رحيل ميكيس ثيودوراكيس
——————————-
يونان ثيودوراكيس: بين روح وجسد/ صبحي حديدي
غالبية عظمى من جمهور المناضل والفنان اليوناني الكوني الكبير ميكيس ثيودوراكيس (1925-2021) تعشق المعزوفة الأشهر، التي رافقت الرقصة التي لا تقلّ شهرة، في فيلم مايكل كاكويانيس «زوربا اليوناني» 1964 المستمدّ من رواية نيكوس كازنتزاكيس التي كانت قد صدرت سنة 1946 بعنوان «حياة وأزمنة ألكسيس زوربا». وهم على حقّ في هذا العشق، بالطبع، لأنّ فرادة المعزوفة تضافرت على نحو فذّ مع لغة الجسد الساخنة والحسية والحيوية في الرقصة، ولم يكن ينقص المزيج سوى شخصية ممثل كبير من عيار أنتوني كوين كي يستحق الخلود في النفوس على امتداد العالم.
البعض، من محبّي ثيودوراكيس دائماً، يساجل بأنّ لمسات كاكويانيس البصرية/ السينمائية حجبت شيئاً من الفتنة العارمة التي تتسم بها الموسيقى في الأصل؛ الأمر الذي يختلف، كما يناقشون، عن موسيقى أفلام «إلكترا» و»يوم طفا السمك» و«الطرواديات» و«إفيغينيا» من إخراج كاكويانيس نفسه، أو فيلمَي كوستا غافراس «Z» و«حالة حصار» أو فيلم سدني لوميت «سيربيكو». ثمة، هنا، وجهة نظر جديرة بالتأمل من زوايا عديدة مختلفة، لعلّ في طليعتها ذلك الامتزاج الفريد بين الموسيقى والرقصة في «زوربا» وكذلك نزوع ثيودوراكيس نحو الجملة الموسيقية الراقصة ذات المحتوى الإيروتكي والاحتفالي والباخوسي (نسبة إلى إله الخمر في الميثولوجيا الإغريقية).
البعض الآخر (وهذه السطور تزعم الانتماء إليهم، ربما بسبب من انحياز مزمن إلى الشعر!) يساجل بأنّ واحدة من الذرى الكبرى في تراث ثيودوراكيس، الذي اشتمل على أعمال رفيعة في السيمفونية وموسيقى الحجرة والباليه والأوبرا والكورال والأناشيد والأغاني وموسيقى المسرح والسينما؛ ذاك الذي اختار فيه إعادة إنتاج قصائد بابلو نيرودا «أغنية عمومية» وامتدّ تأليفها الموسيقي والكورالي بين سنوات 1973 وحتى 1981. ولا عجب في أنّ الفنان اليوناني الكبير استغرق كلّ هذا الوقت لاستكمال أربعة أقسام («نباتيات» «المحرِّرون» «أمريكا المنتفضة» و»تجيء العصافير») من قصيدة مطوّلة كانت مجموعة نيرودا الشعرية العاشرة، وكُتبت بين أعوام 1938 وحتى 1950، وتألفت من 150 قسماً، و231 قصيدة، وأكثر من 1500 بيت.
ولقد شاءت حظوظ سعيدة أن ألتقي بالمناضل والفنان الكبير مرّتين، كانت الأولى في سنة 1998 حين استقبلنا في بيته وفي مكتبه المطلّ على الأكروبول، صحبة عدد من الأصدقاء الشعراء المتوسطيين والعرب العائدين من مهرجان كافالا الشعري؛ فاستمعنا من هذا الإغريقي العتيق إلى رؤية فلسفية متكاملة، وتراجيدية أيضاً، تلخّص حال الجدل العنيف الذي تعيشه الشخصية اليونانية بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها. «الشرق روح العالم، والغرب جسده» قال ثيودوراكيس، قبل أن يضيف: «معضلة اليوناني تكمن في أنّ روحه شرقية نابضة بالحياة والفتوّة، وجســـــده غربي مشوّه مكبّل بأثقال حضارة غربية، أمريكية وأنغلو – ساكسونية، لا صلة تجمعها البتة بجوهر الإرث الهيلليني».
اللقاء الثاني كان في سنة 2005 على هامش مشاركتي في ندوة فكرية حول رحيل إدوارد سعيد، أقامتها الجالية الفلسطينية في اليونان بالتعاون مع دار النشر «نيفيلي» وكلية العلوم السياسية في جامعة بانديوس؛ ويومها كان ثيودوراكيس يتعرّض لحملة صهيونية شعواء بسبب تصريحات أطلقها بمناسبة صدور مجلدات سيرته الذاتية «كيف أعثر على روحي؟». يومها تمنيت زيارة ثيودوراكيس مجدداً، ليس للتضامن معه فحسب، بل أساساً للاستزادة من رؤاه حول اليونان والعالم؛ وتمّت الزيارة بالفعل بترتيب من الصديق الدبلوماسي والمثقف الفلسطيني عصمت صبري، الذي رافقني صحبة صديقنا الصحافي الفلسطيني محمود خزام.
فما الذي قاله ثيودوراكيس حتى انهالت عليه الاتهامات، وفي رأسها «العداء للسامية» بالطبع، ووُضع في خانة واحدة مع هتلر وغوبلز وفاغنر ومهاتير محمد (نعم!) وبُذلت جهود ممنهجة منظمة لتلويث سمعته وتحطيم اسمه وتدمير أعماله الخالدة؟ هنا أمثلة على تلك التصريحات: «نحن وحيدون. لكن ليس لدينا تعصّب اليهود واكتفاؤهم بذاتهم معرفياً»؛ «التعصب لديهم يجعلهم يتدبرون أمورهم. واليوم في وسعنا القول إن تلك الأمّة الصغيرة هي أصل الشر وليس الخير، الأمر الذي يعني أن الكثير من الاكتفاء بالذات معرفياً والكثير من العناد يسببان الأذى» و«لدينا شخص في قامة بيركليس هنا. هل تتخيلون ما الذي يمكن أن يفعله الإغريق لو كانت لديهم نزعة العدوان التي عند اليهود؟ ذلك هو السبب في أننا نسترخي. ولهذا نخجل أن نقول مَن نحن».
وللذين يمكن أن يفاجئهم العيار الثقيل في تلك التصريحات، يتوجب أن يأخذوا بعين الاعتبار حقيقة مواقف الرجل من دولة الاحتلال الإسرائيلي والحقوق الفلسطينية؛ أو مواقفه من سياسات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في أفغانستان والعراق بصفة عامة. لقد قارن على الملأ، أمام تظاهرات حاشدة ضاقت بها شوارع أثينا وتسالونيكي، بين أرييل شارون والنازية؛ وأطلق على الجيش الأمريكي صفات الوحشية والبربرية، وقبلها سافر إلى بلغراد لكي يعزف تحت وابل القصف الأطلسي. كذلك تستحق أن تُدرج في قلب الحملة الشعواء تلك الكراهية المسبقة التي يحملها الصهاينة للرجل وفنّه، والتي تتجاوز السياسة إلى تاريخ اليونان وثقافته وفلسفته و… مطبخه، أيضاً!
الأرجح أنّ الفنان الكبير أغمض عينيه للمرة الأخيرة على أطياف شروق الشمس وغروبها فوق الأكروبول، ولسان حاله يستعيد أطروحته الثاقبة: روح اليوناني الشرقية أدامت حيويته وعافيته، وجسده الغربي ألحق به السقم والوهن.
القدس العربي
————————————
ميكيس تيودوراكيس الذي أحبّ أن يعيش في لبنان/ محمود الزيباوي
رحل ميكيس تيودوراكيس عن هذه الدنيا بعدما بلغ السادسة والتسعين، تاركاً إرثاً موسيقياً غزيراً يتميّز بتنوّعه المدهش. انطلق في عالم التأليف الموسيقي باكراً، وعرف الشهرة الواسعة في منتصف الستينات. بعدها، دخل السجن في زمن “حكم الكولونيلات”، ثم عاش منفياً في فرنسا، أربع سنوات، تحولّ خلالها رمزاً من رموز الفن الملتزم. جال خلال سنوات المنفى في أنحاء العالم، وحلّ في لبنان في 1973، وقال يومها: “إذا لم أستطع في يوم من الأيام العودة إلى أثينا فسآتي لأعيش في لبنان، فلبنان أخو اليونان، انه أكثر انفتاحاً وأكثر حرية”.
وضع تيودوراكيس مؤلفاته الموسيقية الأولى في سنوات المراهقة، وبدأ اسمه يلمع محلياً في السنوات الأولى من الخمسينات. انتقل بعدها إلى باريس ليكمل دراسته، وحقق خلال بضع سنوات، نجاحاً كبيراً في عالم التأليف الموسيقي، لفت الأنظار إليه. كتب موسيقى فيلم “لقاء في ضوء القمر” في 1957، ثم وضع أغنية فيلم “شهر العسل” في 1959، وشكّل هذان الفيلمان بداية لانطلاقه في عالم الموسيقى السينمائية التصويرية العالمية. في تلك الحقبة، عاد الموسيقي الشاب إلى جذوره، ولحّن أربع أغنيات كتب كلماتها شقيقه يانيس، ثم لحّن مجموعة من أشعار يانيس ريتسوس تحت عنوان “ابيتافيوس”، وشكلت هذه الباقة ثورة ثقافية في اليونان، وما زالت شائعة وحية في الذاكرة الجماعية في زمننا.
مع صعود اليمين في اليونان، دخل تيودوراكيس بقوة في معترك الحياة السياسية، وعُرف بنشاطه الثقافي اليساري. لحّن سلسلة كبيرة من المجموعات الغنائية اعتمدت نصوصاً لأكبر شعراء اليونان، وتُعرف هذه المجموعات تباعاً بـ”أغاني الجزُر”، “أغاني المدن”، “ابيفانيا” من شعر جورج سفيريس، “موثاوزن” من شعر اياكوڤوس كامبانيليس، و”روميوسيني” من شعر يانيس ريتسوس. وتُعتبر هذه المجموعات من الكلاسيكيات الغنائية اليونانية، والكثير منها معروف عالمياً. إلى جانب هذه المجموعات الغنائية، لحّن من شعر أوديسو اليتيس، مغناة دينية الطابع حملت عنوان “أكسيون استي”، أي “له المجد”، كما ألّف مقطوعات موسيقية مسرحية عرفت نجاحاً كبيراً، وأبدع في عالم الموسيقى التصويرية السينمائية، وتمثّل هذا الإبداع في سلسلة ضمت أربعة أفلام عُرضت في 1962، وهي: “عشاق توريال”، “فيدرا”، “السكين في الجرح”، و”الكترا”. وما بات معروفاً، بلغ تيودوراكيس قمة الشهرة في هذا الميدان مع فيلم “زوربا” الذي عرض في 1964، وأضحى اسمه مرادفاً لاسم بطل الفيلم.
