إيهاب حسن وأوصال أورفيوس/ صبحي حديدي
يسجّل هذا العام مرور نصف قرن على صدور «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» 1971، العمل الأشهر، في تقدير شخصي، للناقد المصري – الأمريكي الراحل إيهاب حسن (1925 – 2015)؛ وأحد أبرز النصوص، وأعمقها، حول التيار الذي سيُعرف تحت توصيف «ما بعد الحداثة» والذي كان حسن في عداد كبار المبشّرين بولادته، وأمهر مشخّصي ملامحه ومضامينه وإشكالياته. وإذْ أذكّر، ليس من دون اعتزاز مسيّج بتواضع أقصى، أنني كتبت مبكراً ومراراً أعرّف بأعمال حسن، ومساهماته في الإضاءة على تيارات ما بعد الحداثة خصوصاً؛ فإنني لا أجد حرجاً في الاحتفاء، هنا، بذكرى كتاب رائد، لناقد كبير صاحب ريادة فارقة.
حسن يصدّر كتابه باقتباس من أوفيد في «مسخ الكائنات» والجزء الذي يصوّر قتل أورفيوس حين (في ترجمة ثروت عكاشة): «انسابت دموع الحزن من مآقي الطيور والوحوش والصخور والغابات الكثيفة التي كانت تتبعه حيث يغنّي، وتساقطت أوراق الأشجار التي أخذت تبكي الشاعر وغدت الفروع عارية، بل لقد قيل إنّ الأنهار بدورها ذرفت الدموع وفاضت بها، كما مزقت الحوريات شعورهنّ وارتدين ثياب الحداد». والتلميح الضمني، الذي سيُفصَّل في قول مستفيض، هو إسكات الشاعر وقيثارته، مقابل إعلاء صوت الصمت؛ وليس في التعبير الأخير تورية أو تعمية مجازية، لأنّ أدب الصمت هو الذي سيسود الحقبة التي تناولها حسن بالدراسة والتحليل و… تقطيع الأوصال !
قيثارة أورفيوس التي حملها النهر مع رأس الشاعر، ظلت بلا أوتار لأنّ المطلوب لم يكن تمزيق جثة الشاعر عضواً عضواً فحسب، بل كذلك إخراس قصيدته وإسكات أغنيته؛ وهذا هو الفراغ، أو هو الخواء على نحو أدقّ، الذي يسعى أدب ما بعد الحداثة إلى تمثيله، من خلال أربعة نماذج استقرّ عليها حسن، وبعضها لا يخلو من مفاجأة: إرنست همنغواي، فرانز كافكا، جان جينيه، وصمويل بيكيت. و»أدب الصمت» في تعريف حسن الشهير، هو ذاك الذي «يدور حول نفسه، وينقلب على نفسه، كي يعلن الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء». وأمّا خلاصاته فإنها تنتهي إلى الاغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ؛ استثمار حالات الذهن القصوى، بما في ذلك الانفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية؛ سلخ اللغة عن الكلام اليومي، وتحريف الأفكار التقليدية عن الشكل؛ مناهضة كل ما يتصل بمبادئ مثل «السيطرة» و»الحكمة» و«الثبات» و«النسق التاريخي».
والحال أنّ عناوين فصول «تقطيع أوصال أروفيوس» كانت، في ذاتها، تطلق سيرورة معقدة وبارعة من اقتياد القارئ إلى خلائط التشويق والفضول والحيرة والبلبلة؛ وتستكمل، بذلك، ما تحمله الفصول من عروض حول أدب يتوخى الصمت، على غرار قيثارة أورفيوس التي عجزت النسوة عن تحطيمها فطافت على سطح النهر (مساحات القراءة والذائقة؟) لكن من دون أوتار/ من دون معنى مألوف أو متعارف عليه. وفي دراسة رائدة (وشهيرة مثيرة، منحته سلطة التنظير للتيّار بأسره) بعنوان «نحو مفهوم لما بعد الحداثة» حاول حسن تقديم تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي لظاهرة ما بعد الحداثة، وجهد في تعقّب ما تيسّر من مقارنات مع الحداثة، ورسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب ــ على الأرجح ــ المهمة العسيرة المتمثلة في اعتصار تعريف ملموس للحركة.
وفي عمل صدر سنة 1995 بعنوان «إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود» كان أقرب إلى السيرة الفكرية – الذاتية، عالج حسن إشكالية التنظير النقدي متكئاً على الروائي الأمريكي هنري جيمس، الذي اعتبر أن النظرية الأدبية تُجابَه أولاً بتهمة السخف، ثم تُقبَل بعدئذ إما لأنها صحيحة أو لأنها باتت واضحة؛ وأخيراً، تصبح شديدة الأهمية إلى حدّ أن خصومها القدماء ينسبون إلى أنفسهم فضل اكتشافها. ويعلّق حسن: «ما البدائل عن النظرية المعاصرة، والإيديولوجيا، وخطاب ما بعد الحداثة، بكلّ استفزازاتها وموارباتها؟ لا شيء، كما أعتقد، وليس في المدى الأعرض على الأقل». وكان الاعتراف هذا بالغ الدلالة، خصوصاً حين أتى من أحد الآباء المؤسسين لمصطلح شاقّ عسير لكنه يواصل حضوره، بدليل تجدّد الاهتمام بالرجل الذي نظّر له مبكّراً، وبالحركة التي ما تزال تراوغ!
اليوم نقرأ مؤلفات موسعة تتناول، مثلاً، الشاعر والروائي التشيلي روبرتو بولانيو تحت تصنيفات غير عادية، ولعلها صادمة أيضاً، مثل «ما بعد الحداثة المقاوِمة في شعر ورواية بولانيو»؛ حيث تباغت المرء سلسلةُ افتراضات سجالية حول العلاقات ما بين الواقعية السحرية والسوريالية وأدب المقاومة وما بعد الحداثة؛ وحيث تُستعاد أطروحات حسن في مؤلفاته المختلفة. أو هذا الكتاب: «مدخل بلومزبري إلى الرواية الواقعية ما بعد الحداثية: مقاومة السرديات الكبرى» الذي يرشق أساليب في الكتابة تبدو متباعدة أو متنافرة، على خلفية مقاوِمة بدورها وإن كانت تتصدى لسرديات راسخة وتأسيسية؛ على نطاق إنتاجي، وبالتالي أسلوبي وثقافي، يمتدّ من ستينيات القرن الماضي وحتى زمننا الراهن.
الأمر الذي يمكن أن يشير، في حالات مركّبة مثل هذه، إلى أنّ قيثارة الشاعر القتيل قد تكون استردت بعض، أو حتى جميع أوتارها؛ أو أنّ أورفيوس نفسه انتفض من قلب الكهف الذي ألجأه أبوللو إليه، باحثاً عن المعنى أو مبشّراً به.
القدس العربي