فن اليوميات… كتابة التجارب الفارقة/ كمال الرياحي
يمثل فن اليوميات أحد أهم الفنون التعبيرية العريقة في الثقافة الغربية، ويعتبر الأكثر تداولاً بين الناس من فنون أخرى، حتى وصف بأنه أكثر الأنواع ديمقراطية، لعدم اشتراطه في من يمارسه سناً معينة، أو علماً، أو انتماء لطبقة اجتماعية بذاتها، وقد انتشر هذا الفن بين الكتّاب والفنانين والسياسيين، وتلبّس بأساليبهم وتنوّع بحسب انتماءاتهم الإيديولوجية والثقافية وتجاربهم الخاصة.
وقد تجاوز هذا النوع من الأداء الكتابة لما هو أشمل منها ليقبض على كل أدوات التعبير الفني الأخرى من رسم وسينما ومسرح.
ولكن في المقابل، ظلّ هذا النوع من الممارسة التعبيرية غير رائج في الثقافة العربية، ويرجع بعض النقاد عدم الرواج إلى أسباب كثيرة، منها صلة هذا النوع بثقافة الاعتراف المسيحية باعتباره واحداً من فروع الكتابة عن الذات.
وهذه الندرة لهذا النوع عربياً نتج عنها غياب شبه كلي للاهتمام به نقدياً، فلم تظهر بحوث جادة تناقش هذه الممارسة الفنية لعقود خَلَت.
غير أن اهتمام دور النشر اليوم بهذا النوع من الممارسة الفنية وإطلاق بعض المؤسسات الثقافية العربية، الخاصة والعامة، جوائز بشأن هذا النوع، حرّك الأقلام النقدية، وبدأنا نسمع عن شروع بعض الباحثين في العمل على مدونة اليوميات والمذكرات، بعد أن حظيت السيرة الذاتية وما جاورها ببحوث كثيرة أواخر القرن العشرين وبداية هذا القرن.
أسلوب حياة أم حالة طارئة؟
تنقسم اليوميات حسب رؤيتنا إلى نوعين؛ نوع أول يمكن أن يسمى بـ”أسلوب حياة”، حيث يختار الكاتب أن يعيش كاتباً لليوميات وتصبح ممارستها شيئاً ملزماً في حياته، لا ينقطع عنه إلا ليعود إليه، وهذا ما نجده عند عدد من الكتاب شكلت اليوميات وجهاً من وجوه هويتهم الإبداعية.
ونمثل لهؤلاء بالكاتبة الفرنسية الأمريكية أنييس نن، التي قضت حياتها كلها تكتب اليوميات، لتترك مجلدات كثيرة، والكاتب البلجيكي الشهير جورج سيمنون، والذي جعل، بدوره، من اليوميات مشروعاً حياتياً موازياً لمشروعه الروائي في الرواية البوليسية، وكان ينشر كل مرة كتاباً في اليوميات، عن تجربة معينة أو فترة معينة من حياته.
أما النوع الثاني، وهو الأهم، فهو اليوميات الطارئة على الحياة وعلى المشروع الأدبي أو الفني، حيث تنطلق من تجربة مخصوصة وجد فيها الكاتب نفسه؛ تجربة فارقة مثّلت تحوّلاً في حياته، أو قطيعة أو حدثاً جَلَلاً لا يُنسى.
وقد أكدت الناقدة الفرنسية هيلين كاماراد، في مؤلفها “كتابة المقاومة، اليوميات الحميمة تحت الرايخ الثالث”، أن الحالات الفارقة التي يعيشها الكاتب تكون عادة دافعاً لشروعه في كتابة اليوميات الحميمة. وبتأملنا في عدد مهم مما وقع تحت أيدينا من اليوميات العالمية والعربية، وجدنا أن حالات اللاسلم واللاطمأنينة هي التي دفعت أغلب الكتاب لخوض مغامرة تسجيل اليوميات.
ونستحضر من اليوميات العالمية في هذا النوع “يوميات أنا فرانك” في الحرب العالمية الثانية، و”يوميات الحداد” لرولان بارت، إثر موت أمه، أو يوميات المجندين والمحاصرين والمساجين من الأدباء والفنانين وغيرهم، الذين أقدموا على كتابة تجاربهم يوماً بيوم، ولم تكن تلك اليوميات تخطر ببال الواحد منهم قبل مروره بتلك التجربة. ومن ثم، فالمشترك بينهم جميعاً هو هذا الطارئ الذي يسمى “التجربة الفارقة”.
ويلاحظ أن هذه التجارب الفارقة هي نفسها تنقسم إلى نوعين كبيرين، تجارب جماعية وأخرى فردية. ففي التجارب الجماعية أو المشتركة، يمكننا أن ندرج يوميات؛ الحروب والحصار والثورات والانتفاضات، أما ضمن التجارب الخاصة والفردية، فيمكن أن ندرج فيها تجارب المرض والمنفى والاعتقال والفقدان والإبداع.
والمتأمل في المدونة العربية لليوميات، من بداية القرن العشرين إلى اليوم، يلاحظ أنها الفترة المفصلية في تشكيل المشهد الجيوسياسي العربي، وتشكل الوعي لدى هذه الشعوب العربية التي يعكسها ويسجلها صوت كاتب اليوميات. وهذا ما يكسب هذه الدفاتر، على قلتها، قيمة استثنائية في رصد الوعي والتأريخ له وللأحداث، لا من خلال الخطاب التاريخي الرسمي، بل من خلال الخطاب الذاتي الفردي لصاحب التجربة، الكاتب والفنان.
ولأن هذه التجارب المنشورة في أغلبها كتبها كتاب وفنانون، فهي خطابات نخبة عن تجارب خاصة وعامة، ومن هنا تكتسب هذه الدفاتر أهمية أخرى في قراءتها بصفتها أعمالاً.
اليوميات فن الخطر
كتابة اليوميات هي في وجه من وجوهها تمرّد على الذات باعتبارها مؤسسة فرضت ضوابط حضورها الذي تواجه به الناس والعالم، وكتابتها بطريقة أخرى غير التي تظهر بها هو تمرّد على قوانينها التي وضعتها بنفسها. ومن ثم فالذات الكاتبة تصبح في مواجهة أولى للذات المكتوبة نفسها، التي ستتصدى لها بالتمنع وبردود أفعال أخرى مختلفة، لردّها على ما عزمت عليه: الاعتراف.
فاليوميات تقترب من الاعترافات، ويعد “أدب الاعترافات من أهم الأجناس الأدبية الحميمية، وهو بمثابة المراجعة للذات الإنسانية أو للتأمل فيها، أو التفكّر فيما علق بها، أو فيما عاشته تلك الذات من تجارب، وقد وجدت نفسها مجبرة على كتمانه أو على إعلانه بطرق رمزية شتى، فإذا الكتابة تتأتى لإعلانه على حقيقته”.
وتستجير الذات المكتوبة باستحضار ترسانة من الموانع والمحظورات لتوقيف جنون الذات الكاتبة، ومن تلك الموانع الحرام الديني والعيب الاجتماعي ونواميس الحياة والقوانين الأخلاقية وطبيعة الحميمي وإكراهاته والأسرار العليا، و”واجب التحفظ”، إن كانت الحوادث تهم الأسرة أو المؤسسة أو الوطن أو حتى الكتابة نفسها.
ومن ثمة يعلو منسوب أسباب الإحجام عن ممارسة كتابة اليوميات، من خطر الجرأة والفضيحة إلى تهمة الخيانة والوشاية والقتل العمد، فتحويل الأسرار من طابعها الشفوي إلى المكتوب يفضحها أو يضعها موضع خطر، قد يهدد بقاءها سراً حتى لو لم يفكّر كاتب اليوميات في إفشائها عبر النشر، وهنا يمكن أن نفهم ما أقدم عليه بعض الكتاب من حرق يومياتهم بعد أن باشروها، ولنا في الأدب العربي الحديث عباس محمود العقاد، الذي أتلف يومياته الخاصة، مثالاً.
وفي حديث له عن اليوميات، ميز بين نوعين من اليوميات، أو المذكرات كما يسميها؛ المذكّرات التي تقتصر على الفكر والقراءة، وهي التي كتب فيها ونشر الكتب، والمذكرات الأخرى المتعلقة بحوادث الحياة فيقول: “أما النوع الآخر، وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها، فلم أشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلّي لا أعود”.
