سوسن جميل حسن: حراك الشعب السوري كان نتيجة حتمية لما عاناه من الطغيان
غسان ناصر
ضيفة مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحواريّة الأسبوعيّة، هي الطبيبة والكاتبة والروائيّة السوريّة سوسن جميل حسن، صاحبة «اسمي زيزفون» (قيد الطباعة)؛ و«خانات الريح» (القاهرة-2018)؛ و«قميص الليل» (رأس الخيمة-2014)؛ و«النبّاشون» (بيروت–2012)؛ و«ألف ليلة في ليلة» (بيروت–2010)؛ و«حرير الظلام» (اللاذقية–2009). وهي من مواليد مدينة اللاذقية، درست الطب في الجامعات السوريّة، وعملت في المشافي التابعة لوزارة الصحة السوريّة، وتولّت رئاسة لجان فحص الموظفين، ودائرة الخدمات الطبيّة. وهي تقيم حاليًّا في ألمانيا، وتكتب في عدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونيّة السوريّة والعربيّة.
ضيفتنا المؤمنة بأنّ ابن الأرض السوريّة هو من يقف بشجاعة في وجه الطغيان، مهما كان نوعه ومصدره، وينحاز إلى قضايا الشعب، سعت في كتاباتها الإبداعيّة والصحفيّة إلى تكريس فكرة الوطن والانتماء إليه، وإلى النبش عن الإيجابيّات في بلادٍ أنهكها الاستبداد والفساد والمحسوبيّات وسياسات التفقير والتجويع.. لتشتغل عليها بروح وطنيّة عاليّة، لتخليص المزاج السوريّ العامّ من التمسك بالسلبيّات وجلد الذات؛ ذلك لأنّ المهمّة الأساسيّة للمثقّفين السوريّين في (مملكة الرعب والصمت)، حسب صاحبة «النبّاشون»، ليست تعبئة الجماهير ودفعها إلى التمرّد، إنّما أن يكونوا فاعلين في الحراك، بمتابعته ورصد التحوّلات التي تطرأ على الواقع والبنية المجتمعيّة والوعي العامّ ومنظومة القيم، وأن يكونوا جريئين في مواقفهم النقديّة تجاه كلّ ما يحدث في بلادهم المنكوبة.
هنا نصّ حوارنا معها، وقد تحدّثنا فيه عن أعمالها الروائيّة التي أثرت المكتبة العربيّة، وعن عملها الجديد الذي سيرى النور قريبًا في برلين، وكذلك عن مدوّنة الرواية السوريّة في العقد الدامي، وما سبقه من سنوات عجاف عاشها السوريّون والسوريّات في ظلّ حكم شمولي استبدادي طائفي فاسد. وتطرّقنا في حديثنا إلى دور المثقّفين السوريّين في سنوات الحراك الشعبي المطلبيّ المحقّ، والثورة المستحيلة والمدهشة واليتيمة والأبهظ كلفةً في التاريخ الحديث، والتي كسرت شعار (سورية الأسد إلى الأبد) قبل أن تُختطف من قِبل الطائفيّين وأصحاب الرايات السوداء، إضافة إلى بيان رؤيتها لأهمّية الفعل الثقافي وفاعلية الثقافة في الداخل السوريّ وفي المنافي، بعد سنوات من الحرب المدمّرة التي مزّقت البلاد، وغيرها من المواضيع الأخرى.
بداية، لو نستعيد معك بعض الذكريات، من تجربة بناء ذاتك، كطبيبة وكاتبة في رصيدها اليوم خمس روايات.
في الواقع لا أعرف لماذا درست الطب، لم أكن أفكّر بدراسته وأن أصبح طبيبة، ولم يكن لدي في ذلك العمر مشروع أحلم بتحقيقه، فقط كنت طالبة متفوّقة أحبّ العلوم والرياضيّات مثلما أحبّ الأدب واللغة، لكن انتسبت إلى كليّة الطب كتحصيل حاصل. الآن، وبعد مرور كلّ هذه الأعوام، وقد صار الطب خلفي بعدما تفرّغت لمشروعي الأدبي، لا أستطيع ألّا أشعر بالامتنان لهذه المهنة التي مارستها حوالي ثلاثين عامًا في وزارة الصحة وفي عيادتي الخاصّة، فقد رفدتني بخامات كثيرة كانت تترتب مع الوقت في خزائني الخلفيّة، ليس فقط في الجانب الإنساني وانكشاف زوايا عديدة من مكنونات النفس البشريّة، وفّرها لي قربي من معاناة المريض وانكشافه أمامي، بل لأنّني اشتغلت أيضًا خلال فترة عملي الوظيفي، بصفتي طبيبة تابعة لوزارة الصحة السوريّة، في مواقع لها علاقة بالتشريعات الصحيّة، في جانب منها تتطلّب العمل الإداري، هذا جعلني أتعرّف إلى البنية الإدارية ونواظم العمل في مؤسّسات الدولة، الفساد المستشري والتدخّل في القرارات من قبل أجهزة السلطة والأجهزة الأمنيّة والقيادة السياسيّة. حاولت بما امتلكت من صبر وقوّة على التحدّي أن أترك بصمة ناصعة في مجال عملي الوظيفي، قاومتُ الفساد، حاولت التمسّك بقراري، كنتُ أجتهد في اقتراح بعض التعديلات للقوانين الصحيّة المتكلّسة، بعض منها وُضع في أربعينات وخمسينيّات القرن الماضي، ولم تقم الجهات المشرّعة بتعديلها، وتبيّن لي أنّني كنت أصارع طواحين الهواء.
لديّ خمس روايات منشورة، والسادسة قيد النشر، ولديّ رواية ربّما تحتاج وقفة أخيرة قبل إرسالها إلى الطباعة.
رواية الغالبيّة المقموعة في مواجهة الأقلية القامِعة المتوحّشة
«خانات الريح» هي آخر أعمالك الروائيّة التي كتبتها من رحم الآلام السوريّة، فما الشواغل التي اشتغلتِ عليها في نصك هذا؟ وأين تضعينها بالمقارنة مع رواياتك السابقة، وفي سياق مشروعك السردي؟
«خانات الريح»، وهي روايتي الخامسة، صدرت عن “الهيئة العامّة للكتاب“ في وزارة الثقافة المصرية في عام 2018، تنشغل، كمعظم رواياتي، بالهمّ السوريّ، خاصّة سنوات الانتفاضة ومآل الحراك الذي كان يرنو إلى أن يتكامل إلى ثورة، فحُرف وانزلقت البلاد إلى حرب أدّت إلى تهجير قسم كبير من الشعب السوريّ، قضيّتها الأساسيّة اللجوء، والفكرة التي تطرحها تدور حول وعي الذات ووعي الآخر، إن كان لجهة مكوّنات الشعب السوريّ بعضها تجاه بعضها الآخر، أو العلاقة مع الآخر، الأوروبي، من خلال تناول حياة ثلاث شخصيّات من شريحة الشباب ينحدرون من مناطق مختلفة من سورية، في بلد اللجوء ألمانيا. وهي واحدة من أعمالي التي يحضر الهمّ السوريّ فيها، واستمرار لما بدأت به منذ الرواية الأولى، هناك كثير من القضايا العامّة والفرديّة جديرة بالتوقّف عندها والكتابة عنها، ما أضافت «خانات الريح» كان من ضمن السياق الزمني، ونتيجة الحرب وما سبّبت من تفاقم المشكلات القائمة من قبل في المجتمع السوريّ، وما نجم عنها من دمار وتهجير، ومن استعار للهويّات المتناحرة تحت ضغط العنف الممارس من كلّ الأطراف، والخطاب والتجييش الطائفي، وإثارة الحساسيات القومية، بالإضافة إلى محاولة للانكشاف على الآخر ومحاولة فهمه في المقابل.
هل يمكننا القول إنّ رواياتك هي رواية الغالبيّة المقموعة المهمّشة التي تتّخذ من القاع الاجتماعي السوريّ مكانًا لها، أمام الأقلية القامِعة المتوحّشة الفاسدة من الانتهازيين والفاسدين؟ ومن بعد، لماذا أنت مقلّة في إصداراتك الروائيّة؟
كلّ أعمالي الروائيّة، ومقالاتي التي أكتبها لصحف عدة ومواقع ودوريّات سوريّة وعربيّة، إن كان لجهة الرأي أو في المجال الثقافي، تنشغل بحياة الناس المهمّشين والمقهورين والمقموعين، تنشغل بالقضايا التي لم يتم الاشتغال عليها من قِبل الجهات المعنيّة، وبقيت الأبواب التي تفتح عليها مواربة إن لم تكن مغلقة، قضيّة المرأة، الدين وسطوته على المجال العامّ، الانتماءات الضيّقة والطائفية البغيضة، الفساد بكلّ أشكاله، القمع، الفكر الشمولي، أنظمة التعليم، الأسرة، البيئة. هذه هي الهموم التي تملؤني وتدفعني إلى الكتابة عنها، ومحاولة تحريك الوعي العامّ والحض على تفتيت اليقينيّات. أمّا بالنسبة إلى كوني مقلّة في أعمالي، فأنا أكتب بحسب مزاج الكتابة وشروطها، وظرفي أيضًا، طامحة بأن يكون ما أكتب على المستوى اللائق بفنّ الرواية وبقيمة الكتابة، مقتنعة بأنّ القيمة في الكيف وليس في الكم، هذا لا يعني بالضرورة أنّ الأدباء غزيري الإنتاج جميعهم لا تتوفر القيمة في منجزهم، بل هنالك كتّاب رائعون، وأقلامهم سيّالة وسخية، ويقدّمون أعمالًا ذات قيمة بالمجمل، لكن في المقابل، هنالك كتّاب يحرصون على الكم من دون الاهتمام المطلوب بالقيمة الإبداعيّة. لدي خمس روايات منشورة، والسادسة قيد النشر، وهنالك رواية سابعة قيد المراجعة الأخيرة، أطمح بأن يكون ما أقدّم على مستوى القيمة المرجوّة من الأدب.
في خضم المأساة السوريّة المستمرّة منذ أكثر من عشر سنوات، أين تقفين ممّا حدث ويحدث في بلادك المنكوبة؟ وما تعليقك على ما آلت إليه أحوال سورية اليوم؟
أنا حزينة على ما آلت إليه الأمور في بلدي، وأظنّ أنّ كثيرين مثلي، فنحن خسرنا وطنًا قبل كلّ شيء، وخسرنا أحلامنا في غدٍ أفضل، في مستقبل لأبنائنا يليق بكرامتهم ويمنحهم حقّ العيش في دولة تحترم أبناءها، تقوم على أساس المواطنة من دون تمييز بينهم، دولة تمتلك مقوّمات البقاء والاستقرار والاستمرار. ما زلت أؤمن بحقّ الشعب في أن يُقرّر مصيره، وبأنّ حراكه كان نتيجة حتميّة لما عاناه فيما مضى من كلّ أشكال الطغيان، من الفساد، من التنمّر، من انتهاك الحقوق، ممّا لا يمكن إحصاؤه من الأسباب التي تبرّر اندلاع غضبه، لكن هذا لا يمنعني من أن أكون في موقف المراقب الراصد للتغيّرات والانحرافات التي وقعت، لا بدّ من إبقاء التجارب ماثلة في البال كي نرصد الأخطاء، ومن دون النقد الذاتي، لا يمكن بناء الغد. هذه ألمانيا مثال أمام أعيننا، وقف غالبيّة الشعب والنخب في جميع الميادين وقفة استدعت الأخطاء التي جرّت بلادهم إلى الكارثة، وهم اليوم يذكّرون الأجيال الجديدة بها، تحت عنوان كبير وموحٍ: “كي لا ننسى”.
ما وقع في المجتمع السوريّ خطير جدًا، لقد كشفت الحرب هشاشته وانحدار الوعي لديه، وكشفت عيوبه، علينا الاعتراف بأخطائنا، وعلينا التأسيس على مبادئ متينة وضامنة، لقد صار النضال أصعب في سبيل تحقيق ما أراد الشعب، الديمقراطية التي هي مطلب أساس صارت غاية أصعب من السابق بكثير، فإن كانت الانتفاضة وقعت في وجه نظام حكم استبدادي، فإنّ الاستبداد تخلّق بأشكال مختلفة في هذه الحرب، في كلّ المناطق السوريّة الخاضعة لسلطات الأمر الواقع الذي كرّسته الحرب هناك استبداد وقتل للديمقراطية وتسطيح للوعي، أو تأطيره وفق شريعة الجهة المسيطرة.
لا نعلم إن كنتِ تتفقين معنا بأنّ الثقافة عمومًا -وليست السياسة فحسب- مسؤولة جزئيًا عن هذا الخراب والدمار الذي لحقّ بسورية. برأيك، لماذا لم يواجه مثقّفونا هذا الخراب؟ وإن واجهوه فبخجل شديد؟
هذا موضوع شائك، وبداية علينا الاتفاق حول مفهوم المثقّف في هذه الحالة كي نستطيع تحديد موقفه ومهمّته بالنسبة إلى قضايا الشعب بشكلٍ عامّ، وبالنسبة إلى الثورة بشكلٍ خاصّ، وإذا كان المقصود بهذه الكلمة الأدباء والشعراء والفنّانين، فأنا أرى أنّ دورهم ليس التحريض وتأجيج الغضب، دورهم في تحريك الوعي وإثارة الأسئلة “الشكّاكة” لدى الجمهور المستهدف، تجاه النظام القائم بكلّ أشكاله، السياسي والاجتماعي. لا نستطيع أن ننكر أنّ عددًا كبيرًا من المثقّفين اشتغلوا وبإخلاص من أجل قضايا المجتمع، كتبوا في ظروف شديدة الصعوبة، إذ من طبيعة الأنظمة القمعية والشمولية أنّها تحاصر الفكر والثقافة عمومًا، لذلك كانت كتبهم تُلاحق مثلما يُلاحقون لمجرّد الرأي، فالموقف من قضايا الشعب هو موقف أخلاقي بالدرجة الأولى، وبما أنّ القضيّة السوريّة فائقة الإشكاليّة ومعقّدة بسبب التدخل الخارجي والانزياح نحو العسكرة والأسلمة، وسيطرة القوى الإسلامية الإقصائية بشكلٍ عامّ على الحراك، فإنّ موقف النخب المثقّفة كان إشكاليًّا أيضًا، وقد انقسموا إلى كتل شبه صلدة من ناحية الموقف المتطرّف، إن كان لجهة النظام أو لجهة المعارضة، من دون أن يترافق الموقف مع نظرة نقديّة، بالإضافة إلى الشريحة التي سُمّيت بالرمادية، وهذا أمر، بتصوّري، لعب دورًا سلبيًّا، خاصّة في عصر الميديا المتعدّدة، واعتلاء كثير من المثقّفين منابر عديدة من أجل تصدير خطاب سياسي ساهم في تجييش الرأي العامّ من قبل متابعيهم، لهذا الطرف أو ذاك.
برأيي، إنّ المثقّف الثوري الذي يخدم الثورة ويعمل على حماية أهداف الثورة، هو المثقّف الذي يقف على مسافة واحدة من النظام القائم، ومن الأطراف الثائرة عليه، يرصد الأخطاء وينظر نظرة نقديّة. وهذا ما افتقدناه في سورية في العقد الأخير إلى حدّ كبير، واليوم، بعد هذه السنوات الدامية والواقع المخزي الذي وصلت إليه البلاد، نجد أنّ هناك أصواتًا بدأت تعلو وتدعو إلى نقد التجربة والاعتراف بالأخطاء، وبدأت بشكلٍ خجول إشارات التلاقي بين بعض النخب الّذين كانوا يقفون على ضفتين متقابلتين، وهذا أمر جيّد.
المدوّنة الروائيّة السوريّة في سنوات الغضب
ما وظيفة الأدب الأولى، من منظوركِ؟ وهل تؤمنين بدور سياسي ومجتمعي للكتابة؟ ومن بعد، هل تستطيع الكتابة أن تؤثّر في هذه الفوضى، بأن تحوّلها من حال إلى حال؟
الأدباء والفنّانون عمومًا، الّذين يعملون في مجال الإبداع، يمكن أن يؤثّروا في الوجدان العامّ والوعي العامّ عن طريق الرقي بالذائقة الجمالية من جهة، وعن طريق إثارة الأسئلة النقديّة حول كلّ ما يتعلّق بحياة المجتمع وقضاياه وكلّ ما هو قائم. هذا الدور ينتج أثره مع الوقت، وليس آنيًّا، لكن مع هذا، وبالإحالة إلى السؤال التالي، يمكن القول إنّ المبدع لا يستطيع أن يتوقّف عن الإنتاج، عن الكتابة إن كان أديبًا، أو الشعر إن كان شاعرًا، أو عن إنتاج الفنّ بجميع أشكاله، لا بدّ من الإنتاج، وإن كان صدى الدمار والانهيار والمدافع يصمّ الآذان، هذا سيُسجّل إلى حينه، لا بدّ أن يتلقّف الناس هذا الإنتاج، المهمّ ألّا يُستقطب المبدع بشكلٍ خاصّ، والمثقّف بشكلٍ عامّ، سياسيًّا، وينعكس هذا على خطابه، له أن يقول رأيه كمواطن، لكن ليس كمثقّف أو مبدع. ما ينتظر المجتمعات بعد حروب طويلة ومدمّرة، كما يحصل في سورية، يحتاج إلى بناء مستدام في كلّ شيء، ليس في العمران فقط، بل في بناء الشخصيّة الفرديّة والمجتمع، والوعي، وهذا يحتاج إلى وقت من الضروري استثماره، ولذلك يُنتظر من الأدباء أن يواكبوا ويتابعوا ويستمرّوا في الكتابة.
هناك رأي مفاده أنّ “القول بضرورة التأني قبل الكتابة عن الشأن السوريّ، وانتظار اختمار الحالة الإبداعيّة، قد يبطن أيضًا موقفًا تطهّريًا يتطلّب انتظار تحديد هويّة المنتصر، للكتابة وفق النتيجة المضمونة”؛ فما رأيك؟
دائمًا هناك شواغل روائيّة، وإن كانت الحرب مستعرة، والتغيّرات مستمرّة على أرض الواقع، صحيح أنّ ضغط الراهن يرهق الكاتب، لكنّه من المفترض أنّه لا يكتب من أجل طرف أو لأجل التنبّؤ بمن سينتصر. خامات الكتابة تأتي من الحياة بشكلٍ عامّ، ممّا خبر الأديب وعاش من تجارب، ممّا يمور به الواقع أمام عينيه، لذلك لا يمكن للكتابة أن تأخذ وقتًا مستقطعًا، هي تأتي بوقتها وليس بقرار، الهزات الارتدادية للحرب الدائرة في سورية، وأيّ حرب تشبهها، يكون الشعب بمجتمعاته المختلفة هدفًا لها أو ميدانها، بدأت التغيّرات تظهر باكرًا، ربّما يمكن القول بدأ الانكشاف يحصل باكرًا، وتجلّت هشاشة المجتمع ومشكلاته القديمة المتجذّرة، وظهرت مظاهر أخرى تشير إلى التحوّلات في منظومات الحياة وقيمها مجتمعة، واقع كهذا فيه ما لا يُحصى من خامات الكتابة وشواغلها، هناك الفقر، الجوع، الأسرة، المرأة، الأخلاق، هناك تجارة الحرب، مصابو الحرب، المشرّدون، اللاجئون في المخيمات وفي الدول الأخرى البعيدة، العلاقات الاجتماعيّة، النكوص بالحياة بسبب الحرب إلى ما يشبه الاقتصاد المنزلي أو الحياة الفاقدة للمدنيّة، هناك الحساسيّة الطائفيّة والإثنيّة، هناك المشاعر والعواطف، كذلك مصير الجيل الشاب وخياراته في حياة كهذه، حتى قصص الحب أو الزواج أو الشراكة، كذلك التعبير عن الفرديّة، قضايا متوفّرة بكثرة تُعتبر زادًا للروائي كي يكتب عنها، هي صدى الحرب وبصماتها وندوبها فوق الأرواح الفرديّة والجمعيّة، لذلك كان هناك عدد هائل في العشريّة المنصرمة من الأعمال الأدبيّة، أكثرها الرواية، كتبها السوريّون في الداخل وفي بلدان اللجوء، بين كتّاب معروفين وآخرين ظهروا على الساحة مع سنوات الحرب، كتاب شباب وآخرون كبار في العمر، هذا مؤشّر يستحقّ الوقوف عنده على مدى تأثّر الأدباء السوريّين بالحرب وتأثيرها بهم.
في السياق، هناك سؤال يطرح نفسه: إلى أيّ مدى استطاعت اللغة الروائيّة وبنية الرواية أن تستوعب ما حدث في العقد السوريّ الدامي؟ وهل ترين أنّها كانت عاجزة أمام هول ما حدث؟
بالنظر إلى المدوّنة الروائيّة السوريّة في السنوات العشر المنصرمة، التي يُقال إنّها فاقت أربعمئة عملًا، فإنّ هذا الكم الكبير يتطلّب دراسة نقديّة دقيقة وصبورة، بالطبع لم أقرأ كلّ ما كُتب، إنّما يمكن القول من خلال ما قرأت، إنّ القليل من الأعمال يمكن اعتبارها أعمالًا لافتة مخلصة لفنّ الرواية كجنس أدبي، من ناحية الشواغل الروائيّة، نلاحظ انشغالًا لافتًا بالطائفيّة، والعسكرة، والعنف، والمرأة أيضًا، بعضها تأثّر بالواقع المشظّى فكانت نصوصًا مشظّاة أيضًا، بعضها كان توثيقيًّا، وقسم منها كان مثل كاميرا تجوب ميادين الحرب وتلتقط الصور، بينما الكاميرا الفعلية أدق في توثيق لحظات كهذه. من الباكر الحديث عن المدوّنة الروائيّة السوريّة في سنوات الغضب هذه، فهي ما زالت قيد التشكّل، العمل الجيّد المؤثّر سيبقى بينما هناك أعمال ستسقط في النسيان، وهنا لا بدّ من سؤال الحركة النقديّة في سورية ووضعها أمام مسؤوليّاتها، مع ملاحظة تدعو إلى الأسف، وهي أنّ الحركة النقديّة هي أيضًا لفحتها رياح الانقسام في سورية، فصرنا نرى اهتمام العديد من النقّاد ينصبّ على أعمال الأدباء الّذين يشبهونهم من حيث الموقف من الحراك، مع إهمال الأدباء في الضفة الأخرى، بينما يُفترض في النقد الموضوعية الكاملة، وتلقّف المنتج الأدبي من أين جاء.
بتقديرك، كيف يمكن للمثقّفين السوريّين أن يلمّوا شمل أبناء الشعب الواحد، بعد أن تحوّلت حياتهم إلى جحيم يبتلع الجميع، وأن يقدِّموا ما يُبلسم جراحهم؟
من المهمّ جدًّا مقاربة مفهوم الهويّة وكيفية تحقّقها من خلال الإضاءة على العثرات التي اعترضت حراك الشعب، والشروخ والانهيارات التي أحدثتها الحرب، خاصّة لناحية تكريس الهويّات والانتماءات الضيقة، وجسر الهوة بين أفراد الشعب بتقريب مفهوم الدولة الحديثة والمجتمع المدني والقانون والمؤسّسات ومعنى الاختلاف وقبول الآخر، وهنا للمثقّف دوران، دورٌ مواكب للأحداث يحتاج أكثر ما يحتاج إلى خطاب موجّه للعامّة بعيدًا عن الخطاب السياسي لصالح أيّ جهة كانت، بل عليه دائمًا أن يكون قريبًا من هموم الناس ومعاناتهم وجراحهم ومشاغلهم، وأن يناهض الظلم الواقع عليهم والعنف الممارس بحقّهم، وهذا يعتبر موقفًا أخلاقيًّا بالدرجة الأولى، يُنتظر من المثقّف أن يتبنّاه. أمّا الدور الثاني الذي يتطلّب التأسيس المتين والمفهومي، فهو من خلال كتبه ومنتجه الثقافي، إذ من المعروف أنّ هناك أدبًا وفنونًا عامّة تتشكّل بعد الحرب، في سورية الأمر ملتبس، فهناك ثورة مطلبيّة محقّة، لكنّها غُيّبت لصالح الحرب، ونجم عنها دمار كبير للدولة والمجتمع والمدن، وتشريد عدد كبير من أبناء الشعب، ما يمكنّنا من القول إنّ هناك ركامًا سينشأ أدب على أنقاضه، هذا الأدب مع الوقت يمكن أن يؤسّس لذاكرة أخرى بالاشتغال على رتق جراحات الحرب كلّها، فإذا بقيت جراح مفتوحة ونازفة فسيعني هذا أنّ الحرب لم تنتهِ، وأنّ لملمة الشمل ستكون مهمّة شاقّة، وإعادة النسيج المجتمعي إلى لحمته لن تكون بالشكلِ الذي يخدم المستقبل.
نعيش اليوم حالة من التشظّي المجتمعي القاتل
لماذا اختارت الطبيبة سوسن جميل حسن الرواية طريقًا لها؟ وكيف كان ذلك ومتى؟ وماذا كان أول نتاج أدبي لك؟ وكيف بدأت فكرته؟
الشغف بالأدب بشكلٍ أساسي، وبالروايات تحديدًا، كان عاملًا تحريضيًّا بالنسبة لي في خوض تجربة الرواية، التي، على ما يبدو، كانت تتشكّل وتختمر في زاوية معتمة في نفسي. اجتمعت عوامل عديدة راكمت في بالي كثيرًا من الأسئلة وكثيرًا من الرغبة في الحكي، ليس بمعناه التداولي بين الناس، إنّما الحكي في فضاءات أشكّلها في خيالي، بينما أعيش تجاربي الحياتيّة وهواجسي الشخصيّة، مرحلة الدراسة كان لها بصمتها، الزواج، الإنجاب، الظروف الأسريّة الخاصّة التي عشتها، وفاة والد طفليّ في سن مبكرة ومواجهة الحياة كأم عاملة مسؤولة بمفردها عن تربية ولدين في مجتمع يفتقد إلى التنظيم وتحكمه منظومة قيم شديدة التعقيد وظالمة للمرأة، وللطفل أيضًا، ثم تجربتي المهنية في مجال الطب الذي يفتح أبوابًا واسعة على النفس البشريّة، خاصّة لكون العلاقة بين المريض والطبيب في مجتمعاتنا تمتلك خصوصيّة تفتقدها المجتمعات المنظّمة المقوننة التي تديرها مؤسّسات. علاقة فيها حدّ كبير من الحميميّة والقرب، فالمريض يأتي إلى الطبيب ومعه كلّ مشاكله ومعاناته النفسيّة والبيتيّة والاجتماعيّة، يأتي وهو بحاجة إلى الشكوى وإلى من يستمع إليه، ليس لأجل المشكلة التي أتى من أجلها فقط، بل لمشاكله المتداخلة الضاغطة، وما أكثرها في مجتمعنا، فضلًا عن أنّ المهنة فسحت لي مجال التعرف إلى كلّ الشرائح المجتمعيّة، وإلى البيئات الفقيرة والمهمّشة التي تفاجئك كلّما غصت فيها أكثر بما هو أبعد من تصوّرك عن الحياة، وكيف أنّها بلا حدود في جورها وقسوتها.
من يقرأ رواياتي سوف يرى أنّ أيًّا منها يكاد لا يخلو من شخصيّة لديها حالة مَرَضيّة، إن كانت شخصيّة أساسيّة أم ثانويّة، في روايتي الأولى «حرير الظلام» كان بطلها أعمى، إذ كان يشغلني عالم العميان، كيف يعيشون بيننا، نحن المبصرين، وقد شكّلوا رموز وعيهم وأساليب حياتهم بمفردات غير مفرداتنا، وتجارب غير تجاربنا، رسمت الشخصيّة ومنحتها حياة مثلما تخيّلتها من خلال مرضاي، وبحيلة روائيّة منحته الإبصار بعد أربعين عامًا كان خلالها قد تشكّل كنحّات وعازف عود وصار لديه زوجة وأنجب، لكنّه حينما أبصر صُدم بعالم المبصرين، كان عليه أن يتعلّم مفرداتهم التي سبقوه فيها أربعين عامًا، فاضطربت روحه واضطرب إدراكه، وفقد نعمة عتمته، لم يعد قادرًا على إنتاج الألحان، ولم يعد قادرًا على إنجاز منحوتاته، فقد وتّر ظلمته فأنهى حياته بتحطيم منحوتاته ثم الانتحار.
ما الهدف الذي تسعين إليه من الكتابة الإبداعيّة، كتعبير عن الذات؟
بعد «حرير الظلام»، شعرت بالورطة، كانت بداية وعليّ الاستمرار، شعرت بالمسؤوليّة أمام ما يمكن تقديمه لاحقًا، وفي الوقت نفسه تمكّن منّي أكثر الشغف بالكتابة الروائيّة، مثلما لو أنّي اكتشفت مغارة حكايات في أعماقي، وانفتح بابها بقوّة دفع غامضة، فكتبت بعدها روايتي «ألف ليلة في ليلة»، ثم «النبّاشون»، ثم «قميص الليل»، تلتها «خانات الريح». كانت تتوضّح مع الكتابة الأسئلة المضمرة في بالي أكثر، لا أستطيع الفصل بين الذات والقضايا العامّة، فأنا امرأة في مجتمع ذكوري نالني كغيري من النساء من سلطة هذه الثقافة، بالرغم من أنّني كبرت في بيت يعدّ إلى حدّ كبير متحرّرًا على المستوى الاجتماعي، لدى أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، تهتمّ بالعلم وبالشأن الثقافي، كان والدي شاعرًا وأديبًا، ومع هذا عانيت العديد من القضايا التي تحاصر المرأة وتحشرها في إطارها النمطي المرسوم لها، وأعيش في دولة تقوم أنظمتها على التسلط والقمع والشمولية، لمستها منذ مراحلي التعليمية الأولى، وبدأت أفهمها في المراحل المتوسطة ثم الجامعيّة، ثم جاءت مرحلة العمل الذي من خلاله اطّلعت على النخر الذي يتغلغل في أجهزة الدولة، وعلى الفساد وتدخّل السلطة وأجهزتها الحزبيّة والأمنيّة في تفاصيل العمل من الصغيرة حتى الكبيرة في كلّ المؤسّسات، ومنها المؤسّسات الصحيّة، وهذا كان بمنزلة دافع آخر خلف قراري في الاستقالة من عملي الوظيفي قبل موعد نهاية خدمتي الفعلي بأكثر من خمس سنوات، في أواخر عام 2013، ساعد في إسراعي باتّخاذه الاستقطاب القاتل حول الموقف من حراك الشعب المطلبيّ المحقّ، فلم أعد أمتلك القدرة على الاستمرار في جوّ مشحون بالنفاق والخداع والتضليل والانتقام ممّن يمتلكون رأيًا مغايرًا أو مناهضًا للخطاب الرسمي، كذلك إنّ تجربتي الأسريّة التي لم تكن سهلة قادتني إلى المحاكم، بسبب قضايا تركة، وخلالها اطّلعت على فساد القضاء وأصابني منه ما أصابني، كلّ هذه الأمور كانت تتفاعل في داخلي وتلحّ عليّ كي أجهر بها، كي أخرجها إلى النور، فكان أن خرجت على شكلِ روايات.
ما الأشياء التي تجعلك تواصلين الكتابة والعمل، وسط كلّ هذه الأوضاع التي تدعو إلى اليأس؟
ربّما اللعب في مواجهة حياة سوريالية بشعة جارحة وصادمة، ربّما الخيال كتعويض عن واقع مجنون، ربّما الألم وقد بلغ حدًّا تنهار أمامه المناعة، وربّما شعور بمسؤولية في مكان ما معنيّة بها وعليّ تنكبّها. الكتابة بحث عن معانٍ، سرّها في عدم استسلامها بالكامل، معان مراوغة تجعلك بحالة بحث دائم وأسئلة متوهّجة ومحاولات لاهثة خلفها. في الواقع لا أعرف تمامًا لماذا أكتب، لكن الكتابة بالنسبة لي صارت أمرًا فوق الشروحات والتبريرات.
إلى أيّ درجة أنت معنية بتوثيق الذاكرة والحاضر والمأساة السوريّة؟ ولماذا باتت الكتابة عن سورية اليوم أكثر أهمية من قبل؟
أنا واحدة من بين مئات الآلاف، أو الملايين، الشهود على العصر، ليس في العشريّة الأخيرة، إنّما في المرحلة التي شكّلت مقدّمة لها، حيث كانت إرهاصات الغضب الشعبي بدأت تلوح، وهذا ما كان فضاء روايتي «النبّاشون» عامرًا به، وربّما أبكر قليلًا، لا أسعى إلى التوثيق، لكنّني أحاول أن أكون شاهدة فقط، ربّما يمكن للرواية أن تكون وثيقة مستقبلًا، لكنّني لا أوثّق، هناك من هو أمهر في التوثيق، خاصّة في عصرنا الحالي، سيكون للدارسين مستقبلًا حوض واسع من المستندات والوثائق والتقارير والمدوّنات والصور والأفلام والكتب البحثيّة، عمّا حصل في سورية، وفي المنطقة العربيّة والعالم، نحن في عصر الثورة الرقميّة، وهذا وحده مهمّ ومربك. أمّا الأدب فيعطي صورة عن الواقع بطرق مغايرة وأدوات مختلفة. في الرواية أقول قولي أنا، وليس قول غيري.
ما نظرتك، كإنسانة وطبيبة وكاتبة ومثقّفة سوريّة، إلى مسألة الهويّة بعد كلّ هذا التشظّي الذي شهدته سورية؟
الهويّة السوريّة قضيّة فائقة التعقيد والإشكاليّة، فنحن في سورية طالما افتقدنا إلى مفهوم الهويّة القادرة على منحنا إدراكنا ذواتنا وثقتنا بأنفسنا لنكون إيجابيّين وفعّالين وقادرين على بناء الوطن والاستمرار به، والدليل الدامغ تقدّمه لنا المرحلة الحاليّة، حالة التشظّي المجتمعي القاتل. لقد أظهرت هذه السنوات المدمّرة كم كان مجتمعنا يعاني من الضبابية والتضليل، وكم أنّ الانتماءات الضيّقة هي الأقوى وهي المتحكّمة في صنع الهويّات الأقوى، هويّة القبيلة والطائفة والمذهب، هوّية الجماعة، الهويّات التي نظّمت الحياة للجماعات بشكلٍ ينافي العيش في الدول الحديثة. أظهرت الحرب الحاليّة مدى جهل شرائح المجتمع وفئات الشعب ببعضها، دائمًا يحضرني السؤال: ماذا كان يعرف بعضنا عن بعض في سورية؟ لكلّ منطقة ثقافتها الموروثة وعاداتها وفنونها وفولكلورها وأعرافها، بينما يحاول النظام السياسي أن يفرض خيمته الشموليّة على الجميع، من دون أن يجعل من هذا التنوّع والاختلاف حالة حضاريّة منتجة ومزدهرة. لو تمعّنا فيما آلت إليه الأمور لوجدنا أنّه كانت هناك ثنائيّات هويّاتيّة متناحرة في حرب غير معلنة، حرب باردة، إن صحّ القول، بمباركة السلطة السياسيّة، كانت راسخة وفعّالة في سورية التي تدّعي أنظمتها العلمانيّة: هويّات دينيّة، طائفيّة، قوميّة، ريفيّة/ مدينيّة. ما الذي حصل؟ لقد لعبت الأطراف المتنازعة على هذا الوتر فكان بمثابة الحطب الكافي لاستمرار الحرب إلى اليوم.
صارت المهمّة أصعب اليوم، مهمّة بناء هويّة سوريّة وبناء وعي عامّ بها، لكن لا مكان لليأس، فإحدى صفات التاريخ هي الحركيّة، لا شيء يدوم على وضعه، الأمم والشعوب تصل في النهاية إلى أهدافها لكن الفواتير هي الخسارة الكبيرة وهي الثمن المدفوع، ولقد دفع الشعب السوريّ أكثر ممّا يحتمل.
ضرورة بناء أدب مناهض للحرب
كيف ترين من موقعك الآن وضعية المرأة السوريّة في اللحظة الراهنة؟ وهل استطاعت أن توصل صوتها ومعاناتها إلى العالم، من جراء المآسي التي تعيشها سورية خاصّة في العشريّة الأخيرة؟
دفعت المرأة السوريّة الثمن الأعظم، كانت فاتورتها باهظة في هذه الحرب، إن كان على الصعيد المعيشي، أم على صعيد كينونتها كإنسانة من حقّها أن تكون مثلما يليق بإنسانيّتها، لقد احتملت عبء الحرب الثقيل، فهي بداية، كما كتبت عنها في إحدى مقالاتي في جريدة “السفير”، أمّ الشهيد وبنت الشهيد وأخته وزوجته، وما أكثر الشهداء في هذه الحرب، فلكلّ جبهة شهداؤها، وكلّ فصيل مقاتل يعدّ نفسه صاحب قضيّة محقّة والموت في سبيلها شهادة، بينما في الواقع هناك خيارات فُرضت فرضًا، من دون أن تُسأل غالبيّة الشعب عن خيارها في ذلك. المرأة احتملت جور الحياة والحرمان في كلّ شيء، وأوكلت إليها تربية أبنائها وتأمين أسرها، المرأة عانت في بعض المناطق، وتعاني إلى اليوم، من هيمنة قوّة الأمر الواقع التي حشرتها في خانة الشرف والعرض العامّ، وما أكثر الجرائم التي تحصل كلّ يوم تحت هذا البند، المرأة خضعت للمساومة في بازارات رخيصة في أماكن اللجوء، بيعت وشُريت، المرأة دخلت المعتقلات وتعرضت للتعذيب وانتهاك كرامتها، ولم يُنصفها المجتمع لمّا خرجت في الوقت الذي كان عليه أن يرفعها إلى مرتبة البطولة إن لم تكن القداسة، حتى في الهيئات السياسيّة التي احتكرت تمثيل الشعب والمفاوضة باسمه، كانت المرأة موجودة بشكلٍ صوري، على الرغم من نيتها الجادة في أن تشارك في القرارات، لكنّها محاصرة ومقيّدة بإرادة السلطة الذكوريّة المهيمنة. المرأة في الداخل تعاني أيضًا، كفرد من مجتمع مقهور ومسحوق بغالبيّته، وما زالت حياته تمتهن حتى أوشكت الغالبيّة العظمى أن تدخل في غيبوبة الحرمان من كلّ شيء، وكجهة ضعيفة ومستضعفة وما زالت محاصرة بالصورة النمطيّة.
هناك محاولات جادة، إن كان لمنظّمات مجتمع مدني أو لأنشطة فرديّة أو لكتّاب وأدباء وفنّانين وسينمائيّين وإعلاميّين وغيرهم، حاولوا بجد وإخلاص التركيز على قضيّة المرأة السوريّة وإيصال حقيقة وضعها للرأي العامّ، لكنّها لم تحدث الأثر المرجو، ربّما لأنّ السياسة الدوليّة أقوى من أيّ جهود أخرى، السياسة التي ما زالت ترسم الخرائط في سورية والمنطقة، ولأنّ النظرة إليها والتعامل معها لم يتغيّر في الداخل تحت أيّ سلطة أمر واقع وجدت، بل هناك بعض المناطق التي تحتقر المرأة وتعاملها بدونيّة وقسوة وجور ممنهج ومشرعن اجتماعيًّا وشرعيًّا أو قانونيًّا.
أنت تعيشين منذ سنوات في ألمانيا، وهذا يدعونا لسؤالك: من معين تجربتك الشخصيّة، إلى أيّ مدى ابتعدت الكاتبة العربيّة عمومًا، والسوريّة على وجه الخصوص، في نتاجها الإبداعي الكتابي عن رؤية المستشرقين لها، أو لنقل هل استطاعت الخروج من إطار الصورة النمطيّة المتمثّلة بكونها ضحيّة ومستعبدة من قبل السلطة الذكوريّة؟
هناك العديد من الكاتبات السوريّات قدّمنّ نصوصًا جريئة وهادفة فيما يخصّ المرأة، هذا قبل الثورة أيضًا، حتى عندما كانت الروائيّة تنشغل في البيئة النمطيّة التي تحكمها ثقافة تحط من شأن المرأة وتقمعها وتؤطّر صورتها وفق أحكام العرف والدين والشريعة، وتحصرها بقالب جائر، فإنّها كانت تنتصر إلى المرأة بإبراز تخلّف وجهل وقسوة وظلم هذه البيئة للمرأة، هناك أديبات كنّ جريئات ومدافعات شرسات عن وضع المرأة اللاإنساني، فرسمن بطلات متمرّدات على واقعهنّ، انتصرن للإنسان في شخصيّات بطلاتهنّ، ودافعن عن حقوقهنّ، لن أدخل في لعبة الأسماء، لكن المدوّنة الروائيّة السوريّة تضمّ أعمالًا كثيرة ومتنوّعة، يمكن أن أحكي عن تجربتي الروائيّة، ففي كلّ رواياتي تحضر قضيّة المرأة، كفرد من المجتمع ومن المهمّشين، وكإنسانة لها خصوصيّتها وكينونتها وحقوقها. لم تعد المرأة في كثير من نصوص الروائيّات السوريّات، حتى العديد من الروائيّين، كنساء المسلسل التلفزيوني «باب الحارة» مثلًا.
كيف تقرئين راهن الرواية السوريّة في الداخل وفي الشتات، وما الذي يُميّزها عن تجارب لغات وبلدان أخرى على المستوى العالمي؟ ومن ثم، ألا ترين أنّ الكمّ الكبير من الآداب السوريّة المنشورة في المنافي الجديدة هو على حساب الكيف؟
من حقّ الجميع أن يجرّب، والرواية تحديدًا غاوية وصارت مجالًا يرتاده كثيرون، صحيح هناك كمّ كبير من الأعمال التي تُطرح سنويًّا، فالأزمة السوريّة ليست بسيطة، ولقد تركت وشومًا على الأرواح، لكلّ منطقة من سورية معاناتها، ولكلّ شريحة من الشعب معاناته، ولكلّ بيت حكايته، هذه طبيعة الحرب الدائرة وخصوصيّتها، أو لنقل هويّتها، حرب أضرمت النيران من الجمرات المطمورة تحت رماد أيّام السوريّين والسوريّات، وما أكثرها، فكان أن لهيبها ما زال يحرق، وجروحها ما زالت مفتوحة، وكلّ إنسان له حكايته، ولديه ما يقول بناءً على رجع الحرب في نفسه، ولا ننسى أنّ هناك روايات سوريّي الداخل، وروايات السوريّين في بلدان اللجوء، هناك روايات تنظر إلى الحالة السوريّة من منطلق المؤامرة بشكلٍ أساسي، وأخرى من زاوية إجرام النظام فقط، ما زالت الانفعاليّة والعواطف التي سبقت التفكّر والوعي في ما جرى في سورية هي النوازع التي تتسلّل إلى الكتابة إلى حدّ ما، لدى بعض الكتّاب والكاتبات، لكن في النهاية، لن يبقى غير القادر على البقاء، ليست كلّ الأعمال المطروحة هي على مستوى الانتماء إلى هذا الجنس الأدبي، ومنها ما لا يمتلك جماليّاته ومعاييره الفنيّة.
هذا الكمّ الكبير من النصوص يحتاج إلى تنشيط الحركة النقديّة، لكن هذه الحركة غير نشطة في سورية كما يجب وكما يُنتظر منها بعد أن أصبح أمامها مدوّنة كبيرة يمكن تسميتها بروايات الثورة أو الحرب أو الأزمة أو لنسمّها ما شئنا، كلّ الأوصاف تناسب هذا الوضع الكارثي في سورية.
كيف تقيّمين المؤسّسات والهيئات والروابط الأدبيّة والثقافيّة المنبثقة عن الثورة السوريّة؟ وبرأيك، ما الذي قدّمته للأدب والأدباء؟ وأين يكمن التقصير أو الخلل؟
لا يمكن تجاهل واقع سورية المقسم نتيجة الحرب، الذي نجم عنه في كلّ منطقة سلطة ثقافيّة يسمّيها فوكو “السلطة الحيويّة”، وهي تملك سطوة كبيرة باعتبارها حصيلة عمل الآليّات والمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة والجامعات والمدارس والجوامع والمختبرات والمشافي وغيرها من المنابر والهيئات أو المؤسّسات التي تكوّن من خلالها الفئاتُ المهيمنة الرأيَ العامّ، وتصنع بواسطتها الحقيقة للمجتمع، تكمن خطورتها في نموّها وتغلغلها المخاتل وامتلاكها المجال العامّ، وهذا الواقع يمكن اعتباره نموذجًا أيضًا على ما كانت عليه سورية قبل الحرب في ظلّ حكم شمولي، هذا التقسيم، وهذه السلطات الحيويّة نمت وكبرت وتمادت بمعزل كلّ واحدة عن الأخرى فعمّقت الشروخ والانقسام، بينما كان من المفترض للنخب الثقافيّة بالدرجة الأولى أن تمدّ أيديها تجاه بعضها بعضًا، وهذا ما لم يحصل، إذ حتى فترة قريبة كانت المعارك تشتعل بين النخب المحسوبة على المعارضة وتلك المحسوبة على الموالاة، حتى في مواقع التواصل الاجتماعي كان الانقسام والشلليّة جليّين. برزت مجموعات ثقافيّة أو هيئات موازية لما كان قبل الثورة، منها ما تلاشى وكأنّه لم يكن، ومنها ما هو قائم لكنه يعاني مشكلات كثيرة، كرابطة الكتّاب السوريّين، وهي في انطلاقتها الجديدة بعد التعثر والمشكلات التي واجهتها، تبدو اليوم وكأنّها تتجاوز عثراتها، وهذا أمر إيجابي.
في أوروبا التي شهدت حربين عالميّتين مدمّرتين في القرن الماضي، وقبلها كانت قد عاشت حروبًا أخرى أيضًا، خرج على العالم كتّاب ومبدعون يعلنون موقفهم من الحرب وينتصرون للإنسانيّة ويناهضون أداء حكومات بلدانهم وخوضها حروبًا مدمّرة، رافضين البقاء خُرسًا وسط هذا الدمار وانتهاك إنسانيّة البشريّة، وهذا أمر مطلوب من الأدباء والمبدعين، فإذا كان الناس العاديّون لا يملكون خيارًا إلّا أن يُذعنوا لما تقول السلطات الحاكمة وتفرضه، وأن يبقوا ضحايا للسياسات المضلّلة، فإنّه ليس مقبولًا من الأدباء أن يُحكموا بهذه الشروط. يقول ستيفان تسفايغ في كتابه المؤثّر «عالم الأمس»: “إذا استطاعت شهادتنا أن تنقل إلى الجيل التالي ذرة من الحقيقة عن هذا البنيان المتفسّخ، فإنّ عملنا لن يذهب سدى”. هذا القول لا يعبّر عن موقف سياسي، إنّما هو موقف أخلاقي.
لو اجتمعت النخب الثقافيّة للسوريّين والسوريّات، واشتغلت على المشتركات، وهي كثيرة، بعيدًا عن السياسة، وأوّلها الاجتماع على ضرورة بناء أدب مناهض للحرب، ربّما لكان لديها مشروع متكامل يلحظ المجتمع السوريّ والانهيارات القيميّة والمعرفيّة التي وقعت فيه، ويؤسّس لما يمكن تسميته الهويّة الجديدة، ونشر مفاهيم عن العدالة الانتقالية والتسامح والتراحم والعيش المشترك وغيرها ممّا يلزم بناء حياة جديدة في وطن يستوعب السوريّين بعد أن تندمل جراحاتهم.
أخيرًا، ما المشروع الكتابي الذي تعملين عليه حاليًا، وهل نتوقع رواية مستوحاة من عوالم العام 2020 الذي شهد تفشي وباء كورونا المستجد في أنحاء العالم؟
لقد هزّ هذا الوباء، “كوفيد -19” العالم، شعوبًا وأنظمة وأفرادًا، زعزع النظام الاقتصادي والاجتماعي، وتدخّل بالسياسات أيضًا، وما زال يتخلّق بطرق متنوّعة إلى الآن، بل زعزع اليقينيّات وحطم جزءًا كبيرًا منها، ودفع البشريّة إلى تأمّل واقعها من جديد، مثلما دفع الأفراد أيضًا إلى وقفة تأمّل ومراجعة مفاهيمهم وأساليب عيشهم واهتماماتهم وطرق تفكيرهم، ودفعهم إلى طرح أسئلة الوجود من جديد، لا أظنّ أنّ أحدنا لم يتأثّر بطريقة أو بأخرى بهذا الوباء الذي يكتسح العالم، ولقد بدأت الأقلام في كتابة عصر الوباء. بالنسبة إلي، لم أقرّر بعد أسأكتب رواية على علاقة به أم لا، لكن روايتي الأخيرة «اسمي زيزفون»، التي أنجزتها في نهاية العام 2020، عام الوباء بامتياز، وقد كتبتها بدعم من وزارة الثقافة في برلين (وهي في طريقها إلى النشر) حيث انتهت الرواية بالوباء الناجم عن كورونا، والإغلاق الذي استباح العالم، وتوقّف الرحلات الجويّة وإقفال الحدود، فصار السفر حلمًا لأيّ سوريّ أو سوريّة يريدان الهروب من جحيم بلادهما.
مركز حرمون