الألواح الشرقية: 10 قصائد/ نوري الجراح
——————-
وصول البرابرة
إلى طرواديي العصر
عندما وصلَ البرابرةُ إلى أَسوارِ المدينةِ
كانتِ الأبوابُ مُشرعةً
والسكونُ يَغمر المطالعَ والشّرفاتِ، ويهيمُ في الأَزقةِ
كان النهارُ في أَولِ شبابهِ والشمسُ بلسانها الدافيءِ تَلحس الجدرانَ..
الخواءُ رَجَّعَ أَصداءَ سنابكِ الخَيل..
لم يكنْ في السَّاحةِ المسكونةِ بالهجرانِ حصانٌ ولا عَربةٌ
لم يكنْ وراءَ الأَسوارِ قائدٌ، ولا فتاةٌ شجاعةٌ تُلهِمُ المدافعينَ،
لم يكنْ حارسٌ هناكَ ولا حتى نافخِ بوقْ.
النسائمُ تلهو بأَطرافِ الستائرِ
وفي آخر الزقاقِ صبيٌّ صغيرٌ يلهو بعجلةٍ.
الخيلُ راحتْ تَمشي بخيلاءَ، مباهيةً بأَعرافها، وبوقعِ سنابكها على الصمتِ.
***
عندما وصلَ البرابرةُ في ذلكَ اليوم
كان بابُ المدينةِ مفتوحاً والصائفةُ تلهو بأوراقِ الشَّجر.
شعرَ قائدهُمُ بالخِزي لأَن الأبوابَ كل الأبوابِ، كانت مفتوحةً،
لم تَنفلق جمجمةٌ بسهمٍ، ولم يسقط فارسٌ عن فرسٍ!
وبخِزي أكبرَ شعرَ قائدهم لأن رجالَه لم يرسلوا إلى الحصونِ والأَسوارِ كراتِ النارِ
ولم تكنْ لديهمُ فرصة ليهدموا قلعةً ويقيموا في محيطِها برجاً من الجّماجمِ..
والمؤسفُ أكثرَ أنهم بلغوا بطلائعهمُ قلبَ المدينةِ، ولم ترتفع ملاءةٌ بيضاءُ على حانوتٍ أو بيتٍ،
لم يركعْ جريحٌ،
ولم تهتف امرأةٌ: احرقوا المدينةَ، ولا تدنسوا العذراواتِ،
لا شَكوى
لا بُكاءَ
لا تَوسلات!
فقط، صمتٌ مريبٌ لا يشبهه شيءٌ سوى زيارة مقبرةٍ في جبلٍ.
والسؤالُ الآنَ:
ماذا يفعل البرابرةُ بمدينةٍ تُرِكَتْ مشرعةَ الأَبوابِ ولا يُوجدُ فيها سوى صَبيٍّ يلهو بعجلةٍ؟
***
لم يجد البرابرةُ خائناً، ولا حتى مهرجاً أو أحمق، ليكون دليلاً في المدينة.
إحباطٌ كاملٌ..
إذْ ذاكَ نظرَ البرابرةُ في وجوه بعضهم البعضَ، ولم يجدوا كلمةً تُقال.
ماذا يفعلُ البرابرةُ في مدينة اختفى سُكانها، فجأة، بصورةٍ غير مفهومةٍ!
الخيولُ التي مَلأت الساحاتِ بالعجاجِ، ضجرة راحت تنبش بسنابكها الأرضَ..
وعلى صهواتها القلقةِ، فجأةً، دَبَّ صَمتٌ يُشبهُ رعدةً باردةً سَرَتْ في أجسادِ البرابرة.
لم تنبسْ لهُمُ شفاهٌ بحرفٍ، عيونهُمُ صارتْ خَرزاً ملوناً،
ونظراتهُمُ أُحجياتٍ حَجَريَّة.
***
في آخر الزقاق، ومن الأعلى أَفْلَتَ الصَّبيُّ العجلةَ
وتَرَكَها تتدحرجُ..
جهةَ
الخيلِ
إذ ذاكَ نَفَخَ حاملُ البوقِ: نحنُ البرابرةُ لمْ نَعد برابرةً!
كانت الأبوابُ المقفلةُ ومن ورائها المدافعونَ عن الأسوارِ، والفتاةُ الشجاعةُ التي تُلهم المدافعينَ،
السهامُ، والحرابُ، وصليل السيوفِ،
الجماجمُ في الأزقةِ، والنيرانُ في العَمَائرِ..
هي الحكايةُ والمغزى.
صَهَلَتِ الخيلُ في قصيدةِ الشاعرِ، ومَشَتْ بخيلاءٍ.
حقاً، لقد كانَ البرابرةَ المحبطون لكونهم لم يصبحوا برابرةً في ذلكَ اليوم،
حَدَثاً رائعاً، خلفيَّةً مناسبةً للهو صبيٍّ بعجلةٍ في قَصيدةْ.
———————————-
رؤيا الهارب من الطغيان
I
الغيوم تساقط في حجرتي، سريري يعج بالقوارب
وجسدي دمية ضخمة على ساحل تبلغه موجات لاهثة
لا تنحسر عنه إلا لتترك أصدافا وأُشنات وسرطانات حائرة
الشمس التي غربت وراء ظهري
تركت المساء يملأ الغرفة بحطام النجوم.
أتقلب
وأنهض
في أرض أخرى.
II
وفي سهمٍ آخر من الرحلة
استيقظت ووجدت دليلي وقد انقلب واقفا وصار شجرة.
كيف لي أن أخطو الآن؟
كيف لي أن أنفك وأرومَ الـ هناك؟
أن أعبر هذا الخضم المترامي لعيني المجرحتين وقد مسخته الريح
وأحالته إلى جبال من الرمل تلتهمها الشمس؟
III
الأبواق تهدمُ الأسوار.
——————————–
الأبيغراما السورية
لو مَرَرتَ بي وكنتَ سوريا مثلي،
وكنتَ هارباً في جزيرةٍ
فكن نظيري..
ولو لم تصل
مثلي
على مركب مبحر من صور
وفي قدميك نعل من جلد الحصان..
لو وصلت، لو رمتْ بكَ موجةٌ على هذا الشاطيء،
ووصلتَ،
أيها السوري،
فلتؤثر كيوس على أثينا واسبرطةً معاً
فهي جزيرةُ الحبِّ وعلى هضابها يرقدُ العُشاق.
ولو وصلت عارياً على طوف سلوقي،
هارباً من حَمَلة السيفِ، وحراب الطاغية،
ووراءك سوريا المحترقة،
ولم تصل في سفينةٍ إغريقيةٍ ويتبعكَ بالصناديقِ عبدٌ من ساموس..
إذا ما مررتَ بقبريَ،
ووقفتَ هنا لتتهجى اسمي بلكنتك الجنوبيَّةِ
فلتتلو لأجلي هذه الكلمات:
أنا ميلياغروس الجداري، ترعرتُ في هضابِ حوران،
وهبَّ على جبيني بارداً هواءُ حرمون
وعندما بلغتُ صورَ فتى عاشقاً
أغوتني أشرعةُ المراكبِ، ووجدتُ نفسي في كيوس
لا يغرنكَ أن يكون اسم أبي إيوقراتيس،
فالسوريون جميعاً في ذلك العصر رفلوا بأسماءَ إغريقية.
كن نظيري،
أنا ميليا غروس الجداري،
واقرأْ لأجليَ هذه الأبيغراما المستلة من “الإكليل” عن مراكبِ السوريينَ الهائمينَ في البحر.
——————————-
أنشودة أوروبا
ما الذي جعلَ الإغريقَ يتخيّلونَ أن ثوراً أعرجَ يمكنه أن يُغري أميرةً من صور،
لأبرحَ برفقته مطلعَ الشمسِ إلى أرضِ الظلماتِ،
وببابِ قصرِ أبي أكينور يركعُ البحرُ،
وتنزلُ السماءُ لتزيّنَ الحدائقَ بالأنجمِ والكواكبِ.
يا للخيالِ الإغريقي الجامح!
حتى الحداد الذي ولدَ في ميلوس
ولم يسمع بجزيرةٍ اسمها ميكونوس
لن يقبل بهذهِ الفكرة
إيسوبوس، أيها البارعُ في تلفيقِ الحكاياتِ
أرو لنا عن أميرةٍ في الشرق حكايةَ أُخرى!
ولو اضطررتِ إلى مثالٍ،
عليكَ بأبوليوس النوميدي وجحشه الذهبي،
ولو أردتَ شيئاً مُجَرباً حقاً، ويمكن له أن يبقى في ذاكرةِ الإغريقِ
وأصهارهم الفنيقيينَ
عليك بلقيانوس السميساطي فهو سيِّد الكلماتِ.
——————————–
فلاسفة وطغاة
فكرة إيسوبوس
لمّا تشككَ المريدونَ بالفلاسفةِ،
لمجرد أن غيمةً مكفهرةً هطلت مطراً أسودَ في منامِ مُريدٍ
هجروا رواقَ المنطقِ
وطافوا في المدينةِ وراءَ أَجهرهم صوتاً:
نريدُ كاتباً له خيالُ أبوليوس وخفَّة دمِ أريستوفانيس..
لماذا تذهبونَ بعيداً، هَتَفَ إيسوبوس الراجعُ من دلفي ومعه الإشارةَ..
قبلَ نصفِ ساعةٍ، فقط، نلتُ حريتي
ومعي تصريحٌ من القضاةِ بابتكارِ القَصص
صحيحٌ أن أبطالَ حكاياتي ليسوا بشراً
لكنهم على الأقل ليسوا كمثل لوكيوس، بدأَ حياتَه إنسانا، ثم تحوّل إلى حمارٍ،
وانتهى كاهناً في معبد.
يا لخفَّة القدرِ،
تركتُ أكسانتوس ورائي يشربُ البحر
وبلاتو يتمشى على الشاطيء وينشدُ الشعرَ،
وجئتُ لأرمي الكرةَ للاعبِ
وأنصرفُ.
لا تخلطوا الخمرةَ بالزيتِ، ولا الماءَ بالعسلِ.
هل كان المريدون الأثينيون، مراهقين مغرورين
لما فحصوا الخيوطَ ووجدوا خيطاً غريباً في بساطِ الفلسفة؟
ما ذنبُ سقراط، لو خرجَ مريدُه كريتياس على المسرحِ بقناعِ طاغيةٍ إسبارطي
ولكن ما هذا الخلطُ بين الأزمنةِ؟ هل ستنتظرونَ ثلاثةَ قرونٍ أُخرى
حتى يولدَ أبوليوس الذي أرادَ تحويلَ بطلهِ إلى طائرٍ فتحوّل إلى حمار؟
أنا إيسوبوس
ولدتُ في ساموس، واستُعبدتُ في رحلةِ صيدٍ مشؤومةٍ بين جزيرتين،
المؤرخون يشككونَ بإغريقيتي.. لا بأسَ،
فلأكن مصرياً، أو فينيقياً، أو بونيقياً
حكاياتي لا يُشَقُّ لها غُبار.
————————————
مرسوم كاراكلا سنة 212 ميلادية
أيُّ ضَرْبةٍ صاعقةٍ، أيُّ رؤيةٍ بعيدة لناظرٍ من هَضَبَةٍ
بإيماءةٍ مفاجئةٍ،
إشارة لا أكثر من إصبعِ فتى في رداءٍ أرجوانيٍّ
أسمرَ، لأبٍ بونيقيٍّ وأمٍّ سورية
يتحول كلُّ من كانوا غرباءً في روما، حتى يوم أمس، إلى مواطنين رومانيين؟
كيف سيتصرف الأرستقراطيون المفجوعونَ بعد اليوم؟
هل يَمشي البَربريُّ بجوارِ النبيلِ، ويزحمه بكتفهِ: أَنا أَيضاً رومانيٌّ!
وهل يحتمل أولئك المصدومونَ من الخبرِ مَرآى عابدي إيل وعشيرة يحتشدون في الأغورا، ويهللون للمرسوم الإمبراطوي المنقوش على الحجارة..
مبتهجينَ بتلك السطورِ المبهمة،
وهم يهزون رؤوسهم، مثلنا، نحن الرومانيين،
كما لو كانوا هم أيضاً يقرأونَ اللاتينية!
اليوم، بعد العصر، عندما يصلُ إلى مجلس الشيوخ:
السوريُّ والأرمينيُّ والنوميديُّ والمصريُّ ومعهم البربريُّ من بريتانيكا،
هل سيجلس هؤلاء بملابسهم الغريبة في مقاعد النبلاءِ؟
ماذا سيقولون للحضور وبأيِّ لغة سيتكلمون؟
هل يكون لهم رأي في شؤون الحكم؟!
وفي ما بعد، عندما يصحو الارستقراطيونَ من الضربةِ
في أيِّ معبد سيقدِّم هؤلاء لآلهتهم الأضاحي،
والسوريون في أسواقِ روما ومعابِدها جعلوا لجوبيتر قرني بعل، ولأفروديت سحنة عشتار؟
بإيماءة مفاجئة، لا نعرف حتى الآن إن كانت مدروسةً أم مرتجلةً،
يتغيَّر كلُّ شيءٍ في هذه الإمبراطورية..
أهي نظرةٌ ثاقبةٌ من نَسْرٍ حلّقَ في شاهقٍ ورأى كلَّ شيءٍ،
أم انقلابٌ شرقيٌّ؛
انتقامٌ متأخرٌ للملكةِ السمراء المدفونة في الغابةِ بعد تحويلِ بالميرا إلى أطلال؟
من اقترحَ هذه الفكرة المذهلة على الآخر؟
بابنيانُ الحمصيّ المشتغل بالشرائع أم كاركلا الباحثُ لخزينتهِ عن الضرائب؟
بالأمسِ كان النبلاءُ الحائرونَ بدمهم الأزرق يرددون:
أيُّ نهرٍ هذا الذي يجري في روما اليوم،
التيبر أم العاصي؟
كاركلا أطلقَ النَّسر من الهضبةِ،
وأجابَ عن السؤال:
ما دامت كلُّ الطُّرقِ تؤدي إلى روما
فلتصل، إذن، إلى روما على كلِّ تلك الطُّرقِ كلّ العربات.
—————————————
أنشودة أبولودور الدمشقي
تكونين في دمشقَ،
اللؤلؤةَ
الطريقُ إلى بيتكِ في جوارِ القلعةِ صاعدةً، وخطرةً
عبّدها عُمّالي
لقدميكِ الطائشتين..
الطريقُ، ضربُ صنوجٍ، وخطواتُك في نعلكِ نشيدٌ يانعٌ.
لستُ هنا، لأرى أطواقَ الغارِ ذابلةً،
وصمتَ الطريقِ حزنَ أزهارٍ عندَ درفاتِ النوافذ.
البهجةُ أثر من صِبْيةٍ فرّقهم لَهوٌ
أسمعُ أنفاسَهم نتفاً من كلامٍ خائفٍ،
أخطو وفي ذراعي الصّدعِ المتحدّرُ من قاسيون.
صرخات المصارعين ترجُّ البوابات
عيونهم النازفةُ تلمع في صفائحِ الدروع..
الأوهام تتقاطر، الأوهام تجوب الأرض والسموات، وتؤنسُ قَلبك.
مشيتكِ في الطريقِ من البيتِ إلى الحَمّامِ، نورٌ قديم على خطوات خضراءَ.
تكونين لؤلؤةً في دمشقَ، وفي روما الصحراء خطوتي تهلكُ.
———————————-
أصابع جوليا دومنا المفقودة
أفكار الوصيفة بعد مقتلة القصر
كم مرَّةً سيغمد كركلا سيفَه في أحشاءِ الجنديِّ الذي بَتَرَ أصابع الأمبراطورة
“كان المقصود قتل الشقيق
وليس تشويه يد الأم…”
هكذا كتبَ المؤرخ في صحائفِ ذلك اليوم.
ويا لها من فضيحةٍ، أن تظهر الامبراطورةُ في المأدبةِ بيدٍ فقدتْ ثلاثةَ أصابع.
حتى لو كان كاركلا سيرسلُ الجنديَّ المُذْنبَ ليرمي نفسَه من حافَّةِ الجبلِ
فلن يتغيًّر شيءٌ!
أما هي، سيِّدةُ روما المتحدرةُ من سلالةٍ سوريةٍ نبيلةٍ،
فلن تلتفتَ لتنظرَ أصابعها التي بُترتْ وطاشت على الرُّخامِ،
ولا الدمَ الذي نَفَرَ ولطَّخَ الأرائكَ
جسدُها الذي استشعرَ نَصْلَ الشَّقيقِ على نحرِ الشَّقيقِ
تَخَدَّرَ، فجأةً
ولم يَبق في الحواس شيءٌ حيٌّ
سوى تلك الانقباضةِ الأليمةِ في الرَّحمِ.
