نجيب جورج عوض: لا أعتقد أنّ هناك هوية سورية جامعة يلتقي عليها السوريون اليوم
حوار غسان ناصر
ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، هو الباحث الأكاديمي السوري الدكتور نجيب جورج عوض، بروفسور اللاهوت المسيحي والفكر المسيحي الشرقي، ومدير برنامج الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والعلاقات الإسلامية – المسيحية، في كلية “هارتفرد للدراسات الدينية والبين – الدينية” في كونّكتكت بالولايات المتحدة الأميركية.
صدر لضيفنا مجموعة مهمة من المؤلفات، باللغتين العربية والإنكليزية، ومن بين كتبه بالعربية، نذكر: «الله، الإنسان والشر» (2004)، «ما بعد الحداثة.. ومستقبل الخطاب الديني في الغرب» (2017)، وكتابه الأخير «أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى: دراسات في الثقافة والدين والسياسة»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 2020. إضافة إلى عدد من الدراسات والأبحاث العلمية، وعدد من المجموعات الشعرية.
أكّد بروفسور عوض في حواره معنا أنه اختار أن يخدم قضية حريّة الشعب السوري وخلاصه، من خلال تكريس طاقاته الفكرية والكتابية والأكاديمية والثقافية، كسوري مستقلّ وحرّ، وأنه عمل عبر السنوات العشر الأخيرة على كتابة عشرات المقالات والدراسات عن المأساة السورية، وثورة السوريين النبيلة، باللغات العربية والإنكليزية، وتُرجمت بعض كتاباته إلى الألمانية والفرنسية، وقد لفت الانتباه في حوارنا هذا إلى أنه لا يؤمن بما أسمّاه بدعة “تحالف أو حِلف الأقليات”، وأنه ضده، مفاهيميًا وسياسيًا ومجتمعيًا وقيميًا، مشدّدًا على أنّ موقفه من الثورة السورية وإدانته ومناهضته لنظام “نيرون دمشق” المجرم والسفاح والمستبد، واضح ومعلن ولا لبس فيه، منذ اللحظة الأولى، وأنه لم يُخفِ موقفه المهاجم والمعاتب والمنتقد بشدّة المعارضات السورية الرسمية وأداءها المدمّر وفسادها المقيت وأداء قياداتها المستبد المعادل لاستبداد نظام بشار الأسد، الذي يصفه بأنه “نظام أدولف هتلر القرن الحادي والعشرين”.
وهنا نص الحوار…
صدر لكم حديثًا، كتاب «أحفورات الفهم… تاريخانيات المعنى»، وهو رحلة معرفية وفكرية، إطارها هو الهاجس المعرفي الذي يقرأ الفكر العربي – المشرقي والغربي على حد سواء، ضمن إطار مقاربات وتفاعلات الشارع الثـقافي العربي مع هذا الفـكر بنوعيه. هلّا حدثتنا عنه باستفاضة؟
لا يمثّل كتابي العربي الأخير أطروحة نظرية فكرية واحدة ونقاشًا لها وبحثًا فيها وتفسيرها، هو مجلَّد مؤلف من خمس وعشرين دراسة بحثية أكاديمية، كنت قد بحثت فيها وحاضرت عنها وكتبتها خلال السنوات الخمسة عشرة المنصرمة. وقد جاءت فكرة جمعها في مؤلَّفٍ واحد كردّ احتضاني وإيجابي على دعوةٍ ومطالبة، لطالما سمعتها من عدد من الأصدقاء والمتابعين لي على شبكات التواصل الاجتماعي، بأن لا أكتفي بالتأليف والإنتاج الفكري والأكاديمي باللغة الإنكليزية التي أكتب وأنشر بها أبحاثي العلمية ومؤلفاتي بشكل منتظم منذ عام 2007، بل أن أشارك القراء العرب بتلك الاجتهادات باللغة العربية. وحين بحثت في ملفاتي، اكتشفت أنني في الواقع أنتجت عددًا من الدراسات العلمية باللغة العربية في تلك السنوات، فقررت أن أهدي القرّاء العرب تلك الدراسات في كتاب واحد.
أما عن محتوى الدراسات، فهو كما شرحت في التلخيص الموجود على غلاف المؤلَّف الخلفي، وأعود لذكرها هنا: تسعى دراسات الكتاب لمقاربة الهمّ الثقافي والمخيال الديني واللاهوتي والفكر السياسي في شقيه الغربي والعربي، بمنهجيات تفكيكية حفرية وتاريخولوجية، تتعامل مع كلّ من تلك الحقول الثلاثة على أنها حراكات في التاريخ ومن التاريخ، وذات بنية تاريخية في حد ذاتها. سيجد القارئ في كل فصلٍ من الفصول محاولة حوارية فكرية وتفكيكية في فكرٍ فلسفي أو لاهوتي أو ديني أو سياسي، لإحدى مدارس الفكر الغربية تتحاور مع فكر عربي، أو لفكر غربي يتحاور مع نفسه، ويترك للمفكر العربي مصادر ووسائل، يمكن لهذا الأخير أن يعتمدها في فهم المخيال المعرفي العربي والمشرقي، أو سيجد القارئ حفرًا تاريخولوجيًا وهرمنيوتيكيًا لمقاربات معرفية عربية مشرقية، ومحاولة لتقصي جذورها المغروسة، في الواقع، في تاريخ الفكر الفلسفي والثقافي والسياسي العام في الغرب.
«أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى» هو رحلة معرفية وفكرية، إطارها هو الهاجس المعرفي الذي يقرأ الفكر العربي – المشرقي والغربي، على حد سواء، ضمن إطار مقاربات وتفاعلات الشارع الثـقافي العربي مع هذا الفـكر بنوعيه. ما يميزها هو أنّ ملامح وجودها الخطابي تهدف إلى تأويل الفكر المعرفي العام، الغربي والعربي، على حد سواء، وإسقاطه على سياق الإنسان العربي اليوم. حيث إنّ تلك الدراسات لا تقدّم طروحات وقراءات كونية، بل هي طروحات وقراءاتُ مؤلفٍ لا يخجل ولا يتـبرأ من ذاتويّته المشرقية العربية، ولا يعد التجذر فيها وأخذها بعين الحسبان في مقارباته المعرفية أمرًا مسيئًا أو مشككًا بموضوعية وعلمية وموثوقية القراءات من الناحية الإبستمولوجية أو الأبعاد المنهجية أو التفسيرية.
ما المقاربة التي اعتمدتم عليها في وضع الكتاب أولًا، وما الهدف الذي تتوخّونه من إصداره الآن تحديدًا؟
أعتقد أنني أجبت على القسم الأكبر من هذا السؤال، في إجابتي على السؤال السابق. أما عن مسألة توقيت نشره، فهي ربما تأتي في لاوعيي، ككاتب وكباحث معني بالشأن الثقافي العربي، وعلاقة الفكر العربي بالفكر العالمي والغربي، في وقت تعود فيه إلى ساحة الفكر العربي مسألة علاقة الفكر العربي بالفكر الغربي والأوروبي، وتحديات وأنماط تلك العلاقة وما يجب أن تكون عليه. سبق للسياق الثقافي العربي أن انخرط بالتفكير في هذه المسألة منذ عصر النهضة الحديثة في مطلع القرن العشرين، وصولًا إلى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي. لكن التفكير بالعلاقة مع الفكر الغربي تراجع وشهد نكوصًا عربيًا، سببه طغيان فكرة “صراع الثقافات والحضارات”، والهوس باعتبار الفكر الغربي أو أي فكر غير عربي أو غير إسلامي فكرًا تآمريًا ومهيمنًا ومعاديًا للعرب والمسلمين.
