كتاب «العلويون في سورية» -مراجعتين للكتاب
—————————
كتاب «العلويون في سورية»… ما الجديد؟/ محمد تركي الربيعو
في العقدين الأخيرين، أبدى عدد من الباحثين الغربيين اهتماما بقراءة تاريخ العلويين في سوريا؛ فهذه الطائفة المهمشة و»المعزولة في الجبال» وفق الرواية التقليدية، سيلعب أبناؤها دوراً مؤثراً على صعيد الحياة السياسية والعسكرية في سوريا، بعيد الستينيات. وقد جاءت أحداث الانتفاضة السورية في عام 2011، لتدعم الاهتمام بدراسة هذا الجانب، وتنوعت زوايا النظر في هذا الشأن بين التركيز على دور العلويين في فترة حافظ الأسد ووريثه (غولد سميث) أو قراءة طبيعة اللاهوت النصيري/العلوي (ياور فريدمان).
وربما من أهم الكتب الصادرة في هذا الجانب أيضا عمل المؤرخ الألماني ستيفن وينتر «تاريخ العلويين في سوريا» الذي كشف فيه جوانب جديدة عن علاقة العلويين بالعثمانيين، من خلال العودة إلى كم واسع من الوثائق المتوفرة حول أبناء الريف السوري خلال هذه الفترة، وخلافا للصورة التي تقول إنهم عاشوا في الجبال معزولين، نكتشف مع وينتر أنّ هذا الطرح لم يكن دقيقاً كفايةً، وأنّ عائلات علوية عديدة ارتبطت بالعثمانيين في فترة القرن الثامن عشر، ولعبت دوراً على صعيد حكم مناطق واسعة وجمع الضرائب للدولة المركزية.
وقد ساهمت هذه الكتب والقراءات في السنوات الأخيرة بتعريفنا وتقريبنا أكثر من فهم التاريخ العلوي في سوريا، ومع مرور الأحداث، وتحول تاريخ البلاد وطوائفها وإثنياتها إلى جزء من النقاش والسجال اليومي، بدا أحياناً أنّ الخوض في هذه التواريخ، ضمن ما هو متراكم من دراسات وكتب ليس بالأمر اليسير، خاصة أنّ هناك عاملا آخر عقّد من هذا الجانب، ويتعلق بعدم القدرة على خوض زيارات ميدانية، كما فعل غالبية من درسوا العلويين في سوريا قبل عام 2011، ولذلك كان عدد من هؤلاء الباحثين والمهتمين، يعودون لأرشيفهم وأوراقهم القديمة، للحديث عن العلويين، وبالأخص فترة الأسد الأب (ريموند هينبوش) ما أدى أحياناً إلى تكرار الأفكار والاستنتاجات ذاتها حول هذا التاريخ، في حين بقي موضوع دراسة العلويين ومناطقهم بعد الحرب، موضوعاً صعب المنال، ربما لأسباب عديدة، أهمها بلا شك عدم القدرة على القيام بزيارات ميدانية، ولذلك بدت أحيانا القراءات في هذا الجانب ضعيفة، أو تركز على جوانب هامشية (موضوع العلويين في المعارضة السورية) وربما من الاستثناءات القليلة في هذا الجانب، الدراسات التي أعدّها الباحث السوري خضر خضور حول مجتمع الساحل خلال النزاع.
وربما من بين الأمثلة التي توضح الإشكالية التي أخذ يعاني منها الباحثون في دراسة المجتمع العلوي، حتى على صعيد مناطق أخرى في سوريا بعيد الحرب، كتاب «العلويون في سورية: الحرب والدين والسياسة في المشرق» الذي تُرجِم مؤخرا للعربية، ترجمة رضوان زيادة، أحمد العبدة، عن منتدى العلاقات العربية الدولية. ففي هذا الكتاب الذي صدر بنسخته الإنكليزية عام 2015، وضمّ أوراق عدد من الباحثين الغربيين، نلاحظ أنه بقدر ما سعى المشاركون إلى فهم تاريخ العلويين في البلاد، لكنهم في الغالب كانوا يقفون على تخوم الأحداث في سوريا بعد عام 2011 دون أن يتمكنوا من فهم ما جرى في المجتمع العلوي على صعيد العلاقة بالنظام، وظهور شبكات اقتصادية وأهلية جديدة، وأيضا على صعيد التدين داخل الطائفة، وهل أفرزت الحرب طقوسا جديدة في هذا الشأن، خاصة أنّ الطقوس في فترات الأزمة يعاد إنتاجها واحياؤها أحيانا لتعلب دورا على صعيد رسم خطوط الصراع الاجتماعية (لاحظ مثلا طقوس المولد النبوي في السنوات الأخيرة لدى الدمشقيين) ولذلك نرى أنّ غالبية هذه الدراسات انشغلت بالجانب التاريخي، كما بدت متفاوتة سواء على مستوى الطرح، أو غارقة في تكرار بعض الكليشيهات التقليدية (مجتمع العزلة).
وربما ما يجعل القارئ لهذا الكتاب يصل لهذا الاستنتاج، أنّ ترجمة الكتاب تأتي في فترة شهدت تراكما لا بأس به على صعيد الكتب والدراسات المترجمة عن العلويين في سوريا، ما جعل بعض الاستنتاجات والقراءات في هذا الكتاب تقليدية. ففي دراسة بعنوان «تكوين مجتمع سورية العلوي» يحاول أسلم فاروق علي (جامعة كيب تاون، جنوب افريقيا) دراسة تكوّن هذا المجتمع ومعتقداته على مدار ألف عام تقريباً، وهو يرى في أنّ الأعيان، بقوا يحكمون هذا المجتمع، وبالأخص في الفترتين العثمانية والفرنسية، مقابل الوصول إلى أشكال متنوعة ومحددة من السلطة السياسية والمكاسب الاقتصادية، لكن ذلك سيتغير مع ثورة 1925، كما جادل المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس، التي شكلت معلما بارزا يؤذن بظهور السياسات الجماهيرية في العالم العربي، وفي سياق اهتمامه بدور العلويين في الخمسينيات، يرى الباحث أن ظهور طبقة متعلمة برزت على نطاق واسع داخل الجيش وحزب البعث، أدت إلى خلق إحساس باللحمة أو العشائرية المجتمعية، التي لم تكن موجودة من قبل، مع ذلك فهو لا يبين لنا كيف تشكلت هذه اللحمة، ومتى، وأطوارها، وما هي الأفكار التي دفعتها للتشكل؟ وربما دون هذه الإجابات، سنبقى نحوم حول السردية ذاتها، التي تقول إن هناك «مؤامرة علوية» تم التخطيط لها منذ الخمسينيات، أو ربما قبل ذلك، مع أنّ المجتمع العلوي، كما يبين في دراسته، بدا منقسما في تلك الفترة بين عدة عشائر وزعامات محلية. وربما ما يُسجَّلُ على هذه الدراسة أنّ الباحث بالغ في فكرة أنّ العلويين كانوا يعيشون في عزلة قبل بدايات القرن العشرين، وبذلك نكون أمام تاريخين (تاريخ العزلة، وما بعده) وهذا رأي لا يوافقه عليه ستيفن وينتر في ورقة مهمة له بعنوان «العلويون في العهد العثماني» إذ يرى وينتر أنّ هذه السردية، التي تظهر العلويين في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا، بينما كانوا غائبين قبلها، هي سردية وقع بها عدد كبير من الأكاديميين، ويعود ذلك في الغالب إلى النزعة العامة في «التأريخ القومي» الحديث لرفض الفترة العثمانية برمتها، أما السبب الأهم كما يراه فهو يعود إلى اعتماد المؤرخين المفرط على نصوص دينية وروائية تركز الاهتمام بطبيعتها على هوية العلويين الدينية المختلفة، بدل التركيز على اندماجهم في المجتمع السوري والعثماني الأوسع. واستنادا إلى سجلات الأرشيف العثماني في إسطنبول وطرابلس، يبين وينتر في ورقته هذه، أنه منذ أواخر القرن السادس عشر حاول العثمانيون أحيانا في تعاملهم مع العلويين الفصل بين رؤيتهم الدينية التقليدية، والسعي ببساطة لزيادة إيراداتهم إلى الحد الأقصى، ففي حادثة فريدة تتعلق بالإنتاج غير الشرعي للمشروبات الكحولية في منطقة حمص عام 1584 يرد الأمر التالي: «يسكن جبال طرابلس بشكل رئيس الطائفة النصيرية، وهم زنادقة شيعة يجلبون باستمرار الخمر لبيعه والمتاجرة به.. من الأفضل بكثير لخزانة الدولة (ميري) في كل الأحوال أن تفرض ضريبة على الخمر، بالإضافة إلى الضرائب المقدرة وضرائب الوزن.. لذا قرر (السلطان) إصدار فرمان يقضي، طالما أن هذا لا يسبب أي ضرر لجباية الضرائب الأخرى.. بفرض ضريبة على الخمر الذي يجلبه النصيريون، وفق القانون القديم، والضرائب المقدرة وضرائب الوزن في منطقة حمص والمناطق الأخرى المشار إليها».
كما يبين وينتر من خلال دراسته للسجلات في القرن الثامن عشر، كيف لعبت عائلات مثل شمسين دورا في نظام الالتزام العثماني، كما عرفت هذه الفترة صعود طبقة الأعيان، جراء تطور زراعة التبغ، ما أدى إلى تحول اللاذقية في القرن الثامن عشر إلى مركز تجاري رئيس، وفّر العمالة للعديد من العلويين ومجتمعات الفلاحين الأخرى في المنطقة، لكن هذه الرؤية لا تعني في المقابل نفي إجراءات التمييز التي مورست أحيانا بحق الملتزمين العلويين أنفسهم وباقي الأفراد (مثل الاحتفاظ بزوجة الملتزم أو ابنه رهينة في جزيرة أرواد) كما أنّ أوضاعهم المعيشية بقيت صعبة كحال معظم الفلاحين السوريين.
«روح على الشام يا ابني»
حاول بعض المشاركين في الكتاب الاعتماد على أرشيفهم، وزياراتهم الميدانية السابقة، لفهم ما يجري في سوريا بعد عام 2011، وربما من بين هذه المحاولات الورقة التي كتبها ليون غولدسميث «تنوع العلويين وتضامنهم: من الساحل إلى الداخل» إذ يميز بين مجتمعين علويين، علويي الساحل وعلويي الداخل، ويرى أنّ سياسات بشار الأسد الاقتصادية، أدت إلى تركز هائل للسلطة الاقتصادية في أيدي أفراد مقربين من النظام، فيما تزايد إهمال العلويين العاديين في الأرياف، ما خلق حالة من الحساسية لدى علويي الداخل من وجود تفرقة مناطقية لصالح علويي الساحل، لكن هذا الشعور سيزول مع الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة، إذ أجبر علويو الداخل، كما يرى، على اتخاذ مواقف متشابهة مع علويي الساحل. وفي دراسة أخرى يدرس آلان جورح اقتصاد سوق بشار الاجتماعي، الذي لعب دورا مساعدا في حدوث الانتفاضة السورية. ومن الدراسات المهمة في هذا الجانب هي التي أعدها فابريس بالانش (جامعة ليون2) بعنوان «روح على الشام يا ابني: التحولات الديموغرافية العلوية» التي حاول فيها قراءة تاريخ العلويين في سوريا خلال مئة سنة من زاوية الديموغرافيا، ومن خلال إجراء جولات ميدانية عديدة في فترة ما قبل الحرب في مدن الساحل وبعض ضواحي دمشق التي يعيش فيها علويون، يرى أنه في عام 1935، تظهر نتائج الإحصاء السكاني مستويات تمدن منخفضة بين المجتمعات العلوية داخل المنطقة الساحلية في الدولة العلوية، ولذلك شكلوا ثلثي سكان الدولة العلوية، لكنهم لم يمثلوا إلا 3% فقط من سكان المدن، وخلال العقد التالي، ازداد عدد العلويين في بلدات ومراكز المنطقة الحضرية بنسبة مهمة بلغت قرابة الـ10%، وعلى الرغم من أنّ عملية التمدن العلوي كانت تتقدم على نحو جيد في نهاية منتصف القرن العشرين، فإنّ مستويات الفقر والتخلف الشديد استمرت، وهذا ما نراه في حي الرمل الشمالي، وهو حي علوي أنشئ شمال مدينة اللاذقية، إذ يصف لنا منير مشبك موسى وهو أنثروبولوجي محلي الوضع في تلك الفترة كالتالي: «لا كهرباء، ولا ماء، ولا صرف صحي، ولا خدمات بلدية، ولا رعاية صحية. بعوض وذباب بعدد حبات الرمل.. معظم سكان الحي عمال أو من فئات البروليتاريا الأخرى؛ بعضهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى من الموظفين أو التجار، 35% من السكان يعيشون في بيوت يملكونها». مع فترة الإصلاح الزراعي، أقيم عدد من السدود على ضفاف العاصي، ما خلق زراعة مروية وظهور فرص عمل مهمة في السهول قليلة السكان، وأدى إلى انتقال آلاف العائلات العلوية من الجبال إلى السهول المنخفضة المحيطة به، وبالتوازي مع هذا التطور، أطلقت الحكومة البعثية في عام 1963 مشروع بناء تجمع سكني واسع لإيواء تدفقات القادمين، وقد رحب علويو الساحل بهذه المبادرات، وسهل تحالفهم مع الحزب الحاكم، وقد أسس العلويون المهاجرون أحياء لهم في جنوب حمص وشرقها مثل أحياء الزهراء وكرم اللوز والأرمن وكرم الزيتون، وبحلول الثمانينيات أصبحوا مجتمع الأغلبية في المدن الساحلية اللاذقية، كما ازداد وجودهم في مدينة دمشق، حتى إن إحدى النكات الشامية الشائعة العنصرية آنذاك كانت تقول «لم رأس الولد العلوي مسطح؟ الجواب: لأن أمه كانت تصفعه صباح كل يوم على رأسه من الخلف وتقول له: روح ع الشام يا ابني» لكن هذا التطور وفقاً للباحث سيسهم لاحقا في ظهور طبقة مواطنين علويين أفضل تعليما وأكثر غنى ونفوذا سياسياً، ما سيؤدي إلى تراجع معدلات الإنجاب في السنوات العشرين الأخيرة مقارنة ببعض مناطق الداخل السني (القلمون) وهذا ما عنى استنزاف المصدر الأساسي للدعم الديموغرافي والعناصر العسكرية، الأمر الذي يفسر برأيه سبب اعتماد النظام على مقاتلين أجانب بعد الانتفاضة السورية. في باقي أوراق الكتاب، ربما ليس هناك من جديد، بالنسبة لمعرفتنا اليوم حول علويي سوريا، في أوراق هينبوش وكارستن ويلاند «العلويون في المعارضة» أو ورقة أرون لوند «ظاهرة الشبيحة».
وتبقى من الأوراق اللافتة في هذا الكتاب ورقة راينود ليندرز «القمع ليس شيئا غبيا» الذي قدم فيها فكرة مخالفة للسائد، تقول إنّ النظام لم يكن ساذجاً أو مجنوناً في قمعه للمتظاهرين، بل كان مدركاً ومنذ اللحظات الأولى لأهمية العنف في قمع الاحتجاجات، حتى لو أدت إلى ردات فعل مسلحة، لأنه أدرك أنّ احتمال إسقاطه عبر الجماهير أكبر بكثير من سقوطه على يد المتمردين المسلحين. ويبقى الكتاب مهما وواجب القراءة، رغم قصوره في معرفة واقع العلويين اليوم في سوريا.
كاتب سوري
القدس العربي،
———————————————-
العلويون في سورية .. كتاب عن الرحلة من العزلة إلى السلطة/ عمر كوش
يتضمّن كتاب “العلويون في سورية”، الصادر أخيرا (2021) عن منتدى العلاقات العربية والدولية في الدوحة، دراسات وأبحاث ورشة العمل الدولية التي نظمتها “مجموعة لبنان وسورية” في معهد الدراسات الشرق أوسطية في جامعة كينغز كوليدج لندن عام 2014، وشارك فيها فابريس بالانش وأسلم فاروق علي وآلان جورج وليون غولدسميث وريموند هينبوش ومايكل كير وكريغ لاركن ورفائيل لوفيفر وراينود ليندرز وآرون لوند وأوليفيا ميدا وماكس وايس وكارستن فيلاند وستيفان وينتر، وحرره مايكل كير وكريغ لاركين، وترجم الكتاب إلى العربية رضوان زيادة وأحمد العبدة.
ويدخل الكتاب في سياق الدراسات والأبحاث التي صدرت في السنوات الأخيرة، وتناولت الطائفة العلوية في سورية ولبنان، وكيفية صعودها ووصولها إلى الحكم في سورية، من خلال تسليط الضوء على النقاط التكوينية لهذه الطائفة في القرن العشرين، وتحليل تركيبة النظام الأسدي وطبيعته، بنسختيه الأب والابن، والتحدّيات التي واجهتهما في صراعهما للاحتفاظ بالسلطة، وذلك كي يضع ما يسميها “التجربة المعاصرة للمجتمع العلوي في سياقه التاريخي”، عبر تقديم دراساتٍ لمختلف الجوانب الدينية والتاريخية والاقتصادية والسياسية للطائفة العلوية، وللتغيرات والتطورات التي شهدتها بدءاً من تكويناتها الأولى في مجتمع ريفي مغمور أواخر العهد العثماني، مروراً بمرحلة الاستقلال السياسي تحت الانتداب الفرنسي، ثم الهجرة إلى المدن والتطور الاجتماعي والاقتصادي في سورية الاستقلال، ووصولاً إلى تولّي الريادة السياسية مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري، ثم تفكّك الدولة وخرابها مع الكيفية التي تعامل بشار الأسد مع الانتفاضة السورية والسنوات الأولى للحرب الأهلية.
ولعل المعلم الأبرز الذي يشكل دافعاً لدراسات الكتاب هو الثورة السورية والتعامل الدموي للنظام معها، وما تبعه من تدويل الأوضاع في سورية وتحوّلها إلى صراع عسكري، لذلك فإن رؤية الوضع في سورية من منظور طائفي أو تدخل الأطراف الأجنبية تشوّه تعقيدات الوضع السوري، وتلقي بظلالها على التجربة المعاصرة للمجتمع العلوي وردود أفعاله المتباينة حيالها. وقد تفضي إلى فهم خاطئ للطائفية على أنها جوهر الصراع السوري، وأنه ينبغي النظر إليها بوصفها المكون الصلب للهوية السورية، وأنها تلقي بظلالها على كل النضالات السياسية والاجتماعية والثقافية في سورية الحديثة.
وسعى نظام الأسد، منذ بداية الثورة السورية، إلى تحشيد أبناء الطائفة العلوية خلفه في سعيه إلى البقاء في السلطة، وأصبح الصراع في سورية وعليها حالةً نموذجية لتفعيل الحدود الطائفية والإثنية، أي تصعيد الوعي بالاختلافات المتصوّرة بين أعضاء الجماعات الداخلية والخارجية. لذلك يحاول الكتاب تبيان ماهية تلك الحدود التي يجري، في الحقيقة، تفعيلها في الحرب الأهلية السورية، إذ لا تتضح محدّدات الهوية العلوية التي يفترض أن يتردّد صداها في المجتمع العلوي، ويتجاوب معها أعضاؤه بفعالية، بحيث جعلت النظام يتوسّلها في حملته الشرسة للحفاظ على السلطة بأي ثمن. وبالتالي، يتمحور مسعى الدراسات حول هذه القضايا في محاولةٍ لسدّ الفجوة في معرفة المجتمع السوري والسياسة السورية، وبعلاقات النظام بالعلويين والطبيعة المرنة والمتغيرة للهويات العلوية، والدور الذي لعبه المجتمع العلوي في التنظيمات المعارضة والموالية للنظام خلال سنوات الحرب الأهلية، من خلال تقديم منظوراتٍ حول تاريخ المجتمع العلوي المعاصر وعلم اجتماعه وسياساته، وتحليل بنية النظام السوري واقتصاده السياسي ونخبه الحاكمة وردود أفعال المجتمع العلوي التي طغى عليها تركيز النظام على ربط مصير العلويين ببقائه في السلطة إلى الأبد.
ويشكل العلويون طائفة دينية باطنية استوطنت في سورية، لكن أصولها ترجع إلى العراق منذ أكثر من ألف عام، حيث ينحدر العلويون من أتباع محمد بن نصير الذي انشقّ عن المذهب الشيعي الإسلامي في القرن التاسع للميلاد. ونظراً إلى الدلالات السلبية التي جلبها تعبير “نصيري” لهذه الطائفة، تمّ استبداله في العصر الحديث بتعبير “علوي”، نسبة لأتباع علي، ابن عم الرسول محمد وخليفته الشرعي لدى المسلمين الشيعة. وتبلغ نسبة العلويين حوالي 12% من مجموع سكان سورية. وهم يشكّلون أغلبيةً في محافظتي اللاذقية وطرطوس اللتين تحدان تركيا ولبنان تباعاً، أي المنطقة الساحلية الغربية من سورية.
وفي سورية ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، لم تكن ممارسة الطقوس والشعائر الدينية، خصوصاً بشكل علني، ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى أفراد المجتمع العلوي، حيث أبقى العلويون دينهم سرّاً، بينما أبدوا مهارةً ثقافية ومرونة اجتماعية، بدءاً من حصولهم على حكم ذاتي عبر تأسيس دولةٍ علويةٍ لم تدم طويلاً تحت الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى السيطرة السياسية على السلطة التي وسم بها حافظ الأسد كل مستويات المجتمع إبّان فترة هيمنة حزب البعث العربي الاشتراكي. ولم يعتمد حافظ الأسد على أي عقيدة دينية، عندما قرّر القضاء عسكرياً على عصيان مدينة حماه الذي قاده الإخوان المسلمون عام 1982، الأمر الذي يشي بأن الانتماء العلوي كان رمزاً ثقافياً طائفياً مجتمعياً أكثر منه ظاهرة دينية. ويتضح ذلك عند مقارنته مع تجربتي المجتمعين، الإسلامي والمسيحي، في المنطقة، لذا فإن الهوية العلوية المعاصرة شكلت جزءاً من الطبيعة المتنازع عليها للمجتمع السوري الممزّق والمنقسم بشكل عميق.
وقد بقي العلويون في عزلة خلال العهد العثماني في المناطق الجبلية. ثم مع الانتداب الفرنسي، أنشأت فرنسا دولة علوية على طول الساحل السوري، في سياق تقسيم سورية إلى أربع دويلات، وتطبيق سياسة فرق تسد على المجتمع السوري وتكويناته. وعلى الرغم من أن المجتمع العلوي بقي منقسماً عند بداية الاحتلال الفرنسي إلى جماعاتٍ عشائرية أربع (عشائر الخياطين والحدادين والمتاورة والكلبيين)، فضلاً عن الانقسامات الدينية الفرعية (الشمسيون والقمريون والمرشديون) إلا أن الفرنسيين استغلوا هذه الانقسامات، إلى جانب استغلالهم الخلفية التاريخية للعلويين كأقلية دينية متماسكة، من أجل تغذية بذرة الانفصال، واتخذوها وسيلة لخنق حركة الاستقلال الوطني السورية.
وشكّل حزب البعث أداة فاعلة في وصول الطائفة العلوية إلى السلطة، حيث وفر توسّع الحزب في مناطق الساحل السوري قاعدة قوية اكتسبت من خلالها النخب العلوية النفوذ والسلطة في مرحلة ما بعد الاستقلال وجلاء المستعمر الفرنسي. كما شكّل الجيش السوري أداة أكثر أهمية من حزب البعث في صعود العلويين إلى السلطة، وذلك بعد أن شجعت فرنسا تجنيد الأقليات لمجابهة النزعات الوطنية للأغلبية السنّية، ثم تدرج العلويون في سلم قيادات الجيش حتى سيطروا على قيادته وعلى اللجنة العسكرية التي قادت انقلاب البعث عام 1963.
وجاء استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري عام 1970، كي يبني مراكز قوى تمحورت حول تجمعاتٍ طائفية، خصوصاً في الجيش، معتمداً على فئةٍ من ضباطه التي ينحدر أعضاؤها من أفراد عشيرته وعائلته المباشرة، وأقاربه المقرّبين، وآخرين من المجتمع العلوي. وعمد الأسد على توطيد سلطته الديكتاتورية على التضامن الطائفي، وعلى القمع الذي لعب دوراً محورياً فيها، من خلال تشكيله دولة المخابرات التي راقبت فيها أجهزة الاستخبارات المتعدّدة المواطنين السوريين والجيش. وشكل الأسد كذلك جيشين: وحدات الحرس الجمهوري المكونة من أفراد من عائلته وطائفته مهمتها حماية النظام. وجيش محترف كان شعاره حماية حدود البلاد، لكنه سُخر مع الثورة السورية لحماية النظام أيضاً.
وجرى توريث السلطة في سورية بعد موت حافظ الأسد في 10 يونيو/ حزيران 2000 إلى ابنه بشار الأسد، الذي ورث أيضاً أجهزة الدولة القمعية المترسّخة بعمق التي بناها والده بعناية فائقة. ومثّل حكم بشار، إلى حدّ بعيد، استمرارية لحكم أبيه مزخرفاً بمسحةٍ حديثة، حيث أصبحت السلطوية الشعبوية لحافظ تحديثية لبشار. وعندما بدأت حركة الاحتجاجات السلمية في سورية، لجأ النظام سريعاً إلى القمع الدموي، وأفضى تعامله مع الثورة إلى تحويل سورية ساحةً لمواجهات وحروب أهلية وإقليمية ودولية، تتنازع فيها قوى احتلال متعدّدة على مناطق النفوذ والسيطرة.
شكل القرن العشرون المنصرم محطة مفصلية في تاريخ المجتمع العلوي السوري، إذ بعد عهود من العزلة والاضطهاد، بدأ سكان الجبل ينزلون إلى مدن الداخل السوري، وقام العلويون بخطواتٍ من أجل إعادة اندماجهم في النسيج الاجتماعي الديني الأوسع للمجتمع السوري، عبر تأكيدهم الانتماء إلى التيار الشيعي، لكن المجتمع العلوي بقي برمته مشلولاً سياسياً لارتباطه بعشيرة الأسد الحاكمة التي استغلت الهوية الدينية من أجل ترسيخ حكمها الأوتوقراطي المستبد.
وقبل اندلاع الثورة السورية، لم يقم نظام الأسد بالترويج العلني لهويةٍ مركزيةٍ علوية، كما لم تتم عمليات حشد المجتمع العلوي وفق هذا الأساس، بل بقي الوعي الذاتي بالحاجة إلى الحماية بوصفها جزءاً أساسياً من نسيج الهوية العلوية. لذا أظهر المجتمع العلوي رغبةً في ترويج مجتمع سوري علماني والاندماج فيه، وجرى ترسيخ هذه العملية عبر إقامة شبكاتٍ اجتماعية زبائنية، سيطر عليها رعاة علويون، استفاد منها أبناء الطائفة العلوية في ظل حكم حزب البعث. وبالتالي، بقيت السرية جزءاً أساسياً من الهوية العلوية والعلاقات الاجتماعية العلوية، وقامت شبكات في الخفاء على ترقية العلويين إلى مواقع المسؤولية ومناصبها داخل الجيش وبيروقراطية الدولة السورية وحزب البعث.
اختلف الأمر تماماً مع الاحتجاجات والحرب الأهلية، حيث لعبت الرموز الدينية والثقافية التي تميز العلويين عن أبناء باقي المجتمعات السورية دوراً بارزاً باطراد في الحفاظ على “العصبية” العلوية، ممثلةً بالتضامن القبلي أو الجماعي، حيث كانت طقوس “التلقين” العلوي تستغرق سنوات عديدة لاكتمالها قبل الثورة. وبعدها باتت عملية “التلقين” العلوي بمثابة طقس عبور لانضمام الشباب العلوي إلى مليشيات “الشبيحة” الموالية للنظام، التي عملت رديفاً مساعداً لقوات النظام وأجهزة أمنه. وبالتالي، تغيرت الوظيفة السياسية “للتلقين”، وصارت تمثل صحوة مجتمعية أكثر منها دينية، وباتت محدّداً إثنياً تطور جزئياً رداً على تطرّف بعض حركات المعارضة السنيّة.
لقد عدّت طقوس “التلقين” التي يقوم بها شيخ أو راع ديني محلي مرادفة لعمليات التحشيد الاجتماعي، وجرى إدخال الُملقنين الجدد في شبكات اجتماعية علوية كبيرة، تماهوا من خلالها مع مجتمعهم على ما هو عليه، وأيضاً على ما يغايره، وبما يتعلق جوهرياً بطريقة تعاملهم مع الغالبية السنية. وبالتالي، كان التماهي الاجتماعي الوظيفة السياسية الرئيسية للدين في المجتمع العلوي، بمعنى أن تكون علوياً في سورية المعاصرة يعني أن تكون جزءاً من شبكةٍ تُسهل الحراك الاجتماعي والفرص السياسية والتقديم الاقتصادي. ونجمت عن ذلك تداعيات وإرهاصات اجتماعية سلبية، حيث حمل كثيرون من معارضي نظام الأسد ضغائن سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة ضد العلويين، وكانت تلك العداوات طبقيةً أكثر منها دينية. لكن ومثل أي مجتمع منقسم بعمق وممزّق دينياً وعرقياً، تجسّدت تلك العداوات وتبلورت عبر تصدّعات سورية الطائفية، ثم فعلت فعلها أخيرا في ردّ فعل النظام العنيف، وتعامله الدموي مع الثورة السورية.
وكانت الحرية والخلاص من استبداد نظام الأسد الديكتاتوري المحرّك الأساس للحراك الاحتجاجي السوري، لكن مع انزلاق الوضع إلى حربٍ أهليةٍ أصبحت الهوية الطائفية محرّكاً أساسياً لها، ونجح نظام الأسد بالتلاعب بذكاء بهذا المتغير في سعيه إلى الحفاظ على “العصبية العلوية”، وعلى دعم مجتمعات الأقليات الأخرى، عبر إظهار أن الادعاءات الجهادية بالشرعية والدولاتية مزيفة واستتباعية، وأن هذه الواجهة يكمن مشروع إقامة دولةٍ عرقي قومي في أسسه السنيّة العربية.
وإن كان حافظ الأسد قد بذل جهوداً كبيرة كي لا ينظر إلى النظام الذي بناه على أنه واجهة لحكم الطائفة العلوية، إلا أن كثيرين من مناهضي حكم بشار الأسد، الأوضح علوية من حكم أبيه، باتوا ينظرون إليه أنه نظام طائفي بامتياز. ومع لجوء بشار إلى دعم عسكري لمليشيات حزب الله الشيعية اللبنانية، ومليشيات شيعية إيرانية، اتجه نحو تسهيل سرديات طائفية وسرديات طائفية مضادّة، كما أن تجاهل نظام الأسد مظالم المتظاهرين السوريين الاجتماعية والسياسية الشرعية أدّى إلى تعريض المجتمع العلوي، ربما عن قصد، إلى المنطق الاختزالي لأشد القوى الإسلامية تطرّفاً، بينما أغرقت السرديتان المتطرفتان صوت الخطاب العلماني للمجلس الوطني السوري الذي ضم في عضويته علويين معارضين للنظام، في حين أن دول الغرب تخلت عن المطالبة بتغيير النظام لصالح محاربة التنظيمات الجهادية.
ومع ذلك يبقى السؤال قائماً عما إذا ما كان العلويون جماعة إسلامية شرعية، إذ على الرغم من جهود حافظ الأسد لحسم المسألة، إلا أن الجماعات الإسلامية السنية المتطرّفة المناهضة للنظام ما تزال تنظر إلى العلويين والجماعات الدينية الأخرى في المنطقة كفرة وزنادقة. وحاول بشار الأسد التقرّب من السنّة عبر زواجه وبناء مساجد سلفية وإدخال رجال الدين السنة حظيرته السياسية. بينما عاش المجتمع العلوي تحت حكم حافظ الأسد عملية تشيّع في سياق محاولة حافظ الأسد إلى تقريب المجتمع العلوي من التيار الشيعي السائد، وذلك كي يوطّد علاقات نظامه الاستراتيجية مع النظام الإيراني في فترة ما بعد الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أن المجتمع العلوي قد خضع لعملية “إعادة علونة في العقد الماضي، كما فعلت باقي المجتمعات العلوية في لبنان وتركيا”، إلا أن المجتمع العلوي يبقى مسكوناً بمخاوف وجودية حول مصيره في سورية ما بعد الأسد. وقد استغل النظام في أثناء الحرب الأهلية هذه المخاوف، وتلاعب بها، كي يباعد بين العلويين وجمهور الأغلبية السنّية. وكانت الانشقاقات في الجيش أو الحكومة على امتداد الأزمة أقلّ بكثير مما طمحت إليه المعارضة السورية، ومع أن الخوف من انتقام النظام شكّل العامل المحفز على الحدّ من الانشقاقات. في المقابل، استند خطاب المعارضة المعتدلة منذ البداية إلى سردية التماسك المجتمعي، وأن سورية أمة موحدة، ولا وجود لأي صراعٍ طائفي، وليس هناك أي شقاقٍ بين المجتمعات الدينية والإثنية المختلفة، ولن تبقى سورية ما بعد الأسد دولةً قوميةً علمانيةً موحدة فحسب، بل ستصبح ديمقراطية أيضاً. ومع التعبير الواضح عن الوطنية السورية، الذي ظهر مع بداية الحراك الاحتجاجي عام 2011، اكتسبت المعارضة زخماً وجاذبية، وأقنعت كثيرين ليس فقط بأن انهيار النظام وشيك فحسب، بل بأن ثمّة قوى سياسية معتدلة داخل المجتمع السوري المدني، بإمكانها أن تحل محله وتحكم سورية على نحوٍ أفضل منه، لكن بعد اندلاع الصراعات العنيفة صارت الهوية المذهبية القاسم المشترك الأدنى في علاقة المواطن السوري بالدولة السورية، وسرعان ما ظهر التمزّق الداخلي السوري من خلال تفاقم الانقسامات الدينية والعرقية والقبلية داخل المجتمع، وأخذت بنيته بالتشظي والتمزّق.
ويخلص الكتاب إلى أن مستقبل المجتمع العلوي كان، وما يزال، مرتبطاً على نحوٍ مؤذٍ بمصير نظام الأسد. وبات رهينة النهج الذي اتبعه بشار الأسد في مقاربة الصراع الذي تجاوز حدود سورية، وستؤثر نتائجه على توازن القوى في المنطقة مستقبلاً، في وقتٍ لا يشي باقتراب أي حل سياسي أو عسكري للصراع الدائر والمتعدّد الوجوه فيها. وبالتالي، فإن القراءات المتعدّدة للتجربة العلوية المعاصرة التي يقدّمها الكتاب، قد لا تماهي بين نظام الأسد والمجتمع العلوي، إلا أن ما جرى خلال السنوات العشر الماضية أثار مختلف الفوارق الطائفية والإثنية وفتت أنماط التعايش المجتمعية في سورية.
العربي الجديد
—————————-