجة لرسم صورة مختلفة”.

وقال بايدن لغني إن “عقد شخصيات سياسية أفغانية بارزة لمؤتمر صحافي معاً لدعم استراتيجية عسكرية جديدة سيغير من المفهوم السائد وسيغير الكثير من الأمور على ما أعتقد”.

وأشارت كلمات الرئيس الأميركي إلى أنه لم يكن يتوقع حدوث التمرد الكبير والانهيار بعد 23 يوماً، حيث قال بايدن: “سنواصل الكفاح بقوة، دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً، للتأكد من أن حكومتكم لن تبقى فقط لكنها ستستمر وتنمو”.

من جهته، قال غني: “نواجه غزواً على نطاق واسع، يتألف من طالبان وتخطيط باكستاني كامل ودعم لوجيستي إضافةً إلى ما لا يقل عن 10 إلى 15 ألف إرهابي دولي، معظمهم من الباكستانيين تم الدفع بهم في هذا الأمر”.

——————————-

«لا تَنسني هنا»… قصة مترجم أفغاني ساعد بإنقاذ بايدن عام 2008 ولم يتم إجلاؤه

كابل: «الشرق الأوسط أونلاين»

قبل 13 عاماً، ساعد المترجم الأفغاني «محمد» في إنقاذ السيناتور آنذاك جو بايدن واثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الذين تقطعت بهم السبل في واد بعيد بأفغانستان بعد أن اضطرت مروحيتهم إلى الهبوط وسط عاصفة ثلجية. الآن؛ يطلب محمد من الرئيس بايدن أن ينقذه.

وقال محمد؛ الذي طلب عدم استخدام اسمه الكامل، لصحيفة «وول ستريت جورنال»، بينما غادر آخر الجنود الأميركيين كابل يوم الاثنين: «مرحباً سيدي الرئيس: أنقذني وعائلتي… لا تَنْسَني هنا».

ومحمد وزوجته وأطفالهما الأربعة يختبئون من حركة «طالبان» بعد محاولات استمرت سنوات للخروج من أفغانستان، ويعدّون بين عدد لا يحصى من الحلفاء الأفغان الذين لم يتمكنوا من الهروب عندما أنهت الولايات المتحدة حملتها العسكرية التي استمرت 20 عاماً في أفغانستان مؤخراً.

وشكرت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، جين ساكي، المترجم الفوري على خدمته، أمس (الثلاثاء)، وقالت إن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بإخراج الحلفاء الأفغان من البلاد. وقالت ساكي بعد أن قرأ مراسل في «وول ستريت جورنال» رسالة محمد إلى الرئيس: «سنخرجك… سوف نكرم خدمتك».

وكان محمد مترجماً فورياً يبلغ من العمر 36 عاماً للجيش الأميركي في عام 2008 عندما هبطت طائرتان هليكوبتر من طراز «بلاك هوك» بشكل اضطراري في أفغانستان خلال عاصفة ثلجية شديدة، وفقاً لما ذكره قدامى المحاربين في الجيش الذين عملوا معه في ذلك الوقت. وكان على متن الطائرة 3 من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي: بايدن، وجون كيري (ماساتشوستس)، وتشاك هاغل.

وقام فريق أمني خاص مع شركة «بلاك ووتر» السابقة وجنود الجيش الأميركي بمراقبة أي مقاتلين قريبين من «طالبان»، وأرسل الطاقم نداءً عاجلاً للمساعدة.

وفي مطار «باغرام» الجوي، قفز محمد في عربة مع قوة من الحرس الوطني في أريزونا تعمل مع «الفرقة 82 المحمولة جواً» وسافر لساعات في الجبال القريبة لإنقاذهم، كما قال بريان جينثي، الذي خدم رقيباً أول في الحرس الوطني الذي أحضر محمد في مهمة الإنقاذ.

وأمضى محمد معظم وقته في واد صعب؛ حيث قال الجنود إنه شارك معهم في أكثر من 100 معركة بالأسلحة النارية. وقال جينثي إن الجنود وثقوا به كثيراً لدرجة أنهم كانوا يعطونه أحياناً سلاحاً لاستخدامه إذا واجهوا مشكلة عند الذهاب إلى مناطق صعبة.

وكتب اللفتنانت كولونيل أندرو تيل في يونيو (حزيران) لدعم طلب محمد للحصول على تأشيرة هجرة خاصة: «خدمته المتفانية لرجالنا ونسائنا العسكريين هي مجرد نوع الخدمة التي أتمنى أن يقدمها مزيد من الأميركيين».

وقال جينثي إن طلب تأشيرة محمد أصبح عالقاً بعد أن فقد المقاول الذي كان يعمل لديه السجلات التي يحتاجها لطلبه.

ثم استولت «طالبان» على كابل في 15 أغسطس (آب) الماضي. وقال محمد، مثله مثل آلاف آخرين، إنه جرب حظه بالذهاب إلى بوابات المطار، حيث صدته القوات الأميركية. وقال الجنود إنه يمكنه الدخول بنفسه، لكن ليس مع زوجته أو أطفاله.

واتصل قدامى المحاربين في الجيش بالمشرعين وأصدروا نداءات للمسؤولين الأميركيين للحصول على المساعدة. كتب شون أوبراين، أحد المحاربين القدامى الذين عملوا معه في أفغانستان عام 2008: «إذا كنت تستطيع مساعدة أفغاني واحد فقط؛ فاختر محمد».

وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2008، تحدث بايدن، الذي كان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس الأميركي، غالباً عن حادثة الهليكوبتر والرحلة ذاتها.

وقال خلال حملته الانتخابية في أكتوبر (تشرين الأول)، بعد أشهر فقط من عملية الإنقاذ في فبراير (شباط): «إذا كنت تريد أن تعرف أين يعيش أفراد تنظيم (القاعدة)، ومكان أسامة بن لادن، فعد إلى أفغانستان معي، إلى المنطقة حيث أُجبرت الهليكوبتر على الهبوط في وسط تلك الجبال. يمكنني أن أخبرك أين هم».

وكانت الرحلة إلى أفغانستان واحدة من الرحلات الخارجية العديدة التي قام بها أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة معاً.

وقال جينثي إن محمد وقف مع الجنود الأفغان على جانب واحد من المروحية بينما قام أفراد من «الفرقة 82 المحمولة جواً» بحماية الجانب الآخر. وعندما اقترب السكان المحليون الفضوليون أكثر من اللازم، كان محمد يستخدم البوق ليطلب منهم المغادرة. ومكث هناك لمدة 30 ساعة في درجات حرارة شديدة البرودة حتى يتمكن الجيش الأميركي من إعادة المروحية إلى السماء مجدداً.

والآن؛ يختبئ محمد من حركة «طالبان»، وقال: «لا أستطيع مغادرة منزلي… أنا خائف جداً».

—————————-

ترسانة عسكرية ضخمة باتت في أيدي «طالبان»

عربات مصفحة وناقلات جند وطائرات نقل وأسراب من طائرات الإسناد البري وعشرات المروحيات

رياض قهوجي

أدى الانهيار السريع للجيش الأفغاني المكون من 300 ألف عنصر وضابط خلال أسبوع واحد من الزمن أمام هجمات قوات «طالبان» إلى تداعيات كبيرة ستستمر حتى بعد الانسحاب المهين لأميركا وحلفائها في حلف «الناتو» من كابل خلال الشهر الماضي. ولقد أظهرت التقارير أن كثيراً من قادة الجيش الأفغاني الذي استثمرت فيه أميركا المليارات من الدولارات خلال السنوات العشرين الماضية، آثروا عدم القتال، وانسحب بعض المقاتلين، في حين فر أو استسلم البعض الآخر.

كانت أميركا زودت القوات الجوية والبرية الأفغانية بمعدات حديثة تمكنها من التعامل مع تهديدات «طالبان»، أقله لفترة أشهر من الزمن تسمح للحكومة الأفغانية بأن تتوصل إلى اتفاق مع الحركة على تقاسم الحكم. لكن هزيمة الجيش الأفغاني وسرعة استسلامه أجهضا الخطط الأولية وتوقعات بعض الأجهزة الاستخباراتية لواشنطن التي كانت دائماً تتوقع بأن «طالبان» ستنتصر في نهاية المطاف، وعليه كانت هناك تقديرات بأن جزءاً كبيراً من عتاد الجيش الأفغاني سيسقط في أيدي الحركة. ولذلك، لا يمكن وصف هذا العتاد بأنه يحتوي على تكنولوجيا متقدمة جداً أو سرية. لكنه سيعطي «طالبان» قدرة عسكرية لم تمتلكها سابقاً.

فيما يخص عتاد القوات البرية، فرغم أن غالبيته لأهداف لوجيستية، إلا أنه يتميز بكونه من عربات «هامفي» المصفحة وناقلات جند مدرعة طراز «إم – 113» والعربات القتالية المضادة للألغام «إم إكس برو وام 117» وآلاف السيارات الرباعية الدفع ونصف نقل والشاحنات العسكرية. وأهم ما استولى عليه مقاتلو «طالبان» هو ما يقارب نصف مليون بندقية قتالية ومدافع رشاشة متوسطة وثقيلة وحوالي 16 ألف منظار للرؤية الليلية و176 مدفع ميدان من مختلف الأعيرة. ويمكن لـ«طالبان» أن تستوعب معظم هذه المعدات بسرعة، وتستخدم غالبيتها بمساعدة بسيطة من عناصر الجيش الأفغاني المنهار. ولكن يبقى موضوع قطع الغيار لهذه الآليات، التي يمكن الحصول عليها، إما من السوق السوداء أو عبر دول صديقة مثل باكستان، أو عبر قطع موازية من جهات مثل إيران والصين. ومن غير المعروف حتى الآن ماذا تنوي أن تفعل «طالبان» بالجيش الأفغاني السابق. فهل تعيد تشكيله مع دمجه مع قواتها أو تحييه وتبقيه مستقلاً عن قواتها التي ستتحول إلى ما يشبه الحرس الثوري الإيراني تكون مهمته حماية النظام؟

أما فيما يخص القوات الجوية، فتحدي إبقاء هذه الطائرات في الخدمة سيكون أكبر لـ«طالبان». ويضم سلاح الجو الأفغاني أربع طائرات نقل عسكرية طراز «سي – 130» وسربين من طائرات الإسناد البري الخفيفة طراز «سوبر توكانو» و38 طائرة استطلاع وإسناد بري خفيف طراز «سيسنا 208» وهي جميعها غير نفاثة. أما طائرات الهليكوبتر فهي من 33 طائرة نقل متوسطة طراز «بلاك هوك» أميركية الصنع و33 طائرة «مي – 17» روسية الصنع و43 طائرة هجوم خفيفة طراز «إم دي – 530». التحدي لـ«طالبان» هو تأمين طيارين وطواقم صيانة لتشغيل هذه الطائرات، بالإضافة إلى توفير قطع الغيار لها. ولن تقوم «طالبان» بإعادة أي من هذه الطائرات إلى أميركا، بل ستحاول أن تشغلها عبر تقديم مغريات لطواقم سلاح الجو الأفغاني بالعودة للخدمة، أو عبر تدريب طيارين وطواقم عمل في دول مجاورة أو الحصول على خدمات من طيارين وتقنيين سابقين من دول مجاورة مثل إيران وباكستان وحتى روسيا.

وتأمين قطع غيار أصلية أو بديلة للطائرات الأميركية لن يكون تحدياً مستحيلاً. فلقد تمكنت إيران من تحقيق ذلك عبر إبقاء جزء كبير من الطائرات الأميركية التي كانت حصلت عليها خلال عهد الشاه في الخدمة حتى هذا اليوم، إما عبر شراء القطع من السوق السوداء، أو عبر تصنيعها محلياً بمساعدة تقنية من دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية التي أتقنت وسيلة نسخ التكنولوجيا وتصنيعها محلياً. لذلك، ستشكل إيران وباكستان وحتى الصين مصادر مهمة لـ«طالبان» لخبرات وقطع غيار وبرامج تدريب تمكنها من إبقاء معظم هذه الترسانة الكبيرة من الطائرات في الخدمة.

لكن هناك مجموعة أسئلة تفرض نفسها، وهي لماذا لم تقم القوات الأميركية قبل انسحابها الأخير بتدمير هذه الطائرات الموجودة على مدارج وداخل هنغارات القواعد الجوية في أفغانستان؟ فهذا أمر يمكن تحقيقه خلال يوم أو يومين من الغارات الجوية الدقيقة. ورداً على هذا التساؤل، قال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي، خلال مؤتمر صحافي، أول من أمس، إن قواته «نزعت سلاح» حوالي 73 طائرة، أي أعطبتها وجعلتها غير قابلة للتشغيل مرة أخرى. وأكد أن «هذه الطائرات لن تحلق مرة أخرى»، مضيفاً: «لن يتمكن أحد من استخدامها».

ويبدو أن أميركا تأمل بأن تتمكن من إنشاء علاقات دبلوماسية جيدة مع أفغانستان تحت قيادة «طالبان» خلال المستقبل القريب، خصوصاً إذا ما تمكنت هذه الحركة من فرض سلطتها على كامل الأراضي الأفغانية، وتشكيل حكومة تضم شخصيات من الحكومات السابقة لها صدقية على الساحة الدولية، وإعادة عدد من ضباط الجيش الأفغاني من الذين تدربوا في أميركا، ويملكون علاقات جيدة مع قيادات عسكرية في البنتاغون.

وإذا تمكنت «طالبان» من إقناع الغرب بأنها تغيرت ولن تسمح بعودة «القاعدة» لأراضيها، وبأنها ستكون شريكاً في الحرب ضد منظمات إرهابية مثل «داعش»، وشكلت حكومة تضم حلفاء لأميركا، فسيكون في أفغانستان حينها حكومة تملك علاقات دبلوماسية مع واشنطن وغير معادية لها تملك جيشاً مجهزاً بعتاد حديث ومهم مرتبط معها عضوياً لحاجته لقطع غيار وصيانة لن تستطيع أن توفرها أي جهة بالجودة المطلوبة مثل بلد المنشأ.

وستكشف الأسابيع والأشهر المقبلة ما إذا كان انسحاب أميركا من أفغانستان جزءاً من خطة متقدمة لتوريث السلطة لحكومة «طالبان» بذهنية مختلفة تكون صديقة أو حليفة للغرب ومجهزة عسكرياً بشكل جيد يخدم مصالحه، أم أن الانسحاب هو فشل ذريع لواشنطن أدى إلى عودة حكومة متطرفة تدعمها جماعات إرهابية ومجهزة بعتاد عسكري يجعلها أكثر خطورة من قبل، وفي هذه الحالة تكون مصدر تهديد لجيرانها والمجتمع الدولي أيضاً، وهو أمر تنفيه قيادات «طالبان».

– باحث في الشؤون العسكرية

————————–

في وداع القوات الأميركية/ مايكل يونغ

من الأمور المُلفتة في الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن الكثير من الأميركيين قاربوا الحدث انطلاقًا من مفهوم الاستثناء الأميركي الذي يتفاخرون به. فالرسالة الضمنية، والصريحة أحيانًا، هي أن تخلّي الولايات المتحدة المُباغِت عن عشرات آلاف الأفغان الذين كانوا يعملون معها يُعدّ حدثًا مخجلًا في سجل دولة لا تسوّل لها معاييرها الأخلاقية الرفيعة أفعالًا كهذه.

وقد حدا هذا التفكير ببعض قدامى المحاربين الأميركيين إلى السعي من أجل نقل زملاء ومتعاونين أفغان سابقين إلى الولايات المتحدة. وكان حجم عمليات الإجلاء ملحوظًا أيضًا، إذ نُقل 114,000 شخص من كابل في غضون أسبوعين فقط. لكن، وباستثناء هذه الأمثلة المشجعة، سيُترك عشرات آلاف الأفغان في بلادهم ليواجهوا عواقب الانسحاب الأميركي.

لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يشكّل مفاجأة لأحد. فالولايات المتحدة انسحبت مرارًا وتكرارًا من النزاعات في الشرق الأوسط الأوسع، متخليةً عن السكان المحليين الذين يعتمدون عليها. لكنها لا تزال تعوّل على سمعتها كدولة حافظت على وجود عسكري لها في أوروبا بعد العام 1945 من أجل ردع الاتحاد السوفياتي وصون ديمقراطية القارة الأوروبية. مع ذلك، تشكّل الالتزامات الأميركية الطويلة المدى في الدول الاستثناء لا القاعدة في السلوك الأميركي عمومًا.

ففي شهر شباط/فبراير 1984، انسحبت قوات المشاة البحرية الأميركية التي كانت جزءًا من بعثة حفظ السلام المتعددة الجنسيات من بيروت، فيما كان الجيش اللبناني يحارب الميليشيات المدعومة من سورية. وقد شعر الرئيس رونالد ريغان آنذاك بالرمزية السلبية التي تنطوي عليها مغادرة البلاد، فكذب للحفاظ على ماء الوجه، قائلًا: “لا أعتقد أننا خسرنا بعد، لكنني أدرك أن الأمور تبدو قاتمة”. وأضاف: “ما دامت هناك فرصة، فلن ننسحب، بل ننوي إعادة الانتشار والتموضع في موقع دفاعي أكثر”. لكن للذين كانوا يعيشون في بيروت آنذاك، عنت عودة قوات البحرية الأميركية إلى سفنها قبالة الشواطئ اللبنانية أن الولايات المتحدة تغادر البلاد على عجل.

يُضاف إلى ذلك ما فعله الأميركيون في أفغانستان في أعقاب الانسحاب السوفياتي في شباط/فبراير 1989. فبعد أن زوّدت الولايات المتحدة المجاهدين بالأسلحة لمحاربة الاتحاد السوفياتي، وقفت مكتوفة الأيدي بعد مغادرة القوات السوفياتية أفغانستان، ولم تحرّك ساكنًا لتجنّب انزلاق البلاد نحو الفوضى. لم يكن من المطلوب، ولا من الضروري، أن يؤدي ذلك إلى تدخل عسكري أميركي في البلاد، لكن كان من المحبّذ لو أن واشنطن قرّرت إطلاق مبادرة دبلوماسية دولية من أجل إرساء الاستقرار هناك. أما ما حدث فكان بروز نجم حركة طالبان، متبوعًا بعودة أسامة بن لادن إلى أفغانستان بعد طرده من السودان، ما أسفر عن تداعيات بعيدة المدى.

ثم ازدادت الأوضاع سوءًا في العام 1991، حين دفع التحالف الدولي القوات العراقية إلى الخروج من الكويت. وكان الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب يحث الشعب العراقي على الإطاحة بنظام صدام حسين. ففي خطاب ألقاه في بلدة أندوفر في ماساتشوستس، قال بوش: “ثمة طريقة أخرى لوقف إراقة الدماء، وهي أن يتسلّم كلٌّ من الجيش العراقي والشعب العراقي زمام الأمور وأن يُرغما الدكتاتور صدام حسين على التنحي”. لكن، حين انتفض الشيعة والأكراد ضد نظام البعث في آذار/مارس 1991، وقفت واشنطن مجدّدًا مكتوفة الأيدي فيما شنّت القوات العراقية حملة بقيادة علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين، لسحق الانتفاضة.

يعيدنا كل ذلك بالذاكرة إلى حدث يعتبره الأميركيون تجسيدًا للتخلي المهين، وهو انسحاب الولايات المتحدة من سايغون في نيسان/أبريل 1975. وفي كتاب ينتقد الإجراءات الأميركية، حمّل العميل في وكالة الاستخبارات المركزية فرانك سنيب، كلًّا من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وسفير الولايات المتحدة في سايغون غراهام مارتن مسؤولية فشل التحضير لعملية الإجلاء، لاعتقادهما بأن ذلك كان ليقوّض حكومة فيتنام الجنوبية. لذا، حين سقطت سايغون، تُرك الكثير من الفيتناميين الذين عملوا مع الأميركيين لمواجهة مصيرهم، ووقعوا في أيدي الشيوعيين.

يُلقي كتاب سنيب، الذي يحمل عنوان Decent Interval (المهلة الزمنية اللائقة)، الضوء على التفكير الاستهزائي الأميركي. ويشير إلى أنه لو انقضت مهلة زمنية لائقة بين اللحظة التي قررت فيها الولايات المتحدة التخلي عن حلفائها الفيتناميين الجنوبيين وبين هزيمتهم أمام أعدائهم، لكان الوضع مقبولًا. وينطبق المنطق نفسه على حالة أفغانستان. ففي واشنطن، لم يعتقد أحد بإمكانية إلحاق الهزيمة بطالبان، لكن لو تمكنت الحكومة الأفغانية من الصمود فترة كافية ريثما يكون الناس قد نسوا إخفاقات الولايات المتحدة، لنجت إدارة بايدن بفعلتها هذه.

لكن ما الذي يفسّر ميل الولايات المتحدة إلى التخلّي عن أصدقائها؟ حقيقة أن الكثير من هذه الأحداث وقعت في الشرق الأوسط الأوسع تدفع إلى الافتراض بأن الأميركيين هم أكثر استعدادًا للتضحية بالشعوب التي لا تجمعهم معها روابط ثقافية كبيرة. وتكتسب وجهة النظر هذه المزيد من المصداقية عند سماع بعض الأميركيين يطالبون بمنع الأفغان الهاربين الذين ساعدوا الولايات المتحدة من دخول أراضيها. لكن الأميركيين، حتى في أوساط الجمهوريين، منقسمون حول هذه المسألة، لذا يبدو من غير الدقيق اختزال كل شيء في هذا الشرح.

غالب الظن أن الأمور أبسط من ذلك. فخلال أي صراع محبط، يعمد المسؤولون الأميركيون في مرحلة معينة باحتساب التكاليف والمكاسب، قبل أن يرجّحوا الكفّة لصالح الانسحاب إلى الجزيرة الأميركية. في هذا المنطق، تؤدي السياسات الداخلية والدوافع الانعزالية دورًا مهمًا. لكن هذا يفترض أن الأميركيين يتحركون وفقًا لما تمليه عليهم مصالحهم، لأن هذا ما يقتضيه تقييم التكاليف والمكاسب. مع ذلك، سواء في بيروت في 1984، أو أفغانستان بعد 1989، أو العراق في 1991، بدا جليًا أن الأميركيين عمومًا دفعوا أكلافًا باهظة ثمن سوء إدارتهم لعمليات الانسحاب. وهذا لم يحقّق مصالحهم البتّة.

فقد دفع الانسحاب من بيروت الكثير من خصوم أميركا، ومن بينهم أسامة بن لادن، إلى الاعتقاد بأنها تعاني من نقطة ضعف أساسية، وأتاح لإيران وسورية استخدام لبنان كقاعدة للوقوف في وجه المصالح الإقليمية لواشنطن وحلفائها. لقد سبّب قرار السماح لصدام حسين بالبقاء في السلطة والقضاء على أعدائه مشاكل لإدارة كلينتون، ما دفع إدارة جورج بوش الابن لاحقًا إلى غزو البلاد والإطاحة بالرئيس العراقي. ويصف الكثير من الأميركيين هذه الحصيلة بالكارثة التامة. يُضاف إلى ذلك أن عدم اهتمام واشنطن بشؤون أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي سمح لأسامة بن لادن باستخدام البلاد كقاعدة لشنّ هجمات مدمّرة على الولايات المتحدة في العام 2001.

بعبارة أخرى، قد يتمتع الأميركيون بالمهارة اللازمة لاحتساب التكاليف والمكاسب الفورية، لكنهم أقل براعةً في توقّع العواقب المحتملة لأفعالهم في المستقبل. فيبقى خارج المعادلة للأسف مصير الأشخاص الذين يضعون ثقتهم في أميركا. وهذه مسألة تستحق النظر إليها عن كثب. ففيما يزداد عدد الأشخاص المتضررين من القرارات الأميركية، ويواصل الأميركيون تبرير أفعالهم في إطار التفوّق الأخلاقي الباهر، قد تواجه واشنطن صعوبة أكبر في العثور على حلفاء مخلصين.

كتب مكيافلي أن “على الأمير أن يكون محبوبًا ومُهابًا. لكن إذا تعذّر تحقيق الحالتين معًا، فمن الأفضل أن يكون مُهابًا”. لكن استعداد الأميركيين للانسحاب من الدول والتخلّي عن حلفائهم حين تزداد الأوضاع صعوبةً يشير إلى أن احتمالًا مدمّرًا قد يطرأ، وهو أن يصبحوا لا محبوبين ولا مُهابين. ولا يمكن لأي قوة عظمى في العالم تحمّل ذلك لفترة طويلة.

