حجاب في علبة بلاستيك/ رولا الجرّاح
أدخل المقهى الذي اتفقتُ على لقاء صديقي فيه للمرة الأولى، أحمل على يدي معطفاً خمرياً، وأرتدي حجاباً أسودَ لففتُه مرتين حول وجهي. أغطي رقبتي جيداً، أطمئن لبوزة الحجاب وهي تأخذ شكلاً مثلثياً، أحرص تماماً على أن تبدو القطعة البيضاء ظاهرة في المقدمة، وأن يكون جانبا الحجاب متساويا الأبعاد عند خدَيّ. يبتسم عندما يراني، قبل أن يمد يده لمصافحتي متردداً: «حجابك شامي أصلي يا مخلوقة». أمد يدي لأصافحه، بينما أتخيل شكل العلبة التي وضعني داخلها في عقله خلال ثوانٍ بسبب الحجاب الذي على رأسي. العلبة ضيقة، يا إلهي! لا يمكنني التنفس هنا! لحظة!! يقاطع تخيلاتي وهو يسألني إن كنت أريد شيئاً سوى الشاي. في الحقيقة أريد ماءً بارداً رغم الجو الشتوي في الخارج. وددت لو أقول له حينها، «هل يمكنك صب الماء على رأسي؟».
بعد شهور من لقاءاتنا، ورغم محاولاتي المتكررة للتمدد داخل تلك العلبة، يستمر صديقي في سؤاله: «كيف تضعين الحجاب حتى اليوم؟». الآن، وتزامناً مع هذا السؤال الذي لا أنفك أسمعه، يبدو شكل العلبة بالنسبة لي متغيراً. هذا لا يعني أنه يمكنني التمدد داخلها. لا! لكني أستطيع تغيير طريقتي في الجلوس فقط. بادئ الأمر، كنت أجلس في علبة صديقي الضيقة متربعةً منكمشةً على نفسي بعض الشيء، بحجابي الشامي، بالإضافة إلى لكنتي قليلة «الشومنة» كثيرة السخرية. أكتفي بالضحك وأتجاهل سؤاله بينما أحاول تعديل «بوزة» حجابي للمرة الألف على انعكاس نظاراته السوداء، الحركة التي كانت تغيظه كوني لا أترك الحجاب مدوراً على سبيل المثال وأريحه من انزياحه المتكرر. لكني أعتقد أن هذا ما يميز حجابي، أنه حاد من الأعلى، مثل طباعي تماماً. الآن، وبعد أن عرفني أكثر، صرت أجلس في علبته رافعةً إحدى قدميّ على الأخرى، وأرى نفسي هناك في علبته العقلية: شابة تستطيع التفكير والتعبير واتخاذ قرارات مصيرية بينما تعيش وحيدة في مدينة كبيرة. كل هذا في رأسه وحسب، أما أنا فلم أتغير أبداً.
منذ أعوام قليلة أتيت لأعيش مستقلة هنا في اسطنبول، كنت قد أخذت قراراً بالحفاظ على الحجاب الذي أضعه على رأسي رغم أني لم أعد أفكر فيه كما كنت منذ اثنتي عشرة سنة، عندما وضعته من باب إثبات الانتماء وتركيزه والركض نحوه. بالمناسبة، أنا في أواسط العشرينات من عمري، يعيش أهلي ضمن مجتمعهم التقليدي فيما استطعت النجاة وحيدة. لم آتِ إلى هذه المدينة بحجابي الأبيض، كان من السهل جداً أن أتماهى مع الحجاب التركي هنا، إذ يناسب وجهي المدور بطبيعة الحال ويساعدني على سرعة الاندماج والاختباء أيضاً، في محاولاتي للركض بعيداً عن انتمائي الأول.
هذه المقالة محاولة ذاتية للفهم؛ فهم لماذا أتمسّك بالحجاب، هنا في هذا المكان البعيد عن مجتمعي، حيث أنا حرة بالكامل ومسؤولة عن اختياري. هي محاولة لخلع الحجاب عن الأفكار التي في رأسي، والتي تتركني متأرجحة بين عالمين. هذه المقالة محاولة للحديث عنا، نحن اللواتي وجدنا أنفسنا في صراعات كثيرة لم نختر أن نكون فيها، ولكننا مجبرات عليها. قد تشبه هذه الحكاية حكاية كثيرات من فتيات جيلي، اللواتي جربن حجاب القطعتين في سوريا، واللواتي يُعرَفن في البلاد الأخرى بحجاباتهن البيضاء، وبطريقتهن في وضعها بين طرق الهجرة والمطارات.
مع أمي، أمام المرآة
قبل أربع عشرة سنة، في مشهد يعيد نفسه كثيراً في عقلي، أقف مع أمي أمام المرآة بينما تضع هي حجابها الكحلي، وتربطه حول عنقها بتأنق، حريصةً ألا تظهر رقبتها من الجانبين. كانت لأمي طريقة سحرية في ذلك، لم أستطع تنفيذها مع الحجاب الأبيض عندما كنت في المدرسة. رقبتي كانت ترفض الاختباء تحت حجاب الربط، مما كان يثير توتري طوال الوقت. في الفترة الأولى من ارتدائي للحجاب، كانت لدينا – أنا وأمي – مشكلات من قبيل أن عليّ وضع الحجاب الأبيض الربط الذي يدل على الانتماء لجماعة القبيسيات، في حين لا يجب عليّ وضع الدبوس عند الرقبة لأنه يعني انتمائي لجماعة أخرى، أي جماعة كفتارو، بحسب الفروق الشكلية والروحية بين الجماعتين والتي وجب إخباري بها. رقبتي في كلتا الحالتين كانت متألمة. يُشَدّ الحجاب جيداً عند الرقبة، مع الاستمرار بمحاولة الحفاظ على مقدمة الحجاب بما يتناسب مع شكل وجهك: الوجه المدور تناسبه البوزة، أما الوجه النحيل فسيبدو أجمل بالتدويرة من الأعلى. لكني اخترت حلاً أكثر سلاماً مع كثير من بنات جيلي: حجاب القطعتين المريح والسريع.