في ربيع 1967، رزحت اليونان تحت “حكم الكولونيلات”، ودخل تيودوراكيس في مواجهة مفتوحة مع هذا النظام العسكري، ودخل السجن، ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية، وذلك قبل نفيه مع زوجته وولديه إلى قرية زاتونا النائية. استمرّت هذه المواجهة، وأدّت إلى اقتياد تيودوراكيس إلى معسكر اعتقال في بلدة أتيكا، في مقاطعة أتيكا الشرقية. ارتفعت الأصوات المنددة بهذا الاعتقال في مختلف أنحاء أوروبا، فعمدت السلطة العسكرية الحاكمة إلى نفي تيودوراكيس، فلجأ إلى فرنسا في مطلع السبعينات. وضع الموسيقي الملتزم، خلال هذه السنوات الصعبة، سلسلة غنائية أخرى سرعان ما دخلت الذاكرة الجماعية، وبرز سينمائياً من خلال فيلم “زد” الذي اعتمد مجموعة من ألحانه اختيرت من نتاجه السابق، بسبب وجوده في السجن عند انجاز هذا الفيلم في 1969.
وقفة في القاهرة
استقرّ تيودوراكيس في فرنسا، وانطلق منها في جولات متواصلة في سائر أنحاء العالم، وبات أيقونة الفن الملتزم. في تشرين الأول 1970، فوجئت الأوساط المصرية بوصوله إلى القاهرة إثر رحيل عبد الناصر، وكتبت مجلة “الكواكب” يومها: “جاء يعبّر عن مشاعره ويعزّي مصر في فقيدها العظيم. تيودوراكيس، الفنان والسياسي، لم يدفعه شيء سوى إيمانه بالمناضل الراحل، فهو يرى فيه تجسيداً للنضال من أجل تحرير الشعوب”. في حديث أجرته معه ماري غضبان، قال الموسيقار: “أنا من أشد المعجبين بالرئيس ناصر، كان رجلاً يؤمن بشعبه أشد الإيمان، استطاع أن يجمع بين القوة والحكمة، وهذه مسألة نادرة”. وأضاف: “لم أسعد مرة برؤيته شخصياً، وكنت أتمنّى ذلك. ناصر كان صوت شعبه”. جاء تيودوراكيس حاملاً معه “تحية من شعب اليونان المكافح لهذا الزعيم القائد”، وألّف أنشودة لوداع ناصر في هذه المناسبة، ويشهد هذا العمل على اهتمامه بالعالم العربي الذي ظهر بصورة ساطعة في السنوات التالية.
بقي تيودوراكيس في المنفى أربع سنوات، ألّف خلالها مجموعة أخرى من أعماله الكبيرة، أهمها سلسلة 18 أغنية من “الوطن المرير” من شعر ريتسوس، ومغناة “النشيد العام” من نظم بابلو نيرودا. كذلك، وضع موسيقى سلسلة أخرى من الأفلام، أشهرها “حالة حصار” و”سيربيكو”. في تلك الحقبة، استعاد تيودوراكيس يومياته في السجن، ونشرها تحت عنوان “صوت الحرية”، ونقل “ملحق الأنوار” بعضاً من هذه اليوميات إلى العربية في كانون الثاني 1973، وكتب في تعريفه: “ميكيس تيودوراكيس، الموسيقار المشهور، البالغ السبعة والأربعين من عمره يُعتبر كنزاً قومياً في اليونان، وأحد أعظم المشهورين اليونانيين في العالم قاطبة، ليس فقط بسبب موسيقاه في فيلمي “زوربا” و”زد”، بل أيضاً كصوت مقاومة ضارية ضد حكم الكولونيلات. حارب ضد النازية زمن الحرب في منظمات سرّية، وحارب إلى جانب الشيوعيين إبان الحرب الأهلية. سُجن وعُذِّب. في العام 1963، ساعد في انشاء حركة الشبيبة اليسارية “لامباركيس”، والاسم نسبةً لأحد النواب كان قتله مصدراً لقصة فيلم “زد”. كان نائباً يسارياً في البرلمان منذ العام 1964 وحتى الانقلاب العسكري. أعماله الموسيقية يمنعها نظام الحكم القائم في اليونان. ويظلّ تيودوراكيس صوت الحرية، وصانع موسيقى الثورة”.
الجولة اللبنانية
بعد أقل من شهرين، وصل تيودوراكيس إلى بيروت، و”عرفه الجمهور اللبناني خطيباً وسياسياً، بالإضافة إلى ما قدّمه من موسيقى وغناء، وكانت هذه الزيارة كافية ليعود ويجد عدداً كبيراً من المتحمّسين لفنه الذي يضمّنه قضية الحرية والظلم تحت كل سماء، منطلقاً من أرضه التي شهدت قديماً وجود الأغارقة الذين مدّنوا العالم بالفن والفكر والعطاء”، كما كتب جان شاهين في مجلة “الشبكة”. جاء تيوداراكيس في آذار، وعاد في حزيران، بدعوة من طوروس سيرانوسيان، وقدّم مع فرقته أربع أمسيات، اثنتان في مسرح كازينو لبنان، واثنتان في قلعة جبيل. استهلّ الموسيقار المنفي جولته اللبنانية بمؤتمر صحافي عقده في فندق “المارتينيز” في بيروت، وقال متوجّهاً إلى اللبنانيين: “بلادكم رائعة، وإذا لم أستطع في يوم من الأيام العودة إلى أثينا، فسآتي لأعيش في لبنان، فلبنان أخو اليونان. إنه أكثر انفتاحاً وأكثر حرية”. وأضاف: “العرب يغنون كثيراً، وهذا رائع. الغناء يطهّر النفس، ويفتحها على العالم”.
عاد تيودوراكيس إلى موطنه في صيف 1974، وأمضى فيه ست سنوات، ثم انتقل من جديد إلى فرنسا في 1980 ليواصل مشروعه الموسيقي السيمفوني الذي انشغل به في الخمسينات، وحطّ في بيروت من جديد في آذار 1982 بدعوة مشتركة من وزارة السياحة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأحيا حفلة في قصر البيكاديلي، وأطلق نشيداً خاصاً بمنظمة التحرير. بقي تيودوراكيس مناصراً للقضية الفلسطينية، وعُرف بتصريحاته المعادية للصهيونية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والغريب أن وسائل الإعلام العربية لا تذكر شيئا عن هذا السجال الإعلامي الذي بلغ الذروة في 2012.
واصل الفنان مسيرته بعدما بلغ الخامسة والثمانين، وأضاف إلى سجله مؤلفات موسيقية تشهد لقدرته الدائمة في الخلق والابداع في خريف عمره الطويل، ورحل مكللاً بالمجد يوم الخميس. وقالت وزيرة الثقافة لينا مندوري في رثائه: “اليوم فقدنا جزءاً من روح اليونان. ميكيس تيودوراكيس، ميكي المعلم والمثقف والمقاوم، رحل. هو الذي جعل كلّ اليونانيين يغنّون الشعراء”.
المدن
———————-
ميكيس ثيودوراكيس: جائزة لينين وزوربا الأميركي/ ادي لويس
الرواية الرائجة على سبيل النميمة، هي أن الممثل أنتوني كوين، كان قد اصيب بتمزق في قدمه أثناء تصوير الفيلم الأميركي “زوربا اليوناني” (1964)، ولهذا السبب وجب إدخال تغييرات على تصميم الرقصة الشهيرة في الفيلم، فحٌذفت بضع قفزات، وعُدّل إيقاع الخطوات مع بعض التغييرات في زوايا التصوير. أما كوين، ففي حوارات عديدة، ادعى أن تصميم رقصة الفيلم من ارتجاله بالكامل. ولا تبدو تلك الروايات، بعيدة من الحقيقة كثيراً، فالرقصة التي صممها اليوناني جيورجوس بروفياس اعتمدتْ على مزج وتعديل عدد من الخطوات تعود إلى تقاليد متنوعة من الرقصات اليونانية الحضرية، ولذا فإن الـ”سيرتاكي”، أسلوب الرقص الذي باتت تعرف به رقصة “زوربا”، يصنف على أنه “فولكلور حديث” ينسب إلى بروفياس نفسه، ويعود إلى ستينيات القرن العشرين، ويعود الفضل في رواجه إلى استديوهات هوليوود.
يكاد لا يخلو عنوان خبري ينعي الموسيقى اليوناني، ميكيس ثيودوراكيس، من إشارة إلى تألفيه موسيقى “زوربا” وبالأخص إلى تأليفه موسيقى رقصة الفيلم. إلا أن الرجل الذي توفي قبل يومين عن 96 عاماً، لديه أكثر من ألف عمل موسيقي آخر، بالإضافة إلى تاريخ نضالي وسياسي طويل. إذ شارك ثيودراكيس، المنتمي إلى الحزب الشيوعي اليوناني، في الحرب الأهلية ضد القوات البريطانية وقوات اليمين اليوناني بدء من العام 1943، وتذهب واحدة من الأساطير الكثيرة التي تدور حول تلك الفترة، إلى إنه أُسِر ودُفن حياً. لكن صعود سمعته السياسية يعود إلى فترة الحكم العسكري الذي بدأ مع الانقلاب في إبريل من العام 1967، ولم يكد يمر عليه ثلاثة أشهر حتى أصدرت المافيا الحاكمة قراراً بمنع إذاعة موسيقى ثيودوراكيس في وسائل الإعلام، وفي شهر أغسطس من العام نفسه، أُلقي القبض عليه. وبين السجن والمنفى، عاد إلى اليونان في 1974، لينخرط في العمل السياسي المباشر، ويخوض انتخابات عُمودية أثينا، ويخسرها، ثم عاد وفاز بمقعد في البرلمان أكثر من مرة في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حتى عيّن وزيراً بين العامين 1990 و1992. وطوال تاريخه السياسي الممتد، ظل ثيودراكيس مناصراً لحركات التحرر الوطني، ومعارضاً شرساً للصهيونية، وكانت واحدة من آخر معاركه، وقوفه بشدة ضد الغزو الأميركي للعراق.
“تنوء اليونان تحت ثقل طبقات من التاريخ، حتى أصبح الأمر أشبه بالكليشيه”، يكتب الباحث الأميركي أنتوني شاي، في كتابه “سياسات الكوريوغرافيا” (Choreography Politics) في إشارة لعلاقة الماضي المتخيل بالثقافة الحديثة. فبحسبه، لم تكن رقصة “زوربا” منتَجاً هوليوودياً فحسب، بل إن الرقصات الريفية في أعراس القرى وحفلات النوادي اليونانية في المهجر، قامت بتعديل رقصاتها التقليدية لتتناسب مع “الفولكلور الحديث” الأكثر جاذبية للسياح، والمفهوم أكثر لمواطنيهم في مجتمعات المهجر. لكن شاي يعود بعملية “اختراع التراث” إلى ما هو أبعد من الستينيات. فاليونان، كونها المختبر الأول لفكرة الدولة القومية، بثورة الاستقلال ضد العثمانيين وتأسيس المملكة اليونانية في 1832، خاضت واحدة من أعنف عمليات خلق الهوية الوطنية قسراً. تمثلت تلك العملية في سلسلة الحروب اليونانية-التركية، وعمليات التطهير العرقي على جانبي الحدود وتبادل السكان، وهي الممارسات التي صارت بعد ذلك نموذجاً لمذابح مشابهة، لكن أكثر اتساعاً، عشية إعلان استقلال الهند وباكستان، وكذا اتخذت موضعاً مرجعياً واعياً في المخيلة الصهيونية لفرض دولة إسرائيل، عبر عمليات تهجير واسعة للسكان. لكن الأمر لم يتوقف هنا، فعبر إنكار وجود الأقليات الألبانية والبلغارية والتركية والغجرية والرومانية، لصالح فكرة إحياء هيلينية أرثوذوكسية، تم إنكار التراث الغني والمتنوع لليونان الحديثة. وتدريجياً، استُبدلت مئات من صنوف الرقص الشعبية وأساليبه الفولكلورية، لصالح صيغ حضرية معدلة تناسب ذائقة برجوازية المدن، وكانت “زوربا” نسختها الأخيرة الأوفر حظاً من سلسلة طويلة ومكثفة من عمليات الفرز والمحو والدمج والتخليط.
ما يقال عن كورويوغرافيا “زوربا”، ينسحب أيضاً على موسيقاها. ففي مطلع عقد الستينيات، كان ثيودوراكيس، العائد من دراسة الموسيقى في فرنسا، قد دخل مرحلة جديدة في جمالياته الموسيقية. فبعد عدد من المؤلفات الكلاسيكية الصرفة، جاءت مرحلة العودة إلى التراث اليوناني، أو ما أطلق عليه هو أسلوب الـ”ميتا سيمفوني”، أي تطعيم بنية الموسيقى الكلاسيكية، بتيمات وعناصر وأصوات وآلات تراثية وطنية. كانت تلك عملية انتقائية بشكل شديد التعسف، وتأثرت بشكل كبير بالموسيقى النضالية للأحزاب الشيوعية الأوروبية في حقبة الحرب الثانية وما بعدها، وجاءت بعد سلسلة طويلة من عمليات الفرز التي اتبعتها الدولة اليونانية وبرجوازيتها، خلال قرن من الاستقلال، لفرز ومحو الموسيقى غير الهيلينية، و”الملوثة” بالمؤثرات الشرقية.
لا يعنينا سؤال الأصالة هنا، ليس لإنه بلا معنى، لكن لإن إجابته مستحيلة، فمن يحدد الأصيل؟ أو عند أي نقطة في التاريخ يمكن حساب الأصالة؟ كان ثيودوراكيس بعمره المديد، و”زورباه”، منتجات مكثفة وإيقونية للقرن العشرين، بصراعاته وحروبه، بإباداته البشرية والثقافية، بمفارقاته التي تشبه سخرية تاريخية من ادعاءات الأيديولوجيا والأصالة والهوية الوطنية. فلعل ثيودوراكيس، المناضل الشيوعي المخلص، الحاصل على جائزة لينين للسلام السوفياتية، كان سيظل موسيقياً مشهوراً في بلده الصغير، ومجهولاً خارجها، لولا فيلم هوليوودي وجائزة الأوسكار التي نالها، ورقصة يقال أن ممثلاً أميركياً مكسيكياً قد ارتجلها، رقصة صارت رمزاً لليونان الحديث، بل ويمكن القول بقليل من المبالغة، إنها اليونان الحديثة.
——————————-
أسامة العيسة…ميكيس ثيودوراكيس موسَق الموت وعزف للحياة! كازنتزاكس: “حتى لو كان الموت يجب أن نحوله إلى رقصة“
زوربا، من حوَّل الموت إلى رقصة
ميكيس ثيودوراكيس، موسَق زوربا، والموت-الرقصة، وعزف للحياة، والشعوب المقهورة.
زوربا اليونانيّ، واحد من أبطال الروايات النادرين الذين يكوّنون شخصياتهم المستقلة، حظي بتجسيد الممثل انطوني كوين (1905-2001)، لشخصيته على الشاشة الكبيرة، وبموسيقى ميكيس ثيودوراكيس، التي طنّت في أُذن العالم.
في مثل معظم الأعمال المأخوذة عن روايات، تبقى الأفضلية بالنسبة إلى كثيرين، إلى شخصية زوربا الروائية، التي خلقها، الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكس. في مذكراته “تقرير إلى غريكو” التي نقلها إلى العربية، الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، يتحدث كازنتزاكس عن زوربا الّذي: “علمني أن أحب الحياة، وأن لا أخاف من الموت”.
موت زوربا صدم كازنتزاكس، الّذي تقلب في فراشه حتى اخترقته شمس الربيع، وأبانت عن منحوتة، كان والده علقها فوق رأسه: “هذه المنحوتة قد كشفت لي سر حياتي ببساطة مدهشة. وربما أنها كشفت لي سر زوربا أيضًا. كانت نسخة من حجر منحوت على قبر، تحتوي على محارب عار لم يتخل عن خوذته حتى وهو يموت. وكان المحارب راكعًا على ركبته اليمنى، وهو يعتصر صدره بكفيه، بينما ترفرف بسمة هادئة على شفتيه المطبقتين. كانت الحركة البهية لهذا الجسد المتين من نوع يجعلك تحار فيما إذا كانت الحركة حركة استسلام للموت أو حركة في رقصة. أم لعلها رقصة وموت معا؟”. يضيف كازنتزاكس “حتى لو كان الموت يجب أن نحوله إلى رقصة”.
انبعث زوربا الذي حوّل الموت إلى رقصة، في رواية، يحلو للكثيرين وصفها بالخالدة. وشارك ميكيس ثودوراكيس، في موسقتها على الشاشة، ولعها كانت تطن في أذنيه، وتضرب قلبه، الذي سكنه كثيرون، ومنهم شعبنا المسكين، الضعيف، المفتت، وهو يذهب للقاء زوربا، وكازنتزاكس.
(*) مدونة نشرها الروائي الفلسطيني أسامة العيسة في صفحته الفايسبوكية
——————————-
سيرته تشبه الأساطير الإغريقية.. رحيل الملحن والناشط ميكيس ثيودوراكيس
عن عمر ناهز 96 عامًا، توفي قبل يومين ميكيس ثيودوراكيس، الموسيقي والملحن اليوناني المحبوب الذي حظيت موسيقاه المفعمة بالحيوية ونشاطه السياسي بإشادة دولية وألهمت الملايين في وطنه والعالم.
وأعلن التلفزيون الحكومي عن وفاته يوم الخميس في منزله بوسط العاصمة أثينا بعد سنوات من علاج أمراض القلب، لتنتهي حياة حافلة تداخلت فيها مسيرته الفنية مع النضال ضد النازيين والدكتاتورية العسكرية في وطنه، في حين كانت ألحانه تعرّف العالم بموسيقى بلده ورقصاته.
اشتهرت مسيرة ثيودوراكيس الغزيرة، التي بدأت في سن 17 عامًا، بمجموعة متنوعة بشكل كبير من الأعمال التي تراوحت من سيمفونيات حزينة ونشيد لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى أعمال الموسيقى الشعبية اليونانية وعشرات الأعمال السينمائية مثل فيلم سيربيكو عام 1973 وزوربا اليوناني عام 1964.
لكن الموسيقار الكبير صاحب الصوت الأجش والشعر المموج، يتذكره اليونانيون أيضًا بسبب معارضته الشديدة لأنظمة ما بعد الحرب التي اضطهدته وحظرت موسيقاه، وتم تنكيس العلم اليوناني إلى نصف ارتفاعه في الأكروبوليس مع إعلان الحداد الوطني لمدة 3 أيام في البلاد.
وقالت الرئيسة اليونانية كاترينا ساكيلاروبولو في بيان نعي “عاش بشغف، حياة مكرسة للموسيقى والفنون ولبلدنا وشعبه”، وتابعت “كتب موسيقى أصبحت متداخلة مع التطورات التاريخية والاجتماعية في اليونان في سنوات ما بعد الحرب، والموسيقى التي قدمت التحفيز، والمواساة، والاحتجاج، والدعم في الفترات الأكثر ظلمة من تاريخنا الحديث”.
وعزّى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الخميس، بوفاة الموسيقار اليوناني المشارك في تلحين النشيد الوطني فلسطيني، عبر برقية أرسلها لعائلته وقال فيها “تلقينا بأسفٍ وحزنٍ عميقين نبأ وفاة الموسيقار والسياسي والصديق الكبير لشعبنا الفلسطيني السيد ميكيس ثيودوراكيس”.
وأضاف “سنستذكره وشعبنا بكل إجلال وإكبار كصديق ومناصر لقضيتنا العادلة، وحاملاً للجنسية الفلسطينية الفخرية، ومتوشحًا بالكوفية الفلسطينية”.
ميكيس ثيودوراكيس | ١٩٢٥-٢ أيلول ٢٠٢١
السياسي والموسيقار اليوناني العالمي ومؤلف الموسيقى الشهيرة لفيلم زوربا،قام عام ١٩٨١ بتأليف موسيقى لتكون نشيدا وطنيا لفلسطين وقدمها في بيروت
في الفيديو-الذي نُشر لأول مرة مع ترجمة عربية على الصفحة-من مقابلة مع التلفزيون السويدي ١٩٨١يحكي القصة1⃣ pic.twitter.com/1v3cQnwsvG
— The Palestinian Archive الأرشيف الفلسطيني (@palestinian_the) September 2, 2021
سيرة مؤلف موسيقي وناشط سياسي
تلك الموسيقى اليونانية التي تبدأ هادئة فاترة بطيئة بمرتكزات إيقاعية متباعدة، ثم لا تلبث أن تتصاعد لتحتدم وتضطرم معها حركة الجسد في انطلاقته وعنفوانه، ليست إلا تجنيحة من تجنيحات إبداع شخص اسمه ميكيس ثيودوراكيس، كانت حياته أقرب إلى الأساطير الإغريقية بدراميتها وطابع المواجهة الدائمة فيها.
وكان هوسه بالموسيقى جليا، بل فطريا، فقد وضع أول ألحانه وهو في الـ12 من عمره (1937). وبقدر ما كانت الرغبة في تعلّم أصول الأنغام وأحوالها وأوضاعها وأزمنتها جامحة لديه، كان مسار الأحداث التاريخية في اليونان يدفعه في اتجاه بعيد عن الموسيقى كل البعد، اتجاه النضال السياسي والاجتماعي، حتى أنه وجد نفسه في مواجهة كل أنواع الدكتاتوريات، بدءاً بالاستعمار الثلاثي الألماني الإيطالي البلغاري الذي تسلط على اليونان إبان الحرب العالمية الثانية (1941-1944)، انتهاء بدكتاتورية الجنرالات الانقلابيّين (1967-1974)، مرورا بمآسي الحرب الأهلية وفظاعاتها (1946-1949).
وُلد ثيودوراكيس في جزيرة خيوس بشرق بحر إيجه في 29 يوليو/تموز 1925، وتعرض للموسيقى والسياسة منذ صغره. بدأ كتابة الموسيقى والشعر في سن المراهقة، مع دخول اليونان الحرب العالمية الثانية. وخلال الحرب، تم اعتقاله من قبل المحتلين الإيطاليين والألمان لتورطه مع جماعات المقاومة اليسارية.
عارضت بعض هذه المجموعات نفسها بشدة الحكومة والنظام الملكي اللذين قادا اليونان مباشرة بعد الحرب، مما أدى إلى حرب أهلية بين عامي 1946-1949 خسر فيها المتمردون المدعومون من الشيوعية في النهاية.
سُجن ثيودوراكيس وأُرسل إلى جزر يونانية نائية، بما في ذلك معسكر “إعادة التعليم” سيئ السمعة في جزيرة ماكرونيسوس الصغيرة بالقرب من أثينا. نتيجة للضرب المبرح والتعذيب، عانى ثيودوراكيس من كسور في أطرافه ومشاكل في الجهاز التنفسي وإصابات أخرى أصابت صحته طيلة حياته. كان يعاني من مرض السل، ونُقل إلى مستشفى للأمراض النفسية.
في كل هذه المحطات وقف ميكيس ثيودوراكيس وجها لوجه أمام الموت، بل خاض تجربته بكثير من العناد والإصرار على الحياة. ففي سنة 1942 أوقف وعذّب بتهمة المشاركة في المقاومة الشعبية للاستعمار، ثم أطلق سراحه. وفي سنة 1946، وإثر مشاركته في مظاهرة ضد القوى اليمينية التي افتكت السلطة رغم إرادة الشعب تم تعنيفه بشدة إلى درجة ظن فيها الجميع أنه فارق الحياة فتم إيداعه غرفة الأموات في المستشفى، ولكنه أفاق في المشرحة.
رغم المصاعب، تمكن من إثبات نفسه كموسيقي محترم. تخرج في مدرسة أثينا للموسيقى عام 1950 واستكمل دراسته في باريس بمنحة دراسية عام 1954.
بعد الانقلاب العسكري في اليونان عام 1967، تحول إلى الحياة السرية ووجه أول رسالة للمقاومة، فاعتقل على إثرها وسجن، ولكنه ظل يكتب الألحان ويرسلها إلى المغنية اليونانية ماريا فاراندوري والفنانة ميلينا ميركوري.
ساءت حالته الصحية بشكل خطير فقامت حركة احتجاجات أوروبية، اضطرت الانقلابيين لإطلاق سراحه، فسافر عام 1970 إلى باريس حيث كثف نشاطاته الفنية ولقاءاته مع الشخصيات الأوروبية ضد الانقلاب، وأسس عام 1976 حركة “حضارة السلام”.
وخلال الأعوام 1981-1986 و1989-1992 انتخب نائباً في البرلمان اليوناني، وعين وزير دولة خلال الأعوام 1990-1992، وأسس لجان صداقة بين اليونان وتركيا ظهرت للعلن عام 1986، كما أقام عدة حفلات موسيقية في تركيا لتمتين الصداقة بين البلدين، وعمل على نقل رسائل من قادة اليونان إلى القادة الأتراك.
بعد كارثة تشيرنوبل عام 1986 قام بجولات وحفلات في أوروبا ضد الطاقة النووية، كما قام بعدة مبادرات سلام بين دول أوروبا.
كان من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، ولعب دورا في مساعدة الفلسطينيين خلال حصار بيروت عام 1982، حيث أدان الاحتلال الإسرائيلي، كما قام بأدوار وساطة بين إسرائيل والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وعزفت موسيقاه عند توقيع اتفاقية أوسلو عام 1994.
كان عضوًا في البرلمان عن الحزب الشيوعي اليوناني لمعظم الثمانينيات، لكنه خدم لاحقًا في مجلس وزراء الحكومة المحافظة. وتحدث في مسيرات مؤيدة لقيام دولة فلسطينية، وتحدث بقوة ضد الحرب في العراق ومؤخرا شارك في معارضة اتفاق لإنهاء نزاع على الاسم بين بلده اليونان ومقدونيا الشمالية.
