التداوي بالسرد في رواية «حجر الصبر»/ كه يلان محمد
يسألُ بول ريكورُ عن الإمكانيات التي تمتلكها القصة حتى تجعل الأحزان ممكنة، مع أنَّه يتشككُ في خيار الرهان على السرد للتحمل والثبات، لكن يشيرُ في الوقت ذاته إلى أنَّ الحياة نفسها ما هي إلا بحث عن سردٍ بوصفه صيغةً للتغلب على تجربة الرعب والفوضى. طبعا ما يقولهُ ريكور بشأن دور السرد في الصراع مع التجارب المخيفة والمؤلمة، ينطبقُ على رواية «حجر الصبر» للروائي الأفغاني عتيق رحيمي إذ يكونُ البوح والاسترسال في الكلام دافعاً لمرافقة المرأة لجثة زوجها المحارب، الذي لا يصرفُ بصره عن الفراغ، فالراوي يستبطنُ سرائر الزوجة، كاشفاً عن الذكريات المتداعية في ذهنها تارة، ويغيبُ تارةَ أخرى تاركاً لها زمام السرد، وبذلك يتمُ كسر رتابة الترقب والانتظار، خصوصاً بعد أن تستمرَ الغيبوبة أكثر مما هو متوقع، فكان من المأمول أن يستعيدَ الرجل وعيه في غضون أسبوعين، غير أن الوقتَ يمضي والمشهدُ لا يتغيرُ فالمقاتلُ راقد لا يتفاعل مع محيطه، والزوجة تقومُ بتنظيمِ الكيس الذي يحقنَ الرجل بالماء المحلى والمملح عبر الأنبوب، إذن فإنَّ المرأة تتقيدُ بالمساحة المكانية التي تحتضنُ الجثة. يتكفلُ الراوي بوصف الغرفة ومكوناتها مع انطلاقة الرواية، إذ يتابعُ كاشفاً مناخ المكان ويتطلبُ الموقف التفصيل في الوصف، لأنَّ ما يتمُ رصده في فضاء الغرفة لا ينفصلُ عن الأحداث التي ترويها المرأة لاحقاً، ومن ضمنه ستارتان مزينتان بتصاوير طيور مهاجرة لا تغادرُ شكلها المتجمد كأنَّ في ذلك معادلاً موضوعياً لمعاناة المرأة التي أصبحَ مصيرها مشدوداً إلى جثة هامدة.
نواة القصة
وقد تجدُ مشتركاً بين الإشارة إلى الطيور في افتتاحية النص، وما تعلنُ عنه المرأةُ لاحقاً عن علاقة والدها بطائر السمان، ناهيك من الطاقة البصرية المتولدة من توظيف الصورة في البرنامج السردي. ويفهمُ الغرضُ من اهتمام الراوي بالصورة، لاسيما صورة شمسية لرجل وهو يناهزُ الثلاثين من عمره حين تستعيدُ المرأةُ حيثيات زواجها برجل كان حاضراً بصورته فقط، وذاع صيته كونه بطلاً، لذا لا يهمُ حتى لو غابَ فعلياً عندما يعقدُ عليه قران خطيبته. وبذلك تكمنُ النواة الأساسية لقصة الإطار في مفتتح الرواية، ومن ثمَّ يتمددُ حزام السرد متضمناً سلسلة من القصص الفرعية، متفاوتة التأثير في الإبانة عن مضمرات الخطاب الروائي منها ما تسردهُ المرأةُ عن مقايضة أبيها بالأخت الكبيرة تعويضاً لخسارته في الرهان على طائر السمان، وما يستتبعُ ذلك من تراكم الخوف لدى الشاهدة على تلك الصفقة، كذلك يستضيفُ سياق النص قصة العمة وهي تلقي بشحناتها الدلالية على فضاء الرواية، إذ تنسحبُ الغلالة عن وظيفتها بالتدريج، وكما يقول الناقد العراقي حسن سرحان إنَّ الشخصية في العمل السردي صاحبة الأولية في توليد الدلالة، والأسبقية في إنتاج الأثر وتزايد المرونة في التأويل. الأمر الذي تراهُ في مواصفات العمة التي تؤوي ابنة أخيها بعدما يتركها الجميع وحيدة مع الجثة، غير أنَّ ذلك ليس إلا جانباً من تكوينها الشخصي، وتتضحُ أبعاد جديدة في تركيبتها مع استمرار حركة السرد، فكانت متزوجة من رجل غني ويمضى عامان دون أن تنجبَ له ولدا، ولا يكونُ مصيرها إلا الإقصاء إلى الريف، حيثُ تعيشُ مع أهل زوجها، وهناك يفترسُ بها حماها متصرفاً بجسدها كما يحلوُ له، يذكر أن لعبة تطويع الجسد تتمظهرُ في شكل العلاقة القائمة بين الشخصيات، عليه لا تتحملُ العمةُ الامتثال للدور المبتذل وتتمردُ على البيئة المُغلقة، وتقتلُ والد زوجها وتختفي على إثر ذلك الحدث، وتحسبُ من بين أعداد الموتى وهذا يعني التخفف من لطخة العار في رأي الأسرة، غير أنَّ اللحظة الفارقة في هذا الإطار تتمثلُ بمصادفة رؤية خطيبة المقاتل لعمتها في السوق، إذ ما إن يتناهي إليها صوتها حتى تلتفتُ ويقع نظرها عليها، طبعاً لا يكونُ الغرضُ من ظهور العمة إضافة عددية لشبكة الشخصيات المتحركة في حلبة السرد، بل تدفعُ بعقدة ابنة أخيها نحو الحل، ويرفعُ الستارُ عن مناورتها مع توالي الأحداث المُستعادة على لوحة الذاكرة.
مرونة النص
استضافة القصص وتسريب الأمثال الشعبية والمقاطع من الأغاني المعبرة عن خصوصية الروحية الأفغانية من مواصفات مكونة لهوية أعمال عتيق رحيمي، وهذا ما تراه على وجه الخصوص في «حجر الصبر» فبموازاة ما ترويه المرأةُ عن حياتها ومعاناتها مع الأعراف السائدة في المجتمع البطريركي، يتسعُ النطاق السردي لقصة منقولة من الجدة، تدور حول عقدة أحد الملوك لا يشغلهُ سوى هم واحد وهو أن لا تكون له بنت أبداً، لكن أخبره المنجمون في ليلة عرسه بأنَّ امرأته تنجبُ له بنتاً تلوث شرف العائلة، ومن هنا كلما ولدت بنت أمر الملك بقتلها يطيعُ الجلادُ الأمرَ ويبدأُ بقتل البنت الأولى والثانية، غير أنَّ الثالثة تنطقُ قائلة إذا ما تركت ستكون لها مملكة خاصة، والحال هذه تهربُ الملكة مع الوليدة والجلاد. تمرُ السنوات يواجه الملك في غزواته مملكة وقفت بوجه طموحاته، ولا ينفعُ معها الحصارُ وتبادرُ ابنة الملكة بالذهاب للتفاوض مع الملك الغازي، ويقعُ الأخير في حب الأميرة وما أن تعرفَ الأمُ بذلك حتى تنهار صارخة «قدر ملعون» ولا يصعبُ على المتلقي ما يجمعُ بين هذه المروية الشعبية وأسطورة أوديب، إذ أن زنا المحارم يُطلق الشرَ من قمقمه ويضعُ المتورطين أمام خيارات تراجيدية. عدا ذلك فإن القصة إضافة إلى إرسالياتها الكاشفة عن واقع المرأة في المجتمعات المقهورة، تُحيل إلى ذكاء المرأة ومناوراتها لوقف العنف، سواء من خلال آلية السرد، كما فعلت شهرزاد، أو بالالتفاف على النسق الاجتماعي مثلما عبرَ عن ذلك تصرف العمة مع احتمال تكرار سيناريو حياتها البائسة نتيجة عدم الإنجاب مع زوجة المقاتل العقيم، وما تنقلهُ المرأةُ من حميها عن الحجر الأسود الذي كان مقعداً لآدم في الجنة، لكن عندما ينزلُ على الأرض مع زوجين يتخذُ وظيفة أخرى إذ يحجُ الناس من كل حدب وصوب، لبَثِّ همومهم إلى ذلك الحجر، ويكون تفتتهُ علامةً لنهاية العالم.
ربما يبدو خارج خطاب النص ومقاصده، لكن الجثةَ تحلُ مكان الحجر الأسود بالنسبة للمرأة، إذ تبوحُ لها بالأسرار المتراكمة على مدار عشر سنوات أمضتها في كنف أسرة زوجها. إذن تتقاطع الجثة مع الحجر في التخفف من القصص المؤرقة. أكثر من ذلك فإنَّ المرأة تتمكنُ من التصرف بجسد زوجها وهو طريح الفراش وهذا يعدُ تعويضاً لحرمانها من طلاقة التعبير عن رغبات حميمة، وذلك ما يتحققُ لها أيضاً حينَ تروضُ الرجل الذي رشحته لها العمة ليزاوجها معصوب العينين في الظلام، وتجدُ المرأة لذتها القصوى في السيطرة على الرجل، وهذه المناورة وفرت لها وزر عدم الإنجاب، وبذلك يتبينُ أنَّ النسق الاجتماعي السائد كان يحمّلُ المرأة باستمرار مسؤولية غياب النسل.
لا يبرحُ هذا الحدثُ حياة المرأة يراودها على شكل حلمٍ كابوسي وكان مصدر خوفها أن تنجب ولداً يفضحها، وما أن تضعها فتاة حتى يهدأُ توترها، لأنَّ من كان يطاردها في الحلم ليس سوى طفلٍ مهدداً إياها برفع الغطاء عن السر. يُذكر أنَّ بلاغة الجسد ركن من خطاب الرواية، وذلك ما يفيدُ به المقتبس الذي يكون بمثابة العتبة الثانية، إذن فالوضعية التي يتخذها الجسد تؤشرُ إلى القيمة الثقافية، فالجسد الذي لا يعرف ممارسة الحب يطوعُ للحرب، الأمرُ الذي يفصحُ عنه كلام المرأة عن تواصلها مع المقاتل قبل أن يخلد إلى الرقود، ويكشفُ جسد الصبي المشوه الذي يتعثرُ في التعبير الحميمي عن ظاهرة الازدواجية التي ترافق الغلو والتطرف.
موتيف الرواية
المتأملُ في ما يقدمهُ عتيق رحيمي في متنه الروائي يلاحظُ انهمامهُ على الثيمات المحددة منها، المنفى والهوية وتهميش المرأة والحرب، فبالتالي لا ينفصلُ مشروعه الإبداعي عن مؤثرات البيئة الأولى وروحها الحضارية، وما يكسبُ «حجر الصبر» الخصوصية في الصياغة هو المكون الزمني، إذ يتمُ تحديد البعدُ الزمني من خلال صوت الأذان والمسبحة التي تتحركُ حباتها بين أصابع المرأة، إضافة إلى تنظيم الكيس الذي يحقنُ الرجل عبر الأنبوب بالماء المحلى والمملح والفاصل بين أنفاس الراقد الثقيلة وعبور الصبي في الشارع وهو يصفر لحن أغنية مُغازلاً إحدى بنت الحارة كل ذلك يكونُ بمثابة لازمة في طبخة الرواية، ويستمدُ النص تماسكه من التفاعل بين قصة الإطار والمقتبسات المبثوثة في أجوائها، وهذا ما يتمثلُ في المشهد الختامي، إذ تدبُ الروح من جديد في الجثة الهامدة، غير أنَّ سردية المرأة لم تفلحْ في برمجة الرجل وترويض العنف ويضمرُ هذا الموقف بعداً تنبوئياً بالمصير الذي ينتظرُ المرأة مع عودة طالبان إلى منصة السلطة.
وتنتهي الرواية ببنية مدورة، فالخنجر الرابض الذي أشار إليه الراوي في الافتتاحية، تستخدمهُ المرأةُ في صراعها مع الجثة المنبعثة من الغيبوبة بفعل مروياتها. الأمر الذي يضفي فنيات عالية إلى تصميم العمل الروائي.
كاتب عراقي
القدس العربي