نباهتكِ التي جعلتْ مشرعي روما يستقبلونَ سيبتموس بإكليلِ الغارِ
ذابتْ في كأسِ الابنِ القاتلِ كحبةِ الحنضلِ.
والآن،
إلى أين مَضَت الوصيفاتُ في ليلةِ الأخوينِ،
بالأصابع المقطوعة لجوليا دومنا؟
———————-
قال كاركلا
إذا كان رومولوس الذي تمجدونَ قَتَلَ أَخاهُ،
فلماذا تلومونني؟
هل سمعتم بمركبٍ في بحرٍ عاصفٍ يقودُهُ بَحّارانِ؟
لا تكونوا مثل بابنيان الحمصي، حبّر الشرائعَ باسم روما،
وقضى أخيراً بسيوفِ قناصلي!
لا تكونوا مثلَ بابنيان،
فليس مثله اثنانِ في الأرض.
————————–
رامي القوس من صور
اليومَ لن أصعدَ إلى المعبد
لا نذور عندي لجوبيتر، ولا حتى لبعل..
ما أفعلُ بآلهةٍ لم تشف غليليَ ولو لمرةٍ
بجوابٍ
عن سؤالٍ من ألف.
أعطيتُ ربع قرن من حياتي لهذا الهواء البارد،
ووتّرتُ الأقواسَ لأنال من البربري الملون بسهمي المجنح
أما وقد نزلت من السور
بدراخمات لا توصلني حتى إلى لوندينيوم على النهر،
فلأجدف إذن،
ليلَ نهار
مادمت لن أحظى، ولو في المنام، بمركب يحملني إلى صور..
والأرجح أن أموت وأدفن، هنا، في جوار هذا السور الأحمق.
هل يُنتظر مني أنا السوري الذي ضيع حياته في غابةٍ يلتهمها الضباب
أن أصحح لآلهتي الفاشلة أخطاءها المتكررة؟
من ديوان جديد قيد الطبع تحت عنوان “الالواح الشرقية”
مجلة الجديد
————————–
وصول البرابرة: عن مدينة كافافي والمعارضة الشعرية و”المسوخ” و”الأشباح” الذين انتظرهم الشاعر خارج القصيدة/ نوري الجراح
أعتبر قصيدة الشاعر السكندري قسطنطين كافافي “بانتظار البرابرة” قصيدة كبيرة بكل المقاييس. فهي على الرغم ممّا تتسم به من لغة مباشرة إلا أنها رشيقة وآسرة. لافت اختيار شاعرها لمفرداته وما تجسده من صور مبتكرة، ولافتة تراكيبها القائمة على تقنيتي السرد والتكرار، بطريقة ترصف مع كل إعادة لطرح السؤال حجراً لا غنى عنه في عمارة القصيدة وبنيتها الدرامية، وتملك بإيحاءاتها الساخرة وفنيتها اللاعبة قدرة عجيبة على تحريض قارئها الشاعر للمغامرة والذهاب بنفسه إلى مدينة تلك القصيدة، ولكن عن طريق أخرى تجعل من تلك المدينة مدينة الشاعر القارئ، ومن خطاه في إثر خُطى كافافي سفراً في سفر، ومغامرة جمالية تعد بأثر جديد مبتكر.
لمرتين على التوالي وجدت نفسي على أبواب تلك المدينة.
المعارضة الأولى: (بعد تأمل) 1991
كتبت قصيدتي “بعد تأمل” سنة 1991، ونشرتها سنة 1997. وكان قد مضى على خروجي من سوريا أكثر من عقد، وعلى وصولي إلى لندن 5 سنوات، سبقتها أسفار وحياة متقلبة بين مدن المتوسط: بيروت، قبرص، طرابلس الغرب، أثينا، وخبرات مبهجة وأخرى أليمة. وخلال ذلك العقد، كانت حواسي، وأفكاري، وتصوراتي وانشغالاتي كشاعر، ومعها انتباهاتي مشدودة بصورة ما إلى ما كان يجري في دمشق من احتلال غاشم من قبل طغمة عسكرية لكلّ ما هو مدني في المدينة، كل ما هو مستقل، كل ما هو.
القصيدة ومعارضتها
في بيروت سنة 1981 قرأت للمرة الأولى “بانتظار البرابرة” بترجمة سعدي يوسف. قد لا تكون الترجمة المثالية، ولكنها بالتأكيد كانت ترجمة مغرية. سيترجمها بعد ذلك أكثر من شاعر ومترجم نعيم عطية عن اليونانية، ورفعت سلام عن الفرنسية، وجاءت ترجمة سعدي عن الإنكليزية. وإن كنت لا أفضل أن تأتي ترجمة الشعر عن طريق لغة ثالثة، ولكن عن لغة الأصل مباشرة، لاعتبارات طرحت ونوقشت مرارا، فإن تجربة سعدي مع قصيدة كافافي تبدو لي سبباً وجيها للتنازل عن هذا الشرط.
الغواية التي ولدتها تقنية السؤال، الذي بُنيت عليه قصيدة كافافي، قبل التفكر بالرؤية الشعرية للقصيدة وشاعرها، قدحت في مخيلتي شرارة قوية حملتها معي عقداً، قبل أن أجد نفسي وجهاً لوجه أمام مدينة تلك القصيدة وما تنتظره (البرابرة) وما ينتظرها من الانتظار. لا بد أن غريزتي الجمالية كانت تضمر خلال ذلك العقد جواباً، أو (اقتراحاً آخر لعدم وصول البرابرة)، لم تجهد بحثاً عنه، فقد كان منذ صدمة القراءة الأولى حاضراً بقوة حضور البرابرة في المدينة. وبالتالي فإن الجواب عن حيرة القصيدة من عدم وصول أولئك الذين جهّزت المدينة نفسها لاستقبالهم، جعل قصيدة كافافي في ضفة وذاكرتي المدينية عن البربرية والغزو في ضفة أخرى، الأمر الذي جعل نظرتي إلى هذه المفارقة، في وقت من الأوقات، تشكك بحصافة رؤية كافافي، وترى أن ثمة مثالاً مختلفاً عن مصادر الخطر الذي يمكن أن يتهدد المدينة بتقويض وجودها، وهو ما يضعف مسوّغات اللعبة الجمالية في القصيدة، إذ يجعل من “لعبة الانتظار” لدى كافافي عملا بريئاً، وسبباً في توليد مفارقة أكثر نقدياً بالنسبة إليّ أنا السوري الذي لم ينتظر وصول البرابرة يأتون من الخارج، وها هو يضطر إلى الخروج من دمشق سراً، لأن البرابرة كانوا طوال الوقت هناك “في لباب المدينة”.
وهكذا ولدت القصيدة (واعتبرتها معارضة شعرية)، ولسببين جوهريين استبدلت “البرابرة” بـ”الغزاة”: أولاً لتمييز منطق قصيدتي، عن منطق قصيدة كافافي، فالبرابرة، كما حدست، لدى الشاعر السكندري – انطلاقاً من مركزيته الإغريقية – هم كل من لم يكن إغريقياً. مادام الإغريق يعتبرون كل من ليس إغريقياً بربرياً. وعلى ضوء هذه الرؤية، يمكن أن أكون أنا وأنتَ وغيرنا أيضاً “برابرة” وهو ما جعلني أشك في أن النظرة التي تقف وراء قصيدة كافافي ربما توحي بشيء أقوامي، يكاد يلامس فكرة العنصرية، على الرغم من أن الهيلنستية التي ظل كافافي منتمياً إليها في كل شعره تتضمن العنصرين السوري والمصري، ولكن تحت عنوانين إغريقيين كبيرين هما: السورية السلوقية والمصرية البطلمية.
لهذا السبب وغيره كان لا بد أن أختار لـ”برابرتي” اسماً آخر، لا شبهة عنصرية فيه، ووجدت “الغزاة”، فالغزاة يمكن أن يكونوا ما شاؤوا من أقوام، مادام الغزو لم يكن في أيّ وقت حكراً على قوم، وما دامت لم تنقطع لا في الجغرافيا العربية ولا في العالم أعمال الغزو والسلب والنهب من قبل غريم قادم من خارج.
ولكن ماذا عن أعمال الغريم الطالع من الداخل؟
هنا يطل السبب الآخر، وراء القلق من مصطلح “البرابرة” وضرورة تجنبه، بالتالي، انطلاقاً من الحاجة إلى تسمية الأشياء بأسمائها. فلا بد من “تغريب” أولئك الذين ظهروا في المدينة، وأوهموا ساكنتها بأنهم أبناؤها، وتصرفوا كغزاة محتلين. هكذا تذكرت (ولكن هل نسيت يوما؟!) أن “الغزاة” في المدينة. أمّا عنوان القصيدة “بعد تأمل” فهو مشتق من ذلك الإمعان في تأمل مصطلح “البرابرة”.