————————-

مقبرة الإمبراطوريات”.. هل يكون مصير أمريكا كالاتحاد السوفييتي المنحل ‏بعد الانسحاب من أفغانستان؟

عربي بوست

هل يؤدي الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان إلى نهاية الإمبراطورية الأمريكية على غرار ما حدث للاتحاد السوفييتي المنحل؟ بات هذا السؤال يشغل كثيراً من أفراد النخب الأمريكية.

وفي هذا السياق يشرح جون أندرسون في مقال نشر في مجلة The New Yorker الأمريكية “كيف تموت الإمبراطوريات؟”؛ إذ يقول يبدو عادةً أنّ الأمور تبدأ بتزايد مشاعر الاضمحلال، ثم يقع حدثٌ كبير، حدثٌ واحد يُمثّل القشة التي تقصم ظهر البعير. فبعد الحرب العالمية الثانية مثلاً، كانت بريطانيا العظمى مفلسةً مع إمبراطوريةٍ مُحطمة، لكنّها نجحت بفضل قرضٍ من الحكومة الأمريكية وضرورات الحرب الباردة التي سمحت لها أن تحتفظ بمظهرها الخارجي كأحد الأطراف الفاعلة دولياً.

وظلت الأمور على ما هي عليه حتى أزمة قناة السويس عام 1956، حين تعرّضت بريطانيا لضغوط الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والأمم المتحدة حتى تسحب قواتها من مصر، التي احتلتها إلى جانب إسرائيل وفرنسا عقب تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس. وحينها اتضح أنّ أيام بريطانيا الاستعمارية قد ولّت. وسرعان ما بدأ فيضان إنهاء الاستعمار.

هل تلقى الإمبراطورية الأمريكية مصير الاتحاد السوفييتي؟

وحين سحب الاتحاد السوفييتي قواته من أفغانستان، في فبراير/شباط عام 1989، بعد محاولات فاشلة لتهدئة البلاد على مدار تسع سنوات فعلوا ذلك باحتفالٍ تم تجهيزه بعناية ليبعث برسائل فحواها الكرامة والوقار.

ورغم كل الحديث عن الواجب والمسؤولية الدولية سنجد أن أفغانستان التي تركها السوفييت صارت أرضاً تعمُّها المآسي. حيث قُتِل نحو مليوني مدني في الحرب من سكانها البالغ عددهم 12 مليوناً، بينما فرّ أكثر من خمسة ملايين خارج البلاد، ونزح مليونان آخران في الداخل. وتحوّلت العديد من مدن البلاد إلى أطلال، بينما تعرّضت نصف القرى الريفية للدمار.

ومن الناحية الرسمية، لم تفقد القوات السوفييتية سوى 15 ألف جندي تقريباً في الحرب -رغم أن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى بكثير- بالإضافة إلى نحو 50 ألف جنديٍ مصاب. لكن الأصعب كان خسارتهم لمئات الطائرات، والدبابات، والمدافع. علاوةً على مليارات الدولارات التي فقدها الاقتصاد السوفييتي المضغوط من أجل تغطية نفقات الحرب. ورغم محاولات الكرملين لتلميع الحرب، فقد أدرك المواطن السوفييتي العادي أنّ التدخل في أفغانستان كان قراراً باهظ التكلفة.

وبعد 18 شهراً فقط من الانسحاب السوفييتي من أفغانستان حاولت جماعةٌ من الشيوعيين المتشددين تنفيذ انقلابٍ ضد رئيس الوزراء الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف. لكنهم كانوا مخطئين في تقدير مدى قوتهم، والدعم الشعبي الذي سيحصلون عليه. لذا فشل انقلابهم سريعاً بسبب التظاهرات العامة ضدهم، وأعقب ذلك انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه. وبحلول ذلك الوقت، كان الكثيرون قد تآمروا عقب الانسحاب السوفييتي من أفغانستان لإضعاف الإمبراطورية القوية من الداخل.

ورغم التشابه المهين بين تلك الأحداث والأحداث التي مرّت بها الولايات المتحدة مؤخراً، فإن المستقبل هو الذي سيثبت لنا مدى صحة المثل القائل إنّ أفغانستان هي مقبرة الإمبراطوريات بالفعل، في حال سقطت الإمبراطورية الأمريكية كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، حسب المقال المنشور في مجلة The New Yorker.

وتعتقد الكاتبة روبن رايت أن ما حدث في أفغانستان يشكل نهاية الإمبراطورية الأمريكية، حيث كتبت في الـ15 من أغسطس/آب: “إنّ انسحاب أمريكا الكبير من أفغانستان هو مخزٍ بقدر انسحاب الاتحاد السوفييتي عام 1989 -إن لم يكن أكثر خزياً-، وهو الحدث الذي أسهم في سقوط تلك الإمبراطورية وحكمها الشيوعي… حيث انسحبت كل قوةٍ عظمى منهما في صورة الخاسر الذي يجر أذيال الهزيمة، تاركةً وراءها الفوضى ليس إلا”.

يقول كاتب المقال “حين سألت نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق جيمس كلاد عن رأيه في الأمر، بعث لي برسالةٍ بريد إلكتروني قال فيها: “إنّها ضربةٌ مُوجعة، ولكن هل هي (نهاية الإمبراطورية الأمريكية)؟ ليس الآن، وربما ليس لفترةٍ طويلة. ومع ذلك فقد أضرت هذه الهزيمة الفاضحة بالهيبة الأمريكية، وضربتنا على وجوهنا بمضربٍ جيوسياسي. ولكن هل هذه ضربةٌ قاضية؟ إذا نظرنا للعالم الأوسع، سنجد أن أمريكا لا تزال محتفظةً بوظيفتها الموازنة للقوى في الخارج. وباستثناء القليل من الصحافة المتحمسة، سنجد أننا لم نترك أي أفضليةٍ نهائية لصالح خصمنا الجيوسياسي الرئيسي: الصين”.

صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة لا تزال محتفظةً ببراعتها العسكرية وقوتها الاقتصادية في الوقت الحالي. ولكنها بدت عاجزةً بشكلٍ متزايد عن تسخير أي منهما لخدمة مصالحها على مدار العقدين الماضيين.

الإمبراطورية الأمريكية

وبدلاً من تعزيز هيمنتها عن طريق استغلال مصادر قوتها بحكمة كانت الولايات المتحدة تُبدّد جهودها بشكلٍ متكرر لتنتقص من هالتها كدولةٍ لا تقهر ومن مكانتها في عيون الدول الأخرى. حيث انتشر الإرهاب في جميع أنحاء الكوكب بسبب الحرب العالمية المبالغ فيها على الإرهاب، التي شملت غزو جورج بوش الابن للعراق بغرض العثور على أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها، وقرار باراك أوباما بالتدخل في ليبيا، واتفاق دونالد ترامب مع طالبان عام 2020 على سحب القوات الأمريكية من أفغانستان. وربما لم يعُد تنظيم القاعدة قوياً كما كان وقت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، لكنه لا يزال موجوداً على الأرض وله فرعٌ في شمال إفريقيا، كما يمتلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فرعاً هناك وفي موزمبيق وأفغانستان أيضاً. وها قد عادت حركة طالبان إلى السلطة، لتعود بنا إلى مبتدأ الحديث قبل 20 عاماً مضت.

ولم تعد لديها رؤية كما كان الأمر في الحرب الباردة

وعلّق روري ستيوارت، الوزير الحكومي البريطاني الأسبق في حكومة تيريزا ماي، قائلاً إنّه راقب الأحداث المتكشفة داخل أفغانستان “والرعب يملؤه”. ثم أضاف: “طوال فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تمتلك رؤيةً عالمية شبه دائمة. وتأتي الإدارات وتذهب، لكن تلك الرؤية العالمية لم تتغيّر كثيراً. ثم جاءت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، وقرّرنا نحن -حلفاء الولايات المتحدة- مجاراة النظريات الجديدة التي خرجت علينا بها أمريكا لتفسير ردها على التهديدات الإرهابية، سواءً في أفغانستان أو غيرها من الدول. لكن الرؤية العالمية صارت تفتقر تماماً إلى الاستمرارية منذ ذلك الحين، وصارت نظرة الولايات المتحدة للعالم الآن تختلف تماماً عن نظرتها في عام 2006 مثلاً. حيث تحوّلت أفغانستان من محور الكون إلى بلد يُخبروننا بأنّه لم يعُد يُمثّل تهديداً على الإطلاق. ما يعني أنّ كافة النظريات السابقة لم يعد لها أي معنى.

ولا شك أنّه من المزعج بشدة رؤية هذا الميل للانعزال عن الشؤون الخارجية بشكلٍ مفاجئ لدرجةٍ دمّرت كل شيءٍ حاربنا من أجله معاً طيلة 20 عاماً”، حسب تعبيره.

التذرع بمواجهة التوسع الصيني هو تبرير للانعزالية الأمريكية

وشكك ستيوارت في تأكيدات جو بايدن بأنّ الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة لم تعُد قائمةً في دولٍ مثل أفغانستان، بل صارت تكمُن في التصدي للتوسع الصيني. حيث قال ستيوارت: “لو كان هذا التأكيد صحيحاً، لصار من المنطقي في المواجهة الأمريكية ضد الصين أن يقول الأمريكيون: حسناً، سوف نُبرهن على قيمنا من خلال تواجدنا في كافة أنحاء العالم، تماماً كما فعلنا في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وإحدى طرق تحقيق ذلك ستكون بالحفاظ على وجودك في الشرق الأوسط وغيره من المناطق، وذلك لأنّ الانسحاب سيأتي بنتائج عكسية. وفي النهاية، أعتقد أنّ كل هذا الحديث عن التركيز مع الصين هو مجرد عذرٍ في الواقع للانعزالية الأمريكية”.

وبعودتنا إلى السؤال الملح: هل تُمثّل عودة طالبان في أفغانستان نهايةً للعصر الأمريكي أو على الأقل الإمبراطورية الأمريكية؟ على أعتاب ما يبدو أنّه قرارٌ كارثي من بايدن أن يلتزم باتفاق سحب القوات الأمريكية الذي أقره سلفه، يمكننا بكل تأكيد القول إنّ الصورة الدولية للولايات المتحدة قد تضرّرت.

ويبدو من اللائق طرح السؤال حول ما إذا كان بمقدور الولايات المتحدة فرض سلطتها الأخلاقية أكثر على المستوى الدولي، بعد أن سلّمت أفغانستان لطالبان على طبقٍ من ذهب. لكن لم يتضح بعد ما إذا كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يمثل حلقةً في سلسلةٍ من الانعزال على الذات، أم ستحاول الولايات المتحدة سريعاً إعادة فرض نفسها في مكانٍ آخر لتثبت للعالم أنّها لا تزال قوية. وفي الوقت الحالي يبدو وكأن العصر الأمريكي لا يزال مستمراً، وإن لم يكُن بنفس الزخم.

———————-

قد تُغضِب جاراتها الخليجيات… كيف أصبحت قطر وسيط العالم في التعامل مع طالبان؟

 ما إن انتهت الولايات المتحدة وحلفاؤها من إجلاء قواتهم والمتعاونين الأفغان، حتى بدأ نقاش حول شكل أفغانستان القادمة وعلاقتها بالعالم الخارجي، خصوصاً الولايات المتحدة والقوى الغربية في ظل حكم طالبان.

 تظهر في صدارة هذا النقاش دولة قطر التي يقول المسؤولون الغربيون إنها لعبت دوراً كبيراً لإجلاء عشرات الآلاف من الأشخاص. وتذكر وكالة أسوشيتدبرس الأمريكية أنه سيُطلب من الدولة الخليجية الصغيرة الآن المساعدة في الاتصال مع حركة طالبان.

 ترى الوكالة أن قطر ستكون من الدول ذات الثقل العالمي في القضية الأفغانية، وستشارك في الاجتماعات التي تعقدها واشنطن مع حلفائها لتبني نهجاً منسقاً حول أفغانستان، وهو ما سيعيد الدوحة إلى مكانتها الأولى في الخليج بعدما حاول جيرانها احتواءها.

وفي الأثناء، أعلنت عدة دول على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الاتحادية وهولندا أن بعثاتها الدبلوماسية في أفغانستان ستمارس أعمالها من العاصمة القطرية، ما يعزز من دور الدوحة في مسألة أفغانستان.

الدور القطري في الإجلاء

كان دور قطر غير متوقع في عملية إجلاء القوات الأجنبية من كابول، إذ كانت نقطة عبور لآلاف الأشخاص الذين تم نقلهم جواً من أفغانستان على مدى عدة أشهر إلى قاعدة العديد في الدوحة.

وأفادت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن السفير القطري في أفغانستان، كان يرافق الأمريكيين من سفارة الولايات المتحدة في كابول حتى يوصلهم إلى المطار، لتأمينهم وضمان مرورهم من نقاط تفتيش طالبان.

ووفق الأسوشيتد برس فإنه تم نقل نحو 40٪ ممن جرى إجلاؤهم عبر قطر، لتنال قيادتها بعدها “أكواماً من المديح من قبل واشنطن”. وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن مهمة الإجلاء كانت ستصبح أسوأ من دون مساعدة قطر.

وطلبت وكالات الأمم المتحدة الدولية من قطر المساعدة والدعم في إيصال المساعدات إلى أفغانستان. واعتمدت وسائل الإعلام الدولية أيضاً على قطر في عمليات إجلاء موظفيها.

وشاركت قطر أيضاً ببضع مئات من الجنود وطائراتها العسكرية الخاصة وأخلت فريقاً هندسياً من الفتيات المختصات في برمجة وصناعة الروبوت، ومنحتهن منحة تعليمية في الدوحة.

كما بنت قطر مستشفى ميدانياً للطوارئ وملاجئ إضافية ودورات مياه محمولة للخارجين من كابول، ووزع الجيش القطري 50 ألف وجبة في اليوم، ومثله فعلت الجمعيات الخيرية المحلية. وقدمت الخطوط الجوية القطرية 10 طائرات لنقل من تم إجلاؤهم من الدوحة إلى دول أخرى.

وتجري قطر في الوقت الحالي محادثات مع طالبان والقوى الدولية بشأن تقديم مساعدة فنية مدنية – بمشاركة حليفتها تركيا – لإدارة وتشغيل مطار كابول الدولي بعد الانسحاب الأمريكي.

ثقل قطري جديد

على مدى العقد الماضي، استضافت الدوحة القيادة السياسية لطالبان، كما كانت مسرحاً لمفاوضات السلام بين الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية وطالبان. ونقلت طائرة عسكرية قطرية – صناعة أمريكية – رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان وأحد كبار مؤسسيها إلى أفغانستان بعد سقوط كابول.

ووفرت هذه الاستضافة نفوذاً كبيراً لقطر لدى حركة طالبان، وهو ما ظهر جلياً خلال الأسابيع الماضية عندما استولت الحركة على كابول. إذ عمل مراسلو الجزيرة القطرية في أمان نسبي خلال بث أحداث كابول مباشرة، وانفرد مراسلوها بالوصول إلى مسؤولي طالبان ومشاهد دخول مقاتلي الحركة إلى القصر الرئاسي.

 واعترفت مساعدة وزير الخارجية القطري لولوة الخاطر للوكالة الأمريكية بالمكاسب السياسية التي حققتها قطر في الأسابيع الماضية، لكنها رفضت أي إشارة إلى أن جهود قطر كانت إستراتيجية بحتة. ولفتت إلى أن بلادها تتمتع بموقع فريد بسبب قدرتها على التحدث إلى مختلف الأطراف على الأرض، واستعدادها لمرافقة الناس عبر كابول التي تسيطر عليها طالبان.

في الأيام القليلة الماضية، استقبلت الدوحة العديد من الدبلوماسيين الغربيين لمناقشة المرحلة المقبلة في أفغانستان، وتم دعوتها إلى مؤتمر نظمته وزارة الخارجية الأمريكية في 30 آب/أغسطس، بمشاركة حلف الناتو وتركيا واليابان وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، لوضع نهج مشترك للتعامل مع أفغانستان. وكانت قطر الدولة العربية الوحيدة المشاركة في المؤتمر.  

وقال وزير الخارجية الياباني توشيميتسو موتيجي إن الحكومة اليابانية تدرس نقل مهمات سفارتها في كابول إلى قطر بسبب الوضع المتوتر في أفغانستان.

 وأشاد وزير الخارجية الألماني هايكو ماس من الدوحة بالدور القطري في أفغانستان، قائلاً: “دولة قطر لعبت دوراً مهماً جداً في عمليات الإجلاء”، مضيفاً: “نحتاج إلى تعاون دولي بشأن أفغانستان وسيكون لقطر دور مهم جداً بهذا الخصوص”.

من جانبه قال الأكاديمي الأمريكي والمحلل المختص في شؤون الخليج العربي ثيودور كاراسيك لرصيف22 إن دور قطر “سيكون محورياً في نجاح طالبان في الحكم”، مضيفاً أن هناك الكثير من المشاكل على أرض الواقع و”سيكون دور قطر هو حل هذه المشكلات”.

وأضاف كاراسيك: “ستكون قطر نموذجاً. ستجعل الدول الأخرى تسير على مسار الدوحة كأفضل طريقة للتعامل مع طالبان. وتدعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية ودول أخرى هذه الخطوة بالفعل”.

ولفت المحلل الأمريكي إلى أن هناك اتصالات إقليمية مع قطر وتركيا للتعامل مع القضايا الأفغانية لوجود تحديات مستقبلية هائلة يجب احتواؤها، قال: “هذا هو السبب في أن تواصل طالبان مع قطر والإمارات أصبح بالغ الأهمية، لقد قام مستشار الأمن القومي الإماراتي بزيارة إلى تركيا ومصر وقطر للتعامل مع هذه القضية”.

وأضاف: “نما نفوذ قطر في المنطقة على مدى السنوات الماضية ومع الأحداث الجارية يتوسع أكثر. لقد تم تكليف قطر من قبل الغرب بإدارة العديد من القضايا مع طالبان، وتتلقى دعماً دبلوماسياً رفيع المستوى لهذه المهمة”.

هل ستغضب الجيران مجدداً؟

في المقابل، قال محللون آخرون إن قطر تخاطر بتشويه سمعتها إذا تسرعت في تبني حكومة طالبان “الوحشية”. تقول سينزيا بيانكو الباحثة الإيطالية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومقره برلين لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية: “يسعد قطر أن تكون مهمة مرة أخرى، لكنها قلقة أيضاً بشأن سمعتها”. وأضافت: “إنهم يعرفون طالبان، ويعرفون ما سيحدث في أفغانستان، وسيكون الأمر مروعاً. ولا يريدون ربط صورتهم بالحركة”. وأردفت أنه لهذا السبب، كان القطريون حريصين على التأكيد أنه قد “طلب منهم آخرون (الولايات المتحدة) التواصل مع طالبان”.

قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، كانت جارتا قطر، السعودية والإمارات، هما اللتان يُنظر إليهما على أنهما صاحبتا نفوذ مع طالبان، وكانتا الدولتين العربيتين اللتين اعترفتا بحكومة طالبان في كابول.

وفي العقود التي تلت ذلك، تغيرت الأولويات السعودية والإماراتية. إذ أصبحت دولة الإمارات على وجه الخصوص تعتبر أن مواجهة تأثير جميع الحركات السياسية الإسلامية ركيزة لسياستها الخارجية.

ودعمت السعودية والإمارات في السنوات الأخيرة الحكومة الأفغانية السابقة، وتستضيف الإمارات الآن الرئيس الأفغاني أشرف غني، الذي أدى هروبه من كابول إلى انهيار حكومته.

ويقول محللون ودبلوماسيون إنه من غير المتوقع أن يندفع أي من البلدين إلى احتضان حكام كابول الجدد، أو إقامة علاقات دبلوماسية معهم في وقت قريب. لكن من المرجح أن يحاول كلاهما أن يجد نوعاً من التواصل مع الحركة لضمان عدم المساس بمصالحهما.

وقال محمد السلمي، رئيس معهد الرصانة الدولي للدراسات الإيرانية، إن الشاغل الرئيسي للسعودية هو ضمان عدم ازدهار علاقة طالبان بإيران في تحالف قوي يمكن أن يضر بالسعوديين.

وذكر عبد الخالق عبد الله، المعلق السياسي البارز المقيم في دبي، أن القلق الأكبر للإمارات هو احتمال أن يبث صعود طالبان حياة جديدة في قوى التطرف الإسلامي في الشرق الأوسط. وقال إنه لحماية مصالحها، تحرص الإمارات على إيجاد طرق للتأثير على طالبان ولا تنفر من استكشاف طرق خلق اتصالات مع الجماعة.

وتضيف الواشنطن بوست الأمريكية: “بينما تمارس قطر نفوذها في كابول، سترغب الدوحة في تجنب استعداء السعودية والإمارات، الخصمين اللذين كانا مستاءين من السياسة الخارجية القطرية”.

وتختم الصحيفة أن التعزيز الأخير لمكانة قطر سيعيد الدولة الخليجية الصغيرة إلى الدور الذي شكلته لنفسها منذ أكثر من عقد من الزمان، إذ سعت إلى أن تصبح قوة هائلة قادرة على التوسط بين مجموعة من الدول والقوى، لكن ذلك سيخلق صعوبات للدوحة في التنقل بين طالبان وحلفائها الآخرين.

رصيف 22

————————-

=====================

تحديث 04 آب 2021

———————————-

طالبان .. البحث عن جيش نظامي/ بيار عقيقي

لم يحدُث أن خلّفت الولايات المتحدة وراءها ترسانة ضخمة من الأسلحة في بلد، كما فعلت في أفغانستان. ولن تنفع تبريرات العسكريين الأميركيين لجهة “عدم جدوى” هذه الترسانة، بتأكيدهم أنهم جعلوها غير صالحة للاستخدام قبل مغادرتهم، ولا حتى انتقاد حركة طالبان لهم لذلك، على اعتبار أن “تلك المعدّات مُلك لأفغانستان، ولم يكن مفترضاً تعطيلها”. في الواقع، كل ما يحصل في أفغانستان “شيء جديد”، من الانسحاب إلى العلاقة التحالفية الجديدة بين واشنطن والحركة إلى مسألة السلاح.

يُمكن هنا الانطلاق من سؤالين: لماذا تترك الولايات المتحدة هذه الكمية من السلاح خلفها، خصوصاً أنها كانت قادرةً، بموجب حيّز زمني واسع، على سحبها كلها، وفقاً لاتفاقها مع “طالبان” في 29 فبراير/ شباط 2020 على الانسحاب من أفغانستان؟ مع العلم أن الحركة لم تكتفِ بالسيطرة على السلاح الذي كان في حوزة الأميركيين، بل أيضاً على السلاح الأميركي الذي كان في حوزة القوى الأمنية الأفغانية. .. لماذا تحتاج “طالبان” إلى سلاح جيش نظامي، فيما نشأتها، ثم نهضتها في 15 أغسطس/ آب الماضي، بعد سقوطها على يد الأميركيين عام 2001، قامتا على أسس “حرب العصابات” التي تساعدها فيها جغرافيّة البلاد الصعبة؟

في السؤال الأول، على الرغم من ظهور واشنطن بمظهر المتعجّل للانسحاب من كابول، بما يوحي بأن تركها السلاح خلفها “أمرٌ اضطراري”، إلا أن لهذه الخطوة دلالاتٍ كبيرة، برزت تحديداً مع تحليق مروحية عسكرية من نوع “بلاك هوك” فوق قندهار، معقل “طالبان”، يوم الإثنين الماضي. في العادة، كانت هذه المروحية تقصف مواقع “طالبان” في المدينة نفسها في الأيام الأولى للغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، إلا أن طيّارين أفغاناً تابعين للحركة هم من سيّروها أخيراً. وما ينطبق على قيادة “بلاك هوك” سينطبق على كل أنواع الأسلحة، وربما الاستعانة بـ”مستشارين أميركيين” للمساهمة في استخدامها.

في السؤال الثاني، إن حاجة “طالبان” إلى جيش نظامي أمر أساسي لها لبناء قوة مبنية على شرعية السلطة، لأن غياب هذا الجيش سيُفسح المجال، على المديين المتوسط والطويل، لنشوء مقاوماتٍ متفرّقة في البلاد ضد حكمها. يُمكن لـ”طالبان” إلقاء نظرة على دول عربية والاتّعاظ من دروسها. في العراق، انهار الجيش في الموصل عام 2014، فتمدّد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أنقاضه. في اليمن، تفكّك الجيش بعد بدء الحرب عام 2014، في ظلّ عقلية قبلية مهيمنة على المجتمع اليمني. في سورية، أدّت الثورة عام 2011 إلى انشقاق مجموعاتٍ كبيرة من العناصر عن الجيش الموالي لرئيس النظام بشار الأسد. في لبنان، لا يُمكن للجيش اقتحام حيّ صغير في قرية نائية تتقاتل فيه عائلتان، ما لم يكن قد نال غطاءً طائفياً ومذهبياً لتدخله، وإلا سيُقال إن “تدخله في هذه المنطقة طائفي” مثلاً، ما يؤدّي إلى تفكّكه.