تتحدث أمي عن تسلسل وضع الحجاب في حياتها، منذ بدأت تعود به من المدرسة الإعدادية إلى المنزل بعد حصة الديانة، حتى أصبحت محجبة بشكل اعتيادي بالنسبة لعائلتها الصغيرة، وصولاً إلى وقت بات التمسك بالحجاب بالنسبة لها إثبات وجود وقرار. خبأت أمي حجابين في حقيبتها عندما كانت تخرج من المنزل في بداية الثمانينات، غير الحجاب الذي تلفه حول رأسها بطبيعة الحال. كان عناصر تابعون لرفعت الأسد، الأخ الأكبر لحافظ الرئيس، قد نزعوا الحجابات عن رؤوس فتيات في الشام في حوادث عدة. تختلف الروايات عن تلك الحوادث، وتبدو مفككة ومختصرة للغاية، كالتي تقول إن مجموعة من سرايا الدفاع التي أرسلها رفعت في دمشق ذبحها اللحامون آنذاك رداً على إحدى حوادث نزع الحجاب. ألهبت هذه الحادثة المشاعر الدينية لدى كثيرين، كما أثارت ذعر البعض أيضاً. لست على دراية كافية بما تحمله هذه القصة من أبعاد سياسية أو دينية في ذلك الوقت، فقد شاع وقتها أيضاً أن ما فعله رفعت الأسد كان أحد الأسباب التي أثارت حفيظة أخيه ودفعته إلى نفيه خارج البلاد، وذلك للجم ألسنة المتحدثين من السّنّة المؤمنين، ولكسبهم إلى صفوفه أيضاً. على الأقل هذه هي الرواية التي فضّل الدمشقيون تداولها عن تلك الحادثة: انتصار الأسد الأب لعقيدتهم. أظهرت تلك الحادثة حافظ الأسد، ولو لبعض الوقت، غيوراً على الدين وحامياً له في عيون متديني الشام. أما أمي فقد كانت تذكر تلك الحادثة وتقول: «لو حدا شال الحجاب عن راسي، رح يكون معي غيرو احتياط»، وتؤكد بنبرة حازمة عنيدة «وبوقتا كنت مستعدة لو شالولي ياه مية مرة ارجع حطو». هذا عناد أمي الذي أورثتني إياه ما استطاعت، تماماً كما حاولت أن تورثني الحجاب والصلاة والدين. وعطفاً على تلك الحادثة، حرصت أمي في تربيتي على أن تزرع فيّ شيئاً واحداً: أن أتمسك بالحجاب ومعناه حتى لا ينتزعه مني أي رفعت أسد في حياتي، تماماً كما فعلت هي. ولطالما شعرتُ أن ذاك التمسك يبدو ردة فعل شرسة على تلك الحادثة بالذات.
جدتي كانت ترتدي الحجاب أيضاً، لكن حجابها كان بسيطاً وأشبه بزي تقليدي متعارف عليه. كانت تلبس تنورتها التي تصل إلى الركبة تماماً، وجاكيتها الرسمي، وحجاباً أبيضَ يغطي نصف رأسها، تسوّي غرتها بشكل ظاهر، وتصبغ شفتيها بحمرة غامقة، ثم تخرج. بناتها كنّ يفعلن الأمر نفسه. إحداهن كانت تضع الحجاب فقط أمام جدي، وعندما يغيب هو يغيب الحجاب أيضاً. بعد وفاة جدي، حرص خالي الكبير على «تستير» أخواته، رغم عدم التزامه الديني آنذاك. حينها بدأت زوجته تضع حجاباً يغطي نصف الرأس. كان الحجاب شيئاً متعارفاً عليه في تلك الفترة، لكن وضعه لم يكن فرضاً صارماً. تتذكر أمي أنها كانت في المرحلة الابتدائية ترفع تنورتها حتى منتصف ساقها لتتمختر كصديقاتها. لكن بعد الصف السابع أصبح فرض الحجاب أكثر صرامةً، ولم يعد بإمكانها الخروج من المنزل بدونه، فالحجاب «سترة» و«عيب تطلع بدونه بالحارة، شو بدك يحكو عنا الناس؟».
