في تفوّق الديمقراطية الأخلاقي/ حسان الأسود
تعتبر الديمقراطية أقلّ أنظمة الحكم سوءًا، إن لم نشأ القول إنها أفضلها، فهي تأخذ بعين الاعتبار بعض الجوانب الإنسانية لأكبر عدد ممكن من المواطنين، فتحترم إرادتهم في اختيار ممثليهم، وهؤلاء سينفذون، بشكل أو بآخر، من خلال برامجهم السياسية بعضاً من مصالح ناخبيهم، ليس لأنهم صالحون، بل لأنهم يرغبون بإعادة انتخابهم مجدّداً. وفي الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً وثقافياً، حيثُ الديمقراطيات العريقة سياسياً والراسخة في احترام الحريات والحقوق لمواطنيها، لا نجد أحزاباً تفوز بشكل ساحق بنسب تسعين أو ثمانين أو سبعين أو حتى ستين بالمائة. نجد في الغالب تقارباً في الأصوات بين حزبين رئيسين، بنسبة لا تزيد عن 10% في أعلى المعدلات، كما حصل في انتخابات ألمانيا أخيرا مثلاً، وكما يحصل مع غيرها من الأحزاب في أوروبا الغربية عموماً.
يدلّ هذا على أنّ الأحزاب تمثّل شرائح معينة من المجتمع، وتسعى إلى توسيع دائرة تمثيلها باستمرار. ولكي نرى المفارقة بين المجتمعات المتقدّمة وتلك المتخلفة عنها في ركب التقدّم، يمكننا أن ننظر إلى هذه الأحزاب وبرامجها الانتخابية. من خلال ذلك، نستطيع تقدير أولويات الشعوب من جهة، وأولويات الفئات المجتمعية من جهة ثانية، فوجود أحزابٍ، مثل حزب الخضر في ألمانيا أو السويد أو النمسا، أمر طبيعي، بل ومطلوب، ليعكس رفاه هذه الشعوب، من خلال سعيها إلى الحفاظ على البيئة. بينما في أغلب بلدان القسم الجنوبي من الكرة الأرضية لا مجال لهذه الأحزاب موضوعياً للنشوء والتطوّر، فالأولويات هنا تتجه نحو التنمية والانتقال إلى الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وغيرها من القضايا التي تمّ حسمها وتجاوزها في الأغلب الأعم من دول القسم الشمالي.
في بولندا التي انتقلت منذ بضعة عقود فقط إلى الديمقراطية نظام حكم، أطلق محامٍ حملةً لمساعدة اللاجئين القادمين من بيلاروسيا باتجاه أوروبا الغربية. وقد نشر هذا المحامي الذي يسكن في قريةٍ على الحدود البولندية البيلاروسية، عبر “فيسبوك”، نداءً لسكان بولونيا يطلب فيه إشعال أضواءٍ خضراء لإشعار اللاجئين بالأمان، وبأنّ بيوتهم مفتوحة لاستقبالهم، حيث يمكنهم التزوّد بالغذاء والدواء والشراب واتقاء شرّ البرد القارس، وحتى شحن جوالاتهم. وفي بولندا، خرجت عدّة مظاهرات شعبية أمام البرلمان، تطالب بعدم إقرار مشروع القانون الذي يسمح لحرس الحدود بإعادة اللاجئين إلى بيلاروسيا. ويقول هؤلاء إنّهم يشعرون بالعار من تصرّفات حكومتهم، وإنّهم عازمون على إظهار الإنسانية والرأفة تجاه الناس الهاربين من الموت، بعكس ما ترمي إليه حكومة بلادهم. وهذا ما كان متوفراً لهم لو لم تنتقل بولندا إلى الديمقراطية، بعد صراع ونضال طويل خاضه شعبها منذ ثمانينيات القرن الماضي، عبر نقابات العمال وحركة التضامن الشهيرة.
