مُتَع صغيرة/ رشا الأطرش
يحدث أحياناً أن نرفع رؤوسنا عن شاشة الكومبيوتر، أو عن الصحن الذي نغسله في المطبخ، لننظر عبر النافذة. فكرة دون سواها قد تتمكن من إيقاف السويعات الانغماسية. شعور، ذكرى لا نعرف بالضبط ما الذي أيقظها. أو لا شيء على الإطلاق، العدَم الفتّان. ونسرح لثوانٍ معدودة في ما خلف الزجاج، ونكون.
لكن، كم مرة نسمح لأنفسنا بالاستغراق في هذا الشرود، أطول قليلاً؟
حتى المدخنين، الخارجين دورياً إلى شرفة أو باحة خارجية، باتوا فرائس الإحساس بالذنب أو الحماقة، إن لم يكونوا، على امتداد السيجارة، في خضم شيء ما.. هاتف، محادثة، تدبير ما سيُعمل بعد السيجارة.
كم مرة نكظم صيغة الأمر لأنفسنا بالعودة إلى ما نحن بصدده، منعاً لذوبان النقاط الصلبة في أجندة عميقة نظنّها من تأليفنا؟ كم مرة نمتنع عن ضرب وَعيِنا بسَوط الإنجاز، كضرورة حتمية لسيلان النهار والليل؟ ولا نصفع خدّاً افتراضياً لذواتنا، لنحثها على التركيز. وكأن السباحة، مُخترِقَة النوافذ لا تحتاج تركيزاً أيضاً، من النوع المتمرد على سلطة الصحوة اليومية.
فجأة، في لحظة عشوائية، نشعر بذلك التعب المزمن. يجري من الداخل إلى الخارج وصولاً إلى الأطراف، لا يقوى النوم دائماً على تبديده. الضغط، العمل، العائلة، القلق، البيت، المَهام، كبائر الغضب وصغائر الأحزان.. تفسيرات منطقية كثيرة، غالباً ما ينقصها التوقف عند افتقارنا لأقل ما نفكّر فيه، وأكثر ما هو متاح، شرط أن نفتح عيوننا ونشحذ انتباهنا: المُتع الصغيرة. تلك التي تجعل الدقائق زمناً، إذ تفكّها من أربطة الوقت. الزمن هو البحر. والوقت حوض سباحة.
في استعارة أفلاطون للعقل، أفكارنا طيور ترفرف في أقفاص أدمغتنا. لكن، ولكي تستقر الطيور، نحتاج ذاك الهدوء المعقّم من الأهداف، كالفضاء بلا غبار. التحديق في العالم مستمر، من دون استنهاض ردّ. أما الداعي لاستقرار الطيور، فهو درء الجنون العادي، أو بعض ألوانه الأكثر قتامة. وبعد ذلك، اكتشاف أفكار أخرى، خفيضة، وعواطف سَكُوتة بطبيعتها لكنها الكلام الجوّاني كله. وبدلاً من النافذة، ربما رشفة قهوة مصطفاة من كل ما سنشربه في يوم. صدّ كل أصوات الشارع، وحفيف الحقيبة بالسترة، وإقامة البَرد في الأذُنين، لتشَرُّب ملمس يد طفلك في يدك.
غروب الشمس لاستهلاك العَوَام. أما المذاق الخاص، ففي ضوء ذهبي يسبقه، ينعكس في واجهات المباني وأعمد الإنارة التي ستضاء بعد قليل، ويمتلك، إن لاحظتَه، إن لاحظتَه فعلاً، السِّحر نفسه للاغتسال بمياه دافئة في نهاية عطلة قصيرة من الوظيفة قَضَمتها الواجبات ولَعَقت فُتاتَها. ومتعة دُنيا، لا تتدنى، هي غطاء صغير، فائق النعومة، غزير الدفء، يحضن ثلاثة أرباع جسدك الرابخ في زاويتك المنزلية المفضلة أمام تلفزيون يبث شيئاً تحبّه. أغنية بعينها تراودك في لحظة خاصة، تكسر أسطوانة الحياة المحيطة. قضمة حلوة في آخِر الليل.
الاستمتاعات المُجدوَلة، الباهرة، المحلوم بها… تُرُوس في ماكينة إنتاج. الرياضات التأملية.. إيديولوجيا. المُتَع الصغيرة.. ثقافة، لا هيمنة فيها إلا لما نختاره فرادى في هنيهات انتصار.
المدن