الأعمال المبكرة
بدأت حياته الفنية كمؤلف موسيقي جاد، حيث عمل على مجموعة كبيرة من الأنواع من المقطوعات السينمائية وموسيقى الباليه إلى الأوبرا، بالإضافة إلى موسيقى الحجرة والتراجيديا اليونانية القديمة والأعمال الشعبية، مما فتح الباب أمام أعمال الشعراء البارزين للتحول إلى الموسيقى، بما في ذلك الشاعر والمسرحي الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا، والشاعر اليوناني الحائز على جائزة نوبل أوديسياس إليتيس.
وضمت السلسلة الموسيقية التي أنتجها عملا مبنيا على قصائد كتبها الناجي من معسكر الاعتقال النازي إياكوفوس كامبانيلس، قصيدة ثلاثية ماوتهاوزن، التي وصفت أهوال الحياة في المعسكرات والمحرقة.
لكن الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار عن فيلم نيكوس كازانتزاكيس “زوربا اليوناني” في عام 1964، هو ما جعلت منه اسمًا مألوفًا، وحصل الفيلم من بطولة أنتوني كوين وآلان بيتس وإيرين باباس على 3 جوائز أوسكار.
اضطرابات بلاده
لم تكن السياسة على هامش حياة ميكيس ثيودوراكيس بل في صلبها تماما، ولم تكن الموسيقى بالنسبة إليه متعة أو ترفا أو إطرابا، بل روح شعب ورسالة حرية، وهذا ما أثبتته الأحداث بتراجيدية تذكرنا بأشهر مآسي الإغريق.
ففي مايو/أيار 1963 أفاقت اليونان على نبأ اغتيال أحد زعمائها الثوريين الطبيب غريغوريس لامبراكيس (1912-1963) في واقعة دوّنت في سجلات البوليس على أنها حادث سير عادي. وقد كانت هذه الحادثة سببا في عودة ميكيس ثيودوراكيس إلى السياسة مرّة أخرى من خلال تأسيسه حركة “الشبيبة الديمقراطية لامبراكيس” وهي حركة سرعان ما شهدت انخراط أكثر من 50 ألف شخص، ونجحت في تأسيس نحو 200 مركز ثقافي على امتداد أرجاء اليونان.
والأهم من هذا وذاك أن هذه الحركة كانت سببا في إنتاج شريط سينمائي مستوحى من الحادثة بتمويل جزائري فرنسي يحمل عنوان (Z)، أخرجه اليوناني كوستا غافراس وشارك في أداء أدوار البطولة فيه الممثل الفرنسي الشهير إيف مونتون واليونانية إيرين باباس، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
ومن خلال هذا الشريط أثبت ميكيس ثيودوراكيس مرة أخرى أن الموسيقى التصويرية ليست زينة خارجية تضاف إلى الأشرطة السينمائية، بل هي روح الفيلم وجوهره الذي ينطق بما لا ينطق به الممثلون.
في تلك الفترة، أصبح ميكيس ثيودوراكيس مزعجا حقا، فتم اعتقاله ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ولكن موجة التضامن العالمي معه أجبرت السلطات اليونانية على نفيه خارج البلاد، وليتها لم تفعل، فقد كانت إقامة ثيودوراكيس في منفاه الباريسي مناسبة للتشهير بالنظام القائم في بلاده، وفرصة أتاحت له التعرف على رموز ثقافية وسياسية شهيرة ومؤثرة، مثل الشاعر بابلو نيرودا والثائر سلفادور أليندي والرئيس جمال عبد الناصر والماريشال تيتو والقائد ياسر عرفات. وهذا ما جعل منه رمزا من رموز الحرية في العالم، وصوتا لمن لا صوت لهم، حتى إنه لم يتردد في الوقوف على المسارح مرتديا الكوفية الفلسطينية ومناصرا القضايا العربية.
ومع نمو شهرة ثيودوراكيس، استمرت الاضطرابات السياسية في اليونان، وتم حظر مؤلفاته من قبل الدكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد بين عامي 1967 و1974، وحولت موسيقاه إلى موسيقى تصويرية للاحتفالات عند استعادة الديمقراطية وكذلك في مسيرات المقاومة الاحتجاجية التي استمرت لعقود.
يقول ألكسندروس زاكرياديس، مرشح الدكتوراه في العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، لقناة الجزيرة “بالحديث إلى أشخاص من جميع أنواع الحياة، من جميع الأعمار والخلفيات السياسية المختلفة، يبدو أننا فقدنا شخصية الأب”. وأضاف “كما تعلم، مثل الأب الذي لا نحب حقًا جميع جوانبه، لكننا نقدره كنوع من الإرشاد”.
وأوضح زكرياديس أن “ما فعله ثيودوراكيس هو إحداث ثورة في الموسيقى اليونانية، وفي الوقت نفسه إحداث ثورة في السياسة بطريقة ثقافية للغاية”.
وأضاف “كانت حقيقة أنه اختار وضع موسيقى ذات صوت فولكلوري للغاية -صوت البوزوكي- على كلمات الشعراء ليس فقط من اليسار اليوناني، مثل جيانيس ريتسوس ومانوليس أناجنوستاكيس، ولكنه أيضًا وضع موسيقاه في كلمات وقصائد جورجيوس سيفريس أو أوديسياس إيليتيس، اللذين لم يأتيا من اليسار، مما جعل شعرهم عالميًا ومتاحًا للمواطنين اليونانيين العاديين.
وتابع زكرياديس “لقد أحدث ثورة في الموسيقى، لكني سأقول أيضًا إنه أحدث ثورة في السياسة بهذا النوع من الأسلوب”
———————————