أبحاث

في إعادة هيكلة الدولة السورية/ منير شحود

تدفعنا الأوضاع الحالية، مرغمين، إلى مراجعة ظروف نشأة الدولة السورية بعد الحرب العالمية الأولى، كتقاسم لتركة السلطنة العثمانية، في حدود معاهدة سايكس بيكو أو من وحيها، الأمر الذي اقتضته مصالح الدول المنتصرة في الحرب، بعيدًا عن إرادة ومصالح أبناء المنطقة. في هذا التقسيم والتقاسم، لم يتم العبث بوحدة بلاد الشام وحسب، بل تمّ تحميل بعض المناطق، كالموصل، الأقرب ديموغرافيًا وثقافيًا إلى حلب، إلى الخارطة العراقية، إذ ارتبطت المدينتان بوشائج حضارية وتاريخية متينة، وتمتعتا بميزات التنوع الديموغرافي وتشابه أنماط الحياة. الأمر ذاته ينطبق على إلحاق محافظة دير الزور بالخارطة السورية، وهي التي تُعدّ امتدادًا ثقافيًا وعشائريًا للعراق.

وعلى الصعيد السوري الداخلي، لم تصمد دولة الملك فيصل بعد انكشاف خطط الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين في إبرام اتفاقية سايكس – بيكو، ولم تستطع الثورة السورية الكبرى (1925) أن توحّد الدويلات التي أنشأها الانتداب الفرنسي، وتأخر ذلك حتى عام 1936، لكن كولادة عسيرة لدولة مركزية، على حين كان يجب أن تحافظ مناطق سورية المتباينة الثقافات على بعض الاستقلال الذاتي، وبخاصة الجزيرة والساحل وجبل العرب.

ويمكن المجازفة والقول بأن بذور الاستبداد قد ولدت في المركزية التي نشأت عليها الدولة السورية، محكومة ببعض الظروف الوطنية، ومنها -على سبيل المثال- ضرورة ضمّ الساحل السوري، بعد خسارة مرفأ بيروت لتأمين منفذ للداخل السوري على البحر، ولو أن ذلك استدعى إعدام شخصيتين علويتين مؤثرتين، هما سلمان المرشد وبوعلي شاهين، في عامي 1946 و 1949 على التوالي، وقصْفَ الشيشكلي السويداء (1954)، بعد رفض سلطان باشا الأطرش تأييد حكمه، ومن ثم دفع الشيشكلي حياته ثمنًا لذلك (1964). لاحقًا، تجسّدت مركزية الدولة بوضوح، عند إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958، وبخاصة بعد انقلاب البعث (1963)، لتدخل سورية نفقًا لا ضوء في نهايته.

إن الحديث عن ماضي سورية لا ينفصل عن مشروع بنائها في المستقبل، والصورة التي يجب أن تظهر عليها، والكيفية التي يجب أن تُدار بها وتُحوكم، فلا بدّ من إلقاء نظرة على الأساس المتداعي لمعرفة موضع الخلل فيه، وإماطة اللثام عن سبب انهيار الهيكل تحت وطأة العواصف السياسية التي داهمته وأوصلتنا إلى هذه الحال. وإن الحديث عن اللامركزية الإدارية في الوقت الحاضر ضروريّ من أجل إعادة الاعتبار لما كان يجب أن يحدث منذ البداية، كانعكاس لحالة التباين الثقافية والجغرافية بين مختلف المناطق السورية، ومن ذلك قيام أشكال حكم محلية لا تتعارض مع سياسة الدولة، وتعمل ضمن النواظم الدستورية والوطنية.

صحيح أن المركزية الإدارية تسهل الأعمال، ولكنها تحجب الإمكانات العديدة أيضًا، وهي عملية تحكُّم أكثر من كونها حكم وحوكمة، وهذا ما يصبّ في صالح المشاريع الاستبدادية، عاجلًا أو آجلًا، إذ تُفضي مصادرة إرادات الناس إلى تراكم المشكلات، وما يرافق ذلك من المظالم المرتبطة بتوزيع الثروة الوطنية، وإعاقة عملية التكامل بين مختلف المناطق، تبعًا لما تقدّمه من موارد. ويقود ذلك أيضًا إلى مغامرات سياسية محفوفة بالمخاطر، ومنها المطالبة بالحكم الذاتي والانفصال وحتى الالتحاق بالدول المجاورة، وهذا ما سيحدث في الدول اللاديمقراطية التي تسلب رعاياها حرية التعبير والاختيار، عاجلًا أو آجلًا.

لا تُعيق اللامركزية، من جهة أخرى، بناء الدول على أساس قوي، وتوفر المناخ السليم للشعور بالمواطنة القائمة على حرية الاختيار، وهي تنسجم مع الإجراءات الديمقراطية وتتساوق مع التنوع الاجتماعي، شريطة أن تخضع لقوانين مرنة ومتطورة باستمرار، من أجل تحديد التخوم بين ما يجب أن يتمتع به المركز والأطراف من صلاحيات. ثمة طيف واسع من أشكال الحكم اللامركزية، تبدأ من مراعاة الاختلافات المناطقية وإعطاء الحرية للناس في إدارة شؤونهم البسيطة، وتصل إلى نوعٍ من اللامركزية الموسعة، كالإدارة الذاتية، من دون أن يمسّ ذلك سيادة الدولة، المتمثلة خاصة بإدارة العلاقات الخارجية والسيطرة على الحدود والدفاع عن الوطن.

يأتي الاعتراض على فكرة اللامركزية من كونها قد تمهّد لتفتيت الدولة، بخاصة في بداية عملية البناء، لكن الوقاية من ذلك تكون من خلال الدقة في صياغة الدستور، كضامن للحقوق ومنظم للعلاقات، وليس من خلال شيطنة أي محاولة لإدارة الشؤون المحلية، ما دامت تجري على نحوٍ ديمقراطي وبآليات انتخابية مقبولة. وبخلاف ما يعتقده المعترضون على هذه الطرق اللامركزية في الحوكمة، فإن القيود المركزية الصارمة على المجتمعات المحلية هي ما قد يقود إلى التفتيت وليس العكس، باعتبارها إجراءات فوقية تحدّ من حركة المجتمعين الأهلي والمدني والمبادرات الطوعية الهادفة لحل كثير من المشكلات، فتعمل على زيادة الاحتقان، الذي لا بد أن تظهر نتائجه المدمرة، ولو بعد حين.

تمثل التجربة السورية حقل تجارب بهذا الخصوص، ومنها كيف تم العبث بتكامل موارد سورية، من خلال رؤية أيديولوجية ضيقة حجبت مختلف أشكال المظالم والمفاسد. وكم كانت فكرة التكامل عظيمةً لو تم الجمع الخلاق للموارد الاقتصادية والبيئية والثقافية لمختلف المناطق، وكيف قادت السياسات الخاطئة والمنهجية إلى ظهور دعوات متطرفة للانفصال والتبعية، وبما يتعارض مع الحفاظ على أهمّ شروط بقاء الدول كوحدة الأرض.

في هذه الأثناء، نعيش بداية انهيار آخر، وربّما هو الأخير، انهيار لا بدّ منه لاكتمال الصورة وانقشاع الأوهام التي احتاجت إلى عشر سنوات لتتبدد، حتى حلّ الخراب الشامل ولم يبقَ شيء للبناء عليه، ولتتحول سورية، سويسرا الشرق بلا مبالغة لو أُديرت مواردها كما يجب، إلى هذه الخرابة المملوءة بالجائعين.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى