ما الأسباب التاريخية التي أدت لاستمرار أزمة الطائفية في الدول العربية حتى اليوم؟ عن أهم كتب برهان غليون/ أحمد زمراوي
مع ازدياد الأزمات الاقتصادية والسياسية في بلدان عُرفت بالطائفية مثل السودان ولبنان والعراق هذه الأيام، ربما كانت فكرة تلخيص كتاب لباحث في علم الاجتماع السياسي ومتخصص في علاقة الطائفية بالنظام السياسي مثل برهان غليون تحدياً كبيراً لكنه واجب، فلهذا الأكاديمي السوري عدد من الكتب حول الطائفية تتحدث عن انعدام الطابع القومي في المجتمعات العربية، يقوم فيها بتحليل التركيب الطائفي والإقليمي لهذه المجتمعات بطريقة منهجية. وفي حديثه عن الطائفية يجادل غليون بأن الأمر “لا يتعلق بضعف قيم التسامح الإنسانية، وإنما ببنية اجتماعية عميقة يُطلق عليها البنية التقليدية. ويطلق عليها البعض البنية المتخلفة، ويطلق عليها البعض الثالث (في الغرب) صراحةً التعصّب الإسلامي”.
للدكتور برهان غليون كتب قيمة يناقش فيها تركيبة الدولة الحديثة، وكيف يمكن إسقاط هذه التركيبة على مجتمعات عربية تربّت على ثقافة الولاء للقبيلة والطائفة لقرون. وفي كتب لغليون مثل “نقد السياسة.. الدولة والدين”، و”المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة”، و”اغتيال العقل.. محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية”، و”المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، و”بيان من أجل الديمقراطية”، و”نظام الطائفية.. من الدولة إلى القبيلة”، يحاول غليون تفسير الحالة السياسية في دول المنطقة وإيجاد حلول لقضايا الهوية والأقليات والتركيبة المتخلفة للأحزاب السياسية في المنطقة. وتحتل قضية الطائفية وتأثيرها على الممارسة السياسية في المنطقة العربية نصيباً كبيراً في كتابات غليون، ربما لوعيه المبكر بأنها أحد أسباب التخلف الاجتماعي والسياسي لشعوب المنطقة.
نحاول اليوم تلخيص كتاب نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، وهو كتاب يمكن أن يكون مقدمة لمن يريد التعرف على الأسباب التاريخية والذاتية والموضوعية لاستمرار الأحزاب الطائفية العربية في القرن الحادي والعشرين. وتجربة برهان غليون الشخصية كونه قادماً من سوريا ودرس في فرنسا وعمل بالتدريس في الجزائر وفرنسا والخليج تجعل منه ملمّاً بالأسباب الموضوعية للأزمة في التركيبة السياسية المختلّة في المنطقة، والتي يلعب فيها الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، بالإضافة إلى نظام الملل والأقليات الذي فيه دوراً كبيراً في تشكل الطوائف السياسية والدينية والقبائل والنظارات فيه.
في تفسيره التاريخي للطائفية يقول غليون في الكتاب إنّ “الطائفية كنظام تولد من التقاء سيرورتين تاريخيّتين: تحلُّل الدولة القديمة، الدولة السلطانية بشرعيتها وسطوتها ولُحمتها التاريخية. وإجهاض سيرورة بناء الدولة القومية بالمعنى الحديث، فهي ليست إذن من نتاج الماضي ولا من نتاج الحاضر”، مضيفاً أن “انحسار الهيمنة الكلية للدولة التقليدية بهيبتها ووقارها الديني لا يكشف بشكل طبيعي وتلقائي عن وجه العصبيّات الجزئية والقديمة في المجتمع، لكنه يدفعها إلى المسرح السياسي ويجعل منها الدعائم الجديدة لسياسة وتوازنات اجتماعية جديدة، إنه يخلق المجتمع العصبوي، لكن إجهاض الدولة القومية هو الذي يجعل من هذه العصبيات عناصر مترابطة ضمن نظام سياسي من طبيعة خاصة، هو الذي أطلقنا عليه اسم النظام الطائفي”.
يشتمل مفهوم الطائفية عند غليون على أربعة عناصر: الأول: هو تعدّد الانتماءات (الولاءات) الفردية داخل المجتمع الواحد، وضعف الانتماء العام المشترك. الناجم هو نفسه عن عدم الاندماج في بنية واحدة أو لُحمة واحدة. والثاني: ما سمّاه غليون بـ”التعصب” أو العصبية. وهناك عصبية إيجابية مثل العصبية للدين والوطن، بينما العصبية السلبية هي عصبية الجاهلية. ولفت الكاتب إلى أن عبدالرحمن بن خلدون بنى نظريته الاجتماعية السياسية كلّها على مفهوم العصبية. معتبراً وجود العصبيات (كأشكال تضامن عميق طبيعية عصيّة على السلطة والمدنية) هو مصدر تجدّد الدول وتداول السلطات في المجتمع الوسيط. ويرى غليون أن العصبية وحدها لا تحمل في ذاتها أي وزن سياسي، لكنها تتحول إلى شبه دولة داخل الدولة عندما تدخل كعنصر في نظام أو تعمل كنظام للعصبية، وهو ما نسميه بالطائفية.
العنصر الثالث هو ارتباط الطائفية، كنموذج راهن للعصبية المعادية للدولة أو الولاء المجتمعي العام بالدين. فالطائفية تعني اليوم بشكل أساسي، عندما تستخدم في الحديث السياسي أو العلمي، العصبية الدينية أو المذهبية. أمّا العنصر الرابع فهو ما اصطُلح على تسميته بمسألة الأقليات، والذي شكّل في التاريخ العربي الحديث مشكلةً حقيقيةً قومية ودولية منذ اللحظة التي وافقت فيها السلطات العثمانية على إعطاء حق الإشراف على الأقليات لدول أجنبية. أو ما أُطلق عليه حينها (الامتيازات). والأقليات تنقسم إلى أقليات دينية (المسيحيين، اليهود، الصابئة)، وأخرى قومية (الأكراد، الأمازيغ)، وأخرى تشمل الاثنين (شعب جنوب السودان قبل انفصاله).
ويرى غليون أن الذي يتابع الكتابات الحديثة عن الطائفية يجد نظرتين: النظرة الأولى تُرجع الشعور الطائفي إلى تشوّه الوعي العربي والإسلامي وتكلّسه بسبب الجهل والأمية، وترى الحل في مواجهتها بالوعي القومي والعلماني والتنوير. والنظرة الثانية ترى أن الطائفية هي تعبير طبيعي لبنية اجتماعية عميقة تميز المجتمعات العربية عن غيرها، ما يجعل القيم الوطنية والعلمانية لا تجد نفس الانتشار الذي وجدته في الغرب. ويصف غليون تبادل السلطة السياسية في الأنظمة الطائفية بـ”تبادل السوق السوداء”، والذي هو في الواقع تبادل للسلطة من موقع الحرب، ومنطق توازن القوى بين جماعات. بعكس التبادل الطبيعي الذي تفرضه حرية الأفراد ومسؤوليتهم الشخصية وتفرّدهم، وهو في حقيقته تبادل السلطة القائمة بين زعامات الجماعات فقط، وليست التناحرات التي تثيرها الطائفية، والتي لا يمكنها العيش من دونها، إلّا الآلية الضرورية لتكوين وانتخاب هذه الزعامات”.
وبرأي غليون فإن أحد أهم عيوب النظام الطائفي في تداول السلطة مقارنة بالنظام السياسي (الأصلي) هو أن الأول يكون الصراع فيه حول المصالح الخصوصية لأفراد في المنظومة الطائفية، بينما التنافس السياسي في الأنظمة السياسية يكون حول المصالح الكلية للدولة. ويسمِّي تقاسم السلطة بين الطوائف في الدول الطائفية بالتداول (الآلي أو الميكانيكي) الذي يهدد بانقسامها في أي لحظة، تماماً مثلما يهدد كوب الزجاج كسره. ويرى غليون أن الفرق بين الحزب والطائفة أن الأول مفتوح لكل من يرغب في دخوله، بينما الثانية مغلقة على من لم يولد فيها أو يسلّم لها تسليماً نهائياً. ويدلّل على ذلك بتصنيف ابن خلدون للعصبية على أنها “الاقتداء الأعمى والقوة الوحشية، أو العنف والشجاعة والإقدام التي يلعب فيها التماهي المطلق مع الجماعة دوراً أساسياً”.
نقطة أخرى في غاية الأهمية في الكتاب قول غليون إن “الفرق بين العصبية الدينية أو القبلية أو الأقوامية وبين الطائفة الدينية أو الأقوامية هو أن الأولى تجد غايتها في ذاتها. أي تنمية الروح الدينية ونشر الدين وتنمية المودة والتلاحم على صعيد القبيلة أو الأسرة. وهذا كله ليس مرفوضاً من النظام الاجتماعي العام، ولكن ما يرفضه النظام الاجتماعي هو أن يتحول هذا التعاون من غاية في حد ذاته إلى مجرد وسيلة لتحقيق غايات أخرى… من هنا نقول إن الطائفية هي النقيض الفعلي للدين وللتضامن العصبي وللعصبية، وإن الدين والتضامن العصبي الداخلي كانا على مدار التاريخ ضحايا للطائفية”.
ويقفز غليون باستنتاجاته حول موضوع الطائفية إلى ثلاث ملاحظات: الأولى هي أن المجتمع العربي ليس غريباً في تعدديته الدينية والأقوامية عن المجتمعات الأخرى، فدول تبدو متجانسة مثل فرنسا وإسبانيا فيها مشكلات الأقليات والقوميات والنزعات الاستقلالية. أمّا الملاحظة الثانية فهي أن التعددية الانتمائية لا تقتصر على التعددية الدينية، وإنما هي موجودة جنباً إلى جنب مع العصبية القبلية أو الجهوية. والملاحظة الثالثة هي أن ارتباط الطائفية بالدين هو ارتباط حديث ويثير الالتباس من الناحية النظرية، فليس الدين منتجاً بالضرورة لعلاقة أو لنظام عصبوي. ويشير هنا إلى أن الأقليات الدينية في الدولة العثمانية لم تكن تتطلّع لتكوين نظام سياسي منفصل بناء على هويّتها الدينية.
وبناءً على ملاحظاته يتوصّل غليون إلى استنتاج آخر هو أن الطائفية هي عكس الدين تماماً، لأنها بدلاً من أن توظّف السلطة والثروة من أجل تدعيم الروابط والتكافل بين الأفراد، وكافة قيم الأديان من رحمة ومعونة وإحسان وزكاة وحب وتسامح، تقوم بالعكس على استغلال هذه التضامنات أو الرأسمال الروحي من أجل زيادة السلطة والثروة وتحسين التقاسم الدنيوي. ولذلك فالطائفية تجمع النقائض جميعها، فهي رغم اعتمادها على الدين تشكّل النفي المطلق للقيم الدينية.
إن الطائفية بهذا المعنى تشكّل نوعاً من الساحة أو الآلية البديلة لفرض تداول السلطة، وتثبيت قيم النخب الاجتماعية المتنافسة عليها في غياب القواعد الصحيحة. وكما أن السوق السوداء في ميدان العملة تخلق خاصية للتبادل تتميز بسيطرة البائع وليس المشتري، فإن السوق السوداء للسياسة (الطائفية بمعنى العصبية الموظفة في الدولة) تتميز أيضاً بالتضخم المصطنع للقيم السياسية، وتركيزها في أيدٍ قليلة. وسيطرة النُّخبة أو القيادة المطلقة للجماعات العصبية على أفرادها. وهذا الأمر يؤدي برأي غليون إلى “دولة الخاصة” أو الفئة التي تسيطر على مقاليد السلطة. وتخلق الشروط الموضوعية لتحول الانتماء الثقافي لهذه الجماعات إلى ولاء سياسي.
أيضاً يشرح الكتاب كيفية اختيار القائد السياسي أو الزعيم في الجماعات الطائفية، والذي لا يكون معيار الكفاءة في كثير من الأحيان هو المعيار الأهم، وإنما معايير أخرى مثل النسب. وينسحب هذا الأمر على كيفية إدارة الأمور في الطائفة (الحزبية)، التي يصبح فيها زعيم الطائفة أقرب إلى السلطان الذي تتركّز في يده كل السلطات، ويصبح بقية السياسيين في طائفته أتباعاً له. ويقول غليون إن توزيع السلطة في الأحزاب الطائفية، والتي يكون فيها القرار في يد زعيم الحزب لا يجعل من أعضاء النخبة السياسية التابعين للطائفة أنداداً لـ(السلطان) يمكن أن يحلّوا محله في حال غيابه أو وفاته. وإنما يحوّلهم إلى سياسيين صغار. “وهذا يعني أن عنصر التفسير الأول لانعدام الإمكانية الموضوعية لتبادل السلطة نابع من ضآلة ما يُراد تداوله وعدم القدرة على توزيعه دون تخفيض قيمته أو ابتذاله”، بحسب غليون.