في المقابل، يستغلّ بعض الحكام من دول مختلفة التصنيف بين ديمقراطية واستبدادية وما بينهما، هذه الميزة في الديمقراطية ذاتها لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ خارجية، فأوروبا الغربية الآن تواجه سيل المهاجرين القادمين عبر بيلاروسيا، كما واجهت سابقاً سيلهم القادم عبر تركيا. وكلا الرئيسين البيلاروسي والتركي استعمل هذا السلاح، للضغط على أوروبا بملفاتٍ سياسيةٍ مختلفة لا علاقة لها بمساعدة اللاجئين أو بالعطف عليهم. وكان أكبر المستفيدين من ذلك، من حيث النتيجة، الرئيس الروسي بوتين، حيث استطاع أن يلعب، بحذق ومهارة شديدين، على تغيير خريطة تموضع الأحزاب السياسية في أوروبا الغربية، فاليمين واليمين المتطرّف حققا أفضل النتائج لهما منذ الحرب العالمية الثانية في صناديق الاقتراع، بسبب التلاعب السياسي بقضايا اللجوء.
المفارقة أنّ هؤلاء لم يتوقفوا يوماً عن انتقاد سياسات الدول الغربية، من خلال اتهامها بالتلاعب بمبادئ حقوق الإنسان واستخدامها لأغراضٍ سياسية، بينما هم يحكمون دولاً غير قادرة على استيعابهم، وإن فعلت فلم تكن قادرةً على تأمين الحد الأدنى من العيش الكريم لهم، بل على العكس استغلتهم أبشع استغلال، ليس فقط في سوق العمل، بل أيضاً في صراعات السياسة وبرامج الأحزاب، فهل من المستغرب أن ينظر أتراكٌ كثيرون إلى السوريين عبئا على اقتصادهم ومجتمعهم، ما دام أن تنافس السياسيين قائم على خطاب شعبوي لا يظهر إلا الجوانب السلبية للوجود السوري في تركيا؟ الحقيقة أنّ هذا الاستثمار يظهر مدى رداءة السياسة عندما تستغلّ مآسي البشر لتحقيق المكاسب والفوز بالصراعات.
البونُ شاسعٌ بين القيم الحضاريّة الأخلاقية المعزّزة بالنصوص الدستورية والقانونية واجبة التطبيق في أوروبا الغربية وتلك الادّعاءات الفارغة من كل معنى والسائدة في دول أخرى كثيرة، فاللاجئ يحصل على كلّ ضمانات الحياة الكريمة التي يحصل عليها الألماني أو الفرنسي أو البريطاني بمجرّد دخوله أراضي هذه البلاد، يتمتع بالتأمين الصحي الكامل مثل أي مواطن، ويحصل على المعونة التي تكفيه للعيش بكرامة، وتتم رعايته حتى يحصل على المستوى المناسب من اللغة للانخراط في المجتمع وفي سوق العمل، وهذا ما يحصل عليه المواطن في هذه البلدان تماماً عندما يكون عاطلاً. بل أكثر من ذلك، يمكن للاجئين في كثير من هذه الدول المشاركة بالانتخابات المحلية في الوحدات الإدارية التي يعيشون فيها. بينما يُضّطرُ أطفالٌ كثيرون للعمل أكثر من 12 ساعة بالحد المتوسط، ليساهموا في إعالة أهلهم اللاجئين في لبنان أو الأردن أو تركيا.
قد يقول قائلٌ إنّ أهالي هذه البلدان مضطرّون للعمل بهذا الشكل ليستطيعوا العيش أيضاً، وهذا في العموم صحيح، لكنّه يظهر، بدرجة أو بأخرى، مدى التفوّق الأخلاقي للديمقراطية، ويجعلنا نبحث باستمرار عن سبل الوصول إليها في كل بلاد العالم، ليس فقط في بلادنا، فالمثل يقول: أنت بخير ما دام جارُك بخير. ومن هنا كانت حرب الأنظمة شعواء على ربيع الشعوب العربية، خوفاً من عدوى الديمقراطية، وخوفاً من تفوقها الواضح.
العربي الجديد