مدينة كافافي
مدينة كافافي “في انتظار البرابرة” هي “مدينة يونانية“. والشاعر المولود لعائلة هاجرت إلى الإسكندرية من إحدى مدن الأناضول، ينبئنا شعره أنه عاش في الإسكندرية اليونانية، وقد طردت قصائده منها جميع سكانها من عرب، وإيطاليين، وفرنسيين، ومالطيين وغيرهم.. وطردت معهم حاضر المدينة وزمنها الحديث، عندما فرّغها شعره من خضمها البشري المعاصر ومنحها وجهاً إغريقيا، وزمنا هيلنستياً. ولكن هل نحن في محاكمة لخيارات شاعر اختار ألاّ يعيش زمنه، بل أن ينتسب إلى زمن آخر لم يجد أنه زمن مضى، ليُقِيمَ شعره ونظرته على استعادة ذلك الزمن؟ أبداً.. ولكن ماذا عن إسكندرية الربع الأول من القرن العشرين بكل ما كانت تزخر به من تفاعل بين جماعات وأفكار ولغات وخبرات وتطلعات متوسطية؟
مدينة الضفة الأخرى
مدينة قصيدتي “بعد تأمل” المهداة إلى كافافي، هي المدينة الموجودة على ضفة أخرى، المدينة التي نجوت منها، “مدينة يحتلها العسكر“، “مدينة تسللت إليها من الشقوق والأطراف مسوخ تجيشت وتسيدت، لتصنع حاضرا هو خلاصة البذاءة العسكرية والانتهاك الطائفي، مدينة لصوص وعصب من “التحوت” الذين قلبوا نظام القيم في المدينة، واستبدلوا البراءة بالمكر، والأمانة بالفساد، والأفق بالأسوار، وقد استعارت قصيدتي من المدينة الهيلنستية بعض ملامحها، واحتفظت بإشارات إلى كونها مدينة معاصرة. ولكنها نموذج فريد لمدينة يقيم فيها طاغية من طراز فريد.
تخاطب القصيدة كافافي الشاعر، وقد أهديت إليه. ولم تنشر في أيّ من دواويني، ولكنها نشرت في المختارات التي أعدها وقدم لها الناقد خلدون الشمعة تحت عنوان “رسائل أوديسيوس”.
أسوق القصيدة هنا، لكي لا نبقى نتكلم في غياب الأثر:
بعد تأمّل
إلى كافافي في الإسكندرية
الغُزاةُ الذينَ انتظرتَهُمُ خارجَ قصيدتكَ
كانوا وراءَك في المدينةِ
الطَّحانُ اللصُّ، وسارِقُ العَجَلةِ من المَعْبَدِ،
التاجرُ اللاعبُ بالنقودِ، القاضي المُرتشي، المحامي المصابُ بالكَلَبِ
العسكريُّ صاحبُ النياشين،
والجنديُّ الزاغبُ في سرير المُتعة.
وفي حَضيضِ السُّلَّمِ كاتبُ التقرير بمِدادِ العِلم.
الغُزاةُ الذين انتظرْتَهم في ظاهرِ المدينةِ بالأناشيدِ،
وبالصورِ الشاهقةِ
للطَّاغية..
بالزبَد
صارخاً
في فَمِ الخطيب،
وبالموازين مطفَّفةً..
– ومن وراء لافتاتِ المَعركةِ –
بكتائبِ العَسْكَرِ وعَجَلاتِ الحَربِ غائصةً في وحلٍ،
وبالشرفِ المنزلي الرَّفيعِ..
وراءكَ وراءكَ، في السُّوقِ وفي القَلْعَةِ،
كان الغُزاةُ.
ماذا سيقولُ الدمشقيون هذه السَّنة، لهلالِ رمضان؟
الغُزاةُ الذين انتظرتْهُمُ الأمهاتُ في الحقولِ ومعهنَّ أباريقُ الحليبِ،
والآباءُ بالمناسفِ، والجدّاتُ بالتطريز..