تكبر أمي وتدخل الجامعة، وهناك تتعرف على صديقاتها اللواتي عرّفنها على دروس الدين. يتعلق قلب أمي بالإيمان، وتلتزم بفرائضه حباً وطوعاً. وعندما تتديّن، تختلف حياة أهلها بالكامل، إذ تبدأ تمرر لهم ما تتعلمه، باللين والحب أو بالتخويف من عقاب الله. كانت أمي ترتدي فساتين طويلة تغطي نصف ساقها المكشوفة، وحجابات ملونة تتماشى مع لون الحياة في الجامعة، قبل أن تبدأ هذه الألوان بالاختفاء بالتدريج بعد الجامعة والصعود في مراتب التدين، لتنقلب فساتين أمي إلى مانطو كحلي ساتر. خالي انتقل من مرحلة الالتزام الاجتماعي و«العيب» إلى مرحلة التدين الشعائري والصلاة في المسجد على الوقت. حجاب زوجته صار يغطي رأسها بشكل كامل، بينما خاطت لنفسها مانطو حتى أسفل الساق، وبدأت بقضاء كل الصلوات التي لم تُصلِّها منذ بلغت الرشد. أمي أقنعت جدتي بالحجاب بذات الخوف والحب، ولذلك وضعت جدتي حجابها الأبيض ليغطي غرتها الجميلة، ومسحت الحمرة تماماً، ولبست مانطو أسود طويل حتى كاحل قدمها. منذ دخل الدين قلب أمي، دخل إلى قلوب جميع العائلة.
في الوقت نفسه، وخارج منزل العائلة الدمشقية الصغيرة تلك، كانت العاطفة الدينية والتوق إلى معنى للحياة يشق طريقه إلى قلوب كثير من العائلات الأخرى لأسباب كثيرة. كان النظام حينها يحارب التدين ويضيق عليه تارةً، ويفتح له الأفق تارةً أخرى، لتصعد جماعات دينية مقرّبة من النظام ويعلو صوتها على حساب جماعات أخرى محارَبة. دروس الدين كانت ممنوعة في البيوت، وكثيراً ما كانت تُقام في السر. تحكي لي والدتي أن «آنستها» كانت معتقلة لدى النظام السوري بسبب نشاطها الديني. هذا سبب إضافي يجعل أمي مقتنعة أن التدين في سوريا صعد رغم السلطة والبعث، وليس برضاهما ومباركتهما. استمرت الدعوة بالانتشار بعد ذلك، ولكن بعد نزاع وترويض من الأسد الأب، وصولاً إلى تدشين «معاهد الأسد لتحفيظ القرآن» واكتساب الدعاء للرئيس معناه الديني العميق. لم يكن انتشار التدين ومظاهره كالحجاب مرتبطاً فقط بالحب والرغبة التي تمنح الحياة معنىً ما. إحدى قريباتنا تديّنت بشكل مفاجئ، كما تقول، وتحجّبت بعد أن قتل السرطان عمتها الكبرى. كانت تضحك ساخرة عندما تقول: «وقتها حكولنا إنه الشمس وقت تجي ع الراس مباشر بتسبب السرطان كمان، تخيلو!». اختلفت القصص التي جعلت الحجاب مظهراً جديداً في عائلتي الكبيرة، التي ينحدر بعضها من بيئات اجتماعية مختلفة وأقل تديناً من غيرها، لكن أغلبها ارتبط بالخوف من انتشار البلاء أو المرض أو الحرب مع اسرائيل. كل ذلك جعل لجيل أمي سبيلاً وحيداً للنجاة هو الحجاب والتدين والتقرب إلى الله بغرض الحماية. بدا الله هو المنقذ الوحيد، وفي المقابل كان وسيلةً لحماية وجودهم وإثباته.
أما أمي فقد بنت من حبها للدين جسراً إلى الله أرادت لنا منذ نشأتنا الأولى أن نقطعه، موقنةً أنها تضعنا على الطريق السليم وتختصر لنا الطرق المتشعبة. بالمناسبة، تذكّرني أمي بالصلاة كلما تسنّى لها ذلك، فهي تخاف عليّ من نار جهنم، بينما أخاف أنا من حزنها أكثر من أي شيء بالعالم. أخبرها أنني بخير وما قطعت ودها أبداً، والود هنا عائد للإله الذي تحبه أمي، والذي ورثتُ حبه منذ قطعتُ جسرها ذاك. لا تعرف أمي أني كنت أعاقب الله في طفولتي بترك الصلاة كلما شعرت بالغضب والنفور أو بأنه تركني وحيدة. أمي تسمعني كثيراً وأنا أسأله: «لماذا يحدث كل هذا؟ وينك إنت؟»، فتوبّخني لأصير مهذبة مع الله. أمي المهذبة المسالمة الحبيبة، تحب الله بشكل يجعلك تحبه كثيراً وإن كان لأجلها فقط.
الخالة سمر
تزامناً مع تدين أمي، ارتدت قريبتها سمر الحجاب وقطعت مع أمي الجسر نفسه إلى الله، إلا أن عائلتها لم تكن تشبه عائلة أمي، بل على العكس كانت متحررة من الدين ومن القيود الاجتماعية كذلك. اختارت سمر الحجاب لتقف أمها في وجه خيارها. لم يقتصر الأمر على غضبها عليها وحرمانها من المصروف وحسب، بل وصل الأمر إلى منعها من الذهاب إلى جامعتها حتى. استمرت سمر في المعركة سنتين كاملتين، كلما خلعت أمها عنها حجاباً ارتدت سواه، مخبّئةً الكثير من الحجابات تحت الدرَج وفي حقائب صديقاتها، تماماً كما فعلت أمي. كلتاهما خبأت في حقيبتها حقّها في الاختيار والوجود.
مؤخراً، قررت ابنة الخالة سمر الصغرى أن تخلع الحجاب. الحجاب ذاته الذي حاربت الخالة سمر سنوات لأجله؛ الجسر الذي بنته لعائلتها الصغيرة كيلا تعيش ما عاشته هي، وهي مقتنعة أنها قدمت لهم الطريق الأسلم. حاولت إعادة ابنتها الصغرى لطريقها بكل ما أوتيت من لين وعاطفة وحب وبكاء، أخبرتها مطولاً أنها لا تنام الليل لأنها تخاف عليها مما جنته يداها. لاحقاً، تتصل بي الخالة سمر وتطلب مني أن أعتني بابنتها: «حاولي تذكريها بالصلاة، وتضلي حوليها». أبتسم وأنا أهزّ رأسي موافقة. تتصل بي أخت الفتاة بعد حين لتُخبرني كم يبدو الأمر غريباً، وأنها كانت تنتظر مني أنا أن أخلع الحجاب لا أختها المهذبة المؤمنة، فأنا أحمل تلك الأفكار التي تُنذر بسرعة الانفصال. أهزُّ رأسي أيضاً. «يعني إنها ما تصلّي متلك أهون عندي من إنها تشيل حجابها»، تقول وعلامات الغضب لا تنقطع عن حديثها وهي تشدّ على الحروف واحداً تلو الآخر، مهدّدةً ومتوعّدةً بالتخلي عن أختها نتيجة ما اختارت. بينما أقف أنا بينها وبين أختها، أدعم الأولى لأهدئ الأخرى وأهز برأسي يمنةً ويُسرة.
في بيت صغير آخر، تربى على الخوف والحب، تتصل بي أمي لتخبرني أنها رأتني في منامها أخلع الحجاب، وأنها تخاف عليّ، وتنتقي بدقة عبارات دعائها لله باسمي؛ الله الذي تحبه هي بطبيعة الحال. تدعو لي بالهداية والثبات، وتخاف عليّ من تحقيق ما أرنو له؛ من الحرية والحياة الجديدة الخارجة عن أي قيود مجتمعية ودينية. ترى الحجاب يداً متينة تحول بين قلبي والانجراف نحو الهاوية. ازداد خوفها تماماً بعد أن تركت منزل العائلة واتجهت إلى اسطنبول. أعود لأهز رأسي بعد منام أمي ونقاشاتنا التي لا تنتهي.
تخاف الخالة سمر على ابنتها من عقاب الله، وتخشى أمي أن يجرّني طريق الحياة لأقطع جسراً غير جسرها، وهنا ما زلت أقف متساءلة: هل سيكون الاختيار أسهل عليهما إن لم نكن مكشوفات لهذه الدرجة؟ لو لم يكن ديننا والتزامنا ظاهراً للآخرين؟ لو كنا نحمل ديننا في القلب، كإخوتنا الشباب على سبيل المثال؟! لم تقلق أمي على سفر أخي كما فعلت معي، ولم تخف عندما بدأ يناقشها بأفكاره الجديدة، إذ هي تعرف أن بذرة الخير ستُنبت صلاحاً في قلبه يوماً، وأن ما زرعته في روحه سيُرجعه لها ولو بعد حين. لكنها فيما يتعلق بي تخاف أن أكشف شعري كما كشفت فكري. كثيراً ما يُقبل ترك الصلاة مقابل التمسّك بالحجاب، رغم أن الصلاة ركن من أركان الإسلام واضح وصريح. الحجاب هو ظاهر الدين؛ هو العلاقة بين الفتاة والمجتمع الخارجي لا بينها وبين الله؛ الراية التي تحملها كل مسلمة في هذا العالم، تحكمها وتتحكم بها، تلتفّ على رقبتها، وتجعلها تهزّ رأسها عبثاً عند كل سؤال أو نقاش أو تعليق. أما الصلاة والصيام والعقيدة فتبقى بين العبد وربه.
أمي والخالة سمر اختارتا الحجاب بإرادتهما، ومعه اختارتا معركتهما. أنا وابنة الخالة سمر لم نفعل. بل وجدنا أنفسنا خلف المرآة التي وقفتا أمامها، نلفّ الحجاب مثلهما لنكسب رضاهما، ثم وجدنا أنفسنا مضطرات لخوض معركة كسر عُلَب لم نخترها بشخصياتنا المتمردة، وبعقولنا التي تحاول أن تخلق سبباً وتصنع وجوداً. وبذلك كان علينا أن نواجه حزن أمهاتنا وأساهنّ وغضبهنّ، لأن معركتنا ليست وضع حجابَين في الحقيبة أو تحت الدرَج، بل التخلص من كل تلك العُلب، والتحرر من ربط الحجاب بالسلطة الاجتماعية أو الدينية أو حتى السياسية.
تُفرض على الفتاة قوالب دينية، فمنذ تبلغ يصير الحجاب فرضاً مهما يكن عمرها، ليركض من حولها لستر شعرها بقطعة القماش، وعندما تبدأ أعضاؤها الأنثوية بالظهور يكبر القماش ذاك ليغطيها بالكامل. تستطيع الفتاة خلع أقمشتها خارج تلك العيون المتربصة، بعيداً عن الحدود التي تقيدها: كلام الناس، رعب الأهل، ثقافة المجتمع… إننا نُسلب حق الاختيار فقط لأننا ظاهرات بهذا الشكل، مكشوفات بما يكفي ليعرف كل من حولنا بما نشعر، وبمن نكفر، وبأي شكل نعيش. أما غيرنا فيحسمون المعركة دون أن يتصل به أحد ويوبخه أو يُشعره أنه نكث العهد، لأنه – كما أسلفنا – الظاهر للناس والباطن لله. وعوضاً أن تكون تلك معركة شخصية، أن نفكّك ما نُحت فينا ونُعيد تركيبه بما يتناسب مع معتقداتنا وإيماناتنا الجديدة، تصبح معركةً خارجيةً بصوت عالٍ، نضطر فيها لسماع صوت القريب والبعيد وهو يحلّل ويفكّر وينتقد ما تسوّله لنا أنفسنا. يقولون إنها من أجل الله والدين، إلا أن كل شيء فيها يشير إلى معركة أخرى، لا الله غايتها ولا الدين أهم عنصر فيها.
نحن النساء من العوائل المحافظة، نكبر ونحمل هذا المجتمع على رؤوسنا. مذ كنت طفلة وأنا أراقب تحولنا في استعارات الحجاب: من حلوى كثيرة الدبق يجب تغطيتها وسترها من الذباب، إلى جوهرة نفيسة يجب دفنها تحت الأرض كي لا تبلغها الأتربة، وصولاً إلى حزّ فاكهة سريع التعفن، وأخيراً إلى برتقالة: إن كانت مقشرة ستهوي إلى قاع الإناء، وإن كانت متسترة بقشرتها ستطفو! كل تلك الدعايات للفت نظرنا إلى أهمية ما نلفّ به رؤوسنا.
فقدتُ اهتمامي بمتابعة هذه الاستعارات الإبداعية، لكن أثرها لا يزال عالقاً في تفكيري، مثيراً تساؤلات أخرى جديدة. فقد زُرعت فينا قناعات كثيرة في طفولتنا كي نبدو نحن المسؤولات أمام أي شيء يحدث لنا في الخارج: لفت نظر، فتنة، تحرش…، إن لم يكن السبب ملابسنا فبالتأكيد هو ذنب ارتكبناه ليعاقبنا عليه الله. فنحن أيضاً، عزيزي القارئ، نشبه شريطاً كهربائياً «مزلطاً» في حال كنا بدون حجاب. الحقيقة أن تشبيه الكهرباء صحيح تماماً، لكننا لسنا من نَصعق، بل من نُصعق. نتحول إلى وجه أصفر، جسد متيبّس، نبضات قلب بطيئة. هذه تماماً حال أجسادنا بعد «لطّة» الكهرباء تلك، عندما يلمس أحدهم جسدنا في المواصلات العامة أو في الشوارع الضيقة، أو حتى أمام أنظار الجميع، بينما يراودنا شعور لوّام فوراً، فما نلبسه أو ما فعلناه هو السبب. لكن الحقيقة أن الحجاب لم يحمِني يوماً من تلك الكهرباء – التحرش – وقد لا يساعدني نزعُه على معرفة الله أو عيش الحياة بشكل أفضل. لأن ما نلفّ به رؤوسنا لا يعدو أن يكون أمراً اجتماعياً نرتديه كي ننتمي لمجموعة ما، وهو لم يكن يوماً اختياراً حراً مطلقاً إلا لمن آمنّ به واخترن وضعه. نحن في غالب الأمر لا نحب الحجاب عندما يكون الجو حاراً، ولا نحتمله عندما نضطر لتعديله آلاف المرات بعد نهار عمل طويل، ولا عندما «تفرط الكوكينا» وينسدل شعرنا من تحته في مكان عام، ولا عندما نرتدي آلاف القطع لنتستّر بما يناسبه، ولا عندما يصعب علينا التنفّس بسبب الدبوس المثبّت عند رقابنا. فنحن بعد أي يوم حافل في الخارج، بطبيعة الحال، لن نلبث أن نخلع حجابنا ونتنفّس الصعداء ما إن نغلق باب المنزل خلفنا.
باص رحلة المدرسة
يفسّر كثيرون اليوم خلع الحجاب هذه الأيام بأنه «موضة»، وانسياق دون وعي. يسلب ذلك حتى أحقية الواحدة منا بالتفكير والاختيار. لكن الأمر لا علاقة له بأي موضة طبعاً. أذكر حين صادفتُ خلع الحجاب للمرة الأولى أثناء رحلات المدرسة، قبل ما يقارب العشر سنوات. رأيت صديقاتي ينزعن الحجاب عن رؤوسهن قبل أن يسير الباص، ويحرصنَ أن يتوارين بعيداً عن النوافذ ريثما يخرج الباص من المدينة. يبقى الله في تلك المدينة، بينما يترك الطريق للفتيات الناشئات ليمضين في حيواتهن كما يشأن، في طريقهن إلى بحر اللاذقية أو مدينة الملاهي الصغيرة على طريق حمص. أما أنا فأحافظ على وضع تلك القطعتين، دون تثبيتهما بدبابيس، الشيء الذي تفتخر أمي دوماً بتذكره: أني لم أحاول التماهي مع عالم جديد لا تراقبه عيونها وربما ولا عيون الله أيضاً، وأني بقيت أحفظ ودها المرتبط بودّ الله. على أية حال، سينتظر الله الفتيات حتى يعدن من الرحلة آخر النهار، يراقبهن وهن ينزلن من الباص عند العودة، يطمئن لحجابهن المتين وشعرهن المغطى، ويتأكد أن أحداً لم يتجرأ على صورة الدين النمطية إلا خارج المدينة، حيث لا يمارس رقابته… أو هذا ما كنت أتخيله دائماً. لم أكن أنظر لأولئك الفتيات على أنهن يكفرن بما نؤمن به، كنت أحزن فقط أن واحدتهنّ تحاول أن تكون ذاتاً أخرى غير ذاتها في كل مرة تخرج فيها إلى الشارع.
كثيراً ما ارتبط الحجاب بسلطة المجتمع في كل منطقة. خارج مدينتنا الصغيرة، كنا بعيدات عن أهلها، فنستطيع أن نكون ما نريد. في الحقيقة لم نكن جميعاً قادرات على الخروج دائماً من المدينة، فكثيرات لم يكن يستطعن الركوب في باص المدرسة؛ الباص الذي يسمح لهنّ بالعبور إلى ذواتهن التي أردنها ولو لبعض الوقت، ويمنحهنّ الإيمان بالله بشكل متجرد عن أهل المدينة وتقاليدهم. كانت طرقهنّ تقرّها سلطات الأمر الواقع الدينية أو الاجتماعية. في تلك الطرق المتشعبة، عزيزي القارئ، يمكنك أن ترى دائماً حجاباً نسائياً متغيراً، لوناً أو شكلاً، بحسب بيئة أو انتماء المتدينين، أو حتى الجهة السياسية التي تحكم المنطقة وشكل السلطة الدينية التي تبرر بها وجودها: حجاب أبيض، أو كحلي، أسود يغطي الوجه والعينين، حجاب يغطي الكتفين، حجاب ملون مبهج، أو شعر بلا غطاء. عملت الجماعات المتدينة والمرتبطة بالسلطة على بناء جسرها الخاص وهي تسعى وراء أمجادها في الدين والدولة، كما اجتهدت الأنظمة الحاكمة في مد حبال الجسر نفسه لتثبّت قوتها على الأرض بثابت الدين عند أهله، وهكذا صار من السهل ربط الدين بالجماعة، والجماعة بالزي، والزي بسوقه الخاص وبسعره الغالي أيضاً. في السعودية ومصر وتركيا وسوريا وغيرها، وعلى اختلاف شكل الحجاب فيها جميعها، تبقى فكرة واحدة: شكل ما نرتديه كنساء يتحدث عن انتمائنا، الديني ولكن أيضاً الاجتماعي والفكري والطبقي. كل ذلك يحدث رغم ارتدائنا الحجاب ونحن صغار دون أن نقرر أن نكون جزءاً من هذا كله. كان كل همنا أن نجد طريقة جميلة نضع فيها الحجاب ليناسب وجهنا، مع لباس واسع يُخفي ما بدأ يظهر من أجسادنا.
خارج العلبة
أغير ملابسي قبل الخروج مرات عديدة، في الغالب أفكر كيف يبدو لون الحجاب متناسباً مع قطع الملابس التي أرتديها. أحاول تغيير شكله أيضاً من باب التعامل مع الجو الخارجي، أغرز دبوساً أو اثنين. «ضعي الثالث تحسباً من أن يسقط أحدهما»، أقول لنفسي. أثبّت القطعة البيضاء بشكّالة صغيرة من الخلف حتى لا تتزحزح كثيراً.
ألتقي أصدقائي في اسطنبول وأشعر أن الحجاب الذي اجتهدت في تزبيطه صباحاً ما زال بحاجة لجهد. أصدقائي المتدينون والمحافظون يعلّقون الآمال على حجابي المثبّت بدبوس أسود، ويفتخرون بداخلهم بي وأنا متمسكة بالمبادئ نفسها التي يعتنقونها رغم كل الفتن حولي. بينما يشدني أصدقائي الآخرون المنفتحون والمتحررون من كل الحجابات إلى معسكرهم، محاوِلين دفعي وإقناعي أن أتخلّى عن الحجاب. خوض نقاشات الحجاب في النهاية دفعني للتنحي، فبقدر ما تومض تلك المعارك بنهاية مشرقة – كسر العلبة والتحرر من انفصام القلب عن القالب – إلا أنها تحمل في الوقت نفسه خسارات ممكنة، لا أعرف إن كنت مستعدة الآن لها. لكن معظمنا اليوم إما يجبرن على دفع ثمن معركة لم يخترنها، أو يتحاشين باستمرار دفع الثمن، وفي كلتا الحالتين هذا ظالم. وكأنّ خلع الحجاب ينتهي ما إن أفك الدبابيس وأترك شعري ينسدل على كتفي. وكأن الحجاب على رأسي لم يختلط كل هذه السنوات بدمي وخلايا رأسي وهويتي وشخصيتي. أن أخلع الحجاب بعد سنوات من ارتدائه ليس أبعد من أن أنزع عني جلدي وأمحو نصف ذاكرتي عني. حجابي الذي يتغير تبعاً للظروف الجوية متناسباً مع شكل ولون ملابسي، يتحول مع الوقت ليصبح علامة قبول ما بين هذا المعسكر أو ذاك. هل تستحق قطعة القماش كل هذا؟
كيف ستشعر إن حاولنا وضعك داخل علبة بلاستيكية، واخترنا غطاءً شفافاً عليها، وجعلناك تراقب العالم منها كما يراقبك هو؟ نحن نشعر هكذا طول الوقت. نتساءل عندما نقف أمام المرآة بشكل اعتيادي: هل يناسبني هذا اللباس؟ هل يمكنني الشعور بالراحة طوال عملي في الخارج؟ هل سيكون هذا اللباس الأقل لفتاً للنظر والملاحقة؟ كثير من الأسئلة، آخرها ما قد يأتي على القائمة: «هل أنا جميلة ضمن كل هذا؟». يأتي هذا بالطبع بعد تبرير نسمعه كثيراً، نحن المحجبات، وربما هو جزء من محاولة إقناعنا به: أنه لدرء الفتنة، وأننا نبخس به جمالنا وبالتالي نساهم في التقليل من الفتنة على هذه الأرض. نلبس حجاباً أو نقاباً، أو فستاناً أو بنطالاً، فيتغير لون العلبة البلاستيكية التي نُغطى بها، ولكنها تبقى علبة مقيِّدة. بالضبط كما يتغيّر حجم العلبة وشكلها أحياناً بحسب ما نقوم به نحن الفتيات: تضع الحجاب، لماذا ترقص بالشارع؟ غير محجبة، لماذا لا تشرب؟ تضع الحجاب، ولا تصلي!؟ وقِس يا صديقي القارئ على كل تلك الدوائر البلاستيكية ذات الغطاء الشفاف. نوضع في العلبة، وقلما تكون العلبة على مقاسنا. إنها مقاسات الآخرين البعيدين – البعد النفسي لا المكاني حتماً – الذين يلاحقوننا كزوبعة.
تكون معركة التي تخلع الحجاب أصعب بألف مرة من معركة من لم تضعه في الأصل. فارتدادك عن المجموعة أكثر رعباً من عدم انتمائك الشكلي لها. عندها سيعلو صوت السلطة باسم الغيرة على الدين. لا تتعرض الفتاة للتشهير إن خلعت الحجاب فقط، بل حتى إن ارتدت الحجاب بشكل عادي واختارت نمط لباس معين: إن خلعته أو لا، إن احتشمت في منظورهم أو لا، دائماً هناك معركة طويلة مع رمقات وألسنة الآخرين. دوماً هناك من يحاجج بصلاحه محاولاً كسر التزامك واختيارك الخاص: هاد مو لبس حجاب… ليش هالقد عم تشلحي؟… ليش شلتي الحجاب؟… مفكرة اللي ع راسك اسمو حجاب؟… ما في بنت بتدعي إنها نسوية بتكون محجبة!… حاج تروّجو لحجابكم على إنه انتصار… من ناحية أخرى، حتى إن تحدثنا عن التمكين ومطالبات القوة والتحرر، فقد تسلب حق المرأة في اختيار شكل حياتها ولباسها، وتوجّهها لتختار شيئاً آخر. فالحرية هي التحرر من كل شيء، لكن الفتاة المحجبة قد تدخل في النهاية في علبة بلاستيكية جديدة، تحدّدها وتصنّفها وتقيّدها. ضغط مزدوج تشعر به المحجبة، من جهة يغصبها على ارتداء الحجاب لتكون محمية وعفيفة، ومن جهة أخرى يدفعها نحو خلع الحجاب لتكون قوية ومتمكنة.
تلك العلبة التي نحاول كسرها والخروج منها دون أن تجرحنا حوافّها الحادة، ودون أن نضطر كل مرة لتبرير حقنا في كسرها والخروج منها. إلا أننا نجدنا من جديد في علب بلاستيكية أخرى، وتصنيفات جديدة، وإقصاء مختلف. أذكر عندما وصلت اسطنبول أخيراً كيف قلت لصديقتي: أتمنى شيئاً واحداً من هذا المكان، ألا يدفعني للتغيير الذي يريده هو دون أن أريده أنا. وهذا جلّ ما كنت أسعى إليه هنا. أنا لست محجبة من الداخل، ولكني لست مستعدة لمعركة خلع الحجاب. وكل ما في الأمر أني لا أريد أن أعيش حياتي متنقلة بين علب في عقول الآخرين. أعرف أن من الصعب أن نرى الناس ونقيّمهم بما هم عليه، وليس بمظهرهم، وحتى أنا قد أضع الناس في علبي الخاصة. قد أستهجن رؤية فتاة محجبة تشرب الكحول في مكان عام مثلاً، أو فتاة ترتدي حجاباً مع ملابس قصيرة. أعرف تماماً أن عقلي يصنع العلبة ويغيّر المقاسات، ولكني على الأقل أحاول أن أكون واعية بما يفعله. وفي الحقيقة، ما أطلبه من الآخرين ليس أكثر من ذلك، لأني أحاول أن أصل إلى مكان آمن. أتذكر الجسر الذي حاولت أمي مدّه بيننا وبين الله، وأعمل على جسر بيني وبين الآخرين ليفكروا دون علب بلاستيكية يحشرونني فيها. لكن الجسر خاصتي حر تماماً، أما جسر أمي والآخرين من دعاة التحرر فهو يدق مساميره في رأسي، وعلى جسدي، وفي حرية اختياري التي قاتلت طويلاً من أجلها.
في هذه المعركة، ونحن نجرب السير في طريقنا الخاص، متجاوزين ما تربينا عليه وما تجذر في وعينا طويلاً، نكتشف معارك كثيرة علينا أن نخوضها. الخفة الظاهرة التي تمنحها لنا الغربة ثقيلة، لأنها مرتبطة بخيوط ماضينا وتربيتنا وذواتنا القديمة. أنا مثلاً، رغم قراري الذي بدأ به المقال حول تمسكي بالحجاب، أشعر أنني أشبه براقصة باليه على حبل رفيع للغاية، لا أهوي إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك. أحب سلام المؤمنين ولست منهم. وأقترب من حياة اللامنتمين ولست منهم. في الحقيقية أنا لست الراقصة، أنا الحبل الذي يوشك أن ينقطع بينهما.
كلام يصف ويشفّ
لم تكن كتابة المقال سهلة بالنسبة لي، لأن مسؤولية الكتابة مخيفة. كيف يمكنني التحدث بصوت عالٍ وعلناً حول ما أفكر فيه؟ كيف أخلع الحجاب الفكري لأول مرة أمام الجميع؟ كنت أحاول مع هذا النص أن أفكك كل تلك الخيوط المتشابكة في عقلي، إلا أنني تأكدت أكثر كم كنت مقيدة. تشدّني جذور طويلة نحو الأرض، لا أجرؤ على قطعها لكني أختنق داخلها. أثناء الكتابة اكتشفت أكثر كيف أن جذور الحجاب ليست وحدها ما يقيدني، بل أيضاً أشواك السلطة الدينية والسياسية والعنصرية، وسطوة العائلة، وتسلط المجتمع، وكل ما يتفرع عن ذلك.
يتكرر في رأسي كثيراً صوت صديقاتي وهنّ يتحدثن لي عن لحظاتهن الأولى بعد خلع الحجاب، كلها كانت مرتبطة بالخوف، الذنب، الرهبة، غرابة الشخص الجديد الذي يقف قبالتهنّ في المرآة، الهرب من عين الله التي قد تحاسبهن على كل نسمة هواء تلامس شعرهن. تعلو هذه الأصوات كلما حاولت أن أتلمس قماش الحجاب الذي ألفه على رأسي، كلما فككت دبوساً، أو ثبّتُّ آخر. في المقابل، تتردد صديقتي الأخرى في كندا وهي تحاول تبرير خلعها للحجاب خوفاً من تنميط جديد حولها، فيما تحاول ثانية التمسك بقرارها وحجابها رغم إقصاء محيطها المتحرر، في معركة مستمرة منها كيلا تكون مجرد ديكور صامت يتحرك وفق معاييره. كل تلك الأصوات العالية تتحدث في وقت واحد في رأسي، صوت هادئ، صوت خائف، وصوت غير مهتم، وبينها جميعاً أحاول أنا الوصول إلى صوتي، ماذا يقول؟ كيف يشعر؟
لم أكتب هذه المقالة للدفاع عن الحجاب أو نقده، لا لأدعم فكرة التحرر ضد التدين ولا العكس. هذه المقالة ليست فقط إنصافاً لمن يفكّرن في نزع الحجاب، أو لمن لا يملكن استعداداً بعد لهذه المعركة، أو غيرهن ممن يتمسكن به ديناً وهوية. إنما هي أيضاً للتعبير عن تلك الأفكار التي تتصارع في رأسي تحت الحجاب؛ رأسي الذي ألف عليه الحجاب مرة ومرتين ليكفّ عن الضجيج، وعن المعارك التي كبرت معي وتغيرت معي مئات المرات. حكاية عني وعن كثير من الفتيات اللواتي يقفن كل يوم أمام خزانتهن محتارات أي لون حجاب يناسب ملابسهن، أي قميص لا يصف، وأي بنطال لا يشفّ، وأي لون لا يفتن. محاولة للتعبير عنا وعن المخاوف التي تُمسك برقابنا كحبل طويل بعد أن أصبحنا لا نتحمل خسارات خانقة جديدة، حتى حملناها كدبوس حاد نَشكُله على رأسنا. لثقة أمي وأمل أبي ذات الحدة في الأصل. أصرّ على آخر دبوسين في حجابي لأجلهما. حتى يأخذ الحجاب أخيراً شكله الذي نشكّله بأيدينا، والذي قد لا يشبهنا بطبيعة الحال ولا يعبر عنا، محققاً رغبته بفصلنا أكثر بين داخلنا وخارجنا.
عزيزي القارئ، هذه المقالة خطوة أخيرة كي أنظر في المرآة دون ارتباك، وأجيب صديقي على سؤاله بدل أن أكتفي بتعديل حجابي على انعكاس نظارته. أنا لا أحلم يا صديقي بالمشي في ساحة تقسيم دون حجاب كي يلعب الهواء بشعري، ولا أن أخلع عني كل تلك الملابس التي أضطر لارتدائها لتناسب الحجاب. أحلم فقط بعالم لا تكون قطعة الحجاب التي أضعها أو أنزعها عن شعري تذكرة دخولي إلى عالم ما أو إقصائي من آخر. أحلم بعالم تختفي منه كل تلك العلب البلاستيكية، أتربع فيه في رأس صديقي والعالم كما أنا، دون انتظار مرور الوقت لكسب مساحة إضافية أتمدد فيها.
عزيزي القارئ، أود إخبارك أن هذه المقالة تندرج تحت اسم مستعار طبعاً، تلافياً لتعقيدات وتهديدات ونقاشات طويلة لا أرغب في خوضها اليوم، كما صرت تعلم.
موقع الجمهورية