منذ عقد من الزمان، شهدت الأوساط الأكاديمية العربية عودة للاهتمام بمسألة علاقة الفكر العربي – الإسلامي بالفكر الغربي – الأوروبي، وذلك من زاوية مسألة العلاقة بالتراث وتشكيل الهوية. ولأنني ألمس أنّ معظم المقاربات الحالية للعلاقة بين الفكرين المشرقي – العربي – الإسلامي، والغربي – الأوروبي – الأميركي هي مقاربات تصادمية أو دفاعية، أو تهجس بمسائل المظلومية ونظرية المؤامرة والهيمنة؛ قررت أن أقدّم دراساتي المذكورة في كتابي الأخير، كي أقدّم نموذجًا مختلفًا عن تلك العلاقة، وهو نموذج التفاعل الحواري (dialogical) والتلاقحي (cross-pollinational) والتكافلي (symbiotic) والتواصلي (communicational) بين الفكرين والثقافات المنتمية لكلا العالمين المذكورين.
لا أدّعي أنني الوحيد في العالم العربي الذي يدعو إلى هذا النمط من العلاقات، لكنني أؤكد أنّ دراساتي تمثّل هذا النمط من العلاقات بين العرب – الإسلام والغرب. أعتقد أن توقيت صدور كتابي ملائم جدًا للاستجابة إلى الضرورة القصوى التي نحتاج فيها إلى صوت حواري وتفاعلي وتلاقحي في الفكر الثقافي العربي – الإسلامي الحالي، وبخاصة أننا لا نسمع في العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، سوى أصوات صدامية وتشرذمية وتخوينية وتضادية وتعانفية تجاه، بل ضد، الآخر، أيّ آخر. كتابي يصدر اليوم ليدعو إلى مقاربات تفاعلية مختلفة مع الآخر، ويقدّم نماذج لتفاعل تلاقحي معرفي وفكري، في كل دراسة من دراساته التي تتطرق إلى مسائل تدور حول السياسة والدين والثقافة: ثالوث النقمة والنعمة، النور والنار، الخلاص والانتكاس، في الواقع العربي المعاصر.
بعث سورية والعراق مارس العنف الدموي والترهيبي والقمعي
ماذا عن علاقة العنف والتشدد والتطرف بالأديان السماوية الثلاثة، ونحن نعلم أن الكتب الدينية لا تخلو من أفكار عنيفة أو قصص عنف يرتبط بالمقدّس؟
هناك عنف في الأديان الإبراهيمية، وفي الأديان الأخرى كذلك. فالبوذية تمارس العنف ضد بعض الأقليات المسلمة. والهندوسية تمارس العنف ضد بعض جماعات السيخ. ولكن، هناك عنف أيضًا بين ظهراني الجماعات اللادينية والعلمانية كذلك. الماركسية في وجهها الشيوعي الروسي والأوروبي مارست العنف الجسدي والترهيبي بشكل واسع جدًا. والقوموية في العالم العربي (بعث سورية والعراق، مثلًا) مارست أيضًا العنف الدموي والترهيبي والقمعي بشكل منهجي ومنظّم على نموذج إرهاب الدولة. لهذا، أنا لا أعتقد أن العنف يقترن بالتديُّن أو بالأديان حصرًا وتحديدًا. وأناقش في أحد فصول كتابي الأخير «أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى»، وعنوانه “الكتب الدينية لا تقتل، قرّاؤها يفعلون ذلك”، أنّ ما نشهده في الساحة العالمية اليوم قد لا يكون تمظهرات “دين عنفي”، بل هو في الواقع “عنفٌ تديُّني”. أي هو عنف بشري عام ولا دينيّ، يقوم باستثمار الخطاب الديني في خدمة تقديم مبررات لوجوده وشرعنة ممارسته، من خلال وضع مرجعيته في يدي مصدر عُلويّ فائق وماورائي. وليس هناك في حياة البشر وفكرهم ما هو أفضل من الدين، كي يقدّم لهذا العنف البشري اللاديني الجذور المرجعية العلوية فوق البشرية كي تبرره وتشرعنه. ما نشهده -برأيي- قد لا يكون “دينًا يمارس العنف”، إنما “عنفٌ يمتهن التديُّن”، والفرق بين الاثنين فرق ساحق وبنيوي.
أحد فصول الكتاب حمل -كما ذكرت- عنوان: “الكتب الدينية لا تقتل، قرّاؤها من يفعلون ذلك”، وفيه تقدّم شرحًا مسهبًا لحضور العنف في الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وكذلك في تاريخ الفكر المسيحي اللاهوتي والديني العام. سؤالي: إلى أي مدى تخلصت المسيحية اليوم من مظاهر التطرف والعنف الفعلي؟
ما دامت المسيحية، كحال باقي الأديان، تعني مجموع البشر الذين ينتمون إلى رسالتها الإيمانية، وما دام العنف جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، كما يخبرنا علم الأنثروبولوجيا؛ فلن يتوقف العنف عن إمكانية التمظهر والظهور في حياة المسيحيين، في كل زمان ومكان. المهم في النهاية هو أن يواجه أي تيار فكري بشري، سواء أكانَ دينيًا أم لا، نفسه نقديًا وتفكيكيًا ليكتنه مظاهر وملامح ومصادر ممكنات العنف فيه، سواء فيه العنف اللفظي أو الفكري أو الممارسي أو السوسيولوجي أو العلاقاتي حتى العنف العقائدي. مرت المسيحية عبر تاريخها بمرحلة نقدية عميقة جدًا وتفكيكية حتى العظم، بدأت في عصر الأنوار واستمرت حتى اليوم، واجه فيها مفكرو المسيحية ولاهوتيّوها بنية العنف وجذوره في الفكر المسيحي الديني والثقافي واللاهوتي والمجتمعي، على حد سواء، واعترفوا بوجودها وأقرّوا بذنوبها وخطاياها الكارثية على حياة البشر. لهذا، يمكن القول: مع أنّ العنف لم يختف من ظهراني المسيحيين (فهم ما زالوا بشرًا مثل كل البشر) فالمسيحيون لا ينفكون يواجهونه ويفككونه ويراقبون حياتهم وسلوكهم وممارساتهم في ضوئه. ما زال في المسيحية أصولية تمارس دينونة وتكفيرًا لمن لا يشبهها من بقية المسيحيين، غير أنها لا تعبّر عن عنفها دمويًا وجسديًا، ولا تمارس القتل والحرب والهتك ضد من لا يتفق معها. العنف في المسيحية الحالية ليس عنفًا “جهاديًا” ولا “ترهيبيًا”. في العصور الوسطى، حملت المسيحية اللاتينية الأوروبية مظاهر عنف ترهيبي وجهادي، تمثّل بالصليبية. هذا النوع من العنف انتهى من المسيحية اليوم. أما العنف اللفظي والفكري، فاعتقادي أنه ما يزال موجودًا.
ترون أنّ “العنف الذي تمارسه بعض تيارات التفسير الراديكالي والأصولي في الإسلام يتمتع بحجم ودرجة ظهور واتساع وتأثير تدميري أكبر بكثير من العنف الديني الذي يمكن أن نجده في المسيحية واليهودية”. هل لكم أن تفسروا لنا هذه الفكرة بشكل أوضح؟
السبب الأساس لهذا الفرق في التأثير والحجم هو أنّ العنف المسيحي واليهودي الذي نشهده في العصر الحديث هو عنف لفظي وفكري، وربّما سوسيولوجي بالمعنى العلاقاتي للكلمة. أما العنف الذي يتمظهر في الإسلام الراديكالي أو السياسوي فهو عنف يتجاوز اللفظ والأفكار إلى الأفعال والممارساتالسلوكية الحياتية. وفي عالم الإعلام والإنترنت والصورة والمشهد الذي نعيش فيه في فضاء ما بعد الحداثة، يتأثر الرأي العام البشري والعالمي والشعبي بالملموس والمرئي والمحسوس والمختبر زمكانيًا وماديًا، ويتفاعل بشكل أكثر مباشرة وتأثُّرًا وانفعالًا مع ما يراه من ممارسات وأفعال عنفية جسدية ودموية. لهذا يغلب على الرأي العام العالمي انهماك وتركيز على العنف الممارس أكثر من العنف اللفظي والفكري… هناك عنف فكري ولفظي وسوسيولوجي منتشر في العالم المعاصر وفي كل الأديان، ومنها المسيحية واليهودية، والتيارات الفكرية والفلسفية العلمانية تشترك أيضًا في اقترافه وممارسته، من دون التوقف فعلًا عنده ومن دون نقده. على سبيل المثال، لم يتوقف العنف اللفظي والعنصري -طوال عقود عديدة- تجاه المواطنين الأميركيين من أصول إفريقية أو سوداء، من دون أن يتوقف عندها الرأي العام الأميركي أو أن يتظاهر في تظاهرات شعبية عارمة ضدها. ولكن، حين بدأت تتزايد ممارسات العنف الجسدي والعملياتي ضد الأميركيين السود في أميركا، في السنوات الأربع الأخيرة، بدأ الرأي العام الأميركي ينتبه إلى التمييز والعنف العنصريين تجاه السود، وخرج الشعب الأميركي في تظاهرات شعبية عارمة ضدها. هذا مثال بسيط على ما أقصده حول قدرة العنف الممارس على التأثير أكثر من العنف اللفظي أو الفكري.
أنا -شخصيًا- أعدّ النوعين عنفًا مرفوضًا تجب محاربته. ولكنني أعتقد أيضًا أنّ الإسلام الراديكالي والسياسوي يتقصد أن يعبّر عن عنفه بشكل ممارس، ولا يكتفي به لفظيًا وفكريًا فقط، وأنه يعتمد على هذا النوع من التعبير عن العنف بشكل متعمّد ومبرمج، لأنها طريقته في فرض وجوده على الآخر، وجعله يخاف منه ويرهبه. هو تيار يعتقد أنّ القوة والترهيب تضمن له حيثية وجود وتأثير. هكذا أيضًا، اعتقدت المؤسسة الكنسية المسيحية لقرون عديدة، قبل أن تكتشف خطأها الفادح وتتوقف عن استخدام السلطة في فرض الإرادة. الممتاز أنّ التيار الراديكالي العنفي الممارس في الإسلام هو تيار أقلوي وهامشي في الحقيقة، ولكن الصوت المدوي يثير دومًا الانتباه أكثر من الصوت الهادئ، مع الأسف.
تعرية نظام “نيرون دمشق” في أوروبا وأميركا
اسمح لنا بروفسور نجيب أن ننتقل معكم بحوارنا هذا إلى مناقشة عدد من القضايا المتصلة بالشأن السوري؛ ونبدأ بالسؤال التالي: هناك من المفكرين والمثقفين والكتّاب السوريين من آثر الصمت إزاء الأوضاع الكارثية التي تمر بها البلاد منذ نحو عقد من الزمن، أين تصنّف نفسك؟ وكيف تفسر ظاهرة الصمت أو مهادنة الاستبداد أو اختلاق مبررات له؟
كنت الكاتب الأول (أو ربما الأوحد) الذي تحدث عن ظاهرة الصمت في المأساة السورية. وقد كتبت دراسة عام 2012 بالعربية وبالإنكليزية، ناقشت فيها أنّ الأغلبية في المشهد السوري هي فئة “ساكنة” (quiescent) وليس “صامتة” (silent) في سورية[1]. وهي فئة حاولت أن تطرح رأيًا وتُسمِع صوتًا، لكنها التزمت السكون الحركي، وعدم القيام بأي موقف عملي على الأرض. وهم -كما تقول المعطيات الميدانية التي جمعتها حينذاك- يمثّلون الأغلبية الساحقة من المشهد الشعبي السوري، وكلٌّ من المؤيدين للثورة والموالين للنظام على حد سواء هم أقلية عددية، مقارنة بتلك الأغلبية الساكنة. أما عن موقفي الشخصي، فأنا لم أكن ساكنًا ولا صامتًا حيال المأساة السورية. وقد وقفت، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة الشعبية العامة، علانية، من دون مواربة، مع الثورة السورية. دعمتُها فكريًا وكتابة وتعليمًا ومحاضرات ومشاركات وحوارات في العالم الغربي، الأوروبي والأميركي على حد سواء. وقد رفضتُ منذ البداية أن أنتمي إلى أي فصيل سياسي معارض، أو أن أضع قدراتي الفكرية والثقافية في خدمة أي جسد معارض من الأجساد التنظيمية العديدة. لم أؤمن بأي منها، ولم أرَ فيها سوى تهديد وتقويض وابتلاع مدمر لثورة الشعب السوري وأحلامه. اخترت أن أخدم قضية حرية وكرامة وخلاص الشعب السوري، من خلال تكريس طاقاتي الفكرية والكتابية والأكاديمية والثقافية، كسوري مستقلّ وحرّ عمل في السنوات العشر الأخيرة على كتابة عشرات من المقالات والدراسات عن المأساة السورية وثورة السوريين النبيلة باللغات العربية والإنكليزية، وتُرجمت بعض كتاباتي إلى الألمانية والفرنسية، وحاضرت في أوروبا وأميركا عن الثورة السورية، ودافعت عنها، وعرّيت النظام المجرم والفاسد والمستبد، من على منابر جامعات ومراكز أبحاث، وفي مؤتمرات، وكذلك في لقاءات في مراكز صناعة الأفكار والقرار السياسي. فعلت كل هذا بصمت وهدوء، من دون ضوضاء وتطلّع للوقوف في الضوء ونيل أي مكسب شخصي أو خاص. وكنتُ أول من سمّى رأس النظام المجرم بـ “نيرون دمشق”، على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك). ولم أتردد في انتقاد وتعرية ولاء وتحالف رجال الدين المسيحي في سورية مع المنظومة المجرمة. وفعلت هذا في أوساط القيادات الغربية المسيحية والعلمانية على حد سواء. وبسبب موقفي هذا، ما عدت أستطيع العودة إلى سورية، لدواعٍ أمنية، بل إنني لم أزر حتى لبنان، لخوفي من ارتباط الأمن اللبناني مع المخابرات السورية، كوني مطلوبًا أمنيًا…..
موقفي من الثورة السورية وإدانتي ومناهضتي لنظام نيرون دمشق المجرم والسفاح والمستبد واضح ومعلن ولا لبس فيه أبدًا منذ اللحظة الأولى. وكذلك موقفي المهاجم والعاتب والمنتقد بشدة للمعارضات السورية الرسمية وأداءها المدمر وفسادها المقيت وأداء قياداتها المستبد المعادل لاستبداد النظام معروفٌ أيضًا، وتستطيع أن تراجع مقالاتنا العديدة في جريدة “العربي الجديد”، وقبلها (ملحق نوافذ) لجريدة “المستقبل” اللبنانية، وكذلك موقفي النقدي من المعارضات السورية في حلقة حوارية شاركتُ فيها على “تلفزيون سوريا”. هذه مجرد أمثلة قليلة أذكرها هنا. أما سبب الصمت أو السكون، فهو بالدرجة الأولى الخوف وعدم الثقة بالآخر، لكنه أيضًا بسبب فشل المعارضات السورية في تقديم بديل حقيقي مختلف عن النظام. معظم الساكنين والصامتين في سورية يرون في المعارضات السورية معادلًا مقابلًا، لكنه شبيه جدًا بالنظام وفساده ووصايته وطغيانه وطائفيته وعدم كفاءته وجشعه ودوغمائيته وأيديولوجيته، ولهذا لاذت الغالبية الساحقة بالسكون، وبعضها اختار الصمت، لأنها أغلبية لا يمكن لها أن تقف مع النظام ولا تقبل به. ولكنها لا تشعر أنّ المعارضات الموجودة في الساحة تمثّلها أو حتى تحتضنها، بل تحاول الركوب عليها والتسلق على مصائرها، على حساب دمائها وحياتها للوصول إلى سلطة لن تمارس هذه المعارضة العمل فيها بأساليب تختلف عن أساليب النظام نفسه. فشلت المعارضات السورية فشلًا ذريعًا، وأفشلت معها ثورة الشعب السوري وقلبتها وبالًا عليه، بدل أن تعمل على جعلها نافذة خلاصه.
كيف تقرأ المشهد السياسي السوري الآن، خاصة بعد فوز جو بايدن بالانتخابات الأميركية؟ وهل سيتم التعامل مع تعقيدات الأوضاع في سورية بشكل مختلف تحت راية إدارة أميركية جديدة؟ وما الذي يمكن أن تفعله واشنطن لإنهاء الأزمة المستمرة منذ عام 2011؟
الباحث الأكاديمي يحاول تفسير وتحليل معطيات ما حدث من مجريات، ولا يحاول أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث قبل حدوثه. لن أحاول ارتجال توقعات حول ما يمكن أن تكون عليه سياسات إدارة البيت الأبيض القادمة حيال سورية أو المنطقة. أفضّل أن أحتفظ بتفاصيل وأسباب تشاؤمي الشخصي لنفسي. ما أستطيع قوله هنا إنّ قراءتي لمعطيات ما حدث في سورية أخيرًا، وما يجري فيها الآن، تقول إنه لا يوجد في الواقع “مشهد سياسي” في سورية.
في سورية الأسد – البعث، منذ عهد الدكتاتور الأب، قُتلت السياسة وغُيّبت عن المشهد العام السوري. ما بقي في سورية هو “سلطة” وألعابها ومقامراتها. وحين اندلعت الثورة في البلاد في عام 2011، كان عندي أمل بأن ينشأ في سورية عصر “سياسة” جديد وحقيقي، قوامه حراك الناس ونشاط الساحات العامة الشعبية الثائرة. لم يحدث هذا مع الأسف الشديد؛ فالنظام قمع الحراك وخنق احتمال حدوثه حين رفض التفاعل “سياسيًا” مع الناس، واختار الحلّ القمعي العسكري والأمني والدموي. لكن المؤسف هو فشل المعارضات التي ركبت على ظهر الثورة والناس، في خلق حالة “سياسية” بدورها، لأسباب عديدة معقدة ومتشابكة، ربما أحد أهمها (وليس الوحيد طبعًا) أنّ كل من قاد المعارضات السورية نشأ وترعرع في الفضاء “اللاسياسي” نفسه الذي ناهضه وتمرد عليه وحاربه. لهذا، وجدنا معارضات كثيرة في المأساة السورية تمارس “لعبة السلطة” والحرب لأجلها وبسببها، وتعجز عن ممارسة السياسة أو خلق كيان وبدائل “سياسية” في المشهد السوري.
أبدأ إجابتي بوضع هذا السياق العام الناظم، كي أقول لك: إنّ صناع القرار الغربيين وملاك أسهم الشرق الأوسط كلهم يدركون غياب السياسة من المشهد السوري، وكلهم لم يعملوا على خلق سياسة في سورية. بل إنهم عززوا المنطق السلطوي بطرفيه، النظام والمعارضة، كي يبرروا إمساكهم هم بملفات البعد السياسي المتعلق بالملف السوري، وترك إرهاصات الصراع السلطوي للسوريين المتصارعين. هذا الإمساك باللعبة السياسية هو ما جعل تقرير مصير مستقبل سورية ومآلات نهاية المأساة الفظيعة فيها بيد صناع القرار الغربيين (وعلى رأسهم إسرائيل) لا بيد السوريين، ولا بيد أي طرف منهم على الإطلاق، لهذا جاء دخول روسيا إلى المشهد في عام 2015، لتلعب دور المنفذ للمشروع السياسي الأميركي – الإسرائيلي – الأوروبي في سورية (لم تدخل روسيا إلّا بضوء أخضر أميركي – إسرائيلي – أوروبي، وبموافقة ورغبة خليجية – عربية). ولهذا فإنّ ما تمضي روسيا في تنفيذه سياسيًا، من صياغة دستور جديد، وبعده انتخابات رئاسية و”مجلس شعب” (ليس في سورية برلمان)، ومن ثم تنفيذ مشروع تقاسم سلطة بين النظام والمعارضات، هو ما سيتم اعتماده كمعرِّف وناظم للمشهد السياسي السوري.
سيكون هناك سياسة لأول مرة في سورية منذ خمسين عامًا، ولكنها ستكون مشهدًا سياسيًا لم يصنعه السوريون، بل فرضته إرادة “إسرائيل” وصانع القرار الغربي ومالك الأسهم الأميركي. لست متفائلًا بمشروع ونموذج سياسي كهذا، لأنه مشروع حالة سياسة مستورد من الخارج، ولن يتمكن السوريون من ممارسته وتنفيذه بشكل ناجح، لأنهم لم يستوعبوه ولم يخلقوه من قلب وعيهم المعرفي والذاتي والداخلي. شهدنا العملية نفسها يتم تطبيقها في العراق، وشهدنا كيف أنّ الشعب العراقي حتى اليوم لم يستوعب بعد، ولم يتلبس ذاتيًا مشروع حالة السياسة التي فرضتها عليه قوى صنع القرار… لست متفائلًا بمستقبل سورية. أخاف أن تتحوّل سورية إلى عراقٍ أو لبنان آخر. ما أنقذ مصر وتونس من المصير نفسه هو وجود حالة سياسة فيهما، وليس “سلطة” فقط، وهذا ما نفتقر إليه في سورية منذ خمسين عامًا. لهذا، ليس في البلد بنية تحتية وأرضية جاهزة لزرع بذرة سياسة مستقبلية حاليًا. كأنك تحاول غرس بذرة شجرة في رمال الصحراء… لا أعتقد أنّ هذا سيتم تغييره في العقود القريبة المقبلة. ولهذا، لا يهم كثيرًا أي إدارة أميركية في البيت الأبيض.
سورية التاريخية التي نشأت في ما بعد الحرب العالمية الأولى انتهت، برأيي المتواضع. وحتمًا، ثمن بقاء الأسد في السلطة (بل مهمته الوحيدة التي ستبقيه فيها) سيكون التطبيع مع “إسرائيل”، وذلك في اليوم الثاني مباشرة لإعادة تأهيل النظام الذي يمثّله.
تفيد مصادر سوريّة معارضة أنّ الروس قدّموا في مطلع أيّار/ مايو 2011، نصيحة قيّمة لبشار الأسد، وهي الإفراج عن أكثر من 1500 متشدد إسلامي وجهادي، بينهم ثلاثة من أبرز سجناء سجن صيدنايا (زهران علوش وحسان عبود وأحمد الشيخ) وقد أنشأ هؤلاء، على التوالي، التنظيمات المسلّحة الآتية: “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” و”جبهة النصرة”. وكانت النتيجة صعود موجة إسلامية كادت تصادر الطبيعة الديمقراطية والعلمانية للاحتجاجات خلال الأشهر الأولى من الثورة الشعبية السلمية. إلى أي مدى يمكن تصديق هذه الرواية؟ وما دلالاتها إن كانت صحيحة؟
المسألة ليست في التصديق والتشكيك. السؤال هو هل يوجد معطيات منطقية وموضوعية يمكن أن تؤسس أرضية ما لمثل هذا الاحتمال؟ أقول: نعم بالتأكيد، وأنا أعتقد أنّ الإسرائيليين هم من قدّموا تلك النصيحة أيضًا، عبر الروس أو بشكل مباشر لرأس النظام، (فهم رعاة النظام مع بريطانيا منذ خلقه). لكنني أعتقد أيضًا أنّ هذه الأسلمة للثورة السورية تمّت أيضًا من قبل أطراف دعمتها، ماديًا وعينيًا وعلانية. وطبعًا هذه الأسلمة خدمَت إيران جدًا، وأعطتها ذريعة للخوض في المشهد السوري بقوة وعمق. كل طرفٍ من الأطراف المذكورة استفاد بطريقته من أسلمة الثورة السورية وتطييفها، واستثمر في هذه الأسلمة لخدمة مصالحه وحساباته الخاصة. أما الأشخاص الذين ذكرتهم فهم مجرد دمًى وأدوات عملياتية بلا حيثية أو قيمة في حد ذاتهم. هم محض مرتزقة مسـتأجرين للقيام بالعمل القذر، فهم لا يعرفون أي أمرٍ آخر. ولهذا، قد يكون النظام أخرجهم من السجون، ولكن النظام بحد ذاته عبدٌ مأمور، قام بتنفيذ ما طُلبَ منه لضمان نجاته. لا أبرر للنظام، لكنني لا أعطيه أكبر من حجمه وقيمته أيضًا.
برأيك، ما العوامل التي ساعدت في وجود تنظيمات وفصائل تحمل فكرًا متطرفًا في سورية، كجبهة النصرة والقاعدة وجبهة تحرير الشام وأشباهها؟
أعتقد أنني أجبتُ بطريقة غير مباشرة على هذا السؤال في الأعلى. هناك عوامل خارجية اختارها وقررها صناع القرار ومديرو ملفات مصالحهم في المنطقة. المعطيات الموجودة لدينا عن الجبهات التي ذكرتها في سؤالك تقول إنها خُلقت ومُوّلت ودُعمت، عسكريًا ولوجستيًا، من قبل أطراف خارجية، وذلك بأمر عمليات أميركي – إسرائيلي، لأسباب ومعطيات وإرهاصات تتعلق بتضاعيف وتعقيدات وضرورات ومتطلبات أجندات المقررين لمآلات المشهد السوري. لكن، هناك أيضًا عوامل بنيوية داخلية تتعلق بطبيعة السياقات السوسيولوجية والأنثربولوجية التي بدأنا -بصفتنا باحثين ومراقبين- نلمس تشكّلها ونكتنه ملامحها في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب انهيار المعسكر الشيوعي الماركسي، وهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وسقوط النظام العراقي، وتراجع الهويات القوموية والوعي الوطني والقوموي الجمعي، أمام تقدّم الهويات الضيقة الطائفية والتدينية والوعي الذاتي الديني والفردي والتغايري (otherizing) في الساحات العربية، ترافق هذا طبعًا مع صعود البديل الإسلاموي السياسي الشيعي والإخواني، بعد سقوط العراق ونشوء تركيا (حزب العدالة والتنمية) ونكوص الإسلام السني المعتدل والحواري. قاد هذا إلى تغييرات مضمرة (كنار تستعر ببطء وهدوء تحت رماد) في بنية المجتمعات العربية، ومنها السورية، وفي مخيال الإنسان العربي المتعلق بوعيه لذاته ولوجودها، مالت مكوّناته نحو التديُّن والراديكالية ومغايرة الذات، وهذا مهّد الأرضية لبزوغ الإسلاموية والراديكاليات الدينية على السطح. ولا يجب علينا أن نركز على العامل الخارجي من دون التوقف بعمق عند الجانب الداخلي المذكور، فحين سينتهي دور التنظيمات والفصائل المذكورة، ستقوم القوى الخارجية التي خلقتها بإزالتها أو تفريغها من معناها، ولكن هذا لن يعني أوتوماتيكيًا أنّ الراديكالية والفكر المتطرف والتضادي التديني الذي تمثّله تلك الأجسام العملياتية قد زال بزوالها، وقد امّحى من المشهد السوسيولوجي والأنثروبولوجي في الساحة السورية. هذا لم يحصل في العراق ولا في لبنان ولا في تونس ولا في اليمن ولا حتى في مصر، على الرغم من توقف مظاهر العنف والحراكات العسكرية والعنفية والعملياتية التي مثّلتها مكوّنات وأجسام تشبه المكوّنات والأجسام الموجودة في المشهد السوري.
أملنا في الجيل الجديد لوأد الطائفية في سورية المستقبل
كيف تعامل النظام البعثي الأسدي مع الأقليات الدينية والعرقية، خلال العقود الخمسة الماضية؟ وهل غيّر سياساته تجاههم في سنوات الثورة؟
أولًا، عليك أن تعلم، كما يعلم كل من يعرفني وقرأ لي في السنوات الماضية، أنني لا أؤمن ببدعة “تحالف أو حلف الأقليات”، وأنا ضده مفاهيميًا وسياسيًا ومجتمعيًا وقيميًا. من جهة أخرى، عندي رأي خاص حول مسألة “الأقليات” سبق لي أن كتبته في مقال صدر بالعربية، وأخيرًا صدر في فصل تحليلي كامل في كتابي الإنكليزي الخامس (After Mission،Beyond Evangelicalism)، الذي صدر هذا الأسبوع عن دار “بريل للنشر” الهولندية العلمية العريقة. يمكنك أن تطلع على رأينا المذكور حول فكرة “الأقليات”، في مقالنا العربي[2]. باختصار شديد، أنا لا أؤمن بشيء اسمه “أقليات” ولا أقبل أن يخنع المسيحيون لمعاملتهم كأقليات. أسمي هذا الهوس بالخنوع لصورة الأقلية “عقدة أقللة الذات” self-dhimmitudization complex. من جهة ثانية أكثر أهمية، أنا لا أعتقد أنّ سورية كان فيها أقليّات، بالمعنى السوسيولوجي أو الديني أو المجتمعي، في تاريخها الحديث. ما عاشت سورية تحت نيره، وتعذبت أطياف شعبها كافة منه، هو ما أسميه في دراستي المذكورة “سياسة أقللة مهيمنة” hegemonic dhimitudization policy، التي تقوم على عملية تهميش الأشخاص الذين يناهضون معايير ورؤى وسياسات وتعاملات النظام المهيمن الحاكم، وعلى حرمانهم من أساسيات القدرة على العيش الإنساني السليم والآمن، ثم تهديدهم في مصيرهم ومستقبلهم وحياتهم.
عاشت سورية تحت ظل النظام القمعي الأسدي سياسة “أقللة أمنية”، وضعت تحت نيرها كلّ فرد أو مواطن ناهضَ وعارضَ النظام ورفض الانصياع لقيمه وطروحاته، من أي خلفية كان، سواء أكان مسلمًا أم مسيحيًا، سنيًا أو علويًا أم كرديًا أم أرثوذكسيًا أو بروتستانتيًا أم كاثوليكيًا أم درزيًا أم مرشديًا أم إسماعيليًا أم شركسيًا أم سريانيًا أم أرمنيًا، أم أم. ما فعله النظام أنه “أقلل” كلّ من ناهضه واختلف معه، بصرف النظر عن خلفيته والواقع العددي للجماعة التي ينتمي إليها. من هذا المنظور، قد نتمكن من الحديث عن مسلمين سنّة مأقللين مع أنهم ينتمون للجماعة الأكبر عدديًا. لم يفضّل النظام، من زاوية سياسة الأقللة المذكورة، طائفة أو جماعة على أخرى، بل داس بحذائه الاستبدادي والقمعي والطغياني بشكل متساوٍ على رؤوس جميع أولئك الذين أقللهم.
ومن المؤسف جدًا أنّ المعارضات السورية التي قدّمت نفسها ناطقة باسم الثورة السورية، أي باسم جميع المأقللين في سورية، لم تتوقف عند هذه السياسة التي أتحدث عنها، بل أنكرتها وأعادت الإصرار على الحديث عن “أقليات” مسمطة ومن لون واحد جمعي وطائفي وديني مقابل “أغلبية” مسمطة أيضًا من لون واحد وجمعي وطائفي وديني مضاد. هذا كان خطيئة كبرى ارتكبتها المعارضة السورية الحمقاء في حق الثورة. لأنها بمنطق “أقليات ضد أغلبيات”، العددي والتطييفي والجماعاتي، قسمت الشعب السوري بشكل انشطاري حاد إلى أغلبية مسلمة سنّية ثائرة، ضد أقليات غير مسلمة وغير سنّية موالية، رافضة تمامًا أن تعترف بأي أفراد ثائرين ومناهضين للنظام أو أن تحتضنهم، لمجرد أنهم ليسوا من تلك الأكثرية العددية المزعومة “الثائرة”، ولأنهم دُمِغوا رغمًا عنهم بدمغة خلفياتهم الدينية والطائفية والعرقية. لو أنّ المعارضات الضيقة النظر والفهم أدركت واستبصرت بعمق واقع سياسة الأقللة التي مارسها النظام، واعترفوا أنّ هناك ثائرين غير مسلمين وغير سنّة، وأن هناك موالين مسلمين سنّيين أيضًا، ربما كانت ستنجح بجذب كثير من السوريين الساكنين والرافضين بسكون وصمت للنظام، إلى طرفهم، وربما كانوا حظوا باحتضان الشارع السوري الثائر لهم، من دون تحفظات ومن دون شكوك. سبق لي أن نبهت بعض المعارضين ذوي المواقع التمثّيلية والقيادية إلى “سياسة الأقللة” ودعوتهم لتجنب الحديث بمنطق “أقليات” و”أغلبية” عددي. ولكن، مع الأسف، لا حياة لمن تنادي، فأنا أيضًا وأمثالي تم عدّهم “أقليات”، مع أنّ أمثالي من السوريين لم يعرِّفوا أنفسهم يومًا، بدلالة قناعاتهم وميولهم الدينية والمعتقدية الخاصة. لو كنت من الذين يعتبرون انتماءهم الديني هوية تعريفية، لما كانت واحدة من دراساتي العلمية البحثية القادمة باللغة الإنكليزية، التي ستصدر، في أنثولوجية أكاديمية، عن جامعة البندقية في إيطاليا قريبًا، تناقش أنّ الدين ليس هوية، ولما كنت قد كتبت مقالًا في العربية ضد تشكيل كيان سلطوي أو فدرالي مسيحي في سورية أو في المشرق[3]. باختصار شديد: السؤال يجب أن يكون كيف عامل النظام الأسدي الشعب السوري برمته؟ الجواب بالنسبة إلي: مارس عليه سياسة أقللة قمعية وأمنية وتحطيمية مجرمة لم يميّز فيها بين الناس على قاعدة خلفياتهم وانتماءاتهم ومعتقداتهم، بل على قاعدة ولائهم أو عدم ولائهم وخنوعهم أو عدم خنوعهم له ولمنظومة قيمه.
لك موقف نقدي من تضمين الدستور السوري المستقبلي بندًا يقول “الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع والقوانين”. هل لك أن تشرح لنا موقفك بوضوح؟
أظنك تشير إلى الموقف التحليلي والتفكيكي الذي عبّرت عنه حول هذا الموضوع، في مقال لنا بعنوان “بين تشريع وقوننة في سوريا”[4] الذي نشرته في عام 2017. إن موقفي من إقحام الشريعة بالدستور المدني الدولتي المزمع ليس بالموقف الديني أو العقائدي أو الأيديولوجي، بل هو موقف مفاهيمي إبستمولوجي وتاريخولوجي بامتياز. ودعني أعيد هنا التذكير بما شرحته في المقال المذكور عن هذه المسألة، مع دعوتي للقراء للعودة إلى كامل المقال، ينطلق رفضي لإقحام الشريعة في الدستور والقوانين الوضعية من ملاحظة خلط مفاهيمي شائع في العالم العربي بين مفهومي “تشريع” و”قانون”، فأناقش أننا نستعمل في اللغة العربية، في خلط إشكالي جدًا، كلمة “مُشرِّع” لتسمية واضع القوانين، وذلك في محاولتنا لترجمة الكلمة الأنجلو – ساكسونية (legislator/lawmaker) . أما السبب التاريخي، لاستخدامنا كلمة مترجمة عن ثقافة أخرى، فيعود إلى أننا نجد في تاريخ فكرة القانون في الحضارة الإسلامية مفهوم “شَرَّعَ” (ومنها كلمة “شارع”)، ومنها جاءت مفردات “تشريع” و”شريعة”، ولهذا نستخدمها بشكل أوتوماتيكي غير محسوب فيلولوجيًا وإبستمولوجيًا لتعريب مصطلح مستعار. ومع أنّ المشرق في ثقافاته غير الإسلامية، مثل الثقافة اليهودية والسريانية والمسيحية البيزنطية، احتوى مفهوم “قانون” من كلمة canon، لكن المفهوم، ومعه المفردة التي هيمنت على المخيال الفكري لأهل الحضارة العربية – الإسلامية، هي مفردة “تشريع” و”شرع”. لكن، ما لا يبدو أنّ العرب ينتبهون إليه هو أنّ دلالات “شرع” و”تشريع” تختلف عن دلالات “قانون” و”قوننة”؛ لأنّ كلًا من تلك المفردات تنتمي إلى لعبة لغة مختلفة عن لعبة اللغة التي تنتمي إليها المفردات الأخرى (درس مهم يجب أن نتعلمه من لودفيغ فتغنشتاين حول ماهية وطبيعة اللغة)، وكل منها معنية بجوانب تتعلق بالتفاعل البشري المجتمعي والقيّمي والسياسي (بمعنى “شأن عام”)، وتختلف في ماهيتها جديًا عن الأخرى. لنتذكّر أن مفهوم “دولة” (state) دخل إلى الفكر العربي – الإسلامي المعاصر في عصر الحداثة والقرن التاسع عشر، وأنّ إقحام فكرة “الشريعة الإسلامية أحد مصادر القوانين” جرت في العصر الحديث ذاته. ولنتذكّر أيضًا أنّ مفهوم “قوننة” و”قانون” اقترن في التاريخ السياسي والقانوني في الغرب (منشئ الفكرة الأم) بفكرتي “دولة” و”مجتمع مدني”. تذكّرنا لهذا يجعلنا نستنتج أنّ جعل “التشريع” (أي حالة تشريع، بصرف النظر عن طبيعته الدينية) أحد مصادر “القوننة” ما هو إلّا محاولة توظيف أداة وفعل ما في تشكيل وخلق شيء يختلف عن تلك الأداة في الماهية وفي الوظيفة وفي الهدف، كأننا نحاول أن نصنع بيانو بريشةٍ للرسم. قد تعلقت كلمة “تشريع”، في أصلها الإيتيمولوجي التاريخي، بجوانب تدور حول “السلوكات والمعاملات”. خلافًا لذلك، تعلقت كلمة “قوننة” بجوانب تدور حول “الحقوق والواجبات”. مسألة السلوكات والمعاملات أخلاقيّة وقيّميّة، تتعلق بالفرد وعلاقته السلوكية بالجماعة، في حين أنّ مسألة الحقوق والواجبات حقوقية، تدور حول المسؤولية والدور والعدالة في سياق الإدارة والعمل العام والحيثية المدنية والمواطنية؛ حين تعاقب القوانين قاتلًا ارتكب جرمًا على فعله، لا تعاقبه على قاعدة منطقٍ يقيّم أخلاقه وسلوكياته الفردية الشخصية، بل على قاعدة إخلاله بمسؤولياته المدنية العامة، وتعديه على حق الآخرين بالحياة (هذه مسألة تهتم بها القوانين). ولننتبه إلى أنّ عملية إقحام فكرة “الشريعة الإسلامية أحد مصادر القوانين” جرت في تاريخ الفكر العربي – الإسلامي في العصر الحديث، وليس قبل ذلك، وهي نتاج اجتهاد قامت به الإسلاموية السياسية العائدة لمطلع القرن الماضي، بدءًا من سيد قطب واعتماده على فكر ابن القيم الجوزية السياسي، الذي دعا صاحبه إلى خلق “دولة إسلامية” تقوم على الشرع الإسلامي، كي تضمن التزام أبناء تلك الدولة بسلوكات الدين الإسلامي وأخلاقه وسننه. لم يقدّم صاحبنا الدولة الإسلامية تصوّرًا سياسيًا، بل بديلًا عن الدولة السياسية: “إسلامية” هنا تصبح “بديلًا عن “سياسية”، وليست أحد أشكالها، و”شريعة” تصبح بديلًا عن “قانون”، وليست في الواقع “أحد مصادرها”. يدعونا إدراكنا هذا إلى التمهل قليلًا والتمعن في التفكير، قبل أن نتبنى هذا الخلط، ونسعى لتطبيقه على عواهنه ومثالبه.
بعد كل ما عايشناه من تطرّف طائفي في المجتمع السوري؛ هل تعتقد أنّ قوى الثورة وأطياف المعارضة قادرة على لعب أي دور نقدي فعال أو ضابط تجاه تطرف كهذا؟
قناعتي الواضحة والصريحة هي: “كلا” كبيرة. لا قوى الثورة ولا أطياف المعارضات قادرة على لعب أي دور تجاه الانشقاق الطائفي العمودي والصارم في سورية، وإذا كان من دور قد سبق لتلك الأطراف أن لعبته، فهو دور المعزز للطائفية والداعي لها والفارض لمعاييرها على المشهد السوري. لم يستفد النظام المجرم من خطايا المعارضات التي لا تغتفر مثلما استفاد من خطيئة الذهنية والدوغمائية التطييفية التي وقعت فيها المعارضات المذكورة، لقد قدّمت للنظام الطائفي والمتعفن بتطرفه المذكور ورقة ذهبية ليلعب بها ويبرر بها مواقفه وسياساته وما فعله. وهي ما زالت تفعل ذلك حتى هذه اللحظة. حتى الأطياف المعارضة التي قرَّعت رؤوسنا وهي تُدين الطائفية وتقول إنها ترفضها، عبر وسائل الإعلام السمعي والمرئي والمكتوب، كانت تفعل ذلك بعقلية ومنطق طائفيين صريحين. هذا ما يلمسه المرء حين يتواصل مع أولئك المعارضين وجهًا لوجه ويتحاور معهم، كما فعلت أنا، في السنوات الماضية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من سياق ومكان. إن كان هناك أي أمل في وأد الطائفية في سورية المستقبل، فهذا الأمل موجود في أيدي الجيل السوري الجديد الشاب القادم. لم يعد لسورية سوى هذا الجيل كي تترجى فيه ملامح عقلية وذهنية وفهم للذات مختلف وغير طائفي وغير تصنيفي، بل هو تعددي وتفاعلي وتلاقحي واشتمالي. لنتذكّر في النهاية أنّ من يقدّمون أنفسهم على أنهم ممثلو المعارضات السورية هم أنفسهم أبناء وبنات الرحم الفكري والسياقي والسوسيولوجي والعقائدي والمفاهيمي الذي وُلد منه النظام وأتباعه وموالوه. أقدم درس فلسفي نجده في نصوص الفلسفة القديمة اليونانية هو درس أفلاطون لنا، عن اكتناه طبيعة الأشياء، وليس تمظهراتها وتعابيرها العملية عن ذاتها، اكتناه “النوس” أو “الأوسيا”، كما يقول أفلاطون. حين نتبع هذا الدرس الفلسفي العميق والمبدئي، سنصل إلى الخلاصة التي أحاول تقديمها في إجابتي هنا.
من منظوركم، لماذا يدفع السوريون وحدَهم ضريبة هذا الصراع الإقليمي والدولي على امتداد الجغرافيا السورية التي مزقتها الحروب؟
ليس السوريون فقط من يدفع هذا الثمن. كل البشر على امتداد منطقة الشرق الأوسط يدفعون أثمانًا مصيرية هائلة ومميتة لما يحصل في المنطقة، منذ قررت أميركا بيع ملفّ إدارة مصالح ملاك الشرق الأوسط، وتولي أموره الإدارية، لإيران. لطالما قلت في محاضراتي وكتاباتي عن المسألة السورية والربيع العربي عمومًا في السنوات العشر الماضية، إنّ ما يحتاج إلى الحماية والإنقاذ في الشرق الأوسط ليس البلدان ولا الأديان ولا الأقليات العددية، بل هو إنسانية الإنسان في هذا الفضاء الجغرافي الفسيح. نعم، السوريون دفعوا أثمانًا هائلة أكثر بكثير من سواهم من شعوب المنطقة. وهم دفعوها وما زالوا في انتماءاتهم وأطيافهم واثنياتهم وثقافاتهم ومواقفهم السياسية والمجتمعية والوجودية. لم يبق سوري أو سوريّة إلّا دفع ثمنًا مهولًا للمقتلة السورية، ولحمام الدم والدمار والقمع والتشريد والتغريبة السورية. أما لماذا هم من دفع هذا الثمن أكثر من سواهم؟ فالجواب هو أنهم ابتُلوا دون سواهم بنظام استبدادي قمعي دموي مجرم فاسد وقاتل، لطالما تحدثت عنه في محاضراتي في الغرب بأنه “نظام القرن الحادي والعشرين النازي” وأنه “نظام أدولف هتلر القرن الحادي والعشرين”.
هذا هو السبب الأساس، قتل النظام لكل من وقف ضده وتضحيته بكل من وقف معه لحماية نفسه، على حد سواء هو، في الدرجة الأولى، ما جعل السوريين يدفعون تلك الضريبة الهائلة أكثر من غيرهم. ولكن هناك أيضًا عوامل ومسببات إقليمية دفعتهم إلى ذلك، منها انخراط الأطراف الإقليمية في حروب تصفية حسابات بين بعضها البعض، من خلال عسكرة وتجييش الثورة السورية، ودفع أطرافها التطييفية والتدينية الوجه لفرض أجنداتها ومشاريعها الانتقامية والعنفية المسلّحة على المشهد الثوري، ومنها استغلال بعض الأطراف الإقليمية لمأساة السوريين ونزوحهم وتوظيفه كورقة ضغط ومصالح لتحقيق مكاسب دولية وإقليمية، وهذا أطال أمد المأساة السورية ومعاناة السوريين، وحوّلهم إلى حطب وقود في صراعات وصفقات مصالح أكبر بكثير من سورية. لم يبق طرف عربي أو إقليمي أو دولي إلّا استغل معاناة ومقتلة الشعب السوري في خدمة إستراتيجياته في المنطقة.
على السوريين خلق هويتهم السيرورية المتعدّدة الأوجه
بتقديركم، لماذا لم تُظهر أي قوة عالمية أو إقليمية صدقًا في مساعدة الشعب السوري على إسقاط نظام الأسد؟ وهل توافقون الرأي السائد في أوساط المعارضين السوريين على أن ما يُسمّى بـ (مجموعة أصدقاء الشعب السوري) من أكبر الأكاذيب التي عايشناها على مدى سنوات الثورة العشر؟
عندي رأي مختلف قليلًا عن الرأي المذكور هنا، وإن كنت سمعته مرارًا، وأتفهم السيكولوجيا والمرارة والمنطق الذي يكمن خلفه. هناك أصدقاء لـ “الشعب السوري” في المشهد العالمي، وهم في الحقيقة كثير من منظمات المجتمع المدني والعمل الإنساني، وكذلك حكومات وأجسام دولية وسياسية حكومية وغير حكومية، غربية وعربية وأميركية وأوربية على حد سواء. هؤلاء، فعلًا، تعاطفوا مع الشعب السوري، وحاولوا بطرق شتى مساعدته، ماديًا وعينيًا وإنسانيًا وطبيًا وسياسيًا، حتى في استقباله في بلدان النزوح واللجوء. لولا تلك الأطراف، ولولا المليارات العديدة جدًا التي قدّموها من جيوب دافع الضرائب العالمي والغربي والعربي (التي سرقت منها أجسامُ المعارضات السورية وأجسام النظام القسمَ الأكبر، وكذلك وضعت جزءًا منها في جيوبها بعضُ الأنظمة والدول) لما كان من الممكن لأكثر من 12 مليون سوري نازح ولاجئ خارج سورية، وخمسة ملايين سوري مقتلع من أرضه ونازح داخل سورية، أن ينجوا ويجدوا هامشًا للحياة. هؤلاء كلهم أصدقاء حقيقيون للشعب السوري، ولا يمكن لنا أن نطلب منهم أكثر مما فعلوا، ولا أن نقلل من قيمة ما فعلوا. لكن حين يتم الحديث عن المعارضات السورية، فهنا لن تجد فعلًا أيَّ صديق حقيقي للمعارضات السورية، هنا أنا أوافق أصحاب الرأي القائل إنه “ما من صانع قرار فعلي وقف مع المعارضات السورية”. أنا أفرِّق بين الشعب السوري والثورة التي قام بها، من جهة، والمعارضات السورية التي تتحدث باسم الثورة والشعب المذكور، من جهة أخرى. العالم الغربي ومراكز صناعة الأفكار الغربية، التي أنا على اطّلاع على فكرها وعلى تواصل قريب معها، بحكم عملي الأكاديمي وانتمائي إلى الحقل العلمي وحياتي في الغرب، لا تماهي بين المعارضات والشعب السوري، بل تفرّق بينهما، ولهذا، لها مواقف مختلفة تجاه كل من الطرفين. المعارضات السورية فقط، وبخيارها الشخصي، ومن دون أن يمنحها أي طرف سوري شعبي هذا الحق، تماهي بينها وبين الشعب السوري، وتعدّ أي موقف تجاهها موقفًا تجاه السوريين أنفسهم. لا أوافق على هذا الطرح.