الغُزاةُ الذين أثاروا مخيِّلة الصبايا،
وتسببوا للرجالِ بألمٍ في الحَالِبِ،
مَرُّوا في يَقَظَتِكَ،
ومرُّوا في مَنامِكَ
هكذا انتصرتْ المخيلةُ على المدينةِ، وسُحُبُ الدُّخانِ على الجِبالِ،
انتصرَ النائمونَ في عسلِ الفِكرةِ
على الضاربينَ أيديَهم في الملحِ
والعابرينَ في دَمِ الليل
انتصرَ الجنديُّ النائمُ على الجنديِّ المستيقظِ،
والهاربُ من السَّيفِ على المدافِع تحتَ السُّور.
الخطيبُ المفوَّهُ، والسياسيُّ المَرِنُ، والقُنْصُلُ المَفْضُوحُ
أنشدوا في تلكَ اللَّيلةِ
للخليعةِ الراقصَةِ:
عاشَ الوطن
عاشَ الوطن
لم يَسْأَلْ أَحَدٌ عن وجوه الضَّحايا، ولا عن أسماءِ المحطمين والمفقودين،
العرباتُ طَمَرَتِ القتلى بالغارِ والجَرحى بأكياسِ الشَّعير.
الغُزاةُ
الغُزاةُ
انتظرتَهم في القصيدةِ، وانتظرتَهم في الظِّلال،
وكانوا وراءكَ في لُبابِ المدينة.
(1991)
المعارضة الثانية: (وصول البرابرة) 2021
كتبت قصيدة “وصول البرابرة” (يجدها القارئ منشورة في مكان آخر هذا العدد) في لندن، بعد أربعة عقود من لوعة الخسارة الشخصية بفقدان مدينتي التي افتقدت خطواتي حجارة أزقتها، وظلت مقيمة في مخيلتي، خسارة دمشق، وقد بات المنفى اللندني وطناً، والمدينة الأزلية المقيمة تحت شمس المتوسط مدينة للعذاب الأسطوري.
باتت المسافة بين الواقعي والخيالي وبين التاريخي والأسطوري مفعمة بالغرائب، وعامرة بالظلال، تحوّل الغزاة إلى وحوش أسطوريين، والساكنة إلى ظلال، ولم تعد المدينة حاضرة إلا في تلك المسافة المعلقة، في زمن خارج الزمن، هو زمن الشاعر، وزمن المخيلة؛ زمن القصيدة.
أما وقد لحق بالشاعر إلى منفاه شعب المدينة، آلافاً مؤلفة من البشر الهاربين من سياط الطغيان، وقد تركوا وراءهم مدينة لم يعد فيها سوى أشباح الغزاة، فلم تعد الصيغة القديمة للقصيدة التي يحتلها الغزاة تفي بصورة المدينة التي أسطرها الطغيان.
هنا، عند هذه التخوم، وبعد أربعين عاماً من المنفى الشخي، وعشر سنوات من نهر الدم السوري، ولدت قصيدة “وصول البرابرة“، لتخرج على اللعبة كلها: القصيدة “بانتظار البرابرة” ومعارضتها “بعد تأمل”.
ها قد وصل البرابرة، إذن، يا سيد كافافي (أيها الإغريقي الذي احتل الإسكندرية)، وأنت (أيها الدمشقي الهارب من المدينة المستسلمة للغزاة). وصل الغزاة، ولم يجدوا المدينة. لم تعد المدينة موجودة. المسوخ حولوا الساكنة إلى أشباح، وتحولوا إلى “تماثيل” بعيون من الخرز الملون على خيول راحت تنبش بسنابكها الأرض. لم يكن في المدينة الخالية سوى صبيّ صغير يلهو بعجلة؛ إنه الصبي/القصيدة، الخيال الشعري الذي تحرّر من الطغاة والعبيد معاً، ولم يبق هناك سوى القصيدة بوصفها مدينة الشاعر.
والآن أتساءل هل هذا الصبي الذي راح يلهو بعجلة في قصيدة هو الشاعر في صباه، وقد استعاد مدينته، بلا برابرة، وبلا ساكنة يخضعون للبرابرة لـ50 عاماً؟
لا تخاطب القصيدة هذه المرة أحداً معيّناً، فهي تخاطب الجميع، وقد أهديتْ للسوريين بوصفهم طرواديي العصر.
لندن في 1 أيلول – سبتمبر 2021