أبحاث

عن الضحايا والجلادين… حالة سوريا/ عمرو حمزاوي

منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في 1945، والكثير من الأعمال الفنية والأدبية والفلسفية والأكاديمية الأوروبية يناقش النتائج النفسية والذهنية لخبرات الاضطهاد على الضحايا كما الجلادين. لم تتوقف النخب المثقفة في أوروبا عند الأطروحات العامة بشأن طبيعة الحكومات القمعية وأسباب بقائها كما عوامل انهيارها.

بل تجاوزت ذلك إلى التفكير والبحث في تفاصيل حياة ضحايا المظالم والانتهاكات، وحياة الجلادين الذين يتورطون في إنزال الظلم بغيرهم إن طاعة للحكومات وأجهزتها الرسمية، أو اقتناعا مريضا بإيديولوجيات تحرض على العنف واضطهاد الآخرين.

خلال العقود الماضية، لحق بالنخب الأوروبية نخب المستعمرات الأوروبية السابقة في القارتين الآسيوية والافريقية التي إما تعاملت مع الاستعمار كخبرة قمعية طويلة المدى سبقت الحرب العالمية الثانية ومذابح النازيين وصنعت ضحايا وجلادين على نطاق إنساني واسع، أو بحثت في تداعيات ظواهر إجرامية كالعنصرية والاستيطان العنصري واستغلال «الأوروبيين البيض» في سعيهم المحموم للقوة والثروة لغيرهم من الشعوب اقتصاديا وعلميا. وبالمثل لحق بالأوروبيين مثقفو أمريكا اللاتينية الذين أبدعوا فنا وأدبا وكتابات فلسفية وأكاديمية تبهر في تشريحها لثنائيات الضحية والجلاد، إن في سياق العلاقة بين المستعمرين (المستوطنين) الأوروبيين والسكان الأصليين (ذوي الجذور الآسيوية والافريقية) أو فيما خص خبرة الفاشيات العسكرية وأجهزتها الأمنية والعنف المريع الذي مارسته ضد المواطن والمجتمع إلى أن أنجز التحول الديمقراطي.

أما في بلاد العرب، فطويلا ما تجاهلت النخب المثقفة حتمية الانتقال من عموميات الحديث عن خبرات القمع والظلم والاضطهاد إلى مناقشة ما تحدثه بالبشر ضحايا وجلادين، وما تلحقه بهوياتهم وبنظرتهم إلى ذواتهم وإلى الآخرين في مجتمعاتهم. يوجد عدد محدود من الأعمال البديعة مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للأديب الطيب صالح والكتابات الأكاديمية المتميزة ككتابات إدوارد سعيد التي تناولت بالتحليل العلاقة بين المستعمر الضحية والمستعمر الجلاد، ويوجد عدد أقل من الأعمال الفنية كبعض الأفلام الروائية التي صنعها المخرج عاطف الطيب واهتمت بالعلاقة الأخلاقية والإنسانية المركبة بين الضحايا والجلادين، ويوجد بعض كتابات أصدرها في السنوات الأخيرة فلاسفة ومؤرخون وأدباء من بلدان المغرب العربي حول المتبقي من إرث الاستعمار الأوروبي في الثقافة والفكر واللغة وحول استتباع المجتمع ونخبه من قبل الحكومات السلطوية. باستثناء تلك الأعمال، لن نعثر في سجلاتنا العربية على إبداعات وأعمال تساعدنا على فهم حقائق الاضطهاد كما تتنزل في عالم الضحايا والجلادين واقعا يوميا.

عربيا، نحن اليوم في معية لحظة مناسبة لإنتاج فن وأدب وأعمال فلسفية وأكاديمية تتجاوز عموميات الحديث عن القمع والظلم وتوثق ما يحدثه الاضطهاد بنا كضحايا وجلادين. لا يغادر من تسلب حريتهم، ويلقون وراء الأسوار، السجون وأماكن الاحتجاز كما دخلوها. ويجافي الموثق من خبرات عالمية تتشابه مع أوضاعنا العربية أن نفترض أن من يتورطون في تنفيذ القمع والعنف والتعذيب وانتهاكات أخرى يحتفظون بإنسانية سوية، حتى وإن كانوا نفرا من «الموظفين» الذين يتلقون أوامر الأجهزة الأمنية أو «المواطنين الصالحين» الذين يصدقون الحكومات التي تبرر القمع. ويناقض منطق الأشياء أن يروج لوهم تمتع المدافعين عن الحقوق والحريات بقدرات بطولية خارقة تمكنهم من مواجهة القمع والتغلب على الخوف أو أن يروج لأسطورة استعداد بعض «الخيرين» للتضحية الدائمة. فالحقيقة هي أن الضعف والخوف والرغبة في النجاة الشخصية إزاء القمع الممنهج للحكومات هي مشاعر إنسانية طبيعية ومتوقعة وعميقة التأثير وتستدعي مقاومتها اعتراف الإنسان بوجودها والعمل الجماعي مع مدافعين آخرين عن الحقوق والحريات على احتواء آثارها دون ادعاء بطولات زائفة أو تورط في مزايدات كلامية.

عربيا، نحتاج إلى فنانين وأدباء وفلاسفة وأكاديميين ومبدعين وعلماء يوثقون حقائق الاضطهاد كما نختبرها ضحايا وجلادون.

نحتاج إلى فهم ما تحدثه بنا وبهوياتنا وبإنسانيتنا بعيدا عن العموميات والمزايدات. نحتاج إلى التيقن من قدرتنا الفردية والجماعية على الشفاء يوما ما من شرور الاضطهاد لكيلا نغرق في ظلامية دوائر قمع وعنف وانتقام وكراهية لا تنتهي. نحتاج إلى حديث صريح للضحايا عن خوفهم وحديث للجلادين عن عذاب الضمير والعقل، وحديث صريح أخر عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن الاضطهاد والمظالم.

فكما سألت حنا أرندت في النصف الثاني من القرن العشرين، هل يتحمل المسؤولية أصحاب السلطة والنفوذ بمفردهم أم هل يرتب تورط «الأعوان» و«الموظفين» في إنزال المظالم بالناس عبر آليات تنفيذ الأوامر مسؤوليتهم هم أيضا؟ بصيغة بديلة، وبالنظر إلى الحالة السورية على سبيل المثال، هل تقتصر المسؤولية عن المظالم والانتهاكات غير المسبوقة التي يتعرض لها السوريون على رأس السلطة التنفيذية الذي زج بالبلاد إلى هاوية فاشية ودموية مفزعة وعلى أعوانه المباشرين في المؤسسات النظامية والأمنية والرسمية أم هل تمتد خطوط المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية إلى موظفي العموم في تلك المؤسسات الذين يضطلعون بتنفيذ أوامر إنزال المظالم والانتهاكات بالناس «كروتين عمل يومي» يتضمن التورط في القتل الجماعي وسلب الحرية والإلقاء وراء الأسوار والتعذيب والتصفية الجسدية؟ بل هل تمتد خطوط المسؤولية أيضا إلى أصحاب المساحات في الفضاء العام الذين يتخصصون في تبرير أوامر ديكتاتور الشام إن بإنكار اشتمالها على مظالم وانتهاكات أو بالربط الزائف بين المظالم والانتهاكات وبين ضرورات الدفاع عن الوطن وأمنه أو باعتبارها مقدمة لإنقاذ الوطن من مؤامرات أعداء الداخل والخارج؟

كاتب من مصر

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى