عبد الكريم النحلاوي: 4 أشخاص دمّروا سورية
حاوره عبدالله الغضوي، محمد حاج بكري
تكتمل اليوم ستون عاماً على حدث الانفصال بين سورية ومصر، اللتين عقدتا في 1958 وحدة بينهما ضمن “الجمهورية العربية المتحدة”. وضاعت المسؤولية عن ذلك الحدث، وظل السؤال باقياً: من قتل الوحدة المصرية، ووُجهت اتهامات إلى الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، وأخرى لقائد “الانقلاب” في سورية، العقيد عبد الكريم النحلاوي (94 عاماً) الذي ما زال، على الرغم من مرور كل هذه السنين، يدافع عن انقلابه، معتبراً أنه ليس انفصالاً. ولكن عبد الناصر رحل وفي قلبه حسرة من “طعنة” عسكر سورية الذين وصفهم بالخونة والعملاء. تواصلت “العربي الجديد” مع النحلاوي، المقيم في الولايات المتحدة، لمحاورته في شؤون من الماضي والحاضر تخص سورية، وهو الذي رفض في سبتمبر/ أيلول 1961، بشكل أو بآخر، تهميش الجيش السوري، وتطويع السوريين، على يد مجموعة من ضباط محسوبين على عبد الناصر.
بسبب وضعه الصحي، نفّذ جزء من الحوار مع النحلاوي مكتوباً بخط يده، والجزء الآخر من خلال اتصالات هاتفية، ليصبح بالإمكان صياغة حوار أبدى فيه وجهة نظره في الأزمة السورية، وإمكانات الحل لإنقاذ سورية، إلا أن الجزء الأكبر كان عن الجيش السوري، وماضيه شخصياً في المؤسسة العسكرية. وهو الذي كان مديراً لمكتب حاكم “الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة”، عبد الحكيم عامر، وأخذ يرتّب، في مثل هذا اليوم قبل ستين عاماً، كل شيء في سورية، بينما كان عامر وعبد الناصر في غفلة مما يجري في الأوساط العسكرية السورية. وفي غضون ساعات، سيطر النحلاوي على كل المفاصل العسكرية، بانقلاب وصفه كثيرون بأنه انقلاب “الشوام” الدمشقيين، لكنه أسرع انقلاب ضد عبد الناصر.
يتابع العقيد التسعيني كل صغيرة وكبيرة في بلده؛ ويقول في حوار “العربي الجديد” معه إنه يعاني صحياً ونفسياً، في أغلب الأحيان، بسبب متابعته ما يجري في سورية التي يرى أنها تحتاج رجلاً وطنياً قوياً، غير مرتبط بدول خارجية. وتالياً نص الحوار:
هل تتابع اليوم ما يجري في سورية؟
بالطبع، أتابع كل ما يجري في سورية من خلال وسائل الإعلام، وهذا يصيبني كثيراً بالألم والإحباط على مستقبل سورية الذي ضيّعه البعثيون. والحقيقة أن المشكلة في سورية هي غياب القوى الوطنية الحقيقية المستقلة، فهذه الطغمة التي تحكم البلاد ضعيفة جداً، ولكن لا توجد قوة وطنية حقيقية قادرة على مواجهتها.
لو كنت اليوم في سورية، ما هي رؤيتك لإنقاذها؟
تحتاج سورية إلى رجل وطني قوي ومستقل، قادر على جمع كل السوريين، شخصية غير مرتبطة بالدول الخارجية، تحقق فعلاً مطالب الشعب السوري، وطنية وليست طائفية. في حال توفرت هذه الشخصية، يمكن إنقاذ سورية، لكن البلاد في وضع صعب جداً، وهي أصعب مرحلة في حياة سورية الحديثة.
كيف يمكن بناء جيش وطني وقوي؟
إذا توفرت الإرادة الوطنية يمكن بناء جيش قوي وطني متماسك، ولكن هذا لا يتم إلا من خلال أن يكون الجيش بعيداً عن السياسة، وبعيداً عن الحزبية، وبعيداً عن المناطقية، بمعنى أن يكون هناك فصل كامل بين السياسة والجيش. وأن تكون مهمة الجيش الدفاع عن حدود البلاد. وأن تكون قيادته من أبناء الوطن، من دون تأثيرات خارجية.