وقد استدرك العقاد بأنه لا يحكم على أدب اليوميات كله بالتمزيق والإحراق كما فعل، بل يعترف بأن الموانع التي دفعته لذلك تبقى ذاتية وموضوعية، فالمحظورات التي منعته من الكتابة وتمزيق ما كتبه مختلفة عن حدود الكتابة ومحظوراتها عند غيره.
وأبان العقاد عن معرفة دقيقة بفن اليوميات في الغرب، عندما أشار إلى ازدهاره عند الشعوب الأوروبية، والإنجليز تحديداً. ولكنه يتجنبه لأسباب أخرى غير أدبية، فهو يصفه بأدب اليوميات، وهذا دليل على أن العقاد يجلّ هذه الكتابة على عكس الآخرين الذين يعتبرونها كتابة أقل درجة من الأدب.
اختبار وجودي للذات الكاتبة لتتعرف على نفسها
واعتبر العقاد أن ذلك النوع أنفع للمؤرخين والعلماء والمحللين، وغيرهم من الناس العاديين، فأولئك المختصون تساعدهم اليوميات على معرفة الفترات التي عاشها كاتب اليوميات ووثقها، والتحولات التي عرفها مجتمعه.
فهذا الأدب، كما يقول، “موضع دراسة المؤرخ والناقد النفساني، والفيلسوف، والباحث العلمي، وكل من تعنيه سير الجماعات والأفراد؛ يشتركون في دراسته وبحثه تارة لبيان الأسباب التي تدعو الناس، في فترة خاصة من الزمن، إلى تدوين مذكراتهم والعكوف على أسرار ضمائرهم بمعزل عن الجماهير وشواغلهم العلنية، وتارة لتحقيق الوقائع واستكشاف دخائل الرجال، ويأتون في جميع هذه التعليلات والتخريجات بما يلذ الوقوف عليه ويفيد”.
بينما غايته التوجه إلى عموم الناس بما ينفعهم في يومياته التي استبعد منها الحميمي والحوادث التي عاشها.
ويعتبر العقاد أن ما دفعه لحرق يومياته الخاصة هما أمران، الأول أنه لا يعنيه الاعتراف الذي يلمح أنه تقليد غربي مسيحي، وثانياً، لأنه لا يريد أن يؤذى بسببه أحد إن وقعت تلك اليوميات بين أيدي الذين يستغلونها لأغراض غير نبيلة، ولتصفية حسابات مع أشخاص بعينهم، والذين سيجدون اليوميات بما يمكن أن تحمل من أسرار تلك الشخصيات في تقاطع حيواتهم مع حياته، أدلّة لضربهم، وهذا ما دفعه إلى التخلص منها.
يجيب عباس محمود العقاد عن سؤال اليوميات من أحمد عبد اللطيف الحضراوي من المعهد البريطاني: “إنني دوّنت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها.
ثم رأيت، في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل، أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات.
وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً، لها في حياتي الخاصة أثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه أقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسبيلها”.
ومن خلال هذا المثال الحي، نلاحظ بعض أشكال المقاومة التي تبديها الذات موضوع الكتابة لتقي نفسها من خطر الانكتاب، فالكتابة تتحول إلى جرم وارتكاب معصية ذاتية وأسرية واجتماعية ووطنية وتحريض ووشاية، وتجنبها هو عمل أخلاقي بالأساس، يمنع الطغاة من ممارسة قمعهم ويحفظ أسرار الآخرين. فكيف يمكن للكاتب أن يتخلص من كل هذه المحظورات ليكتب يومياته؟ ومن أين يستمد مشروعيته لكتابتها؟
إن إقدام كاتب اليوميات على كتابة ذاته هو شأن فردي، وهو شأن نفسي يتعلق بإحدى أشكال التصالح مع الذات من ناحية، وشكل من أشكال إثباتها بتوثيق تجربتها في الحياة وتقصّي أثرها، فالحياة ليست سوى سلسلة من الآثار يوقعها المرء بجسده وفعله وقوله وفكره. ومن ثم تفجّر تلك التجربة إلى التدوين هو اختبار وجودي للذات الكاتبة لتتعرف على نفسها.
رصيف 22