إذ يصوب الطغاة سهامهم نحو روح المدينة لقتلها/ أيمن هدى منعم
باستدعاء كل ترسّبات الجغرافيا والتاريخ والإيديولوجيا، وكل النزعات التي تشرع مصائرها على المجهول وتفتّت مجتمعاتها وتحيلها كيانات مبعثرة غارقة في أزماتها، تعيش منطقة الشرق الأوسط نهاية فكرة المدينة ودورها التاريخي في بثّ روح المدنية، وحفظ ذاكرة الشعب بما هي مصنع نخبه ورحم ثقافته، فلم تعد المدن الكبرى في المنطقة فضاءاتٍ للعيش وصياغة الهوية الوطنية وممارسة الحريات العامة والفردية، مع تبدل السلوك العام وانحسار قيم المدنية الحداثية لصالح الاستقواء واللامبالاة وتآكل ثقافة الاندماج بين المواطنين، ما بدا أنه نتيجة حتمية لمسارٍ بدأه العسكر خمسينيات القرن الماضي، أدخل المدن المشرقية مطلع الألفية طور النكبة بالكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة والأخطاء البشرية وتداعي الدولة الوطنية.
والمدينة هنا ليست كغيرها من التجمعات الحضرية التي أُعلنت مدناً تبعاً لعدد السكان، أو تلك التي تدين بوجودها لشعب أو عرق أو نظام سياسي، بل هي تكثيف للتمدن والانفتاح، ونقيض للشمولية والإقصاء، وخسارتها تعني خسارة الدور والهوية، وانطفاء الروح التي يصوب الطغاة سهامهم نحوها لقتلها، لإبعادها عن دورها مساحة للتطور والمبادرة والتغيير. فالاستبداد المؤسس على احتكار الفضاء العام، وإلغاء فكرة المواطن الشريك لصالح الرعية أو التابع، يعمل على إعادة تكوين الفرد وتطويع المكان، ويصرّ على امتلاك الذاكرة المجتمعية ومحوها أو إعادة رسمها، باستهداف التنوع الاجتماعي والسياسي الذي ينمو ويزدهر في الفضاء الحضري، الذي تختزله المدينة بجماعات غير متجانسة وفئاتٍ لا تطابق بينها، تستمد تعريفها من مدى قدرتها على العيش لا التعايش مع الآخر في إطار روابط حضرية وهوية مدينية، لذلك يعمل على استبدال أو تفكيك الشبكات الاجتماعية، وتدمير وتشويه الهياكل المادية واللامادية والبيئة العمرانية للمدينة لتفقد موقعها وتتجه نحو الهامش، بينما يبقى المركز شاغراً رغم احتكاره من قبل السلطة.
بين المركز والهامش
في المعركة بين المركز والهامش تبرز دمشق كأقدم المدن وأكبرها سناً، مدينة الكواكب السبعة والسحر الذي لا يبطل، والذي يفسره البعض بأن المدن التي تشهد ولادة التاريخ، تملك لحظة ألقٍ شديدة التوهج، لا تفارقها مهما بدت متعبة، إلا أن دمشق شقيقة الألق التي رسمت بوجودها طرق التجارة منذ القدم، وطبعت أهلها وثقافتهم بما تمليه عليهم التجارة، بالبناء والانفتاح واليسر والتفاوض، والتي صمدت بوجه الغزاة وتبدّلات الحكام، محصنة بفكرة التمدن وما توفره من التعدد والاعتراف بالآخر والتوق إلى الترقي، تنطفئ اليوم وتترك غارقةً في أزماتها المستمرة التي بدأت مع سبعينيات القرن الماضي، عندما توقف المسار التصاعدي للنهضة التي بدأت نهايات القرن التاسع عشر.
في تلك الفترة، كانت دمشق من أكثر حواضر المنطقة تنظيماً وانسجاماً مع بيئتها، وشهدت معالم المدينة الحديثة نهاية العهد العثماني مع إنشاء محطة الحجاز والسرايا الجديدة وبناء العابد وفندق فيكتوريا والثكنة الحميدية “جامعة دمشق” ومشفى التوليد، وامتدت خارج أسوارها التاريخية لتشهد نهضة عمرانية زمن الانتداب الفرنسي، وبدأت مع التنظيم المديني عام 1925، بوادر هوية معمارية خاصة، بافتتاح شارع بغداد وساحة السبع بحرات التي يتفرع منها شارع العابد وشارع الباكستان، وساحة الشهبندر وأحياء الشعلان والحبوبي والروضة ومنطقة ساحة النجمة. حينها شُيدت أجمل أبنية العاصمة بهوية مشرقية أو دمشقية، ومنها مؤسسة عين الفيجة ومبنى البرلمان ومدرسة التجهيز الأولى ومدرسة اللاييك.
وفي دولة الاستقلال عاشت دمشق نهضة مستمرة، نُظّم خلالها حي أبو رمانة وضم حدائق قصر الضيافة والمدفع والجاحظ. حينها أخرج أهالي دمشق حدائقهم من داخل أسوار البيوت والمدينة القديمة، فكانت أشجار الفاكهة والياسمين والحمضيات سمةً لشوارعها وأبنيتها. كذلك نُظّم شارع حلب ومنطقة القصور التي سميت كذلك لأناقة أبنيتها، كما زرع قلب دمشق بالمسارح والمنتديات والصالونات الأدبية والسياسية والصحف وعشرات دور السينما.
وخلال السبعينيات اختبرت المدينة سلسلةً من المحن مهدت لطورٍ جديد في تاريخها، أعلنت بدايتها في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، طائرات الميغ الحربية التي اخترقت جدار الصوت في سماء العاصمة، قبل أن تتقدم القطع العسكرية نحوها وتحتل مبنى الإذاعة ومقرّات القيادة، بما عرف لاحقاً بالحركة التصحيحية التي أتت بأحمد الخطيب، مدرس اللغة العربية والبعثي المغمور، رئيساً للجمهورية لعدة أشهرٍ، أمضاها في استقبال وفود المهنئين، والتحضير للاستفتاء الشعبي الذي أوصل رئيس مجلس الوزراء ورئيس الظل آنذاك، حافظ الأسد، لسدة الرئاسة.
أضاف الرئيس الجديد للفقه الدستوري في العالم مصطلحاً جديداً في دستور عام 1973، فحمل دون غيره من الدساتير لقب “الدائم”، لتدخل دمشق زمن العنف وتوجيه أفكار الناس وأفعالهم نحو العسكرة، بعناوين توحيد الأمة وتحرير الأرض المحتلة. وعلى الطراز الكوري الشمالي، ضُبط المجتمع على إيقاع الخوف الذي يخلق لدى الناس استعداداً للتضحية بقدر كبير من حريتهم، وقبولاً بالممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم بحق غيرهم، فيما وفّرت حالة الطوارئ التي فرضها انقلاب البعث سابقاً، وتعطيلها للحقوق والحريات، الشرط الموضوعي الكفيل بنمو الاستعداد لتقبل الخوف ودمجه في البنية الفكرية والسلوكية للمجتمع، الذي كان لا بد من تفكيكه لجماعات معزولة تحكم الريبة علاقاتها، لإكمال الطوق حول المدينة وخنقها.
طمس المدينة ومحو هويتها
دمشق التي كان عدد سكانها 800 ألف نسمة عام 1970 بلغ 3 ملايين عام 1980، في غياب أي مخططات حقيقية لاستيعاب القادمين الجدد وموجات السكان التي هاجرت أو هُجّرت إليها، خاصة من المناطق التي كانت غنية بمواردها لكن التنمية تجاهلتها وأبقتها في حالة من الفقر والبطالة والحرمان حتى من الخدمات الأساسية، ليكون الانتقال للعاصمة والمدن الكبرى والانخراط في صفوف الجيش والأمن الخيار الوحيد أمام آلاف من أبناء تلك المناطق، الذين تحولوا خلال عقدٍ من الزمن إلى طبقة عاملة على الطراز الستاليني، بنيت علاقاتها بوجود رابط الدولة ما بين إداريين أو عسكريين أو فلاحين، على حساب الرابط الأسري أو الاجتماعي والعشائري الذي كان سائداً لقرون.