عودة إلى الوراء، ما هو دور النخبة التجارية الدمشقية في إنهاء الوحدة مع مصر العام 1961؟
هذه كلها تأويلات لا وجود لها في تلك الحقبة في سورية. لم يكن لهم دور، ولم يكن لدينا أي صلة بهم. بل أزيد على ذلك أنني وضعت بعض السياسيين في السجن، عندما أعلنوا عن إلغاء القرارات التأمينية، فكيف يكون ذلك، ونحن على علاقة بالنخبة التجارية؟ هذا ليس صحيحاً إطلاقاً.
لماذا كان اعتماد “انقلاب 28 سبتمبر” على الضباط الدمشقيين؟
يجب أن يكون هذا الحديث للتاريخ. أريد أن أوضح أمراً في غاية الأهمية، أن الضباط الدمشقيين، أو “الشوام” كما يسمَّون أحياناً، هم الأقل انتساباً للأحزاب من بقية الضباط، وهم الأغلبية في الجيش في تلك الفترة. وبالتالي، كان الاعتماد عليهم أكثر أهميةً لجهة إبعاد السياسة عن الجيش.
ما هي الدول الإقليمية اللاعبة في فترة الستينيات في سورية، وماذا كانت أهدافها؟
دول كثيرة كانت تريد استمالة سورية أو توسيع نفوذها، في مقدمتها تركيا وإسرائيل ومصر والعراق والأردن والسعودية. كانت كل واحدة من هذه الدول تريد ضم سورية إلى تحالفاتها، وجعلها جزءاً من الأحلاف الموجودة في ذلك الوقت. كانت سورية تتطوّر ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وحتى عسكرياً، كانت سبّاقة في دعم حركات التحرّر العربي ونبض الأمة العربية، لذا كانت للسيطرة على سورية أبعاد على كل المنطقة.
كم كان عدد الضباط الدمشقيين في المؤسسات العسكرية والمخابرات في الخمسينيات والستينيات، ولماذا تراجع دورهم لاحقاً؟
ليس هناك تقدير دقيق بشكل قاطع، ولكن يمكن القول إن الضباط الدمشقيين كانوا بين 35 و40 في المائة في الجيش، وأقل من هذا في المخابرات. وقد شهدت الستينيات تراجعاً واضحاً في أعدادهم، والسبب أنهم لا ينتسبون للأحزاب، وكان يتم الضغط عليهم وملاحقتهم لإخراجهم من الجيش، من أجل تسييسه، وهذا ما حدث لاحقاً.
ما سبب كثرة الانقلابات في الجيش السوري، وهل تحالف الضباط الدمشقيون مع الطبقة التجارية في فترة معينة؟
هو تجاذب النخب السياسية ومحاولة سيطرتها على الجيش، عن طريق الضباط الحزبيين، وخصوصًا الاشتراكيين. لم يحدث تحالف بين الضباط الدمشقيين والطبقة التجارية مطلقاً. للأسف، هذه إشاعات من أجل وصم الضباط بأنهم كانوا دمى بأيدي غيرهم.
الوحدة السورية المصرية
ما الأسباب التي دفعت العلويين للالتحاق بالجيش، وهل كان أمين الحافظ ونور الدين الأتاسي واجهة لتسلل الضباط العلويين إلى الجيش؟
هناك أربعة أشخاص تسبّبوا بدمار سورية: أكرم الحوراني، أمين الحافظ، عبد الغني قنوت، مصطفى حمدون. أعتقد أنهم أرادوا أن يتحكّموا بالجيش عن طريق تسهيل دخول العلويين إليه. وكانت لدى الضباط العلويين رغبة في أن تكون لهم كلمة، ساعدهم في ذلك أكرم الحوراني بالدرجة الأولى، وأمين الحافظ بالدرجة الثانية. كانت هناك مجموعة منهم في فترة الوحدة في مصر، شكّلوا خلية من أجل فصل الوحدة وأخذ الحكم واستلامه.
هل كان هناك مزاج طائفي في الجيش السوري في الستينيات؟
لم يكن هذا الأمر في بداية تأسيس الجيش. وسورية أصلاً لم تشهد حالة طائفية، لكن الأمر حقيقة بدأ بشكل واضح بعد 1963، أي بعد وصول البعثيين إلى الحكم.
هل تعتقد أن حافظ الأسد كان على علاقة مع المخابرات البريطانية، وكيف تمكن من السيطرة على الجيش بعد عدة انقلابات؟
كل ما يمكن قوله في هذا الأمر أن حافظ الأسد سافر إلى لندن مع مجموعة من الضباط في منتصف عام 1960، واختفى من 48 إلى 72 ساعة، تم إعلام القيادة بالأمر في ذلك الوقت. وبقيت هذه الساعات مخفية ومجهولة من حياة الأسد. وقد تمكن من السيطرة على الجيش لغياب النخبة السياسية الوطنية، وتفريغ الجيش من ضباطه الوطنيين، وعدم تغليب المصلحة الوطنية. هذه الأمور مكنته من السيطرة على الحكم.
ما هي ميزات الجيش السوري وخصوصيته؟
لا يوجد عندي علم في الفترة الحالية. لكن جيشنا في الخمسينيات كان قوياً، يتلقى التدريبات بشكل دائم. وأستطيع القول إن تكافؤا كان، في تلك الفترة، مع العدو الصهيوني. كنا دائماً في اشتباكات مستمرة على الجبهة، وكنّا نكبدهم خسائر كثيرة، ومعركة تل النيرب شاهدة على هذا. قتلنا وجرحنا أكثر من مائة صهيوني، بالإضافة إلى تدميرنا عشرات المجنزرات. كنا نرفض وقف إطلاق النار أحياناً، حتى يتدخل مسؤولو الأمم المتحدة.
من وحي التجربة والتأثير لك في حقبة الوحدة والانفصال، هل ما زلت تعتقد أنك على صواب في مسألة الانفصال؟
دعني أتحدث بالأمر كنتيجة، لأن الحدث بعيد جداً، وفيه تفاصيل كثيرة. وهو أننا لم نقم بالانفصال كضباط سوريين، بل جمال عبد الناصر هو من قام بالانفصال من خلال إعلانه الحرب على سورية، وآمل أن أتمكّن من كتابة (ونشر) كل ما يتعلق بهذه الحقبة بعمق ودقة، فهذه المرحلة تعني الكثير لسورية.
دائماً ما كنت تتحامل على عبد الناصر، ودائماً ما تحمله مسؤولية كل شيء. لماذا؟
على الإطلاق، ليس هناك أي خلاف شخصي مع الرجل، فهو، وللأمانة، شخصية جذّابة وقادرة على استلهام الجماهير بالخطابات والتأثير عليهم، بل كان ذا خلق رفيع، وليست لديه على المستوى الشخصي أي تصرفات غير أخلاقية، لكن أعماله كانت سيئة في سورية وفي كل العالم العربي.
سيئة مثل ماذا، هل من معطيات باستثناء خلافات الوحدة والانفصال؟
كانت أكثر قراراته مرتجلة، تفتقر إلى الحكمة أو العمق الحقيقي في فهم الأمور. كان هناك سوء تقدير في الموقف. رجل يغامر ببلاده وبالدول الأخرى، فالسياسي لا يعمل بهذه الطريقة، ومن مقولاته في السياسة “إذا كانت نسبة النجاح 70 في المائة فهذا يكفي لأقوم بالعمل، وأتحمّل نسبة 30 في المائة فشل…”. تسبّب عبد الناصر بالذهاب إلى اليمن بمقتل 20 ألف ضابط وجندي من الجيش المصري، وذهب في اليمن خيرة من الضباط المهنيين المتمرسين. هل كان الذهاب إلى هناك قراراً صائباً؟ وإذا كان عروبياً وحدوياً، فلماذا فصل مصر عن السودان، وكان يعادي معظم الأنظمة العربية، فما مصلحته من هذا العداء ومن يخدم؟ كانت أمامه فرصة تاريخية في سورية، وقدّم الشعب السوري له سورية على طبق من ذهب، لكنه خان الأمانة. همّه المؤامرات داخل الدول العربية من أجل زعزعتها، بدلاً من أن يتعامل مع هذه الدول. هل هذه سياسة.
لكن الكل يعرف أن نهج عبد الناصر عروبي؟
كيف يكون نهجاً عروبياً، وقد طلب منه الأردن دعماً عسكرياً من أجل حماية الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، وكان رده الرفض القاطع، وقال لهم “هذه مشكلتكم!”.
في حرب 1967، نبّهت الهند ويوغسلافيا وروسيا عبد الناصر أن إسرائيل ستقوم بهجوم على مصر وسورية، وحذّروه من الضربة الإسرائيلية، وتجاهل الأمر ووقعت النكسة. ولولا الإنذار السوفييتي آنذاك لوصلت إسرائيل إلى القاهرة. عبد الناصر لم يكن أهلاً للحكم.
هل كتبتَ عن فترة الوحدة بين سورية ومصر وحدث الانفصال؟
نعم، كتبت الكثير عن هذه الحقبة الحيوية والعصيبة من تاريخ سورية، إلا أن الظروف لم تتح لي أن أصدر ما كتبت، لكنني أتطلع إلى إصدارها.
العربي الجديد