في كل تلك الحالات، يسمح ضعف السلطة العسكرية الرسمية في المنطقة الإقليمية الممتدة من أفغانستان إلى لبنان بتدخّل خارجي، لتكريس دور الجماعات والمليشيات المسلّحة، على حساب الجيش المفترض أن يمثل “الدولة” و”النظام”. وفي غياب إعلان هذه الجماعات، رسمياً على الأقلّ، انقلابها على الدولة الموجودة فيها، لتبرير وجوديّتها، لأنه لا يمكن نظرياً حكم شرعيتين على أرضٍ واحدة، وإلا تُصاب بالتفسّخ وصولاً إلى الصدام المسلّح، فإن وجودها بات مسبّباً، عن قصد أو من دونه، لديمومة الحروب بعناوين طائفية ومناطقية ومذهبية. وسيؤدّي ذلك إلى نشوء مقاومة داخلية ضد هذه الجماعات مستقبلاً، وستسقط، لأن “لا قوة تحكُم إلى الأبد”.

هنا تُفهم حاجة “طالبان” إلى جيش نظامي تابع لها، يسمح بالسيطرة على أفغانستان أولاً، ومنع أي تدخل إقليمي عسكري من دول الجوار فيها ثانياً. وإذا نجحت الحركة بذلك في كابول، فإن أحجار الدومينو ستتدحرج وصولاً إلى شواطئ شرقي المتوسط.

العربي الجديد

———————————-

في وداع القوات الأميركية/ مايكل يونغ

من الأمور المُلفتة في الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن الكثير من الأميركيين قاربوا الحدث انطلاقًا من مفهوم الاستثناء الأميركي الذي يتفاخرون به. فالرسالة الضمنية، والصريحة أحيانًا، هي أن تخلّي الولايات المتحدة المُباغِت عن عشرات آلاف الأفغان الذين كانوا يعملون معها يُعدّ حدثًا مخجلًا في سجل دولة لا تسوّل لها معاييرها الأخلاقية الرفيعة أفعالًا كهذه.

وقد حدا هذا التفكير ببعض قدامى المحاربين الأميركيين إلى السعي من أجل نقل زملاء ومتعاونين أفغان سابقين إلى الولايات المتحدة. وكان حجم عمليات الإجلاء ملحوظًا أيضًا، إذ نُقل 114,000 شخص من كابل في غضون أسبوعين فقط. لكن، وباستثناء هذه الأمثلة المشجعة، سيُترك عشرات آلاف الأفغان في بلادهم ليواجهوا عواقب الانسحاب الأميركي.

لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يشكّل مفاجأة لأحد. فالولايات المتحدة انسحبت مرارًا وتكرارًا من النزاعات في الشرق الأوسط الأوسع، متخليةً عن السكان المحليين الذين يعتمدون عليها. لكنها لا تزال تعوّل على سمعتها كدولة حافظت على وجود عسكري لها في أوروبا بعد العام 1945 من أجل ردع الاتحاد السوفياتي وصون ديمقراطية القارة الأوروبية. مع ذلك، تشكّل الالتزامات الأميركية الطويلة المدى في الدول الاستثناء لا القاعدة في السلوك الأميركي عمومًا.

ففي شهر شباط/فبراير 1984، انسحبت قوات المشاة البحرية الأميركية التي كانت جزءًا من بعثة حفظ السلام المتعددة الجنسيات من بيروت، فيما كان الجيش اللبناني يحارب الميليشيات المدعومة من سورية. وقد شعر الرئيس رونالد ريغان آنذاك بالرمزية السلبية التي تنطوي عليها مغادرة البلاد، فكذب للحفاظ على ماء الوجه، قائلًا: “لا أعتقد أننا خسرنا بعد، لكنني أدرك أن الأمور تبدو قاتمة”. وأضاف: “ما دامت هناك فرصة، فلن ننسحب، بل ننوي إعادة الانتشار والتموضع في موقع دفاعي أكثر”. لكن للذين كانوا يعيشون في بيروت آنذاك، عنت عودة قوات البحرية الأميركية إلى سفنها قبالة الشواطئ اللبنانية أن الولايات المتحدة تغادر البلاد على عجل.

يُضاف إلى ذلك ما فعله الأميركيون في أفغانستان في أعقاب الانسحاب السوفياتي في شباط/فبراير 1989. فبعد أن زوّدت الولايات المتحدة المجاهدين بالأسلحة لمحاربة الاتحاد السوفياتي، وقفت مكتوفة الأيدي بعد مغادرة القوات السوفياتية أفغانستان، ولم تحرّك ساكنًا لتجنّب انزلاق البلاد نحو الفوضى. لم يكن من المطلوب، ولا من الضروري، أن يؤدي ذلك إلى تدخل عسكري أميركي في البلاد، لكن كان من المحبّذ لو أن واشنطن قرّرت إطلاق مبادرة دبلوماسية دولية من أجل إرساء الاستقرار هناك. أما ما حدث فكان بروز نجم حركة طالبان، متبوعًا بعودة أسامة بن لادن إلى أفغانستان بعد طرده من السودان، ما أسفر عن تداعيات بعيدة المدى.

ثم ازدادت الأوضاع سوءًا في العام 1991، حين دفع التحالف الدولي القوات العراقية إلى الخروج من الكويت. وكان الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب يحث الشعب العراقي على الإطاحة بنظام صدام حسين. ففي خطاب ألقاه في بلدة أندوفر في ماساتشوستس، قال بوش: “ثمة طريقة أخرى لوقف إراقة الدماء، وهي أن يتسلّم كلٌّ من الجيش العراقي والشعب العراقي زمام الأمور وأن يُرغما الدكتاتور صدام حسين على التنحي”. لكن، حين انتفض الشيعة والأكراد ضد نظام البعث في آذار/مارس 1991، وقفت واشنطن مجدّدًا مكتوفة الأيدي فيما شنّت القوات العراقية حملة بقيادة علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين، لسحق الانتفاضة.

يعيدنا كل ذلك بالذاكرة إلى حدث يعتبره الأميركيون تجسيدًا للتخلي المهين، وهو انسحاب الولايات المتحدة من سايغون في نيسان/أبريل 1975. وفي كتاب ينتقد الإجراءات الأميركية، حمّل العميل في وكالة الاستخبارات المركزية فرانك سنيب، كلًّا من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وسفير الولايات المتحدة في سايغون غراهام مارتن مسؤولية فشل التحضير لعملية الإجلاء، لاعتقادهما بأن ذلك كان ليقوّض حكومة فيتنام الجنوبية. لذا، حين سقطت سايغون، تُرك الكثير من الفيتناميين الذين عملوا مع الأميركيين لمواجهة مصيرهم، ووقعوا في أيدي الشيوعيين.

يُلقي كتاب سنيب، الذي يحمل عنوان Decent Interval (المهلة الزمنية اللائقة)، الضوء على التفكير الاستهزائي الأميركي. ويشير إلى أنه لو انقضت مهلة زمنية لائقة بين اللحظة التي قررت فيها الولايات المتحدة التخلي عن حلفائها الفيتناميين الجنوبيين وبين هزيمتهم أمام أعدائهم، لكان الوضع مقبولًا. وينطبق المنطق نفسه على حالة أفغانستان. ففي واشنطن، لم يعتقد أحد بإمكانية إلحاق الهزيمة بطالبان، لكن لو تمكنت الحكومة الأفغانية من الصمود فترة كافية ريثما يكون الناس قد نسوا إخفاقات الولايات المتحدة، لنجت إدارة بايدن بفعلتها هذه.

لكن ما الذي يفسّر ميل الولايات المتحدة إلى التخلّي عن أصدقائها؟ حقيقة أن الكثير من هذه الأحداث وقعت في الشرق الأوسط الأوسع تدفع إلى الافتراض بأن الأميركيين هم أكثر استعدادًا للتضحية بالشعوب التي لا تجمعهم معها روابط ثقافية كبيرة. وتكتسب وجهة النظر هذه المزيد من المصداقية عند سماع بعض الأميركيين يطالبون بمنع الأفغان الهاربين الذين ساعدوا الولايات المتحدة من دخول أراضيها. لكن الأميركيين، حتى في أوساط الجمهوريين، منقسمون حول هذه المسألة، لذا يبدو من غير الدقيق اختزال كل شيء في هذا الشرح.

غالب الظن أن الأمور أبسط من ذلك. فخلال أي صراع محبط، يعمد المسؤولون الأميركيون في مرحلة معينة باحتساب التكاليف والمكاسب، قبل أن يرجّحوا الكفّة لصالح الانسحاب إلى الجزيرة الأميركية. في هذا المنطق، تؤدي السياسات الداخلية والدوافع الانعزالية دورًا مهمًا. لكن هذا يفترض أن الأميركيين يتحركون وفقًا لما تمليه عليهم مصالحهم، لأن هذا ما يقتضيه تقييم التكاليف والمكاسب. مع ذلك، سواء في بيروت في 1984، أو أفغانستان بعد 1989، أو العراق في 1991، بدا جليًا أن الأميركيين عمومًا دفعوا أكلافًا باهظة ثمن سوء إدارتهم لعمليات الانسحاب. وهذا لم يحقّق مصالحهم البتّة.

فقد دفع الانسحاب من بيروت الكثير من خصوم أميركا، ومن بينهم أسامة بن لادن، إلى الاعتقاد بأنها تعاني من نقطة ضعف أساسية، وأتاح لإيران وسورية استخدام لبنان كقاعدة للوقوف في وجه المصالح الإقليمية لواشنطن وحلفائها. لقد سبّب قرار السماح لصدام حسين بالبقاء في السلطة والقضاء على أعدائه مشاكل لإدارة كلينتون، ما دفع إدارة جورج بوش الابن لاحقًا إلى غزو البلاد والإطاحة بالرئيس العراقي. ويصف الكثير من الأميركيين هذه الحصيلة بالكارثة التامة. يُضاف إلى ذلك أن عدم اهتمام واشنطن بشؤون أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي سمح لأسامة بن لادن باستخدام البلاد كقاعدة لشنّ هجمات مدمّرة على الولايات المتحدة في العام 2001.

بعبارة أخرى، قد يتمتع الأميركيون بالمهارة اللازمة لاحتساب التكاليف والمكاسب الفورية، لكنهم أقل براعةً في توقّع العواقب المحتملة لأفعالهم في المستقبل. فيبقى خارج المعادلة للأسف مصير الأشخاص الذين يضعون ثقتهم في أميركا. وهذه مسألة تستحق النظر إليها عن كثب. ففيما يزداد عدد الأشخاص المتضررين من القرارات الأميركية، ويواصل الأميركيون تبرير أفعالهم في إطار التفوّق الأخلاقي الباهر، قد تواجه واشنطن صعوبة أكبر في العثور على حلفاء مخلصين.

كتب مكيافلي أن “على الأمير أن يكون محبوبًا ومُهابًا. لكن إذا تعذّر تحقيق الحالتين معًا، فمن الأفضل أن يكون مُهابًا”. لكن استعداد الأميركيين للانسحاب من الدول والتخلّي عن حلفائهم حين تزداد الأوضاع صعوبةً يشير إلى أن احتمالًا مدمّرًا قد يطرأ، وهو أن يصبحوا لا محبوبين ولا مُهابين. ولا يمكن لأي قوة عظمى في العالم تحمّل ذلك لفترة طويلة.

—————————

أفغانستان: هزيمة الكولونياليّة أم معضلة الدين؟/ أسعد قطّان

أن تقول إنّ الولايات المتّحدة هُزمت في أفغانستان هو ألّا تقول شيئاً؛ لا لأنّ القول في ذاته لا ينطوي على حقيقة ما، بل لكونه ينتمي إلى ضرب من ضروب الخطابيّة التي لا تفضي إلى شيء، ولا تتيح لك أن تذهب خطوةً أبعد في التفكير. من المشروع، طبعاً، أن تسأل إذا كان انسحاب الأميركيّ من أفغانستان مجرّد «هزيمة» أم جزءاً من نظريّة الفوضى الخلاّقة وخربطةً مدروسةً على الصين وروسيا وإيران. ولكنّ السؤال الأهمّ الذي ينبغي طرحه هو ماذا يمكننا أن نتعلّم من خبرة ما جرى في أفغانستان ويجري هناك.

العقل الغربيّ الذي صنع، بمعنًى ما، «فضيحة» أفغانستان سيتعلّم من تجربته هناك بالتأكيد، وسيستخرج الدروس من الأخطاء التي ارتكبها. هذا لأنّه عقل مفطور على النقد والمساءلة. ولعلّ أبرز مكامن قوّته هو قدرته على مراجعة ذاته ووضع سلوكه هو تحت مجهر النقد على قدر ما يفعل.

هذا مع الآخرين، حتّى إنّ نقد الذات لديه يكاد يفوق أحياناً نقد مقاربات الآخرين وسلوكيّاتهم. بالنسبة إلى الأميركيّين والأوروبيّين، الذين استثمروا طاقات بشريّةً هائلةً ومليارات الدولارات في أفغانستان، لن يمرّ فشلهم هناك مرور الكرام، بل هم سيتفحّصون أسبابه، ويستجلون ظواهره وبواطنه، ويقلّبونه على وجوهه كافّةً طمعاً في الفهم والإدراك واستخلاص العبر. ولكن إذا كان هذا هو السلوك الغربيّ، ماذا عن تعاطي الأفغان ذاتهم مع الانهيار الذي حلّ ببلادهم؟ وكيف يقارب الذين يتعاطفون مع الشعب الأفغانيّ، بفعل انتمائه الحقيقيّ أو الافتراضيّ مثلاً إلى الأمّة الإسلاميّة، الحوادث العظام الآخذة في التسارع هناك؟

إنّ واحداً من الأسئلة المحوريّة التي ينبغي التصدّي لها في الجانب غير الغربيّ، إذا جاز التعبير، يرتبط بماهيّة الشرط السياسيّ والثقافيّ والدينيّ الذي أفضى إلى فشل المغامرة «الغربيّة» في أفغانستان. وهذا السؤال، إذا أُخذ على محمل الجدّ، سيحيلنا إلى مكان في التقصّي العقليّ يتخطّى المقولات التي نستنجد بها في العادة عن الإسلام السياسيّ المتطرّف الذي يفرض ذاته بقوّة السلاح، والذي لا علاقة له بالإسلام «الوسطيّ» المتّصف بالتسامح والاعتدال. فالمسألة ليست تحديد ميتافيزياء الإسلام، بل هي العلاقة بين الدين والتقليد وكيف يستخدم الدين المجتمعات التقليديّة كي يرسّخ سطوته، وكيف تلجأ المجتمعات التقليديّة إلى الدين كي تستمدّ منه مسوّغاتها الثقافيّة. هنا يكمن بيت القصيد، وأيّ محاولة لتوصيف ما جرى في أفغانستان على أنّه هزيمة غربيّة أمام مظهر قديم جديد من مظاهر الصحوة الإسلاميّة إن هي إلّا محاولة اختزاليّة ومبتورة لكونها تستعيض عن الباطن بالظاهر وعن السبب بالعارض.

من اللافت أنّ النموذج «الأفغانيّ» الذي يطالعنا اليوم، أي ارتباط الدين الوثيق بثقافة المجتمعات التقليديّة، بحيث يتوكّأ هو عليها للمحافظة على مسلّماته وتتوكّأ هي عليه لحماية ثوابتها، هذا النموذج هو نقيض النموذج «الغربيّ» القادر، بفعل استناده إلى ديناميّة النقد الآتية من الفلسفة القديمة ومن عصر التنوير، على إخضاع الثوابت والمسلّمات كافّةً، كائنةً ما كانت درجة «قداستها»، للنقد والمراجعة والتفكيك. بهذا المعنى، ما يجري في أفغانستان يحيلنا إلى ديكارت، على قدر ما يحيلنا إلى النظريّات النيو-كولونياليّة. وهو، في التحليل الأخير، لا يأخذنا إلى صراع مفترض أو حقيقيّ بين الإسلام والغرب بقدر ما يأخذنا إلى مكان من نوع آخر عنوانه العلاقة الجدليّة بين الدين ومجتمعات تعيش في حقبة ما بعد الحداثة، ولكنّها ما زالت تتغذّى من ذهنيّات ومفاهيم ومنظومات سلوكيّة سابقة للحداثة. لعلّنا لن نفهم ما يحدث اليوم في أفغانستان، ما لم نأخذ هذه العلاقة الجدليّة في الحسبان…

المدن

————————————–

قسد” وحسابات ما بعد أفغانستان/ بشير البكر

تبدو قيادة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) منشغلة كثيرا بالانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، التي بقيت على مدى عشرين عاما بؤرة الاهتمام العسكري الأميركي، وكلفت الولايات المتحدة بشريا وماديا على نحو باهظ. ووصل القلق الذي يستبد بالحليف الكردي في الحرب ضد داعش إلى أروقة الإدارة الأميركية منذ عدة أشهر، وبدأ ينمو تدريجيا بعد أن اتفقت الولايات المتحدة مع الحكومة العراقية على أجندة زمنية لسحب قواتها المقاتلة، تبدأ في نهاية هذا العام.

وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” في مطلع هذا الأسبوع الحالي، عن أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن سعت في الأشهر الأخيرة، إلى طمأنة قائد “قسد” مظلوم عبدي وقادة آخرين، فأرسلت قائد القيادة المركزية الجنرال كينيث ماكنزي، ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، إلى المنطقة للتحدث معهم. ونقل مسؤولون أميركيون وآخرون من “قسد” عن الإدارة الأميركية قولها إن الشراكة مع “قوات سوريا الديمقراطية” لا تزال قوية، وإن الجنود الأميركيين لن يغادروا. ولكن ذلك لا يقدم طمأنينة كاملة للطرف الكردي، وعليه نقلت الصحيفة عن عبدي قوله إنه يتوقع استقراراً نسبياً في شمال شرقي سوريا “إذا وفت الولايات المتحدة بتعهداتها”، مضيفاً “نشعر الآن أن لدينا دعماً سياسياً وعسكرياً أقوى، أكثر مما كان لدينا من الإدارة السابقة”.

ومن المرجح حتى الآن أن الولايات المتحدة لن تغير خططها في شمال شرقي سوريا، إلا أن هذه الخطط تبقى مرتبطة بالحرب على داعش، ولا صلة لها بأي حل سياسي ممكن في سوريا. ولأن الأمر بات مقلقا جدد جوي هود في مقابلة مع قناة الحرة يوم الخميس الماضي التطمينات الأميركية، وقال “أريد أن أقول بشكل لا لبس فيه إن أفغانستان ليست العراق ولا سوريا، بينما مهمتنا في أفغانستان اكتملت”. وأضاف “مصالحنا في العراق ستستمر مع الوقت، وهذا لا يشمل الأمن فقط إنما أيضاً مساعدة قوات الأمن العراقية وقوات سوريا الديمقراطية لهزيمة داعش بشكل نهائي وهذا سيأخذ وقتاً”.

ومن الواضح هنا أنه باستثناء تفاهمات الحرب على داعش ليس هناك أي ضمانة لـ “قسد” في ما يتعلق بالمستقبل، الذي يبقى مرهونا بصيغة الحل الشامل في سوريا. والنقطة الأساسية التي لا تزال إشكالية بالنسبة للتنظيم هي موقف الإدارة الأميركية الجديدة من الوضع في سوريا، ذلك أن إدارة الرئيس بايدن لم تعلن عن سياسة رسمية نهائية حتى الآن، وهناك تصريحات تؤكد على أن واشنطن “لا تسعى لتغيير الأسد” على حد تعبير هود، وهذا ما يضع “قسد” في دوامة القلق حول مصيرها، ولهذا فإن قيادتها تحركت في أكثر من مناسبة من أجل التفاهم مع النظام السوري برعاية روسية، كما حصل في أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما سحبت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قسما من قواتها التي كانت ترابط في المنطقة، وكانت نتيجة ذلك قيام تركيا وحلفائها من فصائل المعارضة السورية بالتقدم والسيطرة على مدينتي تل أبيض ورأس العين، من دون أي رد فعل من جانب روسيا التي تنتشر قواتها في تلك المناطق. وفي الوقت الذي تقرر أميركا مغادرة المنطقة، فإن الطريق الوحيد أمام “قسد” هو الذي يؤدي إلى النظام، وبشروطه.

وتطمح “قسد” إلى بناء علاقة مع النظام على أمل أن تكسب سياسياً، من خلال التفاهم على حل في المنطقة التي تسيطر عليها، وعرضت أكثر من مرة، على النظام صفقة تقوم على تسليم المنطقة، مقابل تخفيف القبضة المركزية والاعتراف بالخصوصية الكردية. ومن المعروف أن النظام كان يمكن أن يقدّم هذا التنازل إلى “قسد” قبل عملية “نبع السلام”، ولكنه غيّر قواعد اللعبة بعد أن أدرك هشاشة “قسد” من دون مظلة أميركية.

تلفزيون سوريا

————————————

جهاديو” اليوم ليسوا أعداء أميركا/ مهند الحاج علي

سيطرة حركة “طالبان” على أفغانستان بالكامل، أعادت مشاهد من دخولهم كابول في تسعينات القرن الماضي، واحتضانها تنظيم “القاعدة” حينها، والذي ركز حينها على شن عمليات ضد الولايات المتحدة، وصولاً الى اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001. لكن المقارنة هنا بفارق أكثر من 20 عاماً، ليست في محلها لأسباب عديدة.

أولاً، الولايات المتحدة تنسحب، ليس من أفغانستان فحسب، بل من العراق وربما سوريا لاحقاً. حتى قواعدها العسكرية في الخليج ينخفض عددها بشكل متواصل.

في تسعينات القرن الماضي، خاضت الولايات المتحدة حرباً ضد العراق لتحرير الكويت، وواصلت دعمها إسرائيل لقمع انتفاضتين فلسطينيين. مع انتشار شبكات التلفزة العابرة للحدود في العالمين العربي والإسلامي حينها، راكم سكان المنطقة وعياً معادياً للولايات المتحدة، بصفتها دولة تحتل مدناً إسلامية مقدسة، وتُبقي أنظمة فاسدة على قيد الحياة، وتدعم الاحتلال الإسرائيلي بشكل مطلق.

عام 2021 مختلف كثيراً. المزاج الإسلامي لم يعد معادياً للولايات المتحدة بالقدر ذاته. الولايات المتحدة تترك المنطقة، ولم تعد ترى فيها مصالح استراتيجية نتيجة تبدل حساباتها المرتبطة بالطاقة، نتيجة مزيج من الاعتماد المتزايد على الوسائل البديلة، أو تنمية القدرة على انتاج النفط محلياً دون الحاجة للخارج. وواشنطن انسحبت أيضاً من أفغانستان، وسلمت بهزيمتها أمام حركة “طالبان”، في ظل تفاهم مع الأخيرة حيال استضافة تنظيم “القاعدة” وأي حركة أو نشاط معادٍ للمصالح الأميركية.

إذن، أين المزاج الجهادي اليوم؟ بغض النظر عن تفاهم ايران مع حركة “طالبان”، الهمّ الإسلامي أو “الجهادي” الأول هو التمادي الإيراني في المنطقة، وإعادة “التوازن” للعلاقة بين الغالبية السنية والأقلية الشيعية. ذاك أن حرب العراق التي حرّضت على الولايات المتحدة، كونها المعتدي والمرتكب، تحولت إلى مركز للتحريض على الوجود الإيراني والميليشيات الموالية لها. وكذلك الحرب السورية أنتجت مواداً كثيرة للإسلاميين للتحريض ضد إيران ونفوذها “المتمادي” في المنطقة، في مقابل القليل عن التدخل الأميركي المحدود هناك. غالباً، بات في الفضاء الإسلامي عقد كامل من الزمن مملوء بالأحداث والمظلوميات في مواجهة القوى الشيعية بقيادة ايران.

هل احتك اسلاميو الشمال السوري مع روسيا أكثر أم مع ضربات جوية محدودة للولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية؟ طبعاً، هذا الكلام لا يعني أن العداء مع الولايات المتحدة تلاشى، لكن باتت هناك أولويات أخرى أيضاً، تتمثل بإيران وروسيا وأيضاً الصين. بيد أن المقاتلين التركستان (الأويغور) المنخرطين في الحزب الإسلامي التركستاني، خاضوا حرباً طويلة لسنوات في سوريا، لمصلحة الإسلاميين المشرقيين والعرب، على مبدأ “تُسددون لاحقاً”. واليوم، بعد عودة “طالبان”، يتوقع جهاديو “التركستاني” انخراطاً ما في المعركة بمواجهة الصين وحلفائها، في حين سيعود شيشان سوريا، أملاً بالقتال ضد الروس عبر الحدود.

