السلطة وركائزها النفسية/ راتب شعبو
تصبح الصراعات السياسية وعلاقات القوة بسيطة، إذا جردناها من الأبعاد النفسية التي تساهم بدور غير قليل في توزع أطراف الصراع وفي ضراوته واحتدامه أو ميله إلى التسوية. من دون الأبعاد النفسية، يمكن فهم الصراعات السياسية بسهولة أكبر، وتخمين اتجاهات حركتها، ويمكن أن يكون لها منطق مطرد شبيه بعلم الحساب، في حين أنها، في الواقع، أقرب إلى علم الأحياء، حيث تكثر العوامل المتغيرة، ويصعب التوقع.
تخيّلَ الماركسيون الأوائل أن الديمقراطية التمثيلية طريق سالك إلى الاشتراكية، وأن النضال من أجل حق الاقتراع العام هو الحلقة الأخيرة في الخلاص من الأنظمة البرجوازية، على اعتبار أن البرجوازية أقلية صغيرة، قياسًا بأعداد الطبقة العاملة التي سوف تنتخب أحزابها وسوف ينقلها صندوق الاقتراع “سلميًا” إلى الاشتراكية.
عوامل كثيرة ساهمت في فشل “علم الحساب” هذا. من بين هذه العوامل، أن الماركسيين ركزوا على نقص “الوعي الطبقي”، النقص الذي يجعل العامل يعطي صوته لعدوه الطبقي. الحل إذن هو التوعية. ولكن كيف يمكن توعية ملايين العمال؟ في مدارس أم في ندوات؟ هل يمكن للخطب وللمنشورات الحزبية، مهما كانت غزيرة، أن تنشر الوعي في صفوف الطبقة العاملة؟ قبل ذلك، إلى أي حد تقرأ الطبقة العاملة الكتب أو المطولات التوعوية؟ ثم هل الوعي الذي يراد نقله إلى الطبقة العاملة هو وعي “صحيح”، هل هو فعلًا في صالح هذه الطبقة، ماذا عن تيارات الوعي الأخرى التي تزعم أيضًا تمثيلها مصلحة العمال؟
المسار الواقعي للصراع السياسي أجاب عن الأسئلة على طريقته، فقد حوّل “التوعية الطبقية” إلى “تحريض طبقي”، أي نقل العملية بالكامل من مستواها العقلي إلى مستوى نفسي، يكون التركيز فيه على تغذية “الحقد الطبقي”، التعبير العزيز على الماركسيين، وهو تعبير نفسي، كما هو واضح. ينتهي الوعي الطبقي العمالي، والحال هذا، إلى أن يكون موقفًا نفسيًا سلبيًا من السلطة القائمة، ببعديها الاقتصادي (البرجوازية) والسياسي (الدولة). كان هذا حين كانت الحدود الطبقية أكثر وضوحًا، وكذلك الفرز والاستغلال.
لنا أن نتأمل هذا البعد النفسي ودوره وتأثيراته في مجتمع معقد كالمجتمع السوري، وفي الصراع السوري المستمر منذ أكثر من عقد من الزمن. الملاحظة المباشرة تقول إن للبعد النفسي حضورًا فاعلًا هنا، بسبب الحضور الفاعل للهويات القومية والطائفية في المجتمع السوري، وأن للبعد النفسي غلبة على “الوعي” السياسي. يمكن أن نلاحظ بسهولة، مثلًا، أن النسبة الكاسحة من العلويين، على اختلاف “وعيهم” السياسي، انحازوا إلى النظام، خلال الصراع المذكور، وكان الدور الأبرز للوعي السياسي لدى أبناء الطائفة العلوية، بكل تلاوينه، هو التسويغ العقلي أو المنطقي للموقف “النفسي” المتحكم. الشيء نفسه يمكن سحبه على فئة غير قليلة من أنصار الثورة الذين يمكن تصوير انتمائهم إلى الثورة على أنه انتماء “نفسي”.
