“الثورة السورية” بوصفها محكمة تفتيش/ إيلي عبدو
ليس غريباً وجود أشخاص، وربما جماعات، متحمسين للتخلص من النظام السوري لكنهم مؤيدون بشدة لصدام حسين أو لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثمة انفصام في التعاطي مع القاتل، انطلاقاً من انتماءات طائفية وسياسية وإيديولوجية.
تُستخدم مقولة الموقف الأخلاقي لانتقاد أصحاب المواقف الرمادية أو غير المحسومة تجاه “الثورة السورية”، والمقولة تلك، تفتقر للتعيين، لناحية تعدد مصادر الأخلاق تبعاً لقناعات حامليها، واختلاف تفكيرهم وأحياناً انتماءاتهم، بمعنى أن داخل “الثورة” نفسها تختلف التصورات تجاه الأخلاق.
اختلاف الأيديولوجيات والعقائد يرتب اختلافاً في النظر للأخلاق. والأيديولوجيا والعقيدة تساهمان عادة بتقليص مقولة “الموقف الأخلاقي” وحصرها في اتجاه خلاصي يغفل إدانة الكثير من المجازر والمذابح طالما أن هناك هدفاً مزعوماًَ سيتحقق. بالتوازي، ما هو أهلي وطائفي وريفي وقبلي، يدخل مقولة “الموقف الأخلاقي” في إشكالية تجعل الفرز بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، أمراً يخضع للأهواء والميول والانتماءات أكثر بكثير مما يخضع لقيم واضحة تستتبع فرزاً واضحاً. أي أن الأخلاق لا تنبع مما هو فردي وخاص، وتجارب وانفتاح على العالم والحداثة، بل مما هو جماعي وعام وانغلاق على الجماعة والعقيدة.
بين الخلاص والانتماء الضيق، تعثّر تحديد “الموقف الأخلاقي”، ما استوجب في السياق السوري، تعميمه عبر تأطيره في صيغ “انحياز للقتيل ضد القاتل”، أو “للحرية ضد الاستبداد” أو “للعدل ضد الظلم”، في إحالة إلى مبادئ عامة، منزوعة عن سياقاتها الحديثة المتمثلة بترتيبات تتعلق بوجود الدولة والتشريع والقوانين، أي أن الانحيازات لا تنتج عن الأفكار وما تستدعيه من حوامل، وإنما عن موقف سياسي إجرائي سطحي، يريد أن يتخلص من القاتل دون أن يمتلك أفكار ضد القتل نفسه.
وعليه، ليس غريباً وجود أشخاص، وربما جماعات، متحمسين للتخلص من النظام السوري لكنهم مؤيدون بشدة لصدام حسين أو لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثمة انفصام في التعاطي مع القاتل، انطلاقاً من انتماءات طائفية وسياسية وإيديولوجية. الموقف إذا يستعمل بالضد من دلالته وهدفه، وكبديل عن بناء تصور للأخلاق يتصل بالقيم الحديثة، وليس بانتماءات تنتج التناقض والانفصام وتحلل القتل أو تنكره هنا وتدينه بشدة وحماس هناك.
من هنا فإن، قسماً من مناصري “الثورة” السورية، وبسبب افتقارهم لأدوات تطوير موقف أخلاقي يستند إلى قيم حديثة، وليس إلى إيديولوجيات وعقائد وانتماءات، استعاضوا عن ذلك، بجعل الموقف معياراً حاداً يفتقر إلى الشمول، فإن كان شخص ما يملك تصوراً دونياً للمرأة وينفي وجود الأقليات ويناصر نظاماً استبدادياً آخر، يكفي أن يعارض النظام السوري ليكون صاحب “موقف أخلاقي”، فيما الرماديون الذين لديهم ملاحظات على “الثورة”، حتى لو حملوا بعض القيم، فهم بدون، “موقف أخلاقي”.
تُستخدم مقولة الموقف الأخلاقي لانتقاد أصحاب المواقف الرمادية أو غير المحسومة تجاه “الثورة السورية”.
هكذا تحولت الثورة إلى محكمة تفتيش، تفرز على أساس موقف ضيق وفقير أخلاقياً بالمعنى الفكري والمعرفي، يستند إلى ما هو عقائدي وديني وقبلي، ويغفل عن ما هو حديث. والموقف هذا ثابت وغير تاريخي، وغير قابل لامتحان الزمن، ذاك أن “الثورة السورية”، اختلطت بتحولات شتى، من تظاهرات سلمية إلى التسليح فالحرب الأهلية وصولاً إلى التطرف، رغم ذلك، “الموقف الأخلاقي” الذي يحاكم الغير، لا يتبدل ولا يخضع لإعادة التقييم، انطلاقاً من أن الكثير من سلوكيات النظام اللاأخلاقية جرى تكرارها من قبل قطاعات محسوبة على “الثورة”.
طالما أن الموقف الأخلاقي مفصول عن القيم الحديثة، ومرتبط بما هو ما قبل دولتي، وبالإيديولوجيات كما فُهمت في بلداننا، فسيبقى يعمل بالضد من هدفه، وسيستخدم لإنتاج نقيضه، أي جعله ديناً، غير تاريخي، يفرز محاكم تفتيش، هدفها طرد المختلف.
رفض القتل والتعذيب وتشريد البشر وتجويعهم لابد أن ينبع من معطى فردي ومتصل بالقيم الحديثة المتأتية من الحداثة الغربية، وليس جماعاتي متصل بالطائفة والعقيدة، وإلا فإن “الموقف الأخلاقي”، الذي نشهره ضد المترددين في إدانة الدكتاتور و أفعاله، سيكون في مقلب ثان، أداة تلميع لديكتاتور آخر عملاً بالتناقضات التي يفرزها فهمنا الضيق لمقولة “الموقف الأخلاقي”.
درج