أما لماذا لم يوجد أي طرف غربي أو عالمي من صناع القرار يقف مع المعارضات السورية (وعلى فكرة، ليس هناك أي طرف إقليمي أو عربي يقف مع المعارضات السورية، بل تقف كلها مع أجنداتها الخاصة) ويعمل على إزاحة النظام الأسدي المجرم من سورية؛ فسببه الأول (وإن لم يكن الوحيد) برأيي، هو القرار الإسرائيلي؛ إذ إن إسرائيل، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة حتى هذه اللحظة، لم تعطِ موافقتها على إزاحة الأسد من المشهد، أو على استبدال النظام الأسدي الذي أسسته مع بريطانيا منذ خمسين عامًا بنظام آخر. “إسرائيل” هي الناخب الأول والمدافع الأول عن نظام البعث – الأسد في سورية. عامل آخر منع صناع القرار من دعم المعارضات السورية هو فشل تلك الأخيرة (كما سمعت غربيين يقولون أمامي) بتقديم أنفسهم كبدائل حقيقية وسياسية دولتية موثوقة وتستحق التقدير والثقة والاهتمام أمام المجتمع الدولي وصناع القرار الغربيين. هناك، مثلًا، أحاديث كثيرة عن أنّ أحد أهم الأسباب التي منعت باراك أوباما من عدم الاكتراث بالمعارضات السورية ودعمها (مع أنّ صوت الإخوان المسلمين الداعم لتلك المعارضات كان صوتًا مسموعًا بقوة في مكاتب ودوائر الإدارة الأميركية في عهده) هو استهتاره واستهانته بنوعية وكفاءة وأهلية المعارضين السوريين للتحوّل إلى نظام بديل، يستطيع أن يجلس مع الشركاء الغربيين والعالميين ندًا لند، ويتحدث معهم في السياسية والإستراتيجية بعقل سياسي ودولتي كفء ومعادل في النوعية… نظرة استعلائية وعنصرية من قبل أوباما؟ هذا صحيح برأيي. لكن، هذه النظرة واقعية، ولها تأثير بنيوي على مدى قبول صناع القرار لمصادقة المعارضات. أستطيع الاستفاضة حول أسباب عديدة أخرى جعلت الغرب يساند الشعب السوري ويرفض مساندة المعارضات السورية، لكن المساحة الضيقة هنا لا تسمح بذلك. سبق لي أن أشرت إلى عناصر عديدة في مقالاتنا المتعدّدة المنشورة في السنوات الماضية.
ما الدرس الذي أخفقت الثورة السورية في تعلمه من دورة التاريخ؟ وأين الثورة الآن، في رؤية نجيب جورج عوض لها؟
أولًا، الثورة السورية ليست كتلة مسمطة واحدة جامدة، يمكن الحديث عنها بالمفرد أو بالجمعي. الثورة السورية هي اسم حالات التوق للحرية والعدالة والكرامة والحياة والديمقراطية والسيادة التي عبّر عنها ملايين النساء والرجال السوريين، ودفعوا مقابلها أثمانًا تفوق تصوّر العقل البشري في بشاعتها. ما هي الدروس التي أخفق هؤلاء بتعلمها؟ عليهم هم أن يجيبوا عن هذا السؤال بأنفسهم. وإذا سألتهم فستسمع منهم عشرات الأجوبة. أنا كتبت مقالات تحدثت فيها عن أسباب فشل الثورة السورية، وهي عديدة، أذكر منها هنا وقوع الثورة في فخ ثالوث “العسكرة، الأسلمة والأدلجة[5]. أما عن وضع الثورة الآن، فأعتقد أنها انتهت حاليًا، بوصفها فعلًا وحراكًا وحضورًا في الساحة، منذ تم استبدال الثورة بحالة الحرب، أي منذ عام 2013 – 2014. لكن، أعتقد أيضًا أنّ الثورة -بوصفها حلمًا وموقفًا ورؤية وجودية كيانية- لم تمت، ولن تموت أبدًا في قلب وفكر ومخيال ووعي من آمنوا بها ودعوا لها وعملوا على ممارستها على الأرض، من شابات وشباب سورية، سواء داخل سورية أو خارجها. أعتقد أننا نستطيع أن نتحدث بحق عن وجود ما يمكن أن نسميه “جيل/ شعب الثورة”، قد نشأ وبات حقيقة واقعة في تاريخ البشر السوريين. هذا الشعب الثوري عقله وفكره وشخصيته ووعيه لذاته وعلاقته بالحياة ونظرته للعالم وفهمه لكل شيء يدور بشكل واعٍ أو غير واعٍ، بشكل معلن أو مضمر، بشكل صريح أو جواني، بفكرة وحلم وعلاقة ثورية الطبيعة تجاه الوجود. هذا الجيل إن عاد يومًا ما إلى سورية فستكون كل حياته فيها تعبيرًا عن ثورية بكل أشكالها. هذا الأمر لم يستطع النظام أن يقتله ولن يستطيع أبدًا. نجح النظام في قمع وقتل الثورة الشعبية العملياتية، لكنه فشل فشلًا ذريعًا، بل انهزم كليًا، أمام حلم الثورة الذي خلق جيلًا كاملًا من أكثر من ثلثي الشعب السوري الجديد، كينونته معجونة بفكرة الثورة.
أخيرًا، بعد كل ما حصل؛ ما النقاط التي يلتقي عليها السوريون اليوم كهوية جامعة لهم؟ وكيف ترى شكل سورية المستقبل؟
سأكون شديد الصراحة والعلمية هنا. لا أعتقد أنّ هناك هوية سورية جامعة يمكن أن يلتقي عليها السوريون اليوم. سقطت وانهارت الهويات وأنماط الهوية الذاتية السابقة التي لطالما عرَّف السوريون أنفسهم بدلالتها. على السوريين أنفسهم أن يقوموا بخلق هوية جديدة تعرِّفهم، وعليهم أن يفعلوا هذا من جديد معًا، وفي قلب تعدّدهم وتنوّعهم، وفي عمق الواقع العالمي الجديد والإنساني المعاصر. اليوم لا نتحدث أبدًا عن هويات ضيقة أو أحادية أو مغايرة. اليوم نعيش في عالم قوامه هويات أسميها “هويات متعدّدة الأوجه وسيرورية” (fluxive multi-faceted identities). على السوريين أن يقوموا معًا بخلق هويتهم السيرورية متعدّدة الأوجه تلك.
أما عن سورية المستقبل، فكما قلتُ سابقًا، الباحث الأكاديمي لا يستبصر ما ستؤول عليه الأمور، بل يقرأ ويحلل ما حدث ويحاول تفسيره بعد حدوثه. علينا أن ننتظر ونرى. لا أشعر بأنّ سورية التي نعرفها موجودة بعد الآن.. (سورية سايكس – بيكو) انتهت. و(سورية ما بعد الاستقلال) انتهت أيضًا. (سورية الأسد) حتمًا مضت إلى مزبلة التاريخ (وإن بقي نيرون دمشق في موقعه الصوري). روسيا وصناع القرار الغربيون يدعون إلى سورية فدرالية أو شبه فدرالية (لا مركزية). ما أتمناه هو أن لا تتحوّل سورية إلى عراق أو لبنان أو ليبيا أخرى. أيُ شيء عدا تلك النماذج الكارثية الثلاثة سيكون التعامل معه والتعاطي مع تحدياته وعثراته ممكنًا. علينا أن ننتظر ونرى، مصير سورية (بصرف النظر عن مصير الشرق الأوسط برمته) ليس في أيدي السوريين (ولا أهل المشرق) أبدًا، ولم يكن يومًا في أيديهم في العصر الحديث.
[1] راجع مقال الضيف في http://bit.ly/2LflF8Z
[2] رابط المقال المعني: http://bit.ly/3pW2RKI
[3] انظر المقال في: http://bit.ly/3bhMxjj
[4] رابط المقال: https://bit.ly/3niiWc0
[5] انظر المقال هنا: https://bit.ly/2XlFdLu
مركز حرمون