لنتساءل: ما هو دور البعد النفسي في استمرار مقاتل علوي في قوات النظام وإخلاصه لها؟ وهل نتوقع تراجع هذا الدور، إذا افترضنا أن هذا المقاتل أدرك واقتنع بأن النظام الذي يقاتل في صفوفه هو نظام جريمة وفساد ونهب وقتل.. الخ، وأنه يذهب بسورية إلى الجحيم الذي بات السوريون يعيشونه فعلًا، بصرف النظر عن ولاءاتهم وانحيازاتهم؟ وما هو دور البعد النفسي في حالة المقاتل السنّي في صفوف المعارضة؟ في الحالتين، هناك ما يتجاوز الوعي ويتحكم فيه، نقصد البعد النفسي الذي يشكل مستقرًا للقلق والاطمئنان، للثقة وانعدامها، لشعور الانتماء والمرفوضية، للتماهي والغربة.. الخ.
يختلف وقع السيطرة السياسية أو الأمنية على الأفراد، بحسب الجهة المسيطرة؛ فالاستجابة للسيطرة تتوقف، في جزء غير قليل منها، على مدى القبول النفسي للفرد أو تسليمه النفسي لصاحب السيطرة، أو على نوع العلاقة التي تربطه بأصحاب السيطرة.
قد يكون قبول الكردي السوري بسلطة كردية أكبر من قبوله بسلطة عربية، حتى لو كانت السلطة الكردية مساوية في الاستبداد أو أكثر قسوة. كذا الحال بالنسبة إلى العربي. وكما يصحّ هذا على أبناء القوميات، يصح على أبناء الجماعات الدينية. قد يشكل وجود عنصر علوي غالب في الأجهزة الأمنية لنظام الأسد، عنصرًا إضافيًا لرفض النظام من جانب السنّة، الذين قادهم التاريخ الحديث للبلد إلى الشعور بتهميش سياسي لصالح أقلية أو أقليات، في الوقت الذي يشكل فيه السنّة الأكثرية العددية، ويشكل المذهب السني ما يمكن اعتباره الدين الرسمي للمجتمع، والذي ينظر إلى بقية المذاهب والأديان على أنها ضالة، بطبيعة الحال. هذا الواقع يحرّض لدى السنّة رفضًا إضافيًا، قياسًا على الرافضين للنظام من غير السنّة. في العربية، مثل معروف يقول “لو ذاتُ سِوارٍ لطمَتْني”، أي لو ظلمني من كان كفأ لي، لهان عليّ، ولكن ظلمني من هو أدنى مني، أو قلْ من أراه أدنى مني.
كل هذا مستقل عن السيطرة كواقع، أي مستقل عن المطلب الديمقراطي بما هو كذلك. بكلام آخر: ليس الإخلاص للمطلب الديمقراطي هو بالضرورة ما يحرّك رفض سيطرة ما، فقد تُرفض سيطرة لصالح سيطرة أخرى لا تقل سوءًا. إن ممارسة السيطرة نفسها تقود إلى استجابات مختلفة من الأفراد، بحسب عوامل من طبيعة “نفسية”. لماذا يكون العداء للمستعمر أشدَّ قوة من العداء للسلطة المحلية التي تكون أشد قسوة ونهبًا واستبدادًا من المستعمر؟ لا يفسّر ذلك سوى الموقف النفسي من الأجنبي.
في مواجهة تهديد قوات نظام الأسد، والقوات ذات السيطرة الكردية، نشأ لدى السنّة العرب في سورية قبولٌ نفسي بتنظيم “الدولة الإسلامية”، حين سيطر على مناطق واسعة من سورية. ما كان لهذا القبول أن ينشأ لدى أبناء المذاهب الأخرى الموضوعين سلفًا على خانة أعداء التنظيم. في الحالين، لا يلعب الوعي دورًا أساسيًا. البعد النفسي هو ما يجعل جرائم (داعش) أقلّ “جرمية”، في عيون السنّة العرب، وهو ما يجعل جرائم النظام أقلّ جرمية، في عيون أبناء الأقليات ولا سيما العلويين. فكما سوّغ يومًا الصحفي المغدور جمال خاشقجي عمليات قطع رؤوس عناصر الفرقة 17 في الرقة في 2014، على أنها عمل مشروع لإرهاب العدو، كذلك دافع أنصار النظام عن القصف بالبراميل، على أنه وسيلة مقبولة ضد “بيئة حاضنة”.
وكما أن الموقف النفسي يقوم على قناعات معينة، فإن القناعات تستند بدورها، وبشكل أكثر تواترًا ربما، على استعدادات نفسية في القبول أو الرفض.
مركز حرمون