مقالات سينمائية

عن «الحظ» الذي أعطى لكريستوف كسلوفسكي اسمَه!/ سليم البيك

يبدو السينمائي البولندي كريستوف كسلوفسكي في مسيرته السينمائية، أكثر إقناعاً، أكثر مهنيةً/حرفية، من غيره. لا يقلل هذا الافتراض من شأن أحد، إنما، يعطي لكسلوفسكي أرضية (مستحقة) أكثر ثباتاً في تلقي أعماله الأخيرة، انطلاقاً، زمانياً، من فيلم «الحظ».

ينطلق الكلام أعلاه من حقيقة أن لكسلوفسكي مرحلتين في مسيرته الفنية، الأولى طويلة زماناً ووفيرة كماً، صنع خلالها أفلاماً تراوحت بين الوثائقي والروائي، الطويل والقصير، التلفزيوني والسينمائي، كأنها كلها تمرين شامل ليدخل بها مرحلته التالية، النوعية، التي قدمته إلى العالم كواحد من أفضل مخرجيه، وهذه الـ«واحد من أفضل مخرجيه» تبررها أفلام قليلة، هي أفلامه الأخيرة اللاحقة لفيلمه «الحظ». هذه الأفلام، كانت مبنية على تجارب وأعمال تراكمت لتخلق من مرحتله الكمية تلك انتقالاً نوعياً، فصنع أفلامه الأشهَر التي لحقت فيلمه المذكور، وهي: سلسلة «ديكالوغ» من عشرة أفلام، 1988 «الحياة المزدوجة لفيرونيك» 1991 وثلاثية الألوان: «أزرق» 1993 «أبيض» 1994 «أحمر» 1994. أفلام صنعها في فترة زمنية قصيرة، كأنه، بعد تمريناته الفيلمية السابقة لها، ما أراد سوى الكتابة والتصوير.

كانت الأفلام هذه، كحبة الكرز التي يتركها أحدنا للقمة الأخيرة من صحنه، أتت بعد أفلام كثيرة متراوحة الجودة، ثم أتت بعد سنوات خالية تقريباً، كأنه كان يتهيأ لمرحلته الجديدة. تلاها بفيلمه الممهد لتلك النقلة النوعية «الحظ» بل الفاتح (لا الممهد) لتلك المرحلة التي صنعت كسلوفسكي الذي عرفناه منذئذ، والذي يكتفي العالم منه بأفلامه الأخيرة (المذكورة).

لم يحقق كسلوفسكي ذروة إبداعه من بداية مشواره فبدأ بالنزول (يتخلله صعود بين فيلم وآخر) لم يبدأ من الأعلى، كما هو حال آخرين قد يكون أبرزهم الفرنسي فرانسوا تروفو وفيلمه الأول «أربعمئة ضربة» 1959 والأمريكي أورسون ويلز في فيلمه الأول «المواطن كين» 1941 بل وصل مرحلة الرجلين بعد لائحة طويلة من الأفلام/التمرينات، ما يجعل وصوله ذلك مستحقاً ومشغولاً عليه، ما يعطي لفكرة أن السينما مهنة وحرفة، كما هي فن، مساحتها المشروعة. حافظ كسلوفسكي على مسيرٍ تصاعدي في مهنته.

من 29 أيلول/سبتمبر حتى 25 تشرين الأول/أكتوبر، تقيم السينماتيك الفرنسية في باريس برنامجاً استعادياً لكسلوفسكي بعرض 36 فيلماً من بين عموم نتاجه. لكن كي نفهم هذه الـ«أفضلها» لا بد من استيعاب لفاتحتها، وهو فيلم «الحظ» الذي كان الحلقة الأولى الاستهلالية من سلسلة الأفلام العظيمة التي صنعها من بعده كسلوفسكي.

«الحظ» 1987

يمكن اعتبار الفيلم بداية مرحلة جديدة للمخرج البولندي.. وفرادة الفيلم تكمن في نصه المكتوب، لدينا هنا ثلاثة سيناريوهات لفيلم واحد، فمصير البطل يتغير تبعاً لاحتمالات ثلاثة: في أولها يستطيع اللحاق بقطاره، في ثانيها يتمشكل مع شرطي في المحطة، في ثالثها يركض دون أن يلحق بالقطار الذي يبتعد أمام عينيه.

تختلط القصص الثلاث ببعضها، في الفيلم ذاته، يُعاد العديد من اللقطات بشكل شبه متطابق، في كل من السيناريوهات الثلاثة، حتى الشخصيات الثانوية الموجودة في كل منها تحضر باختلاف طفيف في ما تفعله في كل منها. من خلال هذا التجاور بين الحالات الثلاث، يتناول المُخرج، وهو كذلك كاتب الفيلم، بنظرة نقدية، التيارات الاجتماعية والسياسية في بولندا آنذاك، مجاوراً بين الخلاص الشخصي والمثالية السياسية، مبرزاً تناقضاتهما. وبقي، لذلك، الفيلم محظوراً لست سنوات (لم يتخللها سوى فيلم واحد له، سياسي، هو «لا نهاية» 1985) حتى عام 1987 حيث عُرض وقد اقتُطعت مَشاهد منه، لكن هذا التقطيع الرقابي لم يغير في أساس الفيلم ورؤية المخرج السياسية، وهو متوفر الآن بصيغته الكاملة. يمكن اعتبار الفيلم ثلاثة تصورات لقصة واحدة، ثلاثة احتمالات تفصيلية لأساسات قصة واحدة، كأن كسلوفسكي أرادها ثلاثتها وجمعها، بنوع من التماهي في حدودها، في فيلم واحد يحكي قصة القصص الثلاث.

«فيتيك» طالب في كلية الطب في بولندا إبان النظام الشيوعي، فقد والده مؤخراً، لا يجد لنفسه مستقبلاً دراسياً ولا مهنياً، فيختار أن يغادر إلى وارسو، تاركاً حبيبته، وهنا، عند محطة القطار، تبرز الاحتمالات الثلاثة، طارحةً دور الحظ في تقرير المصائر الشخصية، فنشاهده في ثلاثة مَشاهد مختلفة يطلب تذكرة عند الشباك ويركض مرتطماً بمتسول ويسرع في ركضه محاولاً اللحاق بالقطار الذي بدأ بالتحرك، ولحاقه بالقطار من عدمه هو ما سيرسم السيناريوهات اللاحقة.

في الاحتمال الأول يرى فيتيك رفيقاً قديماً لوالده ومسؤولاً في الحزب الشيوعي، ويصير بعدها عضواً فاعلاً في الحزب، يلتقي بحبيبته السابقة ويمضيان وقتاً معاً قبل أن تُعتقل. في الاحتمال الثاني يرتطم بشرطي أثناء لحاقه بالقطار فيضربه، يؤخذ إلى الحبس لذلك، هناك يلتقي بمُعارض. في الثالث، لا يلحق بالقطار، يرى صديقة سابقة، يعمل كطبيب ويبقى بعيداً عن السياسة.

Le Hasard، من أول الأفلام الجميلة لكسلوفسكي (وإن تفاوتت الأذواق في ذلك) وهو أقرب لعمل أدبي في طبيعة سرد الحكاية (وهو كذلك نص أدبي منشور لكسلوفسكي) منه إلى فيلم يكون، في عموم الصناعة السينمائية، إما سرداً خطياً زمانياً، وإما مستعيناً باستعادات/فلاشباكات في أسلوب السرد. هنا، كسر كسلوفسكي الزمن ووازى بين خطوط السرد ليخرج مطمئناً، في أفلامه اللاحقة إلى إنجاز سينمائي خاص.

كاتب فلسطيني سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى