في انقلاب الدولة الفاشلة على شعبها/ ماجد الشيخ
تؤكّد سرديات الدول الفاشلة، على اختلاف وتنوعات طبائعها وأنظمتها السياسية وأيديولوجياتها، على اختلاف سلسلة فشلها وإفشالها مسيرة الدولة، أنها عصيةٌ على أي إصلاح أو تغيير، كما هي عصيةٌ على إنقاذ مجتمعها ووطنها من نيران تشعلها سلطة استبداد فردية أو جماعية أو مجتمعية، تروم الاحتفاظ بالدولة ومؤسساتها رهينةً خاصة، وتحويلها إلى مملكة وراثية عائلية لأهل سلطة، جعلوا من ذواتهم “ورثة حصريين” يتوارثون الهيمنة على الدولة من الأجداد إلى الأحفاد إلى الأبناء، ورثة “أبديين” تنتقل السلطة بينهم من جيل إلى جيل، على اختلاف طوائفهم وتمذهباتهم وأنانياتهم الفئوية والنرجسية، وذلك كله بعيداً من أي بعد إنساني أو وطني، ولا حتى سياسي، فهم أربابها ولا نصيب لأي آخر في السياسة؛ سياستهم التي تمرّسوا عليها، بعيداً من أي قانون سياسي عادل أو متزن أو عقلاني.
وقد أكّدت كل الفواجع والكوارث الوطنية أنها بقيت بعيدة عن التحاكم والتقاضي العادل، نظراً إلى التسييس الفجائعي القائم في بلادنا اليوم، حين يجرى تغييب قضاء نزيه وقضاة عدل أحرار، يحتكمون إلى ضمائرهم ويلتزمون قوانين دستورية واضحة وقاطعة في أحكامها، لا يمالئون فيها أي زعيم سياسي أو ديني، مهما علا شأنه. ولهذا، في الدولة الفاشلة خاصتنا في “بلاد العرب أوطاني”، لم تصل أيٌّ من قضايا الرأي العام أو السياسة إلى خواتيمها تلك التي يرجوها العدل، كما يرجوها الناس العاديون الباحثون عن الحق والحقيقة من دون لفٍّ أو دوران؛ ببساطةٍ، لأن الفاعلين في جرائم كثيرةٍ في الدول الفاشلة تحميهم ثلة من السياسيين الفاسدين، سياسيو دولة وحكم سلطوي حطّموا كل قيم وأخلاقيات السياسة والسلوكيات البشرية الإنسانية، لأنهم لم يجدوا من يردعهم، وها هم يقضمون في الإنسان عقله ورشده وحكمته، من أجل تسلط حيواني واستبداد لا عقلاني، لا ينتمي إلى أي عصرٍ حديث، بقدر ما يعود إلى عصور الظلمات وإلى عهود ما قبل التدوين، أو لنقل إلى عهود الديناصورات التي أخذت بالانقراض، لأسبابٍ تعود إلى عدم قدرتها على التكيف مع تحولات الطبيعة في الزمكانات المختلفة.
هكذا يبدو أن إنساننا اليوم صار أقرب إلى فرضية الانقراض، لعدم قدرته وإمكاناته على التكيف مع منظومة الطبيعة والزمن السلطوي، وهو ينتج دولاً فاشلة وسلطاتٍ لم تعد تقيم إلا عند حدود الفشل، والإفشال الناتج من استبدادٍ مقيم، تجذّر حتى العظم في مجتمعاتٍ فقدت كل مناعاتها وحصاناتها المضادّة لاستبداد السلطات السياسية والدينية، كما استبداد سلطات مجتمعية رديفة وحليفة لأهل السلطة، هي جزء من منظومة الفساد السلطوي الحاكم، المتسبّب الرئيس في كوارث ومحارق باتت تطاول القسم الأعظم من أبناء الشعب، الباحثين عن أبسط مستلزمات الحياة ومقوماتها، يسدون بها رمق مجاعاتهم واحتياجاتهم إلى كل ما يبقيهم على قيد الحياة، كما كل البشر والناس في كل الأمكنة؛ إلا في بلاد المحارق المأساوية والتراجيدية التي باتت هماً يومياً لمن يفتقدون روح الحياة من أبناء الشعب، فيما السلطة وأهل السلطة وأبناؤهم من الورثة غير المؤهلين يستمتعون بكل ما تطاوله أياديهم وأفواههم من أموال، ومن ميزانية الدولة شرطاً في معظم الأحيان، قروضاً وهبات من أموال الناس المودعة في البنوك، وفي البنك المركزي وبعض المتواطئين معهم من موظفيه الذين باتوا يجيدون لغة التواطؤ المصرفية، والإسراف كما الإشراف على نهب المال العام.
انحطاط الدولة وتخلف القوى السياسية والشعبية، وفشل الأحزاب وانحيازها وتحوّلها إلى أحزاب سلطة تابعة، لا فرق بينها وبين السلطة ذاتها، وانحدارها نحو هاوية الفشل، وبلوغها قمة الانحطاط الإنساني، كما صارت عليه بعض سلطات استبداد مقنّعة فئوية الطابع، استخدمت “الديمقراطية” أو الأصح العملية الانتخابية، حيث لا انتخاب حقيقياً في بلادنا، للوصول إلى مآربها الخاصة ومآرب جمهورها الموعود بـ”المنّ والسلوى” ولو على حساب بقية الجمهور وأبناء الشعب والمجتمع الوطني، وإلا فبماذا يمكن تفسير تتابع الأزمات والكوارث وتواليها، وتعريض حيوات معظم الناس في الدول الفاشلة لكل مخاطر الأزمات الصحية والإنسانية، وتعمّد تجاهل أهل السلطة لها، ومن لف لفهم من قطعان المتنفذين والمستفيدين من إيصال الدولة إلى ما هو أكثر من الفشل؟
هذا في العموم ما يحصل في كل المنظومات السلطوية ودولها الفاشلة، كما في دولٍ كثيرة تتظاهر بعدم الفشل، فيما هي قد تكون أكثر إغراقاً في قيعان إفشال مختلفة، تجرى تغطيتها بأشكال متعدّدة من دعم إقليمي ودولي، يحاول أصحابها التستر على أنظمة وكيلة وتابعة، تقوم بأدوار استراتيجية مخطّط لها، مثل كيان “إسرائيل” في منطقتنا، إلى جانب أنظمة أخرى مماثلة هنا وهناك وهنالك؛ تنحاز اليوم إلى سياساتٍ تطبيعيةٍ تقيم علاقات طبيعية أو شبه طبيعية سرّية مع كيان الاحتلال والاغتصاب الاستيطاني في فلسطين، فيما هي تتلقى مقابل ذلك أموال دعم يشرّعها الكونغرس والبيت الأبيض وحكومات غربية أخرى، بالتنسيق مع حكومة العدو، وحكومات أخرى في المنطقة وخارجها.
ما يجري اليوم في لبنان يدلل، بما لا يدع مجالاً للشك، على انكشاف الدولة الفاشلة، قد لا يختلف مستقبلاً عن انكشاف أكثر من دولةٍ تبدو ظاهرياً بعيدة عن دروب الفشل وسردياته، فيما هي تتردّى، أكثر من أي وقت آخر، في قيعان فشل مكرّر، على ما أضحت دول تعرّضت لتدخلات إقليمية، موقعة إياها في محنٍ متعدّدة، لن تستطيع الخروج منها، كحال لبنان الذي يُراد له برمجة وتخطيطاً أن يتحوّل إلى عالةٍ لا يجد من يعيله، ويقدّم له يد العون، فيما أهله أنفسهم هم من يرفضون إنقاذه، وهم الذين أوصلوا البلد إلى ما قد يصل إليه من كوارث ومحارق وظلم وإظلام، وإفقار وتجويع لا يمكن لإنسان وطني عاقل أن ينحو نحوهم، في تعطيل كامل مؤسسات الدولة وتجريدها من خزائنها المالية، وقلب الطاولة على شعبها والانقلاب عليه، حتى باتت الدولة الفاشلة انقلابية تتجرّد حيناً بعد حين من عديد من جوانب شرعيتها ومشروعيتها، سوى تلك المظاهر الفولكلورية والديكورية المشوهة.
وعلى الرغم من ذلك، تلجأ السلطة إلى تبرير حصارها الخارجي، وإنكار ما يتعرّض له شعبها من حصار أقسى، عبر طرق ومسلكيات الإهمال، ومنع مؤسّساتها من توفير عديد من المستلزمات اليومية، والاحتياجات الصحية ومواد النقل والإنارة، وإدارة المولّدات الكهربائية البديلة من “كهرباء الدولة”، في ظل تقصير مريع في توفير أبسط مقوّمات الحياة ليلاً ونهاراً، وتجاهل احتياجات المستشفيات، في وقتٍ باتت أغلب الدول تخلفاً في ما يسمّى العالم الثالث، تستفيد من توفير الطاقة الكهربائية طوال اليوم. أما في لبنان، فقد استهلكت الدولة ربما مئات آلاف الملايين من الدولارات على “وعود فارغة” وجعجعات متزايدة انتخابية الطابع، وسمسراتٍ كبرى، من دون أن يجرى عملياً توفير ولو الحد الأدنى من البنى التحتية الدائمة الخاصة بالطاقة الكهربائية، في حين استفادت من هذا الوضع فئات وشرائح عديدة في السلطة، من دون أن يؤدّي كل هذا الصرف إلى أي نتيجة ايجابية جرّاء النهب، لحل أبسط مشكلات المواطنين الذين باتوا يدفعون مقابل كل خدمةٍ، على الدولة أن تقدمها، أضعاف أضعاف ما يمكن أن يلبّي احتياجاتهم اليومية على امتداد عشرات الأعوام، حيث تجذرت خلالها موبقات سلطات القهر والغلبة من زعماء استزعام واستزلام وقوى “سلطة عميقة”، سلطة لا تتغيّر شخوصها ولا تتبدّل إلا لماماً. وفي الأخير، كلما صعد إلى سلم السلطة عنصر جديد أو مجموعة عناصر غير مؤهلة، زادت انهيارات الدولة، وكبرت مساحات الفشل في مؤسساتها المحتكرة لهذا الزعيم أو ذاك، لهذه الطائفة أو تلك، لهذه الفئة من دون غيرها من فئات المجتمع الوطني؛ حتى باتت الدولة الواحدة في داخلها مجموعة “دول” متناتشة على الحصص والامتيازات، وهذا كله لا يمكن أن يساهم في قيام دولة مدنية مواطنية، تحكم بالعدل وتساوي بين مواطنيها؛ هي دولة الفشل بامتياز.
العربي الجديد