وشهد الاقتصاد تراجعاً حاداً بفعل سياسات البعث اليساري الاجتماعية، التي كانت في حقيقتها سياسات إفقار وتهجير لرأس المال الوطني وتبديل موقع الثروة في المجتمع، فهو لم يكن بالنسبة لحافظ الأسد رافعةً للتنمية والعدالة الاجتماعية، بل وسيلةً لشراء الولاء السياسي وتعزيز السلطة، فأبقى على سياسات البعث الزراعية لضمان ولاء الريف، وفتح باب الاستيراد دون قيد لاسترضاء الطبقة الاقتصادية في المدن، ما أدى لانهيار العملة ومزاحمة الصناعة المحلية، وأعلن عن نهجٍ اشتراكي دون أساس صناعي أو فكري، فهُدر المخزون النقدي الوطني وما جُمع من أملاك وأصول بالتأميم منذ الوحدة، مقابل غياب كاملٍ للمشاريع التنموية باستثناء سد الفرات الممول سوفيتياً. رفع ذلك وتيرة هجرة أبناء الريف للمدينة والعاصمة تحديداً، والتي كان إغراقها ديمغرافياً لتنفجر عن المخطط التنظيمي وتستبدل بساتينها وغوطتها بفضاءاتٍ هجينة، في سياق سياسةٍ واضحة المعالم عنوانها العريض “القتل البطيء لدمشق”.
ومع انعدام القدرة على استيعابهم، سكن القادمون الجدد أكواخاً غير مرخصة عند مداخل المدينة وعلى المنحدرات أعلى جبل قاسيون، وبحسب باتريك سيل، تحوّلت في مطلع الثمانينيات ثماني مناطق في دمشق إلى أحياء فقيرة مكتظة بما يقرب من مليون نسمة، اعترفت الحكومة بسكانها كمقيمين ومدّت الكهرباء والماء لمناطقهم، ما شكل رشوة اجتماعية للقادمين الجدد، بتقديم الحق في السكن والمياه النظيفة التي لم تستوفِ الحد الأدنى المطلوب عالمياً، كمنحة من السلطة لتعميق السيطرة والإيحاء بأن حقوقهم الأساسية ترتبط بمدى ولائهم لها.
وعلى مدى عقود، لم تقدم الحكومات المتعاقبة أي مخطط لتنظيم المناطق المخالفة التي تركت تعيش أزمات مرتبطة بضعف الخدمات وأساسيات الحياة، وانتشار المهن والوظائف الهامشية وانحسار قيمة التعليم، وافتقاد الأمان الاقتصادي والاجتماعي بسبب خلخلة المجتمع المحلي بالوافدين، ما جعل الحياة فيها بغيضة وقاسية وعرضة لهزاتٍ مفاجئة. ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى ارتفعت جدران نفسية واجتماعية وطبقية فصلت هذه المناطق العشوائية والمخالفة عن الأحياء الأخرى ولا سيما الثرية، وبالتوازي مع ذلك، خلت الميزانيات السنوية من أي مخصصاتٍ لمشاريع الإسكان بذريعة قلة الموارد، رغم أن القصر الرئاسي الذي شُرع ببنائه عام 1979 بتصميم معماري ياباني عالمي أعلى غرب المدينة على مساحة 31500 متر مربع، بمستشفى خاص ومقر للحرس الجمهوري تبلغ مساحتها مجتمعة 500 ألف متر، قدّرت تكلفة بنائه بمليار دولار، كانت تكفي حينها لإنشاء آلاف الوحدات السكنية والحفاظ على العاصمة.
استقرار الكتلة البشرية الطارئة استغرق سنواتٍ معدودة ليستنزف حوض مياه دمشق بسبب الآبار التي حفرت، واستجرار المياه للضواحي، والتوسعات التي لحقت بالمدينة، أما نهر بردى، صنو دمشق وسبب وجودها، الذي كان يدخلها من الربوة ليتفرع عبر أنهار وقنوات رومانية وأموية، فتغيّرت ملامحه بعد أن جفت مياهه وحول مجراه نحو معامل تنقية مياه الصرف الصحي بعد أن جفّت البحيرة التي كان يصب فيها نهائياً مطلع الثمانينيات. وفي التسعينيات، وتحت عنوان تنظيم وتجميل مجرى النهر قامت محافظة دمشق بإكسائه بالحجر والإسمنت، ما أدى لاختفاء كائنات حية كانت تعيش في تربته الرطبة ونباتات كانت تمتص المواد الثقيلة، فقُتل المجرى الحيوي للنهر، وبلغ تلوّثه مستوياتٍ خطيرة بعد أن حولت مياه الصرف الصحي لدمشق وريفها إلى مجراه.
إكمال الطوق حول دمشق
ولإحكام الطوق على دمشق التي فاضت بسكانها الجدد، كان التقسيم الإداري للمحافظة إلى اثنتين، تضم الأولى دمشق المدينة، بينما ألحق ريفها الذي يضم عشرات القرى والمدن والبلدات بأخرى مستقلة تحت اسم “محافظة ريف دمشق”، بأطرافها المترامية الممتدة بين حدود العراق حتى الحدود اللبنانية، بهدف عزل العاصمة عن امتدادها البشري والعائلي وريفها التقليدي الذي يصف حنا بطاطو أهله بـ”البساتنة المهرة”، وتربطهم بدمشق صلات مصاهرة وروابط اقتصادية، حتى أن بعض المناطق العقارية في دوما، عاصمة الغوطة الشرقية، تحمل إلى اليوم أسماء مالكيها الأوائل، مثل الشيشكلي والغزي، وكذلك الحال في حرستا والمعضمية وغيرها. وبينما توسعت القاهرة لتضم محافظتي الجيزة والقليوبية بمسمى القاهرة الكبرى، كذلك الحال في العاصمة الأردنية عمان الكبرى، فصلت دمشق عن محيطها، ما أدى لتفاوتٍ في الخدمات والضابطة العمرانية والإدارة، وأفرز أراضي متنازعاً عليها إدارياً، وأخرى محرومة من الخدمات على الحدود الرمزية بين المحافظتين، التي تحوّلت بمرور السنوات لحدود حقيقية زادت حدة الفوارق الثقافية والاجتماعية والخدمية.
وتزامن ترسيم الحدود الخارجية للمدينة مع تقطيع أوصالها داخلياً، وبدافع الصداقة بين الرئيسين، تمت الاستعانة بشركاتٍ من رومانيا “تشاوشيسكو”، لإنجاز مشاريع البنى التحتية بالشراكة مع مؤسسة الإسكان العسكرية. ورغم انتفاء الحاجة في حينه، باعتبار أن السيارات لم تتح للسوريين قبل التسعينيات، قُطعت أوصال المدينة بشارع طولي عريض يمتد من العدوي وصولاً للمزة، وتصب فيه شوارع واسعة حولت المدينة إلى مربعات بالمعنى العسكري، محاطة بشوارع وتقاطعات تسمح بمرور الدبابات والآليات العسكرية الكبيرة.
وفي السياق، كانت الجريمة الأكبر في حي ساروجة الأثري على أطراف المدينة القديمة، إذ أزيلت أجزاء منه، وكذلك الأرصفة العريضة التي تزيِّنها الأشجار وحدائق الأزبكية في شارع بغداد، لشقّ شارع الثورة الذين دُشّن بمناسبة الحركة التصحيحية عام 1971، لتظهر على طرفيه أبراج اسمنتية متنافرة تشكل فضاءً هو الأكثر قبحاً بين مراكز المدن والعواصم في المنطقة، واستكمل الأمر عام 1973 بهدم جامع يلبغا الأثري، أحد أكبر جوامع المدينة خارج السور، ويعود تاريخه لأكثر من ستة قرون، ليحل محله حتى اليوم هيكل أسود متفحم، أوقف العمل به لأسباب قانونية وإنشائية. أما حي الميدان، فدفع ثمن انتفاضات أهله التي لم تهدأ طوال الستينيات عند اقتحام الجامع الأموي والتأميم واحتجاجاً على مقال مسيء للذات الإلهية، فاتخذ القرار بشق طريق المتحلق الجنوبي الذي اخترق الحي ودمّر أجمل بيوته، مثل دار الموصلي ودار البيطار.
تشريع الجريمة
ترافقت المشاريع بقوانين وتشريعات غيرّت وجه دمشق، مثل قوانين الإيجار التي جردت أهلها من ممتلكاتهم ومنعتهم من حق الانتفاع بها مع انخفاض قيمة بدلات الإيجار، وإلزام المؤسسات العامة بإخلاء الأبنية لصالح مؤسسات أخرى بدلاً من إعادتها لملاكها. واستُملكت مساحات واسعة في أحياء المزة والعدوي وبرزة وكيوان، وحديقة تشرين وسفح جبل قاسيون الذي أقيم عليه القصر الجمهوري، وأفرغت أبنية في حي المالكي لصالح الأجهزة الأمنية، واستملكت وزارة الدفاع مناطق شاسعة على طرفي طريق دمشق بيروت بيعت لاحقاً لرجال أعمال مقربين من السلطة، ومقابل تعويضات لا توازي 10% من قيمتها السوقية.
كما شكل إصدار قرار منع الهدم داخل سور دمشق القديمة عام 1976 إعلاناً أو ترخيصاً بالهدم خارجها، فبدأت عملية طمسٍ وتغريب لهوية المدينة، باعتداءات لا يمكن حصرها، منها تحويل قصر زيوار باشا العظم إلى مدرسة ثم هدمه عام 1985، وكذلك قصر العابد في ساروجة، وتحويل قصر ناظم باشا لمستودع لوزارة التموين، وإضافة إنشاءات اسمنتية على البناء الرئيسي لقصر تاج الدين الحسني بالحلبوني، وقد شغلته الهيئة المركزية الرقابة والتفتيش، وتحويل قصر أحمد باشا الشمعة لمدرسة وساحة ومكان لتجميع النفايات.
إضافة لذلك، استملكت محافظة دمشق الأحياء الأثرية جنوب الجامع الأموي، ومنها الحمراوي والنقاشات، لإقامة سوق حديث، وجرد أصحاب البيوت فيها من ملكيتهم ومنعوا من ترميمها لتبدأ بالانهيار، كما تم الاستيلاء على منازل اليهود الدمشقيين، مثل قصر شمعايا ولزبونا وقصر النائب اليهودي يوسف لينادو عن مدينة دمشق في برلمان 1932، وبيعها لاحقاً كمشاريع سياحية، كما وُطن اللاجئون الفلسطينيون في بعضها، فقُسّمت بعشوائية لاستيعاب عدة عائلات، ما أدى لتدمير هويتها نهائياً، وبدأت عملية تجريف لأبنية ظهرت زمن الانتداب في شارع بغداد والجسر الأبيض وغيرها، فأزيل أغلبها لتحل محلها كتل اسمنتية قبيحة ومتلاصقة، وظهرت أحياء جديدة بوحي سوفييتي لتستوعب الضباط والموظفين القادمين إلى المدينة، ومنها أبنية الإسكان العسكري في أحياء التجارة وبرزة والمزة. وكغيره من الأنظمة الشمولية، انتشرت تماثيل وصور الأسد الأب بأحجام مختلفة في ساحات المدينة والمداخل الرئيسية والحدائق العامة والمشافي والمدارس، في مسعى لتكريس صورته باعتباره جزءاً من الهوية البصرية في المدينة.
ومع التسعينيات، جرى تكريس تشوه المشهد الدمشقي، واستوطن القبح المدينة، بتحويل وسطها الذي كان يحتضن قصور زعاماتها في ساروجة إلى سوق الحرامية للبضائع المسروقة والمستعملة، بينما استحالت ساحة المرجة وشهداء 6 أيار التي كانت أبنيتها تفيض جمالاً إلى كتل اسمنتية قبيحة، وازدادت العشوائيات اتساعاً وتدميراً لهوية المدينة التي بقي منها أحياء أو حتى شوارع معدودة نجت من التشويه.
هذه التغيرات الدرامية دفعت بأبناء العائلات التي سكن أجدادها المدينة لعقود أو قرون للتشديد على دمشقيتهم، مقابل القادمين من ذوي الأصول الريفية أو حتى المدينية من خارج دمشق، وبسبب تبعات انتقاد الحكومة أو تحميلها المسؤولية، كان من السهل تحميل القادمين الجدد مسؤولية تراجع الخدمات وانقطاع المياه والشوارع المتسخة، وهو خطاب مناقض تماماً لطبيعة دمشق المنفتحة التي شكلت الهجرات هويتها عبر التاريخ، وظهر خطاب معاكس في الأرياف القريبة التي شكلت الخيار الوحيد لأبناء الطبقات المتوسطة الدنيا الدمشقية، لشراء شقق أقل تكلفة في الضواحي، التي انقسمت بدورها بين أصلاء وأحياء حديثة سميت بحارات الشوام، كما في حرستا وداريا.
عبقرية دمشق
حصار المدينة والعبث العنيف بهويتها وطبيعتها أديا لأن تغلق دمشق على مدن ومجتمعات مصغرة، بعضها بهوية طائفية وأخرى اقتصادية، ما عنى تفتيت المدينة مجتمعياً، وتوسعها كقاعدة عسكرية محصنة بالجماعات الأهلية الموالية في الأحياء والمساكن العسكرية والحزبية، التي أعادت تعريف النسيج العمراني والسكاني للمدينة وأمسكت مداخلها ومخارجها، إضافة لزرع المؤسسات الحزبية والأمنية في قلب العاصمة، وتوزيع التحصينات والمرافق الأمنية ومقرات الحرس في المستشفيات والمخافر ومقرات أجهزة المخابرات ومخيمات “شبيبة الثورة”، وبات في محيطها 18 منطقة سكن عشوائي، بعضها من أغلبية ذات لونٍ واحد، وأخرى يسكنها خليط ديني وطائفي وقومي.
ظهرت نتائج كل هذه التغييرات العمرانية والديمغرافية لاحقاً مع أحداث عام 2011، ففي حين أن العشوائيات وأحزمة الفقر غالباً ما تشكل عصب الاحتجاجات والتحركات المناوئة للأنظمة الحاكمة، شكلت بعض العشوائيات حول دمشق خطوط الدفاع الأولى عن النظام الحاكم، والخزان البشري لقواته الأساسية والرديفة، ليجني ثمار ما زرعه في العقود السابقة، أما العشوائيات التي حملت نبض الشارع وكانت مراكز للاحتجاج، فكان مصيرها أن تهجر وتسوى أبنيتها بالأرض، ومنها القابون وبرزة وجوبر، ولمنع سكانها من العودة نهائياً صدر قانون التنظيم العمراني رقم 10 عام 2012، وتم تفعيله وبدء العمل به بسرعة قياسية عام 2014، مع الترويج له بسوريالية في سياق إعادة الإعمار، في حين إن الضواحي المترفة المزمع إنشاؤها بموجب هذا القانون، على أنقاض أحياء دمرت بسبب الحرب أو أزيلت بجرافات البلدية، مثل بساتين المزة، تعني استيلاء الحكومة على ما تبقى من هذه المناطق، وإزالتها نهائياً ككيان عضوي، واستبدالها بتجمعات اسمنتية بلا هوية ستجرّد حتى من اسمها، بعد إعلان محافظة دمشق أن الأسماء القديمة التي كانت تحملها المناطق التي يشملها المشروع لم تعد موجودة.
أخيراً، وبالنظر لحال دمشق وأهلها اليوم، يبدو أن الجريمة وفي عقدها الخامس استكملت أركانها بانتظار الإعلان عن مقتل المدينة، التي تتذكر اليوم المئة العجاف التي عاشتها حين استباحها الفاطميون، فحكم وتحكم البربر والبدو والقرامطة بها وحاربوا أهلها وجامعهم وغوطتهم. يومها بدت المدينة مهادنةً مستسلمة، لا تنتصر لثوارها المعلقين على الأسوار، بل تراقب بصمتٍ تبدل حكامها، بينما ذاكرتها الحضرية كانت تعمل على نفيهم وامتصاصهم، وسمحت لهم فقط بإبقاء مئذنةٍ وصخرة في طرف الربوة كتب عليها اسم حاكمهم، وهو ما يصفه نجاة قصاب حسن في كتابه “حديث دمشقي” بـ”بمعجزة دمشق في قدرتها على هضم الغزاة والوافدين إليها، والحفاظ على طابعها وهويتها”.
رصيف 22