لا يعني ذلك حتماً أن “طالبان” ستتبنى كل هذا المجهود الحربي، مع أكلافه الباهظة. هذا ليس أمراً محسوماً. إلا أن سيطرة الحركة اليوم، ليست مماثلة لما شهدناه سابقاً، لجهة تداعياتها على أمن أوروبا والولايات المتحدة. بل الأرجح أن عالم الجهاديين اليوم سيُواكب أكثر التغيرات في توازنات المنطقة حيث الدور الخارجي بات مشتركاً بين روسيا وتركيا وايران والصين.

من هذا المنطلق أيضاً بإمكاننا رؤية ارتياح الولايات المتحدة لقرار الانسحاب من أفغانستان، وأيضاً للاتفاق مع “طالبان”، أبعد من مجرد إيمان بالتزام الحركة ببنوده، إما لخشيتها من العواقب أو لحسابات إدارة الدولة. وهذا لا يعني شيئاً. تعي واشنطن بأنها لم تعد منذ العام 2009، لاعباً وحيداً في صلب أحداث المنطقة، يُلام على كل أخطائها. الحروب المتواصلة وخيبات الثورات العربية ونزاعاتها، أنتجت عالماً جديداً من المظالم والحسابات السياسية، بإمكان الولايات المتحدة إدارة “حصتها” فيه عن بعد، بالطائرات من دون طيار أو بالتعاون مع الحلفاء. لكن الوقت حان أيضاً بهذه الحسابات لدور صيني أكبر وأكثر جرأة واحتمالاً للأخطاء، ولهذا حديث وحسابات أخرى بالتأكيد.

المدن

———————————–

حرب أميركا في أفغانستان انتهت لكنّ اكاذيبنا الكبيرة بشأنها ما زالت قائمة

كان من الغريب خلال الأسابيع الماضية مشاهدة كيف بذل تقريباً كل شخص مسؤول عن هذه الفوضى كل ما في وسعه لإلقاء اللوم على جهات أخرى، بدلاً من مواجهة الوهم الذي انغمسنا فيه لمدة 20 عاماً.

غادرت آخر طائرة أميركية أفغانستان قبل حلول منتصف الليل في كابول بعد مرور أكثر من عقد على إفساح منتجي الاخبار الكسالى المنابر الإعلامية لمن يدعون الخبرة بالاستمرار في الترويج لكيفية إحراز الحكومة الأفغانية تقدماً، وقيام قوات الأمن ببناء القدرات وتأمين البلاد.

الآن يتضح أن ما كنّا ندعوها بـ”أفغانستان”، كانت مجرد خرافة وأنها دولة خاضعة للولايات المتحدة، معتمدة على قواتنا العسكرية ومحكوم عليها بالفشل من دونها.

ونظراً إلى أن العرض حقق أعلى نسب المشاهدات مجدداً، ولو لفترة وجيزة وبصعوبة، تنتهي الحرب مع قيام نفس هؤلاء الخبراء الذين يظهرون باستمرار على المنابر الإعلامية بنشر الحماقات، بما أنهم الوحيدين الذين يعرف محررو برامج الأخبار الاتصال بهم. فقد حاولوا أن ينددوا بطريقة الانسحاب، لإخماد غضبهم وإخفاء إحراجهم لأنهم كانوا مخطئين لمدة طويلة بترويجهم لأنصاف الحقائق السافرة والأكاذيب الصريحة.

تمثل الهدف العام في إرهاق المواطنين الأميركيين، ودفع المشاهدين للاستسلام من الإنهاك، وحرمان الرئيس جو بايدن وكل من يؤيد الانسحاب أي نوع من الرضا من أجل مصلحة مطلقة للبلاد وما ينطوي على ذلك من آفاق السياسة الخارجية على المدى البعيد. وللقيام بذلك، اعتمدوا على جهل الأميركيين بأفغانستان وعدم اهتمامهم بتاريخ البلاد خلال وقت احتلالنا لها. فقد اقتصرت الحرب على شاشات التلفزيون الأميركي على قصة واحدة فقط من بين العديد مما كان عليه برنامج بوش، ثم برنامج أوباما، وبعد ذلك برنامج ترامب، وأخيراً الآن برنامج بايدن.

بيد أن هذه ليست مجرد قصة. إذ إن الأحداث التي يشهدها العالم الحقيقي والتفاصيل على قدر من الأهمية، ولكن المسألة تتعلق بالعثور على تلك التفاصيل المهمة حقاً. فمن الجيد إجراء عملية تقييم للوضع بعد وقوع الكارثة. وأعلم من تجربتي الشخصية أثناء خدمتي في بعثتين عسكريتين كضابط مشاة في أفغانستان، أن السؤال المطروح هو ما إذا كنا سنتعلم أشياء قد تساعد على منع حدوث كوارث في المستقبل أو تكرار الأكاذيب التي قادتنا إلى هذه الكارثة.

لنأخذ على سبيل المثال، قاعدة “باغرام”، التي كانت حتى وقت الانسحاب في الشهر الحالي، المقر الرئيسي لنشاط الولايات المتحدة في أفغانستان لعقدين من الزمان، والطريق البالغ 8 أميال المحيط بها. قد يستغرق هذا الطريق حوالي ساعة لإكماله على مهل. تمهل لبرهة وفكر فيما سيتطلبه الأمر فعلياً لحماية وتأمين نطاق بمساحة 8 أميال، فضلاً عن حدوث ذلك وسط جهود عملية الإخلاء ودون وجود داعي للسيطرة على المناطق المحيطة.

على النقيض من ذلك، تألفت قاعدة العمليات الأمامية (قاعدة بيرميل العسكرية الأفغانية، ولاحقاً قاعدة بوريس العسكرية) التي قضيت فيها معظم الوقت خلال فترة خدمتي أول مرة في أفغانستان، من مسار طوله 400 متر تتخلله الحُفر التي استخدمت لحرق النفايات والفضلات البشرية. يقع الطريق الترابي خارج بوابات قاعدة العمليات الأمامية، ولكن داخل الأسلاك. في حين مثلت مجموعات الكلاب البرية تهديدا جدياً، لذلك كان يمضي المارون أحياناً حاملين معهم مسدساً للدفاع عن النفس.

تطلبت قاعدة بوريس العسكرية أكثر قليلاً من مجرد فصيلة مشاة يعملون في مناوبات لتأمينها جيداً. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المواقع القتالية في الشمال والشرق التي  كان كل منها كبيراً بما يكفي لاستيعاب فصيلة، وكان لها دور هام في تأمين  قاعدة بوريس العسكرية، يمكننا القول بأن متطلبات تأمين القاعدة لن تزيد عن ثلاث فصائل. تمركزت مجموعة من ست فصائل هناك، إلى جانب فصيلة من جنود المدفعية، وكتيبة من الطهاة، ومتخصصين في الإتصالات، بالإضافة إلى فرقة مثقلة بالعمل من الميكانيكيين العسكريين. في حين قامت فصيلة من الجيش الوطني الأفغاني، والشرطة الوطنية الأفغانية، بتأمين قاعدة للجيش الوطني الأفغاني، تبعد عن قاعدتنا بقليل ولكن يفصلها عنا بوابة، ولذا يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار أيضاً.

من المهم تحديد هذه التفاصيل، لأن هذه الأشياء التي يتغاضى عنها الناس عند وصف ما أصبح واحداً من أشهر الانتقادات لانسحاب بايدن من أفغانستان: وهي أنه سمح للجيش “بالتخلي” عن قاعدة “باغرام”، أو أنه كان من الممكن أو قابل للتنفيذ بطريقة ما، القيام بعملية إخلاء مدروسة من قاعدة “باغرام” بدلاً من مطار حامد كرزاي الدولي. وهذا التصور خاطئ. إذ إن العدد اللازم من الأشخاص لتأمين قاعدة “باغرام” ومحيطها البالغ 8 أميال في عام 2021، سيتطلب إرسال قوات جديدة تماماً يبلغ عددها الآلاف. وعندما نأخذ بعين الاعتبار الأمور اللوجيستية المتعلقة بهذا الأمر، وعدد الجنود، ومشاة البحرية، والطيارين، يمكن أن يزداد العدد بالتأكيد عن العدد المتوفر لهذه المهمة بالفعل.

علاوة على أن ذلك سيتطلب الاستعانة بقوات الأمن الأفغانية لتأمين المحيط الخارجي. فقبل عدة أشهر، لم يكن من المتصور أنه من الممكن تنفيذ عملية أحادية الجانب. إذ إن مثل هذه الخيارات قد تؤثر في تحديد وحدات قوات الأمن الأفغانية المتاحة لتأمين مكان آخر. ويجب علينا أيضاً الأخذ في الاعتبار عند التفكير بما حدث أن قيام قوات الأمن الأفغانية بالتأمين كان سيتطلب على الأرجح الدعم من النظام اللوجستي في القاعدة الأميركية.

لقد أظهر انهيار أفغانستان أن البلد الذي تصورته عندما تم إرسالي إلى هنا كان أيضاً كذبة، فقط مجرد قصة أخرى. لقد كان من الغريب خلال الأسابيع المتتالية، مشاهدة كيف بذل تقريباً كل شخص مسؤول عن هذه الفوضى كل ما في وسعه لإلقاء اللوم على جهات أخرى، بدلاً من مواجهة الوهم الذي انغمسنا فيه لمدة 20 عاماً. لا شك أن بعض القادة كانوا قادرين على التفكير ملياً في خطورة الانهيار شبه الفوري في أفغانستان. فعلى سبيل المثال، لم يتهرب الأدميرال مايك مولن، من الحقيقة. ولكن لم يشارك كثيرون الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش الأميركي نفس الشعور. فقد انغمس معظم الأشخاص الآخرون الذين قادوا الحرب وقاموا بالترويج لها، في التبرير والمواساة من خلال الافتراضات المنافية للواقع، بل وحتى الأكاذيب السافرة.

القول بأن الإخلاء كان من الممكن توقعه هو أحد الأكاذيب التي يلزم الاعتراف بها. أو بأنه كان من الممكن أن يتم على نحو أكثر تنظيماً، أما القول إنه كان من الممكن أن يتم بطريقة أكثر فاعلية إذا احتفظنا بقاعدة “باغرام”، فهو كذبة أخرى. تبدو قصص الواقع البديل هذه، أشبه بقراءة الروايات الخيالية التي تستكشف مجموعة من الاحتمالات على مر التاريخ العالمي. ماذا لو انتصر هتلر في معركة دنكيرك؟ ماذا لو انتصر نابليون في معركة واترلو؟ ما الذي يهم؟ فهم لم ينتصروا.

تنبع كذبة قاعدة “باغرام” من الرغبة الإنسانية في إيجاد تفسير لتلك المأساة. فقد كانت عملية الإخلاء كارثية، وكان يتعين التعامل معها بطريقة مختلفة. ومن هذا المنطلق، من المعقول أن نقول إنه كان ينبغي لنا أن نديرها في قاعدة “باغرام”، كما ينبغي أن نقول إن الرئيس كان عليه أن ينتدب المزيد من الأشخاص الإضافيين إلى وزارة الخارجية لقراءة ومراجعة وثائق تأشيرات الهجرة الخاصة.

بيد أن ذلك هو مكمن الخلل في الافتراضات المنافية للواقع: فلو كنا نعلم أن الانسحاب سيكون كارثياً على هذا النحو، لما انسحبنا على الأرجح، وليس في ظل هذه الظروف بكل تأكيد.

وبالرغم من أن جميع الاعتراضات المتأخرة التي تفيد بعكس ذلك، لم يكن معروفاً أن الانسحاب سيعجل بانهيار أفغانستان. فقد كان من المعروف أن الحكومة الأفغانية ضعيفة، وأنه سيكون من الصعب عليها البقاء دون مساعدة أميركية. في حين توقع المتشائمون أن تسقط الحكومة بعد نحو عام من القتال. بينما أعرب المتفائلون مثلي أن الحكومة لديها فرصة للصمود والتوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة.

ولو كانت الحقيقة معروفة على نطاق واسع -أنه بعد مضي 20 عاماً، صارت الدولة التي نُطلق عليها أفغانستان تعتمد اعتماداً كلياً وأساسياً على القوات الأميركية، ولا تستطيع  الصمود لمدة شهر واحد بدونها- لكان ذلك دافعاً إلى وقفة جادة لمحاسبة النفس وبعض الدعوات المعقولة للمساءلة. ولكان من المفترض أن تثور وسائل الإعلام غضباً. ودعونا لا ننسى، أنه حتى وقت قريب للغاية، التزمت وسائل الإعلام الصمت تقريباً حول هذا الموضوع. وانصب تركيز الكُتاب والباحثين والمحققين على توضيح تفاصيل الفساد الحكومي الأفغاني، واستعراض السبل التي تُنتهك من خلالها حقوق المرأة. وبعبارة أخرى، فقد كانت الفرضية التي انتشرت في وسائل الإعلام الشهيرة (عندما غطت الأحداث التي تحدث في أفغانستان في مجملها، الأمر الذي نادراً ما فعلته شبكات الأخبار)، وفي دوائر الأمن القومي، هي أن أفغانستان دولة نامية، بالكاد يُمكنها أن تتماسك، وهي دولة أوصالها بالية متصلة معاً بشكل عشوائي، تتنفس الصعداء، وتشهد تحسناً بطيئاً.

بيد أنها لم تكن كذلك. إذ إن الطريقة التي كنا ننظر بها إلى  أفغانستان كانت مغايرة للواقع تماماً.

تتجلى أبرز الأمثلة على ذلك في الكيفية التي خدع بها الأفغان المتمرسين والمفكرون الخبراء أنفسهم لكي يروا شيئاً لم يكن موجوداً من الأساس، عندما اجتاحهم غضب عارم بسبب قوائم المهاجرين الأفغان (وليس اللاجئين من الناحية الفنية) التي أُعطيت لطالبان لتسهيل التنقل عبر الطوق الأمني في طريقهم إلى المطار. فقد قارن البعض ذلك بالقوائم التي استخدمها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية لتحديد هوية الأشخاص من أصول يهودية. وهذا يُعد سوء فهم عميق وأساسي للثقافة الأفغانية، والسبب الذي دفع هؤلاء الأفغان إلى محاولة الهجرة في المقام الأول.

يعتمد الألمان، مثلنا، على القوائم، والأسماء الموجودة في جداول البيانات التي توضح من قد يستطيع تلبية نداء الوطن، إذا استُدعى إلى الخدمة العسكرية، ومن الذي يتعين عليه تسديد أموال ضريبية ولأي جهة، ومن هو الشخص الذي يرتبط اسمه بلوحة السيارة التي شوهدت وهي تمر عبر جسر ويتستون في ليلة الجمعة بدون بطاقة تحصيل رسوم العبور، وعليه أن يدفع الآن عشرة دولارات. إذ يتألف المجتمع في أفغانستان من مجموعة من الأصدقاء، وأبناء العم وأبناء الإخوة والأخوات، وتماماً مثلما تعلم الدولة عندما يتهرب أحد الأشخاص من دفع الأموال التي يدين بها إلى الدولة، ففي أفغانستان، إذا خرج أحد الأشخاص ليلاً ليتمشى بمفرده، أو مع امرأة لا تجمعه بها صلة قرابة، فمن المؤكد أن هذا الأمر سينتشر بسرعة وسيعلمه الجميع.

من ناحية، ثمة أشخاص يعملون لصالح الحكومة أو قوات الأمن الوطنية الأفغانية لديهم أقارب أو معارف يعملون لصالح طالبان؛ وفي المقابل، ثمة أشخاص يعملون لصالح طالبان لديهم أقارب أو معارف يعملون لصالح الحكومة أو قوات الأمن الوطنية الأفغانية. ولذا ليس هناك حاجة إلى القوائم. وليست هذه هي الطريقة التي تُسجل من خلالها المعلومات الهامة أو تُحفظ. إذ إن النظام في أفغانستان مختلف تمام الاختلاف. وطالبان ليسوا مثل النازيين، على الرغم من أنه يمكن أن يغفر للشخص الذي أتى بذلك الاستنتاج بعد قراءة رواية “عداء الطائرة الورقية” أو الجزء الثاني منها.

كل من يغادر أفغانستان ويترك ورائه أجيالاً من الحياة والذكريات يفعل ذلك، لأنهم معروفون بالفعل لدى طالبان. يُمكن أن تكون أسماؤهم على إحدى القوائم، أو مئات القوائم، أو لا تكون مذكورة في أي قوائم على الإطلاق، ولن يُحدث ذلك أي فرق. بيد أن ذلك من الممكن أن يُحدث فرقاً بالنسبة لنا، ولكن باستثناء الخيارات الشكلية الأخيرة، إذ لا يجمع بين نظام طالبان ونظامنا الكثير من الأمور المشتركة.

إليكم بعض الأكاذيب الأخرى التي شاهدتها.

1) الانسحاب أدى إلى الإضرار بمصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها. لا، لم يفعل. إذ لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بنفس القدر من المصداقية مع حلفائها مثلما كان قبل أن تنسحب من أفغانستان. بيد أن الانسحاب ربما قد أضر بسمعة بعض الأفراد الذين لم يتوقعوا من الرئيس بايدن أن ينفذ هذا القرار، ولكن هذا أمر آخر مختلف.

2)الخسائر في الأرواح بين صفوف المدنيين الناجمة عن العمليات العسكرية للولايات المتحدة كانت مُكافأة للإرهابيين الذين قتلوا أو اعتقلوا نتيجة لهذه العمليات. لا، الغاية لا تبرر الوسيلة.

3) كان من الممكن القيام بنوع من السرد أو الدعاية أو الإجراءات بطريقة مختلفة لمواجهة دعاية طالبان. افتراض منافي للواقع، وغير مجدي، مجرد هراء عديم الفائدة.

بيد أن أسوأ كذبة من وجهة نظري -وهي الكذبة التي توضح أن مؤيديها يعيشون حقاً في عالم خيالي، وليس عالم مبني بإتقان- هي أن الوضع الراهن كان مستقراً. ولم يكن هناك داعي لحدوث كل ذلك، وأن الولايات المتحدة  كان بوسعها أن تحافظ على موطئ قدم ولو صغير في أفغانستان لسنوات أو عقود، أو “إلى أجل غير مسمى”.

هذه كذبة يستخدمها الناس العاديون كل يوم لدرء خوفهم من الموت، ويمكن فهمها على هذا المستوى. ولكن عندما يستخدم السفراء السابقون على المنابر الإعلامية الرئيسية، والمفكرين البارزين في المؤسسات البحثية، وخبراء الأمن القومي على منصات التواصل الاجتماعي، أسطورة التواجد الدائم في أفغانستان، ليجادلوا بأن الوضع الراهن الأفغاني الذي فرضه العنف الأميركي كان قابلاً للاستمرار حتى على المدى القريب؛ مع وجود طالبان التي من الواضح أنها أكثر قدرة وثقة بكثير مما تصورنا، وحكومة لم يكن لها تأثير على أرض الواقع، يجعل المرء يستشيط غضباً.

تعتمد كذبة “الوضع الراهن” على عدم اهتمام القراء بالشأن في أفغانستان. وقد يبدو منطقياً إذا كان أول مرة يطلع فيها الشخص على الوضع في أفغانستان من خلال التغطية الإعلامية لانسحاب الولايات المتحدة. فقد ضمت هذه التغطية حشودا من المترجمين الفوريين السابقين والأجانب الذين تقطعت بهم السبل ويخشون طالبان، ويفترض أنهم أيدوا الوضع الراهن من قبل. بيد أن ما لا تعرضه هذه التغطية هو التقدم المستمر لطالبان في المناطق الريفية في أفغانستان، والشهور والسنوات التي شهدت سحق القدرات العسكرية والإدارية الأفغانية حتى في ظل الوجود الأميركي. ولا يستطيع أنصار الوضع الراهن لأي سبب من الأسباب أن يواجهوا حقيقة أن أفغانستان التي يصفونها لم تكن موجودة منذ سنوات، بل وربما لم تكن موجودة على الإطلاق.

تُعبر هذه الأوهام كلها عن رغبة صريحة أو لاشعورية في عدم رؤية الواقع على حقيقته. وثمة نوع آخر من الأكاذيب، كان الغرض منها الاحتيال أو الخداع، استخدمته إدارة بايدن باستمرار. فمن خلال البيانات التي تتناقض مع الحقائق الواردة في التقارير أو تقديم تقييمات وردية، تمكنت الإدارة من خداع المراسلين والقراء المطلعين حول الوضع على أرض الواقع، مما أدى إلى زعزعة الثقة، وتسببت في فرض سوء النية دون هدف واضح.

لقد كان من المحرج مشاهدة الإدارة تحاول التنصل من المسؤولية مثلما فعل بايدن عندما اتهم قوات الأمن الوطنية الأفغانية بالجُبن.  ثمة الكثير من اللوم الذي يجب أن يوجه فيما يتعلق بإخلاء الحلفاء الأفغان. وإذا أراد بايدن أن يستحق التقدير من أجل الانسحاب -وهو أمر طيب- يتعين عليه أن يعترف بمسؤولية إدارته عن الطريقة التي حدثت من خلالها عمليات الإخلاء المتتالية، بما في ذلك المشاهد الفوضوية التي رأينها على مدى الأسبوعين الماضيين.

لقد كان الانسحاب الأميركي كارثياً بالنسبة لمئات الآلاف من الحلفاء الأميركيين الذين وجدوا أنفسهم على نحو غير متوقع في بلد آخر في وقت سابق من هذا الشهر. لقد كنا نعتقد أن الحكومة الأفغانية  مجهزة وممولة على نحو ملائم لتخوض حربا من أجل تقرير المصير ضد طالبان. ولم نكن نتوقع أنه ليس هناك حكومة، وأنه لن تكون هناك حرب. ولم نكن نتصور أننا خدعنا أنفسنا لرؤية مخرج بينما ليس هناك مخرج، وأن هناك وطن بينما في الحقيقة ليس هناك شيء.

ثمة أمر وحيد يبعث على الراحة بين كل هذه المآسي. فقد عملت حشود من المحاربين القدامى، والعسكريين الذين لا يزالوا في الخدمة، والدبلوماسيين، بلا هوادة للترحيب بهؤلاء المهاجرين الأفغان غير المتوقعين إلى الولايات المتحدة. لقد أصبح من الشائع أن يوجه النقد إلى البلاد باعتبارها دولة متعصبة للبيض، أو منعزلة، أو معادية للأشخاص من خلفيات مختلفة. لذا عند رؤية تلك الجهود الشعبية الكبيرة لاحتضان الأفغان في الولايات المتحدة وتمهيد الطريق أمامهم للنجاح، من الجميل أن ندرك أن هذه الانتقادات هي في حد ذاتها نوع من الأكاذيب، وأنها ليست سوى نوبة عصبية من  العداء للولايات المتحدة، لا تصمد عند إمعان النظر فيها. ففي نهاية المطاف، لا تزال أميركا ملاذاً لأولئك الفارين من الاستبداد. وهذه هي الحقيقة.

أدريان بونينبيرجر

هذا المقال مترجم عن thedailybeast.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا  الرابط التالي.

https://www.thedailybeast.com/americas-war-in-afghanistan-is-over-but-our-big-lies-about-it-live-on?ref=scroll

درج

———————————-

ما بين أفغانستان وسورية/ رضوان زيادة

كثرت التكهنات بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، أن الجهة المقبلة للانسحاب سوف تكون سورية. وكثرت المقارنات بين الحالتين، ولا سيما أن الرئيس السابق، ترامب، كان قد اتخذ قرار الانسحاب من كل من أفغانستان عبر التوقيع على اتفاقية مع حركة طالبان تنص على الانسحاب الأميركي الكامل مع بداية شهر مايو/ أيار الماضي، لكن بايدن عدّل الاتفاق حتى ضمان الانسحاب الكامل حتى نهاية الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وهو ما التزمت به الولايات المتحدة بشكل كامل، أقول التزمت لأن القناعة كانت مشتركة بين الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، بضرورة الانسحاب من أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. ولكن الوضع في سورية مختلف كليا، حيث لا اتفاقية بين أميركا وبشار الأسد، كما أن القوة الأميركية في سورية ليست تحت تهديد يومي كما كان الوضع في أفغانستان. لذلك يُستبعد تماما أن تنسحب هذه القوة بشكل كامل من سورية تحت إدارة الرئيس بايدن قريبا، فهو شيء يريد التمايز فيه عن الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي فاجأ وزارة الدفاع حينها، وحتى وزارة الخارجية، عبر الإعلان، في مهرجان خطابي قبل ثلاث سنوات، عن نيته سحب ألفي جندي أميركي، والذين يقدمون الدعم لما تسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

حينها، تعرّضت هذه الخطوة الأميركية إلى انتقاد عنيف من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، وتراجع حينها ترامب، وغيّر خططه من أجل الإبقاء على القوات هناك، للسيطرة على النفط، ومنع “داعش” من الحصول على عائدات النفط. ولذلك لا يزال حوالي 900 جندي أميركي متمركزين في منطقة واسعة من شمال شرق سورية تقع خارج سيطرة حكومة الأسد. وقد أكد وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، أكثر من مرة على بقاء القوات الأميركية هناك، وربطها بالانتقال السياسي في سورية. وقد زار أكثر من مسؤول أميركي من إدارة بايدن المنطقة، منهم أخيرا الجنرال كينيث ماكنزي، الذي يرأس القيادة المركزية الأميركية، والقائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جوي هود ، وأكدوا أكثر من مرة أن القوة الأميركية لن تغادر في أي وقت قريب.

تدرك الولايات المتحدة أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يشكل أيضًا تهديدًا، خصوصا في منطقة ريف حمص والبادية السورية، حيث قام تنظيم داعش بهجمات على قوات النظام السوري. وفي الوقت نفسه، ما زالت قوات سورية الديمقراطية تشرف على مخيم الهول الذي يحتفظ بأسرى مقاتلي تنظيم الدولة الأجانب وعائلاتهم، فضلا عن احتفاظها بأكثر من 11 ألف مقاتل من مقاتلي التنظيم في السجن الذي تشرف عليه هذه القوات. وتعرف الولايات المتحدة جيدا أنه بانسحاب قواتها ستتبخّر “قسد” كليا، وهذه لا تحتفظ بأي دعم شعبي في سورية.

لذلك يمكن القول إن المقارنة بين أفغانستان وسورية تبدو مشروعة، إلا أن حجم الاختلافات تقود إلى أن الإدارة الأميركية لن تتخذ قرارا بالانسحاب قريبأ. ولعل أفضل ما يدعم هذا الرأي الفشل الكبير الذي أعقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، حيث سيطرت “طالبان” على السلطة هناك خلال 11 يوما فقط. وبالتالي، لا يستطيع بايدن تحمّل فشل آخر لانسحاب القوات الأميركية من سورية، حيث سينتهي وجود ما يسمى قوات سورية الديمقراطية بمجرّد انسحاب القوات الأميركية.

التحدّي الرئيسي الذي ينتظر الرئيس بايدن هو غياب سورية تماما من استراتيجيته الخارجية. لم يذكر سورية مطلقا في أي من مؤتمراته الصحافية أو خطاباته. ولعل البيان الوحيد الذي صدر من البيت الأبيض بعد صدور قرار مجلس الأمن 2585 الذي ينص على السماح باستمرار المساعدات الإنسانية من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، وتمكّنت الولايات المتحدة من منع روسيا من استخدام الفيتو، وصدر القرار بإجماع أعضاء مجلس الأمن. ولذلك لا تشكل سورية أي أولوية بالنسبة لبايدن، ولا يجد حاجة لمزيد من الاستثمار السياسي أو الدبلوماسي فيها، بل بالعكس ربما ما زال يحمل قناعة أوباما في سنواته الأخيرة أن كثيرا من صداع الرأس يأتي من سورية. ولذلك من الأفضل الابتعاد عن ذلك المستنقع الآسن، كما سماه أوباما مرّة.

العربي الجديد

—————————–

هل تغادر أميركا الشرق الأوسط؟/ فاطمة ياسين

تخرج القوات الأميركية من أفغانستان بشكل كامل. ولتخفيف الأثر النفسي للانسحاب، تم تقريب موعده النهائي من 11 سبتمبر/ أيلول، التاريخ المكرّس في المزاج الأميركي، إلى نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي.

يظهر بعد الجلاء “السريع” أن أميركا لم تنجز ما أرادته من عملية الغزو، حين ظنّ جورج بوش الابن أنه، ومن خلال حشد قوات المارينز في بلدين من الشرق الأوسط، سيكون قادرا على إعادة صياغة المنطقة على أساس أيديولوجي وسياسي واجتماعي جديد. ويبدو أنه لم يقرأ جيدا درس التدخل السوفييتي في أفغانستان الذي أفرز راديكالية إسلامية متشدّدة، عجز العالم عن لجمها أو التعديل من مزاجها المتطرّف، وصولا إلى لحظة “11 سبتمبر” عام 2001… عشرون عاما من دخول أفغانستان لم تكن كافية، ولعلها، كما يدرك جو بايدن، لم تكن ضرورية. وما زال جورج بوش حيا ليشهد خروج القوات المتعجل من دون أن تنجز مهمتها، والاتفاق الذي تم مع حركة طالبان غير كاف للتغطية على عمل كبير من هذا النوع، فتركت فجوة سياسية واسعة لا يمكن التنبؤ بمدى تطورها واتجاهه مستقبلا.

قبل بدايته، بدا أن الهجوم الأميركي على أفغانستان، ومن ثم على العراق، رد فعل متسرّع، تكاليفه أكبر من مردوده السياسي. وهذا ما صار مؤكّدا عمليا، بعد سنوات تحول فيها الوجود الأميركي في البلدين إلى عمليةٍ ذات تكلفة باهظة، تلفت أنظار أعضاء الكونغرس الذين يتصيّدون المواقف التمويلية للأحزاب المنافسة. وقد تناوب على البيت الأبيض ديمقراطيون وجمهوريون، بينما القوات الأميركية مرابضة في الخارج، تنتظر مزيدا من التمويل. كان العالم، خلال تلك السنوات، يشاهد استمرار “طالبان” جماعات لديها حد أدنى من التنظيم لشن الهجمات، وموجودة في الثقافة الأفغانية القبلية، مع تغاضٍ لا بأس به عنها في المدن القريبة من التحضّر، وفشل استخدام القوة العسكرية والاقتصار على تدريب الشرطة والجيش وتكديس الأسلحة، في تغيير المعادلة، فشاهدنا أميركا أخيرا تغادر، وتكتفي باتفاقٍ قد لا تجد “طالبان” صعوبة في تجاوزه، مخلفةً آلاف المخذولين وخائبي الرجاء الذين عليهم المواجهة.

من جهة أخرى، قد يجد الرئيس بايدن، الملتفت إلى الوضع الداخلي، مع اهتمامات خارجية تكاد تقتصر على بضع شؤون بيئية عالمية، مع نظرة نحو الصين، على الرغم من ذلك، أن من الصعب مغادرة الشرق الأوسط بشكل كامل كما يحلم، ففي هذه المنطقة ثروة نفطية، ما زال العالم كله متعطشا لها. وعلى الرغم من انخفاض الاعتماد الأميركي عليها، إلا أن تقلبات التجارة الدولية ما زالت مرتبطةً بحالة المنطقة السياسية، وعلى أميركا متابعة الوجود المادي والعسكري في المنطقة، لوضع يدها ضمن الأيادي الممدودة للتحكّم بهذه الرقعة، بالإضافة إلى وجود إيران، وهي صداع مزمن، ترغب أميركا على الأقل بكبحه. والواقع لم تكن اتفاقية أوباما مع إيران كافية، وعلى الرئيس الحالي إنجاز اتفاق معدّل، تكون الصواريخ بعيدة المدى جزءا منه، وقد يساعد الوجود الأميركي في العراق وسورية على إنجاز اتفاقٍ يقبله متشدّدو الكونغرس الأميركي وإسرائيل. لذلك، يبدو خروجها القريب مستبعدا، ولا يمكن التفكير فيه بشكل جدّي، إلا بعد التوقيع على اتفاق جديد ووضعه موضع التنفيذ. أما خروج أميركا من أفغانستان فلا يزيل المنطقة من قائمة الاهتمام الأميركي، ولكنه يعيد جدولتها فقط، فالقوات الأميركية ما زالت موجودة بحجم معقول على تخوم المنطقة. وما زالت أفغانستان ضمن المدى المجدي لأسلحتها، والأهم أنها ما زالت ضمن المدى المجدي لسياستها، فلدى أميركا صلات قوية مع دول قريبة، وذات علاقات وثيقة مع “طالبان”، يمكن أن تلعب دورا في التقليل من راديكاليتها. وهذا يوفر على خزينة أميركا ويعيد مقاتليها، وهي القضية التي طالما شكلت عبئا سياسيا، ها هو بايدن يزيحه عن كاهله، ويقدّم صورة أفضل لناخبيه.

العربي الجديد

———————————

مصير قاتم للاجئين الأفغان/ جمانة فرحات

تبقى تفاصيل المشهد الأفغاني السياسي والأمني والاقتصادي بعد إتمام الانسحاب الأميركي غامضة، ولو جزئياً، بانتظار إفصاح حركة طالبان عن كامل استراتيجيتها لإدارة البلاد، وكيفية التعاطي مع الأزمات المستجدة. وحدها أزمة اللجوء تبدو الحركة أقلّ المعنيين بها.

هاجس الخوف من العيش تحت حكم الحركة دفع، منذ لحظة بدء الانسحاب، مئات آلاف الأفغان للبحث عن فرصة للمغادرة. كان بعضهم من المحظوظين ممن شملتهم قوائم الإجلاء، سواء الأميركية أو باقي دول حلف شمال الأطلسي. تمكّنت هذه الدول من إجلاء عشرات الآلاف، في غياب أي أرقام دقيقة إلى الآن. لكن الأكيد أن أعداد من تُركوا لمصيرهم أكبر من الذين حظوا بفرصة للرحيل. ومهما حاول الرئيس الأميركي، جو بايدن، تجميل الإجلاء الكارثي، ووصفه بالتاريخي والناجح، فإن ذلك لن يغير من حقيقة الوقائع على الأرض.

تتحدّث تقديرات الأمم المتحدة عن أزمة لجوء تناهز نصف مليون شخص في أقل التقديرات. وينقسم هؤلاء بطبيعة الحال إلى فئات عدة. جزء منهم ممن عملوا في مجالاتٍ شتى مع أميركا و”الأطلسي”، ويخشون من مرحلة انتقام يرونها آتيةً لا محالة، مهما تعدّدت تطمينات “طالبان”. أما الجزء الثاني فهم ممن يرون المستقبل قاتما، وما دامت هناك فرصة متاحة للخروج من هذا البلد فلا بد من محاولة الاستفادة منها.

حتى اللحظة، لا تبدي الحركة ممانعة في السماح باستمرار الجسر الجوي، ولو جزئياً، بعد ضمان تشغيل المطار بشروطها، لا بشروط الدول المفاوضة، فهي عملياً تكون قد تخلصت ممن لا يرغبون بحكمها. كذلك يجري الحديث عن ممرّات آمنة برّية، مع دول الجوار الأفغاني، من دون أن تكون الصورة واضحةً بشأن من يتولى التفاوض على هذه الممرّات.

الأهم في ذلك كله مصير الأفغان الذين سيجتازون الحدود. هؤلاء بحسابات الغرب سوف يشكّلون “أزمة لجوء” جديدة غير مرغوبة، تضاف إلى ما شهده العالم على مدى السنوات الماضية، سواء بسبب حرب العراق، أو الحرب السورية، أو حتى الهجرات غير النظامية.

تشي المؤشرات المتوفرة بحجم المصاعب التي سيواجهها اللاجئون الجدد. كانت أميركا صريحة في أنها لن تعيد توطين جلّ الذين أجلتهم على أراضيها. ما قالته المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي كان واضحاً في دلالاته. تحدّثت عن إتاحة طاقة استيعابية لاستضافة ما يصل إلى 50 ألف لاجئ أفغاني في قواعد عسكرية، وأن هذه المنشآت لن تستضيف لاجئين بشكل دائم، لكنها ستقدّم رعاية طبية ومساعدة، وتكون حلقة وصل بين اللاجئين ومنظماتٍ ستعكف على إعادة توطينهم.

وهو ما يحيل إلى أسئلة حتمية أخرى: ماذا سيحل بهؤلاء وكيف وأين سيعاد توطينهم؟ أبدت بعض الدول، مثل كندا، ودول عربية حليفة للولايات المتحدة، استعدادها لاستضافة عشرات الآلاف، وبدأت بذلك، لكن دولا أخرى كانت واضحة في رفضها. جنوب أفريقيا قالت إنها ليست “في وضع يسمح” لها بتلبية طلب استيعاب لاجئين أفغان ولو مؤقتاً. دول الاتحاد الأوروبي تستحضر مفرداتٍ جديدة لقول إنها لا تريد للجزء الأكبر من المهاجرين الأفغان أن يطأوا أراضيها. يمكن تسميتها “استراتيجية التحاشي”. أما تحقيق ذلك فيشمل، على حد قول المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية، يلفا يوهانسون، “التعهد بدعم الدول المجاورة لأفغانستان في حال استضافتها لاجئين”، أي الأموال مقابل الإيواء، وهو أكثر ما يجيده الاتحاد بعد الأزمة السورية، على غرار ما جرى من اتفاق مع تركيا وتفاهمات مع لبنان والأردن. أما وزير الداخلية الألماني، هورست زيهوفر، الذي تستعد بلاده لانتخاباتٍ لم تكن أزمة اللجوء بعيدة عن عناوينها السجالية، فتحدّث عن ضرورة التحرّك “على نطاق عالمي لإبقاء الأشخاص قريبين من ديارهم وثقافتهم”، باعتبار أن “الأشخاص الأكثر عرضة للخطر” فقط سيتمكّنون من المجيء إلى الاتحاد الأوروبي. ما لم يقله الأميركيون والأوروبيون عملياً أن جزءاً كبيراً من المهاجرين الأفغان سيجدون أنفسهم في مخيمات نزوحٍ أقرب إلى معسكرات اعتقالٍ في القريب العاجل.

العربي الجديد

———————–

بشّارستان وأفغانستان/ أحمد عمر

ينظر السوريون، نازحين ومقيمين، بحسد ظاهر إلى الأفغان النازحين على متن الخطوط الجوية العسكرية الأميركية إلى أميركا، بإجراءات سهلة. قد يعانون يومًا أو يومين، وقد يطول الانتظار أسبوعًا، لكنه أكرم من الوقوع بين أنياب قروش البحر وبراثن قروش البرّ. جلُّ رحلات الأفغان كريمة، وإنْ شابها ما شابها من زحام وتدافع في المطار. أما سبب هذا الكرم الأميركي فهو أنّ أميركا أرادت أن تخفي هزيمتها في أفغانستان بتكريم المتعاونين معها، يمكن وصفهم بأنهم دروع بشرية سياسية، والسعي إلى القول إن أفغانستان ليست فيتنام، وإنّ كابول ليست سايغون، وإنّ الأفغان يفضّلون المستعمر على “طالبان”. الأفغان النازحون من الطبقة الوسطى، فهم عقول يمكن الاستفادة منها، إما هم خائفون من “طالبان” أو طامعون في العيش السهل، فالحرية أغلى من الوطن، واللذّة أوْلى من العزّة، وقد يجمع النازح الأفغاني بين عزّة وثائق أقوى دولة ولذة العيش في ظلها أيضًا، والنجاة من مرحلة انتقالية خطرة ومجهولة.

يسافرون جوًا، ولن يُخاطروا في السفر في ثبج البحر، ولن يُكابدوا من عذابات البرّ، وسيجدون أنفسهم بعد ساعات في أميركا، أو في إحدى قواعدها المنتشرة في العالم، وسيصيرون مواطنين أميركيين بعد شهور أو سنين، ويحملون جواز سفر أعظم دولة. تفزع لهم أميركا إن أصابهم سوء، وسيتعلمون اللغة العالمية الأولى انتشارًا، سيسافرون إلى “الفردوس الأرضي”. هي ليست فردوسًا، لكنها بلاد الفرص الكثيرة، ويمكن لهم المحافظة على دينهم وعلى عاداتهم، وزيارة أوطانهم سائحين، ويمكنهم أن يقيموا في دولتين، المهجر والوطن.

ثمّة خطرٌ لاح في الأفق قبل يومين من انقضاء المهلة المتفق عليها بين “طالبان” والأميركان، فقد استيقظ عفريت تنظيم ولاية خراسان. قبلها لم يكن مطار كابول يعاني سوى من خطر الزحام، ومصيبة الزحام كان لها بعض الفوائد، فتسرّب بفضل عركة الزحمة أفغانٌ غير مدرجين في قوائم الخطر إلى أميركا. لم تكن أفغانستان تعاني من قصف بالنيران قبل عملية خراسان. لم يكن هناك هجمات بالغازات الكيميائية. لم يكن في سجون “طالبان” أو في سجون الأميركان ناس يموتون من التعذيب، فحتى في سجن غوانتانامو الرهيب يأكل المعتقلون، ولم يبقَ فيه سوى بضع عشرات من المرجّح أن يُفرج عنهم. ونال الأفغان تفضيلًا آخر على السوريين، أنّ الدول الأوروبية تداعت إلى حُسن استقبال الأفغان.

باع السوري بيته إن كان له بيت، وسافر بأجر بيته عبر البحار إلى البلاد الأوروبية، بينما يهاجر الأفغان مع الاحتلال الأميركي معزّزين غير مهانين. لن يعاني الأفغان الماكثون في وطنهم من بأس البطاقة الذكية، وسيأكلون ما يشاؤون من خبز، فليس على أفرانهم طوابير حتى هذه اللحظة، وهناك علاماتٌ يستبشر بها المجتمع الدولي بتغيّر سلوك “طالبان” الذي يوصف بالشدّة، بينما لا يزال سلوك النظام السوري هو نفسه، لم يتغير قيد أنملة، بل إنه في ساعة كتابة هذا المقال يقصف درعا، والمرجّح أنّ النظام الدولي سيقبل بالنظامين، السوري والطالباني، فكلاهما منتصران، واحد بمعونة دول عظمى، والثاني متغلبًا على دول عظمى.

قد تكون مقولة رياض الترك عن الصفر الاستعماري صحيحة، فقد حارب الأفغان عدوّهم مباشرة، بينما يحارب السوريون عدوًا داخليًا يعرف دقائق حياته وطرق تفكير، وحارب الأفغان كل دولة عظمى على حدة، السوفييت، ثم أميركا، أما السوريون فيقاتلون عدة دول عظمى. بذل السوريون من الضحايا ما يعادل تحرير أفغانستان من أعتى دولتين، الاتحاد السوفييتي المرحوم، والولايات المتحدة بقنابلها الذكية وطائرات الشبح وأمهات القنابل وجدّاتها وخالاتها، وقصف السجادة النارية، واليورانيوم المنضب.

هناك سنن كونية أجمع عليها المؤرّخون والحكماء مثل ولادة الخير من بطن الشرّ، وكانت الحرب دومًا نافذة لتبادل الثقافات على مرارتها، وقد ترك الاستعمار البريطاني في الهند، على قسوته، عمارات وسككًا حديدية وطرقًا في العيش، وسيترك الاستعمار الأميركي في كابول مطارًا بناه لسرقة ثروات أفغانستان، وأسلحة كثيرة وبعض الخبرات. أما النظام السوري، فلم يترك شيئًا سوى الأنقاض والأحقاد، ولا يلوح للسوري نصر قريب، ولا يحكُّ جلدك مثل ظفرك.

العربي الجديد

———————————

أميركا تنزع جزمتها العسكرية/ بسام مقداد

خطاب الرئيس الأميركي الذي وجهه إلى الأمة والعالم أول الشهر الجاري بمناسبة خروج آخر عسكري أميركي من أفغانستان، كان له وقع الزلزال على مواقع الإعلام العالمي، التي أوجزت صحيفة الكرملين ردة فعلها بكلمات ثلاث:صدمة، إرتباك وحيرة. فقد أعلن بايدن في خطابه بأن القرار الذي اتخذ بشأن أفغانستان لا يتعلق بها وحدها، بل “يختتم مرحلة حروب أميركا الكبرى لإعادة بناء البلدان الأخرى”. وقال بأن مهمة محاربة الإرهاب في أفغانستان، والتي كانت تهدف إلى القضاء على الإرهابيين ومحاولة بناء أفغانستان ديموقراطية واحدة موحدة، لم يقم بها أحد على إمتداد قرون من التاريخ الأفغاني. “وإذا ما تخلينا عن مثل هذا التفكير ونشر وحدات عسكرية ضخمة لمثل هذه الأهداف، سوف يجعلنا هذا أقوى وأكثر فعالية، كما أنه سيفضي إلى أمن أكثر للولايات المتحدة”، حسب الصحيفة.

النص الذي نشرته الصحيفة في 2 من الشهر الجاري بعنوان “الولايات المتحدة تغير أداة الضغط على العالم”، هو نفسه كان منفعلاً متوتراً يكاد لا يصدق كاتبه بأن تكون ردة الفعل الأميركية على الحدث الأفغاني على هذا القدر من الجذرية والإلتفاف 180 درجة على نهجها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة بناء العالم “اللاغربي غير المتحضر”. ويقول بأن ردة الفعل على إعلان بايدن كان فيها عدم ثقة، كان فيها تفاؤل، لكن الأساسي فيها كان الإرتباك: “كيف سنعيش لاحقاً”.

وتقول الصحيفة بأن شبكات التواصل كانت مليئة بتعابير مثل “هذا خداع أميركي آخر”، و”الولايات المتحدة لن تتخلى يوماً عن تصدير الديموقراطية على أجنحة قاذفات القنابل، فقط لأنها الولايات المتحدة”. وتسند هذا القول بقصة العقرب الذي طلب من ضفدع نقله عبر النهر إلى الضفة الأخرى، وحين شارف الإثنان على الغرق لدغ العقرب الضفدع وقال “لم يكن بوسعي غير ذلك، تلك هي طبيعتي”.

رئيس لجنة العلاقات مع الإعلام في مجلس الإتحاد الروسي ألكسي بوشكوف رأى في إعلان بايدن، “إنه لم يكن مجرد خطاب تخلي الولايات المتحدة عن سياسة “تبديل الأنظمة” التي تقوم عليها إستراتيجيتها الخارجية. ونقلت عنه الصحيفة إضافته إلى أنه في حال تخلي الولايات المتحدة الفعلي عن محاولات إعادة تنظيم الدول الأخرى، سوف يعني ذلك نهاية التدخلات العسكرية الأميركية في الدول الأخرى، وتبدلاً نوعياً في دور الولايات المتحدة العالمي. وترى الصحيفة في موقف بوشكوف “تفاؤلاً متحفظاً” سببه أنه، ومنذ الحرب في يوغوسلافيا، لم يحمل التصدير المسلح للديموقراطية فوزاً واحداً للولايات المتحدة، بل حملت جميعها هزائم امتصت الموازنة الأميركية، وأفضت إلى خسائر فادحة في صورتها.

ويرى بوشكوف أن “أوروبا الليبرالية” صدمت بإعلان بايدن عن نهاية حقبة إعادة التنظيم العسكرية للبلدان الأخرى، وهي تشعر أنه قد تمت خيانتها، وممن؟ من رئيس الدولة الرئيسية في العالم الغربي، من رئيس الدولة ــــــــ حارس مقولة النظام الليبرالي العالمي، من الدولة ـــــ معقل القيم الليبرالية التي كانت تصلي لها النخب الأوروبية.  

وتنقل الصحيفة عن مؤرخ أميركي قوله بأن بايدن، بإعلانه هذا، ينتهج السياسة عينها التي كان ينتهجها ترامب، والتي كانت تقول “الوطن أولاً”. وإذا كان الحديث يدور سابقاً عن ترويض الحلفاء وجعلهم يخضعون لما تمليه المصالح الأميركية، إعتمد بايدن الآن فكرة ترامب بالتخلي عن العمليات العسكرية الكبيرة لفرض الديموقراطية.

كما تنقل عن صحافي وبوليتولوغ ألماني قوله بأن تصريح بايدن يلقي بظلال من الشك على جميع تبريرات الحكومة الألمانية والأحزاب المعارضة للمهمات المماثلة لمهمة أفغانستان. ويرى بأن خطاب بايدن يقلب رأساً على عقب التفكير الألماني الذي يرى بأن قضايا الأمن يمكن معالجتها بالطرق العسكرية دون سواها، والتي لا تفترض أية إلتزامات بإعادة إعمار ما تهدم.

وترى الصحيفة أن أوروبا، وبعد تخلي بايدن عن زرع الديموقراطية بالقوة، بوسعها أن تنزع البوط العسكري “أيديولوجياً”، وتتحول إلى علاقات براغماتية مع الدول التي لا تلائم أوروبا ساستها الداخلية مثل روسيا وبيلوروسيا. لكن نزع البوط العسكري والتخفي تعوزه الإرادة والمرونة غير المتوفرتين لدى المؤمنين يالليبرالية برأي الصحيفة. وبوسع أوروبا أن ترفض التخفي بالطبع، لكنها سوف تصبح عندئذٍ على هامش العمليات التاريخية، حتى في عزلة عنها، ولذا سوف يتعين عليها التخفي في نهاية المطاف، “لكن مع خسائر أكبر بكثير”. وتنقل عن بروفسور في جامعة كيلن قوله بأن الكوسموبوليتية التي كانت تنتشر في بعض الحكومات الأوروبية “قد تنهار، لكن حين يصبح الوقت متأخراً جداً”.

لكن تخلي بايدن عن الخيار العسكري في زرع الديموقراطية وتغيير الأنظمة، لا يعني التخلي عن العولمة وأهدافها في بناء مجتمعات تعيش على النمط الأميركي. وترى الصحيفة أن فشل المغامرات العسكرية جعل بايدن يغير أداة نشر الديموقراطية واستبدال الخوف لصالح الإغواء. فالولايات المتحدة تعود إلى القوة الناعمة الكلاسيكية التي بواسطتها ستجعل الأنظمة “ديموقراطية” وليس بواسطة القنابل، بل بواسطة النفوذ الإقتصادي والإيديولوجي والثقافي. لكن السؤال يبقى بالنسبة للصحيفة، هو ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تجيد إستخدام القوة الناعمة الكثيرة لديها، بعد طول إستخدام قاذفات القنابل بدلا منها.

توجهت “المدن” إلى بعض الكتاب السياسيين الروس المتابعيتن لقضايا الشرق الأوسط  بسؤالهم كيف يقيّمون قرار بايدن التخلي عن “تصدير الديموقراطية” و”تغيير الأنظمة، وما هي تأثيراته على الشرق الأوسط ككل، وعلى نظام الأسد ومحادثات فيينا بشأن العودة إلى إتفاقية الصفقة النووي الإيرانية.

خبير المجلس الروسي للعلاقات الدولية وكاتب العمود في موقع “AL Monitor” كيريل سيمونوف، رأى أن التعبيرين اللذين يوجزان قرار بايدن كان يمكن إستخدامهما بالنسبة لسياسة ترامب أيضاً. فواشنطن تواصل حالياً سياسة ترامب الدولية، ولن يكون للقرار تأثير على الشرق الأوسط الذي يعيش هو ذاته دينامية التغيير الخاصة به.

أما بخصوص تأثير القرار على نظام الأسد، فهو لا يرى أي تأثير، حيث أن الولايات المتحدة ليس في نيتها تغييره، إلا أن العقوبات سوف تستمر برأيه.

الصحافية المتابعة لشؤون الشرق  الأوسط في صحيفة”Kommersant”ماريانا بالكينا رأت بأنه ينبغي الإنتظار لجلاء الأمر وأبعاد القرار. وقالت بأن التنجيم لا يفيد، ولم تكن الولايات المتحدة عازمة في الآونة الأخيرة على تغيير السلطة  بالقوة في سوريا وإيران. ولم يتحدث بايدن سوى عن “نهاية عهد العمليات الكبيرة الرامية إلى إعادة تنظيم البلدان الأخرى”. وهذا لا يمس بسياسة العقوبات والطرق الأخرى للضغط، ولذلك “”لا أتوقع أية تغييرات لافتة”.

خبير منتدى فالداي للحوار الدولي والمجلس الروسي للعلاقات الدولية غيورغي أساتريان رأى بأنه إذا صدقت كلمات بايدن، وتوقفت الولايات المتحدة عن إنتهاج سياسة تغيير الأنظمة وتصدير الديموقراطية، فسوف يترك هذا الأمر تأثيراً إيجابياً على منظومة العلاقات الدولية. لكنه لا يصدق بأن الولايات المتحدة سوف تنتهج مثل هذه السياسة، على الأقل في المستقبل القريب.

أما بشأن إيران وسوريا فهو يعتقد بأن الولايات المتحدة هي بصدد تغيير سياستها، إذ أنها استسلمت لبقاء نظام الأسد، ولن تقوم بمحاولات جديدة للإطاحة به. أما بشأن إيران، فالولايات المتحدة تعتمد لغة الحوار معها

المدن

—————————–

المرأة الأفغانية بين نفاق الغرب وحكم طالبان/ لميس أندوني

عشية الحرب على أفغانستان، عجّت وسائل الإعلام الأميركية بقصص ومقالات عن وضع معاناة المرأة في أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، كان أغلبها صحيحاً، ولكن تم توظيفها بشكل فاقع، في حينه وسنوات بعد بدء الاحتلال الأميركي لهذا البلد الآسيوي، لإضفاء غطاء أخلاقي لحملات قصف ومجازر أتت من السماء والأرض على شعبٍ يئن من ويلات حروبٍ مستمرّة. ولكن كتابا بعينه حقق شهرة واسعة، وأصبح مانيفستو لنسويات ومسؤولين وصحافيين غربيين من مؤيدي الحرب. قدّم “ما وراء النقاب” شهادات عن اضطهاد المرأة في فترة حكم “طالبان” بين 1996 – 2000. ولم يكن الحدث غريباً إلا في أن مؤلفته، شيريل بيرنارد، هي زوجة زلماي خليل زاد، الذي كان وقتها حليفا للمحافظين الجدد، أشد دعاة احتلال أفغانستان. ثم أصبح المبعوث الأميركي لمفاوضات الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم لحركة طالبان. لم تنبس الكاتبة والروائية، شيريل بيرنارد، ببنت شفة عن جرائم القصف والقتل بكل أشكال الترسانة العسكرية الأميركية، خصوصا طائرات الدرونز (من دون طيار)، والتي لم تفرّق بين رجل وامرأة وطفل، لأن مهمة الباحثة في معهد راند انتهت بإنتاج أسطورة الجيش الأميركي المنقذ للمرأة الأفغانية من عنف “طالبان”، وكأن القتل بآلات متطوّرة تكنولوجياً يجعل الحرب مهمة حضارية.

تُساق هذه الحكاية هنا لأنها تمثل قسوة وضع المرأة الأفغانية الواقعة بين وحشية الاستعمار الذي دمر بلادها وحياتها بحروبه وخوفٍ محقّ من بطش حركة طالبان التي نشأت نتيجة استراتيجية أميركية لاستعمال رؤية متطرّفة للإسلام السياسي، في مواجهة الحكم السوفييتي من عقيدة استندت إلى الوهابية، لتنشئ جيلا مشوه التفكير عن الإسلام والجهاد، ووقعوا تحت سطوة أمراء حرب من العشائر المتنفذة في أنحاء افغانستان، ثم جاءت “طالبان” من رحم مخيمات اللجوء، وأزاحوا حكم “المجاهدين” الذين انشغلوا بحروب النفوذ المدمرة. تم تلقين الطالبان، أي طلاب المدارس الدينية، تحت إشراف المخابرات الباكستانية، دروساً جمعت بين معتقداتٍ متطرّفة عن صورة المجتمع والمرأة، فكان حكمهم فجّا وقاسيا، فإضافة إلى تعليمهم العصبوي الضيق، وجدوا أنفسهم أصحاب سلطة تفعل ما تشاء وما ترغب وفقا لأهوائها.

لم تضطهد حقبة “طالبان” الأولى المرأة الأفغانية فحسب، بل حاولت تحويل المجتمع إلى صحراء قاحلة من العلم والفن والفكر، لكن إنكارهم أي حقوق للمرأة، ونظرتهم إلى المرأة مذنبة إلى أن تثبت براءتها من الإثم، أدّيا إلى جرائم بشعة وإغلاق المدارس ومنعها من التعليم والعمل، وكأن عليها أن تختفي تماما، أي أن كل الآفات المجتمعية التي كانت في أفغانستان، ومثلها ما هو موجود في بلادنا، أصبحت قوانين أخلاقية غير مكتوبة ومسلما بها، تُنفذ من دون مساءلة أو رقيب. ولا يمكن تفسير المسألة بطريقة فهم “طالبان” الدين، وضيق أفقهم فحسب، لكن التاريخ يبرهن أن أي مجموعة مسلحة تدخل وتحكم منطقة للسيطرة عليها، سواء كانت باسم الدين أو عقيدة تضع نفسها وصية على أخلاق الناس وحياتهم، تجد في المرأة الهدف الأضعف لاستبدادها، لكن “طالبان” رأت في اضطهاد المرأة وإخفائها الطريق الأقصر لفرض فضيلة متَخَيلة.

هنا يجب ألا ننسى الموروث الاجتماعي والعشائري الذي جعل من اضطهاد المرأة عملية مركّبة ومقبولة، إذ، في كل عقود الحرب وخلال العشرين عاما الماضية، وتحت أعين المحتلين الأميركيين، لم تسلم المرأة من الاستغلال والاضطهاد من “طالبان” والعشائر، ومن جرائم الجيش الأميركي، لكن جريمة “طالبان” الكبرى في منع الفتيات والنساء من التعليم والعمل سلط الأضواء عليهن، فأفغانستان لم تكن تعيش في العصر الحجري. ومنذ بدء التعليم النظامي الذي أصبح إلزاميا في مطلع القرن العشرين، كانت الفتيات منخرطاتٍ في المدارس وفي جامعة كابول، والسفر إلى الخارج للتعليم.

صحيح أن انتهاء عهد “طالبان” فتح الباب مجدّدا للمرأة للتعليم والعمل والانخراط في العمل السياسي وتولّي المناصب. وهذا في جزء كبير منه نتيجة نضال النساء الأفغانيات أنفسهن، لكن الوضع في أفغانستان كان يشبه أوضاعا في بلادٍ كثيرة، بحيث اعتمد كثيرا على المنظمات غير الحكومية المموّلة غربيا، ولن تصل هذه المكاسب إلى أنحاء في أفغانستان، مغيبة وراء الجبال، ومنهكة من استمرار المعارك الغربية، واستغلال الأمنية منها السكان، والأهم لا تنمية حقيقية تحت الاحتلال. أي أن معظم العوائد والإيرادات لم تذهب إلى تنمية أفغانستان، بل إلى المنظمات العالمية والشركات وصناعة الأسلحة الأميركية والمتعاقدين الأمنيين وجيوب المسؤولين الفاسدين، وحتى “الطالبان”، وتم إهمال فادح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأماكن النائية، ناهيك عن ترك الناس دون أمن وأمان، فكابول، على الرغم من كل مشكلاتها، ليست أفغانستان.

هناك حاجة إلى بناء دولة في أفغانستان، إذا كانت حركة طالبان التي تظهر تغييرا براغماتيا تسعى فيه إلى قبول العالم بها، قادرة على إفساح المجال للمشاركة الشعبية والسياسية، لكن المحكّ الرئيسي هو الموقف من المرأة. وما يهمنا هنا أن خوف المرأة الأفغانية حقيقي، ولا يمكن التقليل منه أو الاستهانة به كما يفعل كثيرون فرحون بانتصار “طالبان” على الآلة العسكرية الأميركية. .. وحقوق المرأة في أفغانستان ليست قضية ثانوية تُداس باسم التحرّر، فأي تحرير هذا الذي يخيف المرأة الأفغانية، وهو خوف محقّ ومبرّر، فتصريحات المتحدثين باسم “طالبان” عن الحفاظ على حقوق المرأة بحاجة إلى توضيح، وكذلك الكلام عن حقها في العمل والدراسة. والسؤال هنا: إلى أي مدى تغيرت حركة طالبان، ليس قيادتها فحسب، بل الأهم قاعدتها؟ التحسن الواضح في التعامل مع الإعلام لا يكفي، فالعالم القاسي مستعدٌّ للقبول بأي نظام في أفغانستان، إذا حُفظت مصالحه الاقتصادية والأمنية فيها.

لا يمكن رهن حقوق المرأة في أفغانستان وغيرها بتصريحات المسؤولين الغربيين، فهي ورقة ضغط يلعبها الغرب بجدارة. قد يضغط أحيانا حتى يحافظ على غطاء أخلاقي لاستغلال أفغانستان بكنوز أرضها من معادن وأحجار نادرة ومادة الليثيوم التي تتهافت عليها كل الدول. لذا ما يريده الغرب والقوى الكبرى، مثل الصين، هو تشكيل حكومة يرأسها الطالبان، تحافظ على الأمن حتى تزدهر صناعات التعدين ويتراكم رأس المال. وهذا يتطلب أيضا دمج المرأة على كل المستويات في القوة العاملة، والصين كانت واضحةً في مطالبتها التزام “طالبان” بحق المرأة في العمل. لذا هناك ضغوط على الحركة لإثبات قدرتها في الحكم للعالم. والتحدّي الأول أمامها الإثبات للشعب الأفغاني، والمرأة منه خصوصا، أنها قادرة على احترام حقوق المواطنين وإنسانيتهم، ليس في العمل والتعليم فحسب، بل أيضا في كل شأن يتطلب تحرّر “طالبان” من نظرتها الضيقة، فتحريم الفن والإبداع هو قتل للروح الإنسانية، فلا خير في انتصار عسكري يدمّر النفس.

ناشد المتحدّث باسم “طالبان” دول النفاق الغربي بعدم تفريغ أفغانستان من الكفاءات، وهو قول محق، لكن المطلوب أيضا من الحركة عدم ترويع النساء والكفاءات، وإلا سيكون حكمها بقوة السلاح واستمرار سلب الأفغانيين من وطنهم وحياتهم.

العربي الجديد

——————————-

شراكة الصين مع أفغانستان قبل براغماتية أوروبا/ مالك ونوس

هل سيتحاور الغرب مع حركة طالبان؟ هذا هو السؤال الأكثر طرحاً منذ بسطت الأخيرة سيطرتها على أفغانستان قبل أيام. من المرجّح أن تفعل أوروبا ذلك قبل الولايات المتحدة، بسبب حساسية الأمر بالنسبة إلى الأميركيين. غير أن لا ثابت في السياسات الدولية؛ إذ قد يكون ولوج أوروبا إلى أفغانستان عبر البوابة الاقتصادية توطئةً لعودة الولايات المتحدة إلى هذا البلد عبر البوابة ذاتها، وهو ما لا تفضّله أوروبا التي سحبتها أميركا من أذنها للمشاركة في حربها عليه. وقد لا يتأخر هذا الحوار كثيراً، فقد يشكّل احتمال مسارعة الصين إلى الاعتراف بـ”طالبان” والتعاون معها، دافعاً للدول الأوروبية إلى البحث عن مبرّرات تسرِّع هذا التحاور، وتؤسّس لعلاقات اقتصادية بين الغرب وأفغانستان، تتعالى عن عداوات الماضي، وتتغاضى عن ملفات تحريم التطبيع بين الفريقين.

لن يتأخّر الأمر كثيراً حتى تتوقف السرديات التي تبحث في المسؤولية عن الهزيمة الأميركية في أفغانستان وتبعاتها، وتلك التي تخوض في أسباب الانسحاب الأميركي والغربي السريع الذي أتاح لـ”طالبان” السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، وإحكامها الهيِّن على العاصمة كابول، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للحديث عن فوائد الاستثمار في هذا البلد الواعد. وقد شَرَع كثيرون في الغرب في العودة إلى الحديث عن أهمية أفغانستان، بفضل ما تكتنزه أراضيها من ثرواتٍ نادرةٍ لا تتوافر في بلدان أخرى، وبفضل موقعها الاستراتيجي، وغيرها من المقوِّمات التي تحدّد أهميتها السابقة والمستجدّة على الساحة الدولية، وفي موازين الاقتصاديين الغربيين. وستتسارع الدراسات في هذا المجال، مع الأخذ بالاعتبار ما يمكن الصين أن تقدّمه إلى أفغانستان، وما يمكنها الإفادة منه والتسلّح به لزيادة قوتها وموقفها أمام القوى الغربية، إذا ما جرى التوافق بين “طالبان” والقيادة الصينية على ملفات ما بعد الحرب، وطرق تعزيز السلام بدعم الاقتصاد والتنمية.

ستدفع البراغماتية الغربَ إلى التأمل في قضية جوهرية في الصراع الأفغاني، وهي نتائج الحرب التي شنتها أميركا والدول الأوروبية على أفغانستان، بعد الهجمات على نيويورك وواشنطن سنة 2001، وهي حرب استمرت 19 عاماً للقضاء على حركة طالبان، ولم تنجح. وسيصل المحللون والسياسيون إلى نتيجة تقول بصعوبة القضاء على “طالبان”، وبالتالي التسليم بضرورة محاورتها. وعلى الرغم من أن احتمال الحرب لا ينتفي لدى الساسة الغربيين، وخصوصاً الأميركيين، إلا أن الأجواء في أوروبا تشير إلى أن الساسة تخطّوا مسألة العودة إلى شنّ حربٍ عبثيةٍ أخرى من أجل القضاء على طالبان، وهو ما تحدّث عنه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، تحت قبة مجلس العموم البريطاني، وختمه بأن بلاده ستحكم على “طالبان” من خلال أفعالها لا أقوالها، والحكم يعني بلغته التحاور أو تطبيع العلاقات معها. وشروط جونسون لذلك الحوار ردّدها، بصيغةٍ أخرى، وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي لم يستبعد الحوار مع “طالبان” بعد تحقيقها خمسة شروط.

وإذا ما تأملنا في الشروط الفرنسية، وتلك البريطانية، نجد أن جميع الدول الغربية تُجمع عليها: احترام حقوق المرأة، والسماح بوصول المساعدات الدولية للمتضرّرين من الحرب، وعدم ممانعة “طالبان” الراغبين في مغادرة البلاد، وعدم السماح بتحويل أفغانستان إلى ملاذٍ للإرهاب الدولي، وتشكيل حكومة انتقالية. ولا يشير تعويل أوروبا على إمكانية تنفيذ “طالبان” هذه الشروط سوى أن أوروبا قد تريد الافتراق عن الولايات المتحدة في مسألة المصالح، خصوصاً أن المصالح الأميركية تتعزّز بالحروب التي تشنها واشنطن، وتجرّ الدول الأوروبية إلى المشاركة فيها، وعادة ما لا تتكلل تلك الحروب بالهدف الذي شنت من أجله، وهو وقف التهديدات الإرهابية المزعومة التي تأتي من الدول التي تشن الحروب عليها، أو إحلال السلام فيها. خذ على سبيل المثال العراق وسورية والصومال وغيرها. وفي النهاية، لا تحصد أوروبا سوى موجاتٍ من اللاجئين من البلدان التي تعاني الحروب، بينما تتنعّم أميركا بتصريف أسلحتها الكاسدة على حروبٍ أحد أهدافها تشغيل مصانع السلاح خلف الأطلسي.

لا تتأكد البراغماتية التي بدأ الغرب يعتمدها من أجل التعامل مع أفغانستان إلا من مناشداتٍ بدأت تظهر وتقول: “من أجل الشعب الأفغاني تحاوروا مع طالبان!”. ولكن، لماذا تأخّر هذا الحوار بعد عشرين سنة من الحرب التي تكلّلت بالهزيمة؟ لو بدأ الحوار سنة 2001، وكان هدفه التحقق الصادق من مسؤولية حركة طالبان أو تنظيم القاعدة عن هجمات “11 سبتمبر” ، لكانت مآسٍ كثيرة في المنطقة قد وُئدت. لو بدأ الحوار يومها، لما كان الغرب يعيش اليوم هاجس أن تسارع الصين، أو حتى روسيا، لملء الفراغ الذي تركه انسحابه من أفغانستان، أو حتى إمكانية مساءلة قادته عن سبب هذا الانسحاب الذي أتاح لـ”طالبان” ما لم تكن تحلم به قبل يوم 16 أغسطس/ آب 2021.

بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان وسيطرة “طالبان” على كابول، تستطيع الصين أن تقدّم لأفغانستان أكثر مما تحلم به. هذا فحوى هاجس الغربيين لدى تفكُّرهم في مستقبل أفغانستان تحت حكم “طالبان”. وكعادتها في النأي عن الصراعات التي تشعل الولايات المتحدة فتيلها، لم تجرِّب الصين حظوظ قوتها في هذا البلد المنكوب، كما فعل حلفاء أميركا، بل تسلّلت عبر المساعدات الإنسانية والعقود التجارية وأصبحت شريكاً تجارياً كبيراً لأفغانستان، مُحافظةً، في الوقت نفسه، على حيادٍ سياسيٍّ. وهي بذلك أسّست لما يمكن أن يكون أساساً لبناء أكبر يعزّزه عدم وجود حساسية لدى الأفغان تجاهها، في حين أن لديهم حساسية مفرطة وارتياباً، تاريخياً ومستجدّاً، تجاه الغزاة الغربيين. لذلك فإن هذه العوامل، وحقيقة القدرة التي تتمتع بها الصين في سرعة إنجاز البنى التحتية والتأسيس لصناعات واعدة، تعطيها الأفضلية لدى “طالبان”، في حال تشكيلها الحكومة الموعودة والضرورية لإرساء السلام.

حين دخلت “طالبان” إلى كابول أعلنت من فورها انتهاء الحرب. لذلك ينتظر منها أن تعلن الحكومة المتوقع أن تكون انتقالية، وتضم مكونات سياسية أخرى إلى جانب “طالبان”، لتكون بذلك الخطوة الأولى نحو السلام. حينها ستنفتح خزائن أفغانستان وما تحويه من نفائس، ليس أقلها الليثيوم والحديد والنحاس، وغيرها من المعادن النادرة، أمام من ترى فيه “طالبان” شريكاً لم يتورّط مع الولايات المتحدة في إراقة دماء أبناء الشعب الأفغاني ودمّر بلادهم. وستكون الصين هي هذا الشريك، حينها ستكون البراغماتية خطوةً متأخرةً اتبعها الغرب للفوز بأفغانستان تحت حكم “طالبان” قبل الصين.

العربي الجديد

—————————-

المنطقة تغيّرت… أميركا لم تتغيّر!/ خيرالله خيرالله

بعد أيام، تمرّ الذكرى الـ20 على “غزوتي نيويورك وواشنطن” اللتين نفذهما تنظيم “القاعدة” الإرهابي بقيادة أسامة بن لادن. بعد عقدين على الحدث، يتبيّن أن العالم، خصوصا الشرق الأوسط والخليج، تغيّر فيما أميركا التي استهدفها الإرهاب لم تتغيّر. لا تزال أميركا تعاني من الأمراض نفسها التي كانت تعاني منها قبل الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. لا تؤثّر هذه الأمراض بأميركا في ضوء قدرتها على التحمّل بفضل الحجم الضخم لاقتصادها، قبل أيّ شيء آخر. يسمح لها هذا الاقتصاد بتلقي الصدمات الواحدة تلو الأخرى… في انتظار خطأ أميركي جديد يذهب ضحيته أحد شعوب هذا العالم!

ما يؤكّد أن أميركا لم تتغيّر طريقة خروجها مهزومة من أفغانستان واستسلامها مجدّدا أمام “طالبان” من دون أي سؤال أو جواب عن مصير الشعب الأفغاني الذي سيكون عليه مجددا المعاناة من حركة متخلّفة لا تحترم الإنسان وتحتقر المرأة والعلم والتعليم وتعتقد أنّ كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، بدءا بالموسيقى والفن، عدوّ لها. ليس ما يضمن ألّا تعود أفغانستان حاضنة للإرهاب كما كانت عليه الحال قبل 2001. من يضمن، في ضوء ما شهده مطار كابول أخيرا حيث قتل 13 عسكريا أميركيا على يد انتحاري من “داعش” ألّا تتحوّل أفغانستان مجددا مكانا يسرح فيه الإرهاب ويمرح؟

لدى أميركا القدرة على هزيمة الفشل، أيّ فشل. كلّ ما تفعله هو الانسحاب وترك البلدان التي حاولت إنقاذها لمصيرها. قد تكون القيادة في فيتنام، القيادة الوحيدة التي استدركت نفسها وانطلقت من هزيمتها لأميركا كي تعود حليفا لها في مواجهة الصين. هزم الفيتناميون أميركا عسكريا وانهزموا أمامها اقتصاديا وذلك في مصلحة بلدهم ومستقبله…

المفارقة أنّ الجيش الأميركي دخل إلى كابول في 2001 وأخرج منها “طالبان”. لدى مغادرته كابول في 2021، تعود “طالبان” إلى العاصمة الأفغانية فيما يسعى أهلها إلى الهروب منها بمعيّة الأميركيين. هذه فضيحة ليس بعدها فضيحة بالنسبة إلى إدارة أميركية تبحث كلّ يوم عن تبريرات لتفسير فشلها في الخروج بطريقة لائقة من حرب لم تستطع تحقيق انتصار فيها.

ستبقى أميركا أميركا بغض النظر عن المغامرة الأفغانيّة. ما هو محزن أنّ إدارة جو بايدن ترفض مراجعة ما حصل في السنوات العشرين الماضيّة. لم يشر أيّ مسؤول أميركي إلى ما حصل على هامش الغزو الأميركي لأفغانستان.

تميّزت السنوات العشرون الماضيّة بغياب أيّ فهم في واشنطن لمعنى الذهاب إلى العراق فيما الجيش الأميركي لم ينه حرب أفغانستان ويقضي نهائيا على “طالبان”. ما حصل هو تسليم للعراق على صحن من فضّة إلى النظام القائم في إيران، وهو نظام يربط بقاءه بقدرته على التخريب في المنطقة المحيطة به. ستعضّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” على جروح الماضي، بما في ذلك قتل “طالبان” لدبلوماسييها في مزار شريف في أيلول – سبتمبر من العام 1998. ستسعى في المقابل إلى لعب دور في أفغانستان مستفيدة من قاعدة مشتركة بينها وبين “طالبان”. اسم هذه القاعدة هو “القاعدة” التي وجدت من يؤوي بعض رجالاتها في إيران بعد العام 2001.

بغزوها العراق، غيّرت أميركا التوازن في الشرق الأوسط كلّيا. لم يعد العراق، وهو ركيزة من ركائز النظام الإقليمي وإحدى أهم الضمانات للتوازن فيه، موجودا. صار بلدا ضائعا يبحث عن هويّة وذلك في ضوء الإصرار الأميركي في عهد جورج بوش الابن على التخلّص من نظام صدّام حسين.

مع سقوط العراق وسقوط صدّام حسين بالطريقة التي أسقط بها، كشفت الولايات المتّحدة عن جهل كامل بالشرق الأوسط. ليس صدّام حسين وحده الذي لم يستوعب معنى ما حدث في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. لم يكن يمتلك القدرة الذهنيّة على فهم ما حدث. لم يفهم معنى أن يقسّم جورج بوش الابن العالم بين “من ما هو معنا ومن ما هو ضدّنا”. المهمّ أن أميركا أقدمت على ما أقدمت عليه وغيّرت الشرق الأوسط كلّيا. لم تكتف بإسقاط صدّام حسين ونظامه. سمحت لإسرائيل بالانتهاء من ياسر عرفات الذي وضعه أرييل شارون في الإقامة الجبريّة في “المقاطعة” في رام الله… إلى أن توفّى في 11 تشرين الثاني – نوفمبر 2004.

لعلّ الأخطر من ذلك كلّه أن الذهاب الأميركي إلى العراق وفّر اندفاعة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني وصولا إلى اغتيال رفيق الحريري في لبنان بغية السيطرة على البلد. وهذا ما نرى نتائجه حاليا بعدما صارت إيران تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة في لبنان وتمنع تشكيل حكومة فيه. تبيّن مع مرور الوقت أن اغتيال رفيق الحريري لم يكن اغتيالا إيرانيّا لشخص معيّن كبر حجمه لبنانيا وعربيّا ودوليّا، بغطاء من النظام السوري. كان في الواقع اغتيالا لبلد ولصيغة عيش فيه مرفوضة من “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي تريد وجودا على البحر المتوسّط.

لم يقتصر الأمر على العراق ولبنان. بعد الاجتياح الأميركي للعراق، استسلم بشّار الأسد نهائيا أمام إيران. عندما انتفض الشعب السوري في وجه النظام الأقلّوي الذي يتحكّم به منذ نصف قرن، ألقت إيران بكلّ ثقلها في الحرب التي يشنّها النظام على شعبه. بقيت أميركا في صف المتفرّجين على المأساة السورية ولا تزال…

تغيّر الشرق الأوسط إلى غير رجعة. ليس معروفا على ماذا يمكن أن يستقرّ العراق أو سوريا أو لبنان. أكثر من ذلك، صارت إيران، من خلال اليمن، موجودة في شبه الجزيرة العربيّة وتشكل تهديدا يوميا لدول الخليج.

وحدها أميركا لم تتغيّر. الثابت أنّه سيمرّ وقت طويل قبل أن تقدم على أي مغامرة جديدة خارج حدودها. لكنّ الثابت أيضا أنّها لن تفعل شيئا لإصلاح ما خرّبته في الشرق الأوسط والخليج. تركت دولا عدة مع شعوبها لمصيرها. ستعتمد موقف المتفرّج على المصير البائس للأفغان والعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين. لديها ما يكفي من القوّة والمناعة الاقتصادية لتمارس هذه اللعبة التي لا يستطيع أحد غيرها ممارستها!

إعلامي لبناني

العرب

————————–

خبايا الفشل الغربي في أفغانستان

“ربَّما تكون هذه المرة أيضًا مثل المرة الأولى التي استولت فيها طالبان على كابول بين ليلة وضحاها” هذا ما قاله شاب عمره ثلاثون عامًا واسمه أحمد جاويد في يوم السبت 14 / 08 / 2021 عَشِيَّةَ استعادة حركة طالبان سيطرتها على كابول، متذكرًا تمامَ التذكُّر صباح أحدِ الأيامِ قبل خمسة وعشرين عامًا -رغم أنه كان لا يزال طفلًا صغيرًا- حين سيطر مسلحو حركة طالبان الإسلامية على العاصمة الأفغانية لأوَّل مرة.

في ذلك الوقت وصل مسلحو طالبان إلى كابول فجأةً في حين هرب ممثِّلو حكومة المجاهدين بعدما تقاتل هؤلاء وأولئك فيما بينهم لسنوات عديدة، ويبدو أن هذا السيناريو يتكرر من جديد -كما رأى أحمد جاويد- بعد نحو عشرين عامًا من بداية احتلال حلف الناتو لأفغانستان، وأضاف متوقعًا: “لقد أظهرت الأيَّام الأخيرة أنَّ طالبان ستكون هنا في كابول قريبًا”.

توقُّعات أحمد لم تلبث أن تحقَّقت بالفعل في اليوم التالي حين دخلت حركة طالبان إلى كابول في تاريخ 15 / 08 / 2021 -بعد تمكنها من السيطرة على جميع مراكز المحافظات الرئيسية الأخرى في أفغانستان خلال الأيَّام القليلة السابقة لهذا التاريخ- وذلك نتيجة تخلى أفراد الجيش والشرطة -في حالات كثيرة- عن مواقعهم في كابول حتى قبل دخول طالبان إلى العاصمة الأفغانية.

وفي الوقت نفسه سارع الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى الفرار من البلاد مع حاشيته، بعد فترة حكمه التي تصرَّف فيها كنائبٍ للاستعمار الجديد – كما كان يصفه خلال الأعوام السابقة ليس فقط حركة طالبان بل وحتى أفغانٌ كثيرون ممن لم يكونوا مستفيدين من جهاز دولته الفاسد، وبحسب بعض التقارير فقد أخذ رجال أشرف غني معهم حقائبَ مملوءة بالنقود عند فرارهم.

وبالمناسبة أشرف غني هو نفسه الذي كان قبل عدة أعوام قد قال إنَّه غير متعاطف مع اللاجئين الأفغان مضيفًا أنَّهم على أية حال سيعملون في نهاية المطاف في غَسْل أطباق المطاعم في الغرب، وبعد هروبه كاللاجئين من كابول استولى مسلحو حركة طالبان على القصر الرئاسي وَهَيَّئوا أنفسهم لالتقاط الصور عند مكتبه وفي كلِّ مكان داخل القصر الرئاسي.

وبعد دخولهم القصر الرئاسي بقليل قال أحدُ قادة طالبان الحاضرين خلال مؤتمر صحفي مرتجل لقناة الجزيرة القطرية إنَّ الأمريكيين اعتقلوه وعذَّبوه في معتقل غوانتانامو ثماني سنوات، وعلى الأرجح أن هذا لم يكن من باب المصادفة فقد اتَّضح هنا من جديد أنَّ “الحرب الأمريكية على الإرهاب” عملت على تطرُّف العديد من الأشخاص في أفغانستان – وأنَّ الكثيرين منهم لم ينسوا هذه الحرب حتى يومنا هذا.

السماح للأمريكيين البيض فقط بالصعود إلى الطائرة؟

تتابعت الأحداث في كابول بوتيرة سريعة وتدفَّقت حشود الناس إلى المطار حيث كانت القوَّات الأمريكية منشغلة في إجلاء مواطنيها -ولم تنتهِ الفوضى في المطار حتى في الأيام التالية- وتعلق بعض الأشخاص بطائرة أمريكية أثناء إقلاعها وسقطوا موتى خلال محاولة هروبهم اليائسة، في حين كان جنود أمريكيون يطلقون النار في اتجاه حشد من الأفغان اليائسين.

بعد هذا الحادث قال الصحفي الهولندي الأفغاني والناشط في البودكاست سنگر پيكار: “قُتل أحد أقربائي وقد كان طبيبًا”، وكذلك ادَّعت الكاتبة والناشطة الأفغانية الأمريكية نادية هاشمي أنَّ الأمريكيين من أصل أفغاني تم منعهم جزئيًا من الصعود على متن الطائرة والسبب -بحسب تعبيرها- أنهم لم يكونوا من الأمريكيين البيض البشرة.

هذه المشاهد في كابول أظهرت بوضوح أكثر من أي وقت مضى أنَّ مهمة الغرب في أفغانستان باءت بالفشل. وها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال خطابه في خضم هذه الأحداث لم يتَفوَّهْ حتى ولو بكلمة واحدة حول الأفغان الذين قُتلوا في الحرب الأمريكية على الإرهاب في العقدين الماضيين، وبدلًا من ذلك اتسمت كلماته من جديد بإنكاره الواقع وبالجهل، وهو ما يدل على إنَّ الفائزين الحقيقيين في هذه الحرب ليسوا الجالسين في البيت الأبيض بل في كابول.

لم تكن حركة طالبان قوية بتاتًا إلى هذا الحد بقدرما صارت في هذا الوقت بعد استيلاء مقاتليها -خلال أيَّام وأسابيع فقط- على الكثير من الآليات والمعدَّات العسكرية الأمريكية العالية التقنية، وبعد سيطرة المتطرِّفين من جديد على كلِّ أفغانستان تقريبًا بغض النظر عن ولاية بَنْجْشِير شمال كابول المعروفة دائمًا بمقاومتها لطالبان، وهذا عدا قوَّة قادة حركة طالبان السياسية على الساحة الدولية التي عملوا على زيادتها خلال سنوات سابقة.

وباستيلاء طالبان على السلطة كان لابدّ من من تصحيح تحليلات وتوقُّعات كثيرة برزت في أيَّام سابقة لسيطرة طالبان ومنها مثلًا افتراض وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أنَّ بإمكان طالبان الاستيلاء على كابول خلال ثلاثين أو تسعين يومًا تالية ولكن في النهاية حدث كلُّ شيء خلال أربعٍ وعشرين ساعة، وحتى أنَّ الكلمات لم تسعف الكثيرين من المحللين الأمريكيين المعروفين في واشنطن فوقف بعضهم عاجزين عن الكلام في موضوع أحداث أفغانستان.

على سبيل المثال وصف المحلل الأمريكي بيل روغيو من مركز الأبحاث الفكرية الأمريكي اليميني المحافظ “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” تقدُّمَ طالبان الناجح كواحد من “أعظم الإخفاقات الاستخباراتية خلال العقود الأخيرة”، قائلًا إنَّ استراتيجية طالبان الحربية المُحَنَّكة “في غاية التألُّق”، فقد ركَّز المتطرِّفون في البداية على شمال البلاد قبل استيلائهم على مدن أخرى في جميع أنحاء أفغانستان.

كيف حدث ذلك؟

توجد أسباب عديدة لكلّ هذه الأحداث، فقد تم كبت الكثير من أسباب فشل الغرب وتم تجاهلها طيلة سنوات – ليس فقط لأنَّ الغربيين أرادوا حفظ ماء وجههم بل أيضًا لأنَّهم لا يزالون بعد كلِّ هذه السنوات يجهلون أفغانستان، فقد كانت جميع المحافظات -التي سقطت مراكزها قبل كابول- تخضع عمليًا لسيطرة طالبان منذ سنوات إثر ترسيخ مسلحي طالبان وجودهم هناك: فقد كانوا يعملون ويحكمون في الظلّ وتمكَّن المتطرِّفون في فترة مبكِّرة من الحصول على موطئ قدم لهم في هذه المناطق الريفية، وذلك لأسباب منها الفساد الهائل في العاصمة وكذلك العمليات العسكرية الكثيرة التي نفَّذها هناك حلفُ الناتو وحلفاؤه الأفغان.

فقد تسبَّبت هجمات الطائرات المسيَّرة من دون طيَّار والمداهمات الليلية الوحشية في سقوط الكثير من الضحايا المدنيين بانتظام في القرى الأفغانية، وهذا ما دفع الكثيرين من أهالي الضحايا إلى الانضمام إلى طالبان بطريقة أو بأخرى، وهذا ذاته كان الحال على أرض الواقع على أبواب كابول، وحتى قبل تطوُّرات سيطرة طالبان على كابول بفترة طويلة كان يكفي السفر بالسيارة مسيرة عشرين إلى ثلاثين دقيقة للوصول من العاصمة إلى مناطق طالبان.

غير أنَّ المسؤولين في حكومات الغرب كانوا لا يريدون مواجهة مثل هذه الحقائق وبدلًا من ذلك كانوا مشغولين بأكبر قدر من التملُّق الذاتي ومداهنة الذات متحدثين عن “قيمهم المُقْنِعة” ومركِّزين على إنجازات مفترضة تحقَّقت في أفغانستان منذ عام 2001، ومتحدثين عن ديمقراطية على الرغم من عدم حدوث أي انتقال ديمقراطي للسلطة في أفغانستان خلال العشرين سنة التي سبقت استعادة طالبان السيطرة على كابول.

ما من شكّ في أنَّ هذا لا ينطبق على الأفغان الذين خاطروا بحياتهم وذهبوا فعلًا إلى صناديق الاقتراع، بل ينطبق في المقام الأوَّل على تلك النُخب الفاسدة التي وصلت إلى السلطة في كابول عن طريق الولايات المتَّحدة الأمريكية، فقد استغل رجالٌ مثل حامد كرزاي أو الرئيس الهارب أشرف غني النظام الجديد وقوَّضوه من الداخل لأغراضهم الخاصة واستخدموا دائمًا تزوير الانتخابات من أجل البقاء في السلطة.

ومثلهم تصرَّفت أيضًا جهاتٌ فاعلة أخرى داخل أفغانستان ومن بينها مثلًا كثيرون من أمراء الحرب وأرباب تجارة المخدرات المعروفين، الذين أصبحوا من أقرب حلفاء الغرب في جبال الهندوكوش، مالئين للجيوب وجامعين للثروات من أموال المساعدات الخارجية الكبيرة وناقلين لمليارات الدولارات إلى خارج أفغانستان.

وهم في الوقت نفسه من أكبر المستفيدين من الحرب، مثلًا بفضل شركات أمن خاصة أنشأوها بأنفسهم لتفتعل هجمات وهمية على قوَّات الناتو وحصلوا على إثر ذلك على عقود مربحة من حلف الناتو نفسه من أجل التكفل بمواجهة خطر إرهابي مزعوم.

    Airport in #Kabul… Listen .. #kabulairport #Afghanistan pic.twitter.com/0hsDWNqOFS

    — Natalie Amiri (@NatalieAmiri) August 16, 2021

تطورات تنبئ بالفشل بات من الواضح -منذ نهاية عام 2019 على أبعد تقدير- أنَّ المسؤولين في واشنطن وغيرها يعرفون عنها كلَّ شيء. فقد نشرت في ذلك الوقت صحيفةُ واشنطن بوست ما يُعرف باسم “أوراق أفغانستان”، التي اعترف فيها إلى حدّ ما نحو أربعمائة من كبار المسؤولين الأمريكيين بفشلهم في أفغانستان، وقد ظلت تفاصيل ذلك محفوظة بسرية طيّ الكتمان طيلة سنوات.

ولكن لا أحد يريد في هذا الوقت الحديث حول ذلك أيضًا، بل يتم الاستناد على كل ما هو ظاهر فوق السطح والتأكيد على أنَّ حركة طالبان خرجت من العدم لتفاجئ أفغانستان والغرب، ويتم الادعاء بأنه قد تم بذل أقصى الجهود في أفغانستان بأعلى مراتب المعرفة والضمير وبأن هذه الجهود لم تثمر عن نجاح بسبب سوء الحظ.

وها هو الغرب -بعد عشرين عامًا من تدخُّل فاشل أودى بحياة مئات الآلاف من الأفغان وجعل الملايين منهم لاجئين ودفعهم إلى الفقر- لم يفقد فقط اهتمامه بأفغانستان بل أيضا أصبح الغرب لا يشعر بأية مسؤولية عن بلوى الأفغان وتعاستهم، بل يتم اختزال المأساة في توصيف ثقافوي يلقي باللوم على ثقافة الأفغان ويهوّن من مسؤولية الغرب بالقول: “هذه طبيعة الأفغان في الواقع، وهذا ليس ذنبنا نحن في الغرب”، توصيف أصبح يتردَّد صداه الصوتي بقوة خصوصًا إبان خروج قوات الناتو واستعادة طالبان السيطرة على أفغانستان.

عمران فيروز

ترجمة: رائد الباش / ع.م

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 ——————————-

====================

تحديث 09 أيلول 2021

—————————

الانسحاب من أفغانستان في دلالاته السورية-اللبنانية/ منير الربيع

يقود الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى متغيرات سياسية ذات انعكاس استراتيجي في كل منطقة الشرق الأوسط. تتضح أكثر فأكثر معالم اللامبالاة الأميركية للتطورات الشرق أوسطية، إهمالاً لكل ملفات المنطقة. في مقابل قوى أخرى تسعى إلى سدّ الفراغ أو البحث عن فرصة لتعزيز شروطها وأوراقها وحضورها. ينعكس ذلك بشكل مباشر على الوقائع اللبنانية والسورية كما على كل وقائع المنطقة. ومن أبرز مؤشرات هذه التحولات، هي زيارة الوفد اللبناني الرسمي إلى دمشق في إعادة تطبيع العلاقات وافتتاحها رسمياً بعد عشر سنوات على انقطاعها. تركز طهران على تعبئة الفراغ وتحقيق مكسب سياسي جديد لصالح حلفائها.

لن تكون زيارة الوفد اللبناني الرسمي هي الوحيدة أو الأخيرة، سيكون هناك تحضير لزيارة يجريها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى دمشق، ووفود من قوى متعددة ستذهب أيضاً باتجاه الشام على وقع البحث عن فرص لتوقيع اتفاقيات لها علاقة بالنفط والغاز، ووسط مساع عربية لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية. تحاول إيران تظهير الانسحاب الأميركي وكأنه انتصار لها، تسارع إلى خطوات مع حلفائها تظهر قوتها وثبات نظرتها، وإنجاز المزيد من الأهداف السياسية. صحيح أن طهران تحقق أهدافاً سياسية وتسعى إلى تحقيق المزيد من التقدم تحضيراً للحظة تجديد التفاوض الكبير مع الولايات المتحدة الأميركية.

لم يكن الوفد اللبناني ليزور دمشق لو لم يكن هناك موافقة أميركية واضحة، حصلت الزيارة بتنسيق مع الأميركيين، من غير المعروف حتى الآن أبعاد هذه الخطوة الأميركية، إذا كانت ذات فعل صادق، أم أنها محاولة لنصب فخ جديد لكل من لبنان وإيران وسوريا معاً. السماح الأميركي بزيارة الوفد جاء بعد إعلان حزب الله عن استقدام النفط الإيراني إلى لبنان، قد يكون الردّ الأميركي هو إشارة إلى استمرار صراع المحاور والهويات السياسية، بين النفط الإيراني والنفط العربي، كما كان هناك صراع في السابق بين سوريا العربية وسوريا الإيرانية، من خلال نظرية احتضان النظام السوري عربياً لتخفيف النفوذ الإيراني وقضمه. ولكن أيضاً لا يمكن الوثوق بالأميركيين، الذي بعد عشرين سنة على مواجهة طالبان في أفغانستان، اتخذت واشنطن قرار الانسحاب وسلّمت البلاد كلها لجماعة قاتلتها وصرفت في سبيل قتالها آلاف مليارات الدولارات، وهذا أمر قابل لأن يتكرر مع إيران أو مع حزب الله في لبنان والمنطقة. وسوريا إحدى أبرز الأمثلة على التخلّي الأميركي عن دعم الشعب السوري وإطلاق يد إيران في سوريا وسحق الثورة السورية والحفاظ على النظام، وهذه كلها كانت نتيجة اهتمام واشنطن بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني. وحالياً هناك مشهد يتكرر في درعا، من خلال مؤامرة دولية أميركية روسية لتهجير أهالي المحافظة كرمى لعيون خطوط النفط والغاز.

كما أن زيارة الوفد اللبناني إلى سوريا لم يكن لتحصل لولا الموافقة الأميركية، تبرز معلومات مؤكدة عن احتمال عقد لقاء بين رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، واللواء علي مملوك في العراق. ذلك يأتي في سياق الحركة الشاملة التي تقودها بغداد وحكومة مصطفى الكاظمي للجمع بين المتخاصمين، برعاية أميركية أيضاً. تشير المعلومات إلى احتمال عقد لقاء في شهر أكتوبر بين فيدان ومملوك في بغداد، وهو تتويج للقاءين استخباريين تركي وسوري حصلا في بغداد في الشهرين الفائتين، كذلك لا بد من الإشارة إلى لقاءين آخرين عقدا بين فيدان ومملوك برعاية روسية.

لا يعتبر ذلك تفصيلاً بالنسبة إلى مجريات التطورات، دخول تركيا بقوة أكبر إلى سوريا ولو من باب العلاقات مع النظام، سيكون له آثار سياسية متعددة، ما يركز عليه الأتراك وفق المعلومات هو ترتيب الوضع في درعا، وفي إدلب، وتوفير حماية للمدنيين، بالإضافة إلى تسهيل أمور السوريين المقيمين في تركيا، فيما الملف الثالث والأهم هو البحث في وضع الأكراد.

أمام هذه الوقائع لا بد من تسجيل ملاحظات أساسية على السياسة الأميركية. فإذا كانت وقائع الدخول الأميركي إلى الشرق الأوسط قد أدت إلى تحقيق تقدم إيراني، من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، فإن الانسحاب الأميركي من المنطقة، ينطوي على تعزيز نفوذ الأتراك فيها، خروج الأميركيين من أفغانستان، ينطوي على تحقيق تقدّم تركي هناك وفي كل المنطقة المحيطة، ما سيعزز النفوذ التركي أكثر، وهو امتداد لنفوذ تركي أساسي في باكستان وطاجيكستان وأذربيجان، ولا ينفصل عن النفوذ التركي في البحر الأبيض المتوسط بفعل الاتفاق التركي الليبي. ذلك يرتبط أيضاً بالمصالحات التركية العربية والخليجية، وحالياً يأتي دور تركيا في سوريا من خلال تثبيت حضورها انطلاقاً من الانسحاب الأميركي، وكما فعلت أنقرة منذ لقاءات أستانا في تعزيز نفوذها في سوريا، حالياً تسعى إلى توسيع هذا النفوذ ولو ارتكز على لقاء أو تنسيق مع النظام.

تلفزيون سوريا

——————————-

قنبلة موقوتة.. وديعة أميركية في أفغانستان/ أحمد رحال

ما تزال أصداء إخفاق انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان تتردد، بانعكاسات سياسية وعسكرية واستخباراتية، تكاد تطيح بأسماء لامعة في الإدارة الأميركية، وقد بدأ الحديث عن مدى الخسارات المتوقعة للحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية القادمة في الكونغرس، بعد أن أصبح من شبه المؤكد أن لا ولاية أخرى للرئيس الحالي “بايدن”.

الإخفاق الأميركي الذي يأتي بعد عشرين عامًا من الوجود الأميركي في أفغانستان ستكون نتائج دراساته وتحليلاته مادةً تُدرّس في المدارس والأكاديميات العسكرية والسياسية، وكذلك في مؤسسات العلاقات الدولية والأمنية، والانسحاب الأميركي بنتائجه الكارثية يعكس بصورة واضحة مدى الاستخفاف وحالة عدم وضوح الرؤية وسوء التوقع والتقدير، لدى ضباط الاستخبارات المركزية الأميركية وتقاريرهم التي توقعت صمود الجيش الأفغاني ثلاثة أشهر، على الأقلّ، على حين كانت ثقة حلف “الناتو” أكبر، عندما أكد جنرالاته، عبر توصيات وتوقعات، أن العاصمة “كابول” والجيش الأفغاني قادرون على الصمود، على الأقلّ لبداية عام 2022، لكن اللافت أنّ كلا الطرفين متفقان على حقيقة نصر حركة “طالبان”، وكان غياب التنسيق بين الاستخبارات الأميركية والبنتاغون واضحًا.

وبناء على ذلك؛ لم يكن مفاجئًا انتصار طالبان وسيطرتها على البلاد والقواعد العسكرية والمطارات، ومن ثم الحدود والعاصمة كابول، بل كانت المفاجأة في سرعة ما حدث، وفي سرعة انهيار الجيش الأفغاني الذي درّبته ودفعت رواتبه وزارة الدفاع الأميركية، بعد أن سبقه انهيار كامل المؤسسات الأمنية والسلطة السياسية التي كان رئيسها “أشرف غني” أوّل الهاربين نحو مطار كابول، للفرار خارج البلاد بما حصل عليه من صناديق الدولارات عبر الفساد المستشري بالبلاد.

المؤكد الآن أن هناك مراجعات، لدى القيادات الأميركية السياسية والعسكرية والاستخباراتية، لكلّ تقارير جنرالات وزارة الدفاع والاستخبارات والساسة التي كانت تُرفع من أفغانستان، وتتحدث عن قوة الجيش الأفغاني وعن النتائج الطيبة (وفقًا للتقارير المرفوعة) للمشاريع العسكرية التدريبية التي أجراها الجيش الأفغاني، وكانت أثمانها انهيارًا أفغانيًا وخيبة أمل أميركية، بعد مشاهد وأحداث أظهرتها ساحات أفغانستان، وأبرزت خسارة معارك للجيش الأفغاني أمام حركة “طالبان”، وكذلك تسليم الجيش دون قتال لمعظم الثكنات والمواقع التي كان يفترض به الدفاع عنها.

وفقًا لتقرير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (جون سوبكو)، كان الجيش الأفغاني يشغل 167 طائرة قابلة للاستخدام داخل البلاد، منها 33 طائرة من طراز “بلاك هوك”، وثلاث طائرات من طراز سي 130 هيركوليس، و23 طائرة من طراز (إ م دي 530)، و43 مروحية من طراز (آ سي 208)، و33 طائرة مطورة لإسقاط القنابل الموجهة بالليزر، وطلبت القوات الجوية الأفغانية، عبر وزارة دفاعها، من الأميركيين أكثر من مئة طائرة بدون طيار، وتقول تقارير الحسابات الأميركية عن مصروفها في أفغانستان إن مجموع ما صرفته واشنطن على عملياتها القتالية في أفغانستان يزيد عن 820 مليار دولار أميركي، والأخطر من ذلك تقارير تقول إن سلاحًا تسلّمته أو اغتنمته حركة “طالبان” تُقدّر قيمته بأكثر من 85 مليار دولار، فيه معدات خطرة جدًا تشمل:

600 ألف قطعة سلاح مشاة، أهمها بنادق هجومية أميركية طراز “إم 4” و “إم 16″، وأسلحة قنص طراز إم 24، و162.643 جهاز اتصال عسكري، 16 ألف جهاز رؤية ليلية للمعارك، و167 ألف مركبة عسكرية، أبرزها مركبات مدرعة أميركية طراز “هيمفي”، ومركبات مضادة للألغام، 7035 مدفع رشاش، 25 ألف قنبلة يدوية، 1394 قاذف قنابل، 16191 قطعة من الأجهزة الخاصة بالاستطلاع والاستخبارات والتجسس، 208 طائرات وحوّامات (شينوك وبلاك هوك)، وقد أكدت تقارير أميركية أن عدد حوامات (بلاك هوك) التي تركتها في أفغانستان يعادل 85% من عدد تلك الحوامات من هذا الطراز الموجودة خارج أميركا، أما الطائرات فهي طائرات هجومية خفيفة طراز (سوبر توكانو)، لكن من الناحية العملية لا يمكن استخدام الطائرات المتطورة دون تدريب، و211 طائرة إمداد عسكرية أميركية (46 منها هرب بها عناصر وضباط أفغان إلى أوزبكستان المجاورة)، والتقارير التي أظهرتها بعض الفيديوهات عن تدمير بعض تلك الطائرات والحوامات لم تُقنع أحدًا، خاصة ما قاله قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال “كينيث ماكنزى” بأن القوات الأميركية نزعت سلاح 73 طائرة، و 70 عربة تكتيكية من طراز (مراب)، و27 عربة (هيمفي) كانت موجودة في مطار كابول قبل إنهاء عملية الانسحاب، وأضاف: إنه إجراء معقد ويستغرق وقتًا طويلًا لتحطيم وتخريب تلك الأنظمة، واعتبر ماكنزي أن تجريد هذه الأنظمة من السلاح لن يسمح باستخدامها مرة أخرى، وأن الدافع لأمر التخريب مرده أن حماية القوات الأميركية كان أهمّ من إعادة تلك الأنظمة لأراضي الولايات المتحدة الأميركية.

وبناءً على ما سبق، أصبح اليوم أمرًا اعتياديًا مشاهدة مقاتلي حركة “طالبان” وهم يرتدون الزي العسكري الأميركي، وقد تم تجهيزهم بدروع واقية من الرصاص ونظارات للرؤية الليلية وبنادق أميركية متطورة، ويتجولون في عربات (همفي) الأميركية الشهيرة.

إن طريقة انهيار الجيش، ومشاهد هروب السلطة الرئيسية، وخاصة الرئيس الذي بدا وكأنه يرتب لتسليم السلطة وكل تلك المقدرات لطالبان! كانت تشبه إلى حد بعيد طريقةَ تسليم القيادة العراقية لمدينة “الموصل” في العراق، إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لأن واقع الحال يقول: إن عملية تسليم الموصل، مع المقدرات العسكرية واللوجستية لأربع فرق عسكرية عراقية مدربة على يد الأميركان، والانسحاب دون قتال تاركة سلاحها لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، هي سيناريو مشابه لما يحصل الآن في أفغانستان، فهل نعدّ أن ما حصل بالعراق هو ترتيب أميركي آخر؟؟

وهل ما حصل في أفغانستان وعلاقة السلطة والقيادة العسكرية الجديدة يتعلق بمجموعة اتفاق البريكس؟ هل تلك القوة العسكرية المتروكة التي أودعتها وتركتها الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان لدى حركة “طالبان” ستكون مهمتها المستقبلية مواجهة قدرات دول البريكس أو التشويش عليها وإشغالها على أقل تقدير؟؟

ما يعزز هذا التوجه والتحليل أن هناك بعض التقارير الأميركية التي لاحظت أن هناك عمليات ضخ لكميات كبيرة من السلاح تفوق حاجة الجيش الأفغاني والقوى الأمنية (هناك تقرير أميركي يؤكد أن قوات الجيش والشرطة تلقت 112 ألف قطعة سلاح زائدة عما طلبته أفغانستان أساسًا)، وتلك التقارير زادت من غموض المغزى الأميركي مما حصل ويحصل.

وهناك تقرير يؤكد مبررًا أنّ من الأسباب الأخرى للفائض، في بعض أنواع الأسلحة الأميركية التي شُحنت وسلمت للجيش الأفغاني وزادت عن الحد المطلوب، رغبة قوات الأمن الوطنية الأفغانية في الحصول على أسلحة جديدة، بدلًا من إصلاح الأسلحة القديمة أو المعطلة، فهل غفلت عيون واشنطن وقيادتها العسكرية والاستخباراتية في أفغانستان عن هذا الأمر؟!

التقرير الذي أعده خبراء أميركيون حول السلاح المسلّم إلى أفغانستان أكد أنه كان على جنرالات البنتاغون مساعدة السلطات الأفغانية في القيام بجردة حساب كاملة لكلّ الأسلحة المسلمة إلى سلطات كابول وتدقيق لوائح التسليم ومحتويات المستودعات وضبط عمليات التسليم وتدقيق وجهات تسليم السلاح، ومع ذلك، فكل المؤشرات والدلائل تؤكد غياب سجلات الجرد والتدقيق والتفتيش والمحاسبة بالجيش الأفغاني قبل رحيل الأميركان، فما بالك اليوم؟

العبث والفوضى لم يكونا حصيلة الجهود العسكرية الفوضوية والفاشلة فحسب، بل شملا حتى أموال إعادة الإعمار، فقد كشف المفتّش العام المكلف إعادة اعمار أفغانستان “جون سوبكو” أن هناك مساعدات بقيمة 103 مليارات دولار لإعادة إعمار أفغانستان أُهدر جزءٌ منها على خطط مساعدة غير مدروسة وغير مجدية، وقال: “أنفقنا من المال أكثر مما ينبغي، وأسرع مما ينبغي، في بلد صغير جدًا، وبقدر ضئيل جدًا من المراقبة، إضافة إلى فقدان أثر مئات آلاف قطع السلاح التي سلّمت إلى أفغانستان خلال الأعوام السابقة”، والعارف بطريقة عمل الجيش الأميركي يدرك أنه من أكثر الجيوش تدريبًا ومحاسبة وتدقيقًا وملاحقة، فلماذا كان هذا الإهمال لأموال دافع الضرائب الأميركي؟؟ أم أن كل ما تم كان مدروسًا ومعدًّا لتنفيذ مهام سرية لاحقة، لم تكشفها بنود التوافقات والتفاهمات التي جرت بين وفد التفاوض الأميركي ووفد حركة “طالبان”، في العاصمة القطرية الدوحة؟؟

كميّة السلاح التي تمتلكها اليوم حركة “طالبان” تجعل منها رقمًا صعبًا في حسم الوضع الداخلي في أفغانستان، وتجعل منها قوة لا يستهان بها، ويجب أخذها بعين الاعتبار لدول أخرى كانت خططها الإستراتيجية تضع السيطرة على أفغانستان من ضمن اعتباراتها، واليوم، غابت تلك الاعتبارات من خطط موسكو وبكين وإيران وغيرها، نظرًا للمخزون الاستراتيجي العسكري الذي باتت تحتويه مستودعات حركة “طالبان”، وبات على تلك العواصم التوجس من قدرات “طالبان” بتغيير الوضع الجيوسياسي، بعد أن برزت كقوة عسكرية وسياسية شريكة في رسم مستقبل كامل المنطقة.

إن الوديعة الأميركية، من سلاح ومعدات ومقدرات متروكة في أفغانستان، هي “قنبلة موقوته” متفجرة وحارقة وخارقة ومدمرة، فتيل إشعالها ظاهريًا ممسوك بيد حركة “طالبان”، لكن قد يكون لواشنطن رأي آخر وتفاهمات سرية، ستتوضح لنا في المستقبل القريب. وعلى العواصم المحيطة، عدم إغلاق أعينها عن كابول؛ فقد بات المشهد خطيرًا ويستوجب المتابعة.

مركز حرمون

——————————

السّياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة بين الأمس واليوم/ رياض قهوجي 

 يرفض العديد من الناس فكرة أن دولة عظمى مثل أميركا يمكن أن يخطئ قادتها ومسؤولوها في تقديراتهم وقراراتهم، وبالتالي يرون في كل خطوة قامت وتقوم بها هذه الدولة العظمى جزءاً من مخطط أو مؤامرة تحوكها مجموعة من العباقرة معصومين عن الخطأ، وقادرين على رسم مسار سياسات متعددة على مدار عقود من الزمن. وتمتاز منطقة الشرق الأوسط بوجود العديد من هؤلاء المؤمنين بـ”نظرية المؤامرة” الأميركية التي لا تنتهي فصولها، والذين يعتبرون أنه حتى لو تعرضت مصالح أميركا لأي ضربات وبدا أن سياسات واشنطن تعرضت لانتكاسة، فإن ذلك جزء من مخطط يخدم أهداف أميركا الكبرى التي نحن كعرب أو مواطنين من دول العالم الثالث عاجزون عن فهمها وإدراكها.

باختصار، بالنسبة الى جماعة “نظرية المؤامرة،” أميركا لا تخطئ. ولقد ظهر هذا جلياً خلال العقدين الأخيرين من خلال العديد من التقارير والتحليلات، وآخرها الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والتي ترى في ما يجري نتيجة لخطط وضعها مسؤولون أميركيون منذ زمن. هناك من لا يزال يتحدث عن مخطط هنري كيسنجر الذي خرج من السلطة قبل نحو خمسين عاماً، وآخرون يتحدثون عن نظرية “الفوضى المنظمة” للمحافظين الجدد.

تمكّنت الولايات المتحدة في أقل من قرن من التحول من دولة خرجت حديثاً من حرب أهلية وتعيش في عزلة على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، الى القوة العظمى المهيمنة عالمياً والأكثر تقدماً تكنولوجياً. فهي من مكّن دول غرب أوروبا من الانتصار في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي من خرجت منتصرة من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي ووضعت أسس منظومة الحوكمة العالمية التي بُني النظام العالمي الحالي على أساسها. لعل هذا الصعود السريع والأسطوري لأميركا هو أهم أسباب اقتناع العديد من الناس بأن صنّاع القرار في أميركا يعرفون كل شيء ولا يخطئون.

ولأن أميركا كانت طرفاً مؤثراً في تطور الحوادث في الشرق الأوسط، بخاصة في ما يخص الصراع العربي – الإسرائيلي، ومن ثم حرب تحرير الكويت ولاحقاً اجتياح العراق، فهي رسخت لنفسها صورة في أذهان العديد من الناس بأنها دولة لا تُهزم، ودائماً تحقق أهدافها من دون أي أخطاء. وهناك حتى من يتعاطون الشأن العام ويحتلون مناصب حكومية مهمة في المنطقة ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة الأميركية ويتصرفون على أساسها. فما هو واقع الحال؟

الدول عبر التاريخ تنجح وتصل الى درجة العظمة بحسب نوعية قادتها وامتلاكها مصادر القوة الأساسية: القدرات الاقتصادية، التكنولوجيا العسكرية والموارد البشرية. ولقد ظهرت امبراطوريات عديدة عبر الأزمنة شهدت عبر مراحل وجودها فترات من تعاظم نفوذها وتراجعه قبل أن تنهار في نهاية الأمر، فإما تختفي كلياً أو تتقلص الى دولة عادية أو قوة متوسطة، كما هي الحال بالنسبة الى الإمبراطوريتين اليابانية والبريطانية اللتين تقلص حجمهما خلال القرن الماضي تقلصاً كبيراً الى ما هما عليه اليوم. وهذا ينطبق على أميركا التي لا تزال اليوم تتمتع بنفوذ كبير عالمياً، لكنها تواجه تحديات داخلية وخارجية تؤثر في أدائها وقراراتها وعلاقاتها مع حلفائها. أهم ما يؤثر في قرارات السياسة الخارجية الأميركية، هو شخصية المسؤولين والوضع الداخلي ومجموعات الضغط التابعة للشركات العملاقة التي تملك مصانع السلاح والتكنولوجيا والمصارف ومصافي النفط وناقلاته، ومنشآت الطاقة وإدارة المناجم حول العالم.

 نوعية القيادات السياسية في أميركا تغيّرت كثيراً منذ نشأتها حتى يومنا هذا. فأحد مؤسسي الجمهورية ورئيس الولايات المتحدة الثالث توماس جيفرسون كان عالماً وفيلسوفاً ومهندساً ودبلوماسياً مميزاً، في حين أن رئيس أميركا الخامس والأربعين كان رجل أعمال ملاحقاً بدعاوى قضائية بتهم الاحتيال والتهرب الضريبي والتحرش الجنسي اسمه دونالد ترامب. مستوى الأخلاقيات في السياسة تغيّر، ومعايير انتخاب الرؤساء تراجعت كثيراً. ولقد أثرت الثورة في الإعلام والاتصالات تأثيراً كبيراً في عالم السياسة في الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، حيث بات الشخص الذي يستطيع أن يستقطب اهتمام الإعلام واستخدام شعارات شعبوية رنانة يتمكن من حشد ما يكفي من الأصوات للوصول الى السلطة، بغضّ النظر عن أجندته السياسية أو كفاءته المهنية. وهذا أحدث خللاً كبيراً في دوائر صنع القرار، إذ إن نوعية المسؤولين تتدنى، ما أثّر في سياسات الحكومة الأميركية عامّة والخارجية منها خاصّة.

أما داخلياً، فإن أميركا تشهد انقساماً أفقياً حاداً بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالي، ومرد ذلك الى تراكمات لسياسات تبنتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب العالمية وخلال الحرب الباردة الى يومنا هذا. وأدى تصاعد دور الشركات العملاقة والثورة التكنولوجية الى خسارة العديد من المزارعين والعمال الأميركيين مزارعهم ووظائهم في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ما أوجد نقمة لدى شريحة مهمة من سكان الوسط والجنوب الأميركيين على صناع القرار في واشنطن. كما أن سياسة استقبال المهاجرين من جنوب أميركا وأفريقيا والشرق الأوسط، ممن هم من البشرة السمراء ومن غير المسيحيين الإنجيليين، زاد من منسوب الشعور بالتهديد لدى العديد من الأميركيين البيض الإنجيليين الذين يشكلون الشريحة الأكبر من السكان. ولقد أدى هذا لتنامي النزعات العنصرية واتساع عدد المؤيدين لليمين المتشدد الذي يعارض استقبال المهاجرين غير البيض والمسلمين وتجنيسهم.

وكان وصول أول رئيس من أصول أفريقية الى الحكم، باراك أوباما، القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة الى جزء كبير من الأميركيين البيض. ولقد أحسن ترامب استغلال ذلك في حملته الانتخابية، ما أوصله الى البيت الأبيض. هذا الانقسام ما زال موجوداً، وأظهرته الانتخابات الأخيرة، ويبيّنه الالتفاف الكبير للجمهوريين في الكونغرس حول ترامب. هذا الانقسام الداخلي يؤثر كثيراً في السياسة الخارجية لواشنطن، الأمر الذي على المجتمع الدولي عامّة وحلفاء أميركا خاصّة، أن يتعايشوا معه لفترة من الزمن قد تكون طويلة، وسيترك تداعيات كبيرة وغير معروفة حتى الآن.

تأثير مجموعات الضغط أو ما يسمى بلوبيات الشركات الكبيرة، بخاصة العسكرية منها، في السياسة الخارجية الأميركية، هو أمر أكّدته العديد من الوقائع والدراسات في الولايات المتحدة وخارجها. حتى أن الرئيس الرابع والثلاثين لأميركا الجنرال دوايت أيزنهاور حذر في خطابه الوداعي للأمة عام 1961 من تداعيات “تأثير المجمع الصناعي العسكري” في قرارات الحكومة. وما التقارير التي تظهر بين الحين والآخر (والتي سيظهر المزيد منها مستقبلاً) حول مليارات الدولارات التي أُنفقت في حربي العراق وأفغانستان وحروب أخرى في الشرق الأوسط، سوى دليل على كم استفادت هذه الشركات الدفاعية من سياسات أميركا الخارجية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

إذا ما تم جمع التغيير في نوعية القيادات مع الانقسامات الداخلية وتعاظم نفوذ المجمع الصناعي العسكري، تتكوّن صورة أوضح عن العوامل المؤثرة في السياسة الخارجية الأميركية، وتُعرف أسباب التناقضات الكبيرة فيها وعدم التزامها استراتيجية متينة قابلة للاستمرار، ومبنيّة على عقيدة راسخة كما كانت عليه في النصف الأول من القرن الماضي. وكونها دولة عظمى غنية بموارد اقتصادية وعسكرية، تستطيع أميركا تحمّل أعباء السياسات الخارجية الفاشلة والانسحاب وترك حلفائها لمواجهة مصيرهم المشؤوم، كما كانت الحال في أفغانستان. فحقبة التخطيط الاستراتيجي الأميركي الطويل الأمد انتهت في أواخر خمسينات القرن الماضي، واليوم عمر أي استراتيجية للإدارة الأميركية هو غالباً من عمر فترة ساكن البيت الأبيض، أي من أربع الى ثماني سنوات. الخطر على أميركا هو أن تفقد ثقة غالبية حلفائها، وتبقى في الساحة الدولية وحيدة لمواجهة القوى العظمى الصاعدة، وتحديداً الصين.

النهار العربي

—————————–

موجة ثانية أم نهاية الجماعة؟/ عبد الرحمن الراشد

في شهر واحد، كان هناك انتصار في أفغانستان وهزيمة في تونس. وبعد الإحباط من الفشل المتكرر، أيقظ استيلاء «طالبان» على الحكم آمال جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة المسلحة في أنحاء منطقتنا. وجاء انتصارها ليغطي على هزيمة وإقصاء حزب النهضة في تونس الذي أوحى بأنها نهاية الطريق للتيار الديني الطامح للحكم في المنطقة.

فهل الإسلاميون في صعود أم هبوط؟

«طالبان» لا تشبه كثيراً «النهضة» التونسية أو «الإخوان» المصرية أو «القومي الإسلامي» السودانية. «طالبان» جماعة قبلية بشتونية يتزعمها قادة دينيون. أما «الإخوان» فليست حركة كفاح وطنية ولا مكوناً محلياً، بل جماعة دينية أممية تعد كل العالم الإسلامي دولتها، وكل المسلمين في العالم أتباعها، وإحياء الخلافة الإسلامية مشروعها، وهي وسيلة للوصول للحكم، مثل البعثية ذات الفكرة القومية العربية المتشددة التي ترفع شعار «العرب أمة واحدة»، ومثلها الشيوعية الأممية.

رأيي أن مشروع «الإخوان» المحلي والأممي في انحدار. أتباعه يعزون ذلك إلى الانقلابات والمؤامرات، لكنّ إخفاقهم في تونس نتيجة فشلهم في التجربة السياسية التي تسببت في كراهية شعبية واسعة ضدهم، أمر لا ينكرونه.

هل مات مشروع الدولة الإخوانية، الذي حكم أو شارك في الحكم ثم خسر في مصر والسودان وتونس، أم أننا أمام الموجة الثانية لصعود التيار الإسلامي السياسي من جديد؟ من النتائج والدروس سنرى المزيد من الانحسار، وليس التنافس بين الدولة الوطنية والدولة الدينية.

رأيي عكس ما يقال، صعود «طالبان» سيضرب ويشوّه فكرة الجماعة والتنظيم والدولة الإسلامية، مدنيةً كانت أم مسلحةً. والذين يتباهون، من الإسلاميين، بانتصار «طالبان» وعودتها لحكم أفغانستان، وخروج الأميركيين، هم أنفسهم سيباعدون عنها ويعلنون براءتهم لاحقاً من «طالبان» وأنها جماعة تشوّه الإسلام. وهذا ما عنيته في مقالي السابق أنها استثمار سياسي فاشل. ودلائل الفشل بدأت تظهر على السطح واضطرت الوسطاء إلى السعي لإقناع المشرعين الأميركيين بأن يعطوا الحكم الجديد في كابل فرصة حتى يثبت نفسه أنه يحترم القوانين والأعراف الدولية. لكن من الصعب أن نتخيل أن «طالبان» قادرة على أن تغير جلدها.

«طالبان» حركة دينية اجتماعياً بسيطة، وليست سياسياً شريرة، مثل «القاعدة» و«داعش». المفزع أنها مركّب سهل للجماعات الإسلامية المتطرفة أو حتى بعض الأنظمة، لأن الخطاب الطالباني الأفغاني في أعماقه مشابه لهذه الجماعات. ومثل معظم الجماعات المماثلة هي ذاتية التدمير، وستؤلب العالم ضد نفسها بسبب عجزها عن التأقلم خارج حدودها. وهي، كأي حركة دينية أو مؤدلجة أخرى، ستزداد تشدداً في داخلها. فور ساعة انتصار «طالبان» حرص المتحدثون باسم الحركة على الظهور على شاشات التلفزيون، والجلوس مع ممثلي الحكومات والمنظمات الدولية، حتى يبدوا معتدلين يمكن للعالم التعايش معهم. ثم مرت أيام قليلة واتضح أنهم القشرة العليا، أما تحت سطحها توجد القيادة الحقيقية؛ المتطرفون حَمَلة السلاح. وهذا أمر مألوف في التنظيمات السرية، التي تعمل تحت الأرض. فالحديث مع مفكر وقيادي في «الإخوان» المصرية مثل عبد المنعم أبو الفتوح يوحي بالموضوعية والإيجابية والاعتدال. وسواء كان طرحه عن إيمان به، أم مجرد علاقات عامة، كما يتهمه الآخرون، فإن الحقيقة أن صناعة القرار وتنفيذه كان في يد الجناح المتطرف، وشخصيات مثل خيرت الشاطر الذي يعتقد أنه كان يدير الحكومة رغم أنه لم يكن في الحكم.

«طالبان» الدوحة ليسوا «طالبان» كابل. في الإعلام الدولي عزفوا كلاماً يُطرب الغرب، ثم في الأيام التالية سمعنا الحكام الحقيقيين في شوارع العاصمة يتحدثون بشكل مخالف تماماً لما كان يقال في المؤتمرات الصحافية. انتصار «طالبان» هزيمة للجماعات السياسية المدنية الدينية فهي في انحدار، والجماعات الإسلامية المسلحة في تصاعد.

الشرق الأوسط

———————

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى