كيف يمكن للأدب أن يغيّر حياتنا؟/ إدريس الخضراوي
لا شكّ في أنّ التفكير النظري في الأدب وعلاقته بالإنسان والعالم يستندُ إلى تقليد فلسفي يمتد إلى البدايات الأولى للتنظير للأدب في إطار نظرية المحاكاة عندما تساءل أفلاطون، وهو الذي كتب عن الشعر مطولًا في العديد من محاوراته، عن الدور الذي يَنهضُ به الشعراء، فأنكر عليهم أن يكونوا يتحدثون باسم حكمة ما أو تحمل نغمة حديثهم الإقناع في طياتها، وهكذا طالب بطردهم خارج مدينته الفاضلة. ومنذ القدم كان وعد الأدب ولا يزال هو التعبير عن الحياة، من خلال ما يُتيحُ للقراء من منافذ إلى مسارات جديدة للتعرف على تجاربهم وحيواتهم من منظورات لم يسبق أن اختبروها من قبل، لكنّها تَتعيّنُ بالنسبة لهم بمثابة المرآة التي تَنعكسُ عليها أحلامهم ومشاعرهم المختلفة. ورغم أن المكانة والوظيفة التي يَنهضُ بها الأدب فيما يخصّ إعطاء الحياة محتواها الصلب بديهية، فإن الأدب – هذه الكلمة التي من فرط التبدّلات التي تطاولها، وكثيرًا ما شدّد رولان بارت على مسيس الحاجة إلى كتابة تاريخها- لم يكف، مع ذلك، عن أن يوضع موضع المساءلة والتفكير والتأمل والشكّ في دوره، بل وحتى في وجوده. ولربّما لهذا السبب استنتج محمد برادة أن “علاقة الأدب بالبوطيقا، منذ القديم، هي باستمرار علاقة هروب وانفلات تجعل الأدب حريصًا على الزّوغان من قبضة النظريات والتنظيرات الإستتيقية والبوطيقية والبلاغية التي تحاول إخضاع النّسغ النّابض، والدّفق الوجداني المنطلق لمقتضيات المفاهيم والمصطلحات المنشغلة باختزال النصوص الإبداعية في جملة أشكال ومقولات معقلنة”. إذًا، في كلّ عصر يتجدّد السؤال ليس فقط عن طبيعة الأدب ومبادئه ومقوماته الجمالية، وإنما أيضًا عن الموقع الذي يشغله قياسًا إلى الخطابات وأشكال المعرفة الأخرى، وعن دوره بالنسبة للفرد والمجتمع.
في هذا الإطار يندرج العدد الجديد الخاص (يوليو/ تموز 2021) من المجلة الفرنسية “علوم إنسانية” Sciences Humaines الذي تكرس لموضوع أساس: كيف يمكن للأدب أن يغيّر حياتنا؟
تضمن العدد مجموعة من المقالات الأساسية التي اهتم أصحابها بالإضاءة على جوانب مختلفة من جدوى الأدب وتأثيره على فئات واسعة من القراء: الأطفال والشباب والنساء والكهول، بالإضافة إلى مقتطفات من أعمال أدبية لكتاب من طراز جيمس ماثيو باري، روبير موزيل، كزافييه دوماستر، مارسيل بروست، ميشيل هوليبيك، دانييل ديفو، خوسيه ماريا دي إريديا، أونوريه دو بلزاك، جون فيليب توسان، فيليب كوريف، إميل زولا، وراي برادبوري. ونصوص نظرية لنقاد اهتموا بالتفكير في الأدب ووضعه الاعتباري، مثل تزفيتان تودوروف، جان ماري شايفر، أمبرتو إيكو، كريستين لوروا، فريديريك ليشتر فلاك، دوريت كوهن، جون فرانسوا دورتييه. كما تَضمنَ العدد حوارين ينطويان على نظرات عميقة وثاقبة مع كل من أنطون كومبانيون، أستاذ كرسي الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر في الكوليج دي فرانس، وزميله بنفس المؤسسة، المقارني ويليام ماركس، أستاذ كرسي الأدب المقارن.
ومن بين المقالات التي نقرأها في هذا العدد: “لماذا نقرأ الروايات؟” لهلويز ليريتي، “عندما تهتز الشخصيات في داخلنا” لفانسون جوف، “هاري بوتر ضدّ الطفل الملك” لإيزابيل كاني، “لماذا يحتاج الأطفال إلى القصص؟” لميشيل بيتي، “بم يفكّر أدب الشباب؟” لإدوين شيروتي، “هل يجعلنا الأدب في وضع أفضل؟” لكاترين هالبيت، “روايات الحياة الداخلية” لجون فرانسوا دورتييه، “الأدب أقوى من علم الأعصاب” لمارك تادييه، “طقوس الروائيين” لسارة شيش، “الأدب كأسلوب حياة” لهولويز ليريتي، “الأدب علاج لآلامنا” لريجين دوتامبيل، “الرواية تعكس المجتمع” لجون لوي فابياني، “مختبر لعلماء الاجتماع” لآن باريير ودانيلو مارتيكيلو، “الرواية البوليسية هل تعكس هشاشة المجتمع الأميركي؟”، “ما يفهمه الأدب من التاريخ” لباتريك بوشرون، “التخييل والتاريخ” لجون بول دومول، و”هل يستطيع الكتاب تغيير العالم؟” لألكسندر جيفين.
كتبت رئيسة التحرير، هلويز ليريتي، في افتتاحية العدد بعنوان: هيا بنا على متن القطار! بأن الوعد الذي يقدّمه الأدب يبدو متضمنًا في عنوان رواية: “حياة أخرى غير حياتي” للروائي إيمانويل كارير، إذ “يكفي أن يشرع المرء في قراءة صفحات من الرواية، حتى يجد نفسه على متن قطار آخر غير قطار وجوده الخاص، يستثمر في أدوار أخرى، ويستكشف مناطق عديدة، ويستوعب لغات وأفكارًا وأنماط حياة أخرى”. فالأدب، بحسبها، يتميز بالقدرة على تغيير وجهتنا، فهو يجمع بين القدرة على تقديم الحقيقة الموضوعية وقوة الإحساس. كما أنه يحمل الإنسان إلى عوالم جديدة حيث يمكنه أن يحلم ويفكّر ويتألم. وهذا ما يعطيه موقعًا رفيعًا قياسًا إلى الخطابات الأخرى، ذلك أن قدرة المبدع على المغامرة من خلال الكتابة بالغوص في الدهاليز العميقة، والمناطق الداجية التي لم يسبق اكتشافها في مسعى للإضاءة على مجهولات الذات والمجتمع، كل ذلك معناه أن الأدب يعلمنا أكثر من العلوم الإنسانية. ما من جنس أدبي، سواء أتعلق الأمر بالشعر أو الرواية أو القصة أو الفنون الأخرى، إلا وينطوي على إمكانات لا حدود لها لاستكشاف الأسئلة الوجودية والأحداث التاريخية، والتوترات اللاتنتهي التي تسم علاقة الإنسان/ الفرد بالعالم الذي يعيش فيه، مما يقدّم أوفى دليل على أن الدور الذي يضطلع به الأدب اليوم في اهتمامه بالواقعي يتجاوز مجرد التأثير في حياة الأفراد والجماعات إلى القيام بوظيفة استقصائية (فلورون كوست) مثله في ذلك مثل العلوم الأخرى كالأنثربولوجيا والإثنولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ، وأيضًا التدخّل من أجل ترميم العالم بعد الشروخ والتصدعات التي ما فتئت تصيبه (ألكسندر جيفين).
من الصعب في هذه المقالة المحدودة الإحاطة بكل الموادّ التي تضمنها هذا العدد من “علوم إنسانية”، والتي تتقاطع في التأكيد على المكانة التي بات الأدب يحتلها ليس فقط في السياق الفرنسي، وإنما في سياق عالمي معولم منذ العقود الثلاثة الأخيرة تشهد فيه مناحي الحياة في مجتمعات العالم تحولات متسارعة بفعل العولمة والثورة التكنولوجية الحديثة، إلى حدّ لا تتعرّض فيه هذه المجتمعات إلى أشكال مختلفة من الخلل والإخفاق والتفكك وحسب، بل تتعرض فيه القيم التي راكمتها الإنسانية في رحلتها بحثًا عن الحرية والكرامة والعيش المشترك إلى اختبار صعب على نحو يبدو فيه مستقبل البشرية أمام المجهول. ومن المؤكد أن هذه الوضعية التي يعمّ فيها القلق سائر المجتمعات، تضع عمل المثقفين والكتاب أمام أسئلة حاسمة تعيد إلى صدارة الاهتمام الدور الذي يتعين الاضطلاع به لترميم العالم وإصلاح أعطابه. إذًا، من أجل الاقتراب من هذا الموضوع الحاسم الذي يبدو معه الآن أن المهمة الحقيقية والجوهرية للأدب هي تخطي هذه المشكلة والسعي إلى النفاذ بشجاعة إلى مجهولاتها، سوف نركز في هذه المتابعة على المحاور التالية:
في الحاجة إلى الأدب
رغم أن الأدب لا يزعم أنه يقدّم الحقيقة أو الموضوعية، فإن الإقبال على قراءة الأعمال الأدبية، وهي عملية تقتضي بذل الجهد بما في ذلك الوقت المخصص للقراءة، تعدّ من البديهيات، لكن مع ذلك تتناسل الأسئلة التي تظل بحاجة إلى الأجوبة التي من شأنها فكّ اللغزية التي يتدثّر بها العمل الفني منذ رحلته من المؤلف إلى القارئ/ القراء. ومن بين تلك الأسئلة؛ السؤال المتعلق بذلك الشيء الذي يغري بقراءة الأعمال الأدبية والبحث فيها، بحيث لا توفره الكتابات ذات الطبيعة النظرية أو التطبيقية. للتفكير في هذا السؤال، تتخذ الكاتبة هلويز ليريتي من الرواية مثالا لفهم الدوافع التي تقف خلف اهتمام القراء بمطالعة الروايات. وفي هذا السياق، تلاحظ ليريتي أن هذا الجنس الأدبي يستوعب اليوم مجموعة من الأجناس الفرعية من قبيل روايات الأطروحة، وروايات الواقعية، والرواية البوليسية والرواية المسلسلة والرواية النسائية وروايات الأطفال وهناك كتابات أخرى تندرج ضمن هذا النوع، ما يعني أن الرواية جنس متعدد، وفي تحول دائم. و”مهما كانت المعرفة التي تنقلها والطموحات النظرية التي قد تكون خاصة بها، فإن الرواية لا تكشف الحقائق، ولا تستكشف المفاهيم، ولا تستنتج الأفكار”. هذا سبب أساس قد يفسّر الاقبال على قراءتها قياسًا إلى الخطابات الأخرى، لكنه لا يختزل المسألة كلها، إذ هناك هذا الوعي الذي يتنامي بسرعة بين العديد من الدارسين في حقول مختلفة حول قدرة الأدب وهو يركب الأحداث وفق منظومة معينة على إنتاج المعرفة. لقد نبّه تودوروف إلى أن “الأدب هو أقدم العلوم الإنسانية”، وثمة مؤرخون يتقصون في الأعمال الأدبية “حقائق تاريخية”، حتى العلوم المعرفية يبدو أن لديها ما تقول عن الاهتمام بالأدب، مما يرسّخ خطوط التماس والتقاطع بين الأدباء والمؤرخين وعلماء الاجتماع. وهنا تتساءل الباحثة عن طبيعة المعرفة التي ينطوي عليها الأدب؟ ما الذي يميزها عن المعرفة التي تقدّمها الخطابات الأخرى؟
تتعدّد الأفكار والتصورات التي يقدّمها المنظرون في مسعى لتحديد طبيعة المعرفة التي ينتجها الأدب، تلك المعرفة التي تتسع وتتنوع لتشمل العلائق الاجتماعية والعوالم التاريخية والنفس البشرية، بشكل تنتفي معه ضروب التنافر والتقاطب بين الأدب وباقي فروع العلوم الإنسانية، لكنّ مع ذلك يظل محتوى المعرفة التي يسربها الأدب عبر مسالك التخييل واللغة والفضاءات والشخصيات والأزمنة والأمكنة ذا خصوصية معينة، وهذا ما يقتضي من النقد بلورة افتراضات خاصّة للتفكير في هذه المعرفة بشكل يجنبه الوقوع في الاجتزاء والاختزالية. إن اختزال العمل الذي أنجزه جرجي زيدان في مجرّد الإسهام في تقديم المعرفة التاريخية للقراء في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يعني تجنب الخوض في التفكير في أسئلة مهمة تتعلق بالدوافع التي كانت وما تزال تدفع القراء من الشبان والشابات إلى الاقبال على قراءة رواياته التاريخية. وينطبق هذا الحكم على كثير من الكتاب الذين تتعيّن أعمالهم بوصفها ملتقى العديد من المعارف التي يتعذر الإمساك بها خارج دائرة الأدب، وربما لهذا السبب كتب الباحثان آن كاريير ودانيلو مارتيكيلو كتابهما: “الرواية بوصفها مختبرًا”، حيث دافعا عن فرضية مفادها أن هذا الجنس الأدبي يقدّم مادة عظيمة لحفز خيال علماء الاجتماع.
الأدب والتاريخ
تُظهرُ الدراسات والأبحاث حول التاريخ والسرد وعيًا جديدًا بتلك المنطقة المشتركة حيث يتواجد الأدب والتاريخ جنبًا إلى جنب، بشكل يختلف جذريًا عن الأحكام والتصورات التي أطرت العلاقة بينهما منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حينما اتجهت العلوم نحو التشديد على مبدأ الاستقلالية بتعيين الحدود الفاصلة بينها، واستعرت النظرة المناهضة للأدب. تُذكّرُ نظريات السرد التاريخي المؤرخين بأن التعارض بين الأدب والتاريخ الذي تأسس على فكرة مفادها أنهما مجالان لا يختلف أحدهما عن الآخر في المفهوم والوظيفة وحسب، وإنما يرتقي التنافر بينهما إلى حدّ التضاد، هو مجرد خدعة. إن أي تفكير في التاريخ على أساس أنه بحث، وفي المؤرخ باعتباره باحثًا، سيقود بالضرورة إلى تلمس تلك الحقيقة التي مفادها أن الأدب والتاريخ يسعيان معا إلى تشكيل صورة لواقع مخلوق عبر الكلمات. هذا ما يتجلى من كتابات مؤرخين من طراز بول فاين، أو بول ريكور أو هايدن وايت، أو من أعمال إيفان جابلونكا… كلهم ينبهون المؤرخين إلى أنهم، إذ ينشئون حبكات عن الماضي، فإنهم لم يفعلوا شيئًا آخر سوى الكتابة. في هذا السياق، يرى المؤرخ باتريك بوشرون أن الكثير من الأحكام السابقة التي كانت تفصل الأدب عن التاريخ، تتعرّض لضروب من المساءلة والتفكيك سواء من منظور الإبداع الأدبي أو من منظور مؤرخين، مما يقود إلى طرح السؤال التالي: كيف يكون الأدب حاملًا لمعرفة تاريخية؟
لا شكّ في أن الإجابة عن هذا السّؤال من منظور يأخذ بشكل جدّي المعرفة التاريخية التي يتضمنها الأدب باعتباره مصدرًا أو وثيقة، تقتضي من المؤرخ أن يستجوب تاريخية الأدب حتى لا ينخدع بما يقدّم على أساس أنه أدب، لأن مفهوم الأدب مفهوم غير ثابت تتحكم في ترسيخه المؤسسة الأدبية، وهو مفهوم حديث يعود إلى القرن السابع عشر وهي المرحلة التي تشكل فيها أيضًا الوضع الاعتباري للكاتب. من هنا، فإن أخذ المعرفة التاريخية التي يحملها الأدب بجدية تامة، يقتضي تحويل التاريخ الأدبي القديم إلى تاريخ مادي لممارسات القراءة والكتابة، التي يُنظر إليها على أنها التزامات، محددة سياسيًا، في مجال اجتماعي. يقول بوشرون: “إذا نظرنا إلى الأدب ليس فقط كمصدر وإنما أيضًا كمورد لمعرفة واعية بالماضي، فإنه يصبح موضوعًا مشتركًا، وهو أمر يهم جميع المؤرخين. أولئك الذين يهتمون بالمجتمع البرجوازي في القرن التاسع، لن يتتبعوا فقط في أعمال أونوريه دو بلزاك بعض تأثيرات الواقع التي تهدف إلى توضيح هدف عام معروف في مكان آخر؛ بل سوف يبحثون فيها عن الفئات الاجتماعية والتمثيلات الجماعية المعلنة أو المضمرة التي تحدّد مفهومهم التاريخي”. بهذا المعنى يتلمّس بوشرون الفعالية التي ينطوي عليها الأدب، والتي تجعل منه موضوعًا مهمًا بالنسبة للمؤرخين وعلماء الاجتماع. فإذا كان من المؤكد أن الأدب، اعتمادًا على أدواته ووسائله الفنية الخاصّة، يستطيع أن يغير العالم فيما هو يدّعي وصفه، فإن هذه الوظيفة التي ينهض بها ليست بديلًا عن التاريخ أو علم الاجتماع. وإذا كان الكتاب يعبرون في مرحلة ما عن الحاجة الماسة لتعرية الواقع الاجتماعي، والكشف عما يجري فيه، فإن هذا العمل لا يمكن تقديره إلا من خلال الوعي بمقتضيات الكتابة بوصفها عملًا فنيًا. وهذا ما يضاعف من مسؤولية المؤرخ في التعامل مع بعض الأعمال الأدبية، كالشهادة على سبيل المثال، التي تتعين قيمتها بوصفها كامنة لا فقط في الوقائع التي تتضمنها، وإنما أيضًا في الأسلوب الذي كتبت به، وبالتالي فالتعامل معها على أساس الأحداث أو الوقائع يؤدي إلى السقوط في الاختزال. إن الأدب كلما تم التأكيد على طبيعته التخييلية، كلما كان أقدر على إنتاج معرفة تاريخية. ذلك هو المعنى الأساس الذي يستمدّه التاريخ من الأدب، أي التعبير عن نسيج الزمن، وعن رجّات الذاكرة. هكذا يستنتج بوشرون أن التاريخ ممارسة وكتابة. وعندما يوازن بين هذه وتلك، يستطيع أن ينتج خطاب حقيقة. وبما أن التاريخ ممارسة وكتابة، فإنه لا يمكن تشكيله إلا من خلال الأدب.
ترميم العالم
مع التمدّد السريع للعولمة ومنطقها النفعي، وانتشار التقنيات الرقمية وتأثيرها الواسع في كل مجالات الحياة إلى الحدّ الذي يبدو معه أن البشرية تعيش عصرًا جديدًا هو العصر الرقمي، بالإضافة إلى توسع الليبرالية الاقتصادية وما ترتب على ذلك من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتزايد أعداد المهمّشين عبر العالم ممن هم في حاجة إلى من يتكلم باسمهم، وتراجع القيم الأخلاقية الموجهة التي راكمتها البشرية في رحلتها من أجل العيش المشترك، يتخذ مفهوم “الالتزام” اليوم في الكتابة الأدبية أهمية خاصّة، كما يتزايد الاقتناع بين الكتاب والأدباء بأن ما تعيشه المجتمعات من تحولات متسارعة، يرتب عليهم مسؤوليات أساسية من قبيل النهوض بدور ما لإنقاذ العالم من الشرخ الذي أصابه. فهل يستطيع الأدب بالفعل ترميم العالم؟
يعدّ الناقد الأدبي ألكسندر جيفين أحد أبرز المدافعين عن هذه الفكرة، أي إسهام الأدب في ترميم العالم. وقد كرس لهذا الموضوع كتابا مثيرًا للاهتمام بعنوان: Réparer le monde صدر سنة 2017. وما يعطي المشروعية لهذا الدور الذي بات ينهض به الأدب، يرتدّ بحسب جيفين إلى مجموعة من المظاهر التي برزت في السنين الأخيرة، وأكدت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأدب يلج مجالًا حيويًا بالنسبة للإنسان، ألا وهو مجال الإسهام في الإجابة عن الغرابة المقلقة التي تستبد به في سياق يمكن وصفه بأنه سياق أزمة. ومن بين تلك المظاهر تعدّد الأنشطة التي تشدد على دور القراءة والكتابة والفن في إعطاء معنى لحياة الإنسان، وحفزه على أن يعيشها بشكل أفضل. العديد من الكتاب عبر العالم ينخرطون في هذا المشروع الفكري الذي ينفتح على الحياة والقيم، ويتعيّن فيه الأدب بوصفه المرآة العاكسة للعلائق الاجتماعية والثقافية والسياسية حيث الإنسان الفاعل الأساس في الحدث والضحية في الوقت نفسه. وبما أنّ الأدب يشكل لهؤلاء أحد أهم المفاتيح للتغلب على معضلات العالم المعاصر، فإنهم لا يترددون في مرادفته بالتغيير والترميم وإعادة البناء، وهم بذلك يتمرّدون على الخط الذي اتخذه الأدب مع الكتاب الطليعيين منذ بداية القرن العشرين والذي بدا معه أن لا غائية للأدب سوى نفسه، مستفيدين أيضًا من بدايات التخلص من كثير من التصورات الاختزالية في الأدب واللغة والتاريخ، بشكل يعلن عن فكرة جديدة لمعنى وضرورة الأدب بالنسبة للإنسان.
إن اهتمام المبدعين والكتاب بترسيخ الأدب في السياسي والتاريخي، والالتصاق بأسئلة الحضارة المعاصرة، يؤكدّ بالملموس هذا التحول. و”بينما كان الأدب يعتبر في السابق هواية غير ضرورية؛ يُنظر إلى الكتاب اليوم على أنهم فاعلون أساسيون في حياتنا”. ويضيف جيفين أن اتجاه الأدب إلى ترسيخ وظيفته بوصفه مفيدًا للإنسان الفرد والمجتمع في هذا العصر الذي يُوصفُ طباقيًا بأنه عصر المتعة والكآبة، يعدّ أمرا طبيعيًا، لأن الأدب في العصور المختلفة كثيرًا ما لبّى حاجات متعددة. وإذا كان العصر الكلاسيكي قد جعل من الآداب الجميلة الشكل الأرقى للتربية والتعليم، وعلى غرار الفلسفة الأسمى، جعلت الروح الرومانسية الأدب شكلًا ساميًا ومنفصلًا ومتفوقًا من المتعة، فمن الحكمة أن يكون دور الأدب مؤثرًا في حياتنا الفردية والجماعية، وليس هذا فقط لأن “الأدب هو أقدم العلوم الإنسانية ولقرون طويلة كان أيضًا الوحيد؛ هدفه هو السلوك البشري والدوافع النفسية والتفاعلات بين الناس. ولا يزال مصدرًا لا ينضب للمعرفة عن الإنسان”، كما يقول تودوروف، وإنما أيضًا لأن الحياة ينبغي أن يعاد تشكيلها عبر المتخيل من أجل أن تعاش بنحو أفضل كما تقول حنه أرندت.
ثمة أسئلة عديدة يثيرها هذا العدد الخاص من مجلة “علوم إنسانية”. ويمكن أن نتبيّن من سؤال: كيف يمكن للأدب أن يغيّر حياتنا؟، الذي فكّرت فيه المقالات المختلفة، وهو سؤال يحيلنا أيضًا على مفهوم أساس في النظرية الأدبية الحديثة هو مفهوم “الالتزام” السارتري، أنه بغض النظر عن مضي ما يزيد عن نصف قرن على إطلاقه أول مرة سواء في إطار مجلة “الأزمنة الحديثة” (1945) أو من قبل سارتر عندما نظّر له في كتابه “ما الأدب؟” (1948)، فإنّ مفهوم “الالتزام” في ظل التحوّلات التي تشهدها الآداب والثقافات والمجتمعات والتحديات التي تواجهها، يظلّ يتمتع بالراهنية كمقولة محورية وحاسمة لتجديد التفكير في الأدب، خاصّة عندما نستحضر، كما تشدّد على ذلك أغلب مقالات العدد، الدور المسنود للأدب اليوم من قبيل التدخل والاستقصاء وترميم العالم، ما يعني أنه يلبي حاجة حيوية عند القراء.